سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الثالثة1
العرب والترجمة
الترجمة
الترجمة في العالم العربي ومجتمع المعرفة
الترجمة عن العربية (التعجيم)
نقل المعرفة والترجمة في العالم العربي
ما الترجمة؟ ولماذا؟
شهادة التاريخ
واقع العالم العربي
إحصاءات مصرية
معوقات الترجمة في العالم العربي
الجامعة العربية والترجمة
الترجمة والجهات المنوط بها الترجمة في العالم العربي
مقارنة بين إحصاءات واضحة الدلالة
العولمة وتعريب الترجمة
الترجمة وحوار المتوسط
المترجم العربي، الحقوق والدور الاجتماعي
الجات والكتاب المترجم والعولمة
لغتنا وتعريب العلم
أزمة الترجمة العلمية وتعريب المصطلح
البعد الاجتماعي لأزمة ترجمة المصطلح
نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة
المستقبل والمصير
سنوات العمر وحصاد الهشيم
إهداء
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
مقدمة الطبعة الثالثة1
العرب والترجمة
الترجمة
الترجمة في العالم العربي ومجتمع المعرفة
الترجمة عن العربية (التعجيم)
نقل المعرفة والترجمة في العالم العربي
ما الترجمة؟ ولماذا؟
شهادة التاريخ
واقع العالم العربي
إحصاءات مصرية
معوقات الترجمة في العالم العربي
الجامعة العربية والترجمة
الترجمة والجهات المنوط بها الترجمة في العالم العربي
مقارنة بين إحصاءات واضحة الدلالة
العولمة وتعريب الترجمة
الترجمة وحوار المتوسط
المترجم العربي، الحقوق والدور الاجتماعي
الجات والكتاب المترجم والعولمة
لغتنا وتعريب العلم
أزمة الترجمة العلمية وتعريب المصطلح
البعد الاجتماعي لأزمة ترجمة المصطلح
نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة
المستقبل والمصير
الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي
الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي
في ضوء مقارنة إحصائية واضحة الدلالة
تأليف
شوقي جلال
سنوات العمر وحصاد الهشيم
نشأت في أحضان الحركة الوطنية لاستقلال ونهضة مصر، التي استعانت بالكفاح المسلح حينا، واستطاعت على مدى قرن من الزمان وحتى منتصف العشرين أن تعيد لمصر وعيها بذاتها بعد غياب امتد قرونا بفعل قوى الكولورونالية والإمبريالية، ابتداء من الفرس ومرورا بالرومان والعرب والمماليك والأتراك.
ومع انتصاف القرن العشرين شهدت مصر تحولا سياسيا قسريا يحمل ظاهريا بعض شعارات الحركة الوطنية، وإن أنكرها واستنكرها في الممارسة العملية، بدلا من أن يكون امتدادا لإيجابياتها بشأن الديمقراطية ونظام حكم المؤسسات والفصل بين السلطات، وترسخ مطلب الحريات وحقوق وواجب الإنسان المصري العام في المشاركة المنظمة مؤسسيا لإدارة شئون مجتمعه وبناء مستقبله.
البداية لي مع عام 1931 .. مصر في وعي جيلي إرادة وعزم صادقان على النهوض، التحرر من الاستعمار، العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والفساد والحفاء، التحديث الاجتماعي واللحاق بالحداثة الأوروبية فنا وأدبا وعلما وإنجازات مادية (تكنولوجيا) .. ومصر قوة إنتاجية واعدة، يحفظها حلم مؤسس على تاريخ حضاري سالف وواقع واعد، وإن ضاقت ساحته بصراع المتناقضات، ورؤى مبشرة في المستقبل الذي يليق بمكانة مصر .. مصر فجر الضمير والمجد الحضاري التليد.
نشأت في واقع حضاري ثوري أسهم في تأسيسه نضال أجيال ثلاثة قبل جيلي، استيقظت بداية على ضوء مدافع الغرب، وأفاقت وتململت تدعو وتحفز، تبشر وتنذر، واستهلت مشروع التحديث إلى أن خطت أول الطريق في عهد «محمد علي» الذي أشرت في كتبي إلى أنه كان مناسبة لا سببا .. ومن هنا مصر ثقافة جديدة .. مصر الوطن والمواطنة تستوعب الموروث بعقل نقدي جديد .. ثقافة الوعي بالذاتية التاريخية بعد جهود متوالية من الغزاة على مدى أكثر من ألفي عام لطمس هذه الذاتية والانسلاخ عنها .. استعادت مصر اسمها وتاريخها على يدي الأزهري رفاعة الطهطاوي، واستعادت ذاتيتها الوطنية على أيدي فلاحي مصر العسكريين أحمد عرابي ورفاقه.
تربيت مثلما تربى جيلي على قيم الحرية والتحرير والتغيير .. ثقافة التسامح مع المذاهب الفكرية والعقائد الدينية .. كتب من كتب «لماذا أنا ملحد؟» مثل أدهم، أو «لماذا أنا مسلم؟» مثل عبد المتعال الصعيدي. وانتقدهما من انتقدهما دون أن يفسد النقد للود قضية .. وكانت مصر قبلة المتعطشين إلى الحداثة من المثقفين العرب .. ولم يكن الجوار بعد ناهضا ولا مناهضا أو مزاحما .. مصر هي الكلمة، ومصر هي الفعل.
وشهدت مصر التي عشتها وملأت علي وجداني وعقلي الكثير من أعلام الفكر والأدب والعلوم والفنون والرياضة ... كانوا النجوم الهادية، مثل مشرفة الذي ذاع عنه باعتزاز مصري أنه نظير آينشتاين، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وطه حسين، وسلامة موسى، ومختار النحات العظيم، ورءوف صروف، وشبلي شميل، وجورجي زيدان، وروز اليوسف، وهدى شعراوي، ومي، وسيد درويش، وداود حسني، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم ... ولمعت أسماء رياضيين دوليين في السباحة وكرة القدم والشيش ... هؤلاء وغيرهم نجوم سواطع تهدينا إلى الطريق، وتحفزنا للاقتداء بهم باسم مصر ومن أجل مصر.
وتعلمت في مدرسة ثانوية خيرية؛ أي للفقراء، ولكن استمعت فيها لأول مرة إلى فاجنر معزوفا على شاشة مسرح المدرسة، وتربيت كما تربى أقراني على كتب مثل «تاريخ الأديان في العالم» دون حساسية أو انحياز، ومجلات ثقافية مثل: «مجلتي»، و«الرسالة»، و«الثقافة»، و«الكتاب»، و«الكاتب»، و«المقتطف»، و«الفصول» ... ولن أنسى مجلة تنويرية أسبوعية ساخرة هي «البعكوكة»، الواسعة الانتشار، وإحدى شخصياتها الأسبوعية الناقدة «الشيخ بعجر» الذي نقرأ على لسانه نقدا ساخرا للمتنطعين باسم الدين.
وشاهدت مصر الغنية بالمتاحف العلمية نهضة مواكبة من المدارس الفكرية والعلمية، فجاءت نشأة جامعة القاهرة ببعض الجهد النضالي والتحدي ضد الاستعمار، وضمت الجامعة أسماء أعلام أسهموا بجهد متميز وتاريخي: شفيق غربال، وإبراهيم حسن، وأحمد أمين، في الأدب والتراث، ويوسف مراد مؤسس مدرسة علم النفس التكاملي، ومصطفى زيور مؤسس مدرسة علم النفس التحليلي، وعبد العزيز القوصي في علم النفس التربوي ... وغيرهم وغيرهم في العلوم والفنون والآداب.
ونشطت في مصر حركة الترجمة العلمية المرتبطة بالهدف القومي واستيعاب علوم وفكر العصر، وتوظيف ذلك لبناء مصر الجديدة، وإذا كانت جهود الترجمة في العصر الحديث بدأت على يدي رفاعة الطهطاوي ومدرسة الألسن، فحري أن نذكر بقدر كبير من الزهو لجنة التأليف والترجمة والنشر التي رأسها أحمد أمين، وقدمت ثروة من الإنجازات البالغة الأهمية بمقاييس العصر، وكانت نموذجا احتذته مجتمعات عربية أخرى. وكم شعرت بالفخار عند زيارتي للجنة التأليف والترجمة والنشر في الرباط بالمغرب، وقال لي رئيسها إننا هنا نقتدي بمصر.
تحدد طموحي، مثل أقراني وأبناء جيلي، في النضال من أجل مصر الحرة .. الواعية في اعتزاز بتاريخها .. الجادة في سعيها لبناء مجدها الحضاري العصري، اعتمادا على سواعد وعقول أبنائها، والعمل على إنتاج وجودها الحديث المادي والفكري إبداعا ذاتيا، وانتماء نقديا إلى العالم المتقدم .. وكان طموحي أن أكون مثل من أشربت نفسي بعلمهم وثقافتهم وقيمهم، وأن أسهم إيجابيا في بناء مصر الحرة/المستقلة/المنتجة ...
وسعيت على الرغم من تعدد السبل إلى أن أكون إيجابيا في جهدي لذلك بمداومة الفكر والتفكير دون قيود غير العقل الناقد، والاطلاع على كل جديد من غير انحياز أو عقد، وأن أتابع فكر وجهود الساعين إلى ذلك من خلال التنظيمات والأحزاب .. واستطعت الانتصار على قيود ومحاذير الفقر بالاعتماد على نفسي، ولكن العقبة الأخطر في الطريق هي سنوات الاعتقال السياسي المتقطعة على فترات دون محاكمة، وبلغ مجموعها اثنتي عشرة سنة بدأت عام 1948م، وحتى نهايتها 1965م. وحاولت أن أنتصر على قسوة وآلام التعذيب في السجون والمعتقلات، من السجن الحربي إلى ليمان أبي زعبل؛ حيث كنا نعيش حفاة الأقدام، شبه عراة الأبدان، نشقى في عمل تكسير الزلط تحت وطأة الشمس الحارقة، والسياط اللاهبة، والسباب المقذعة، والشتائم المهينة الجارحة، ولم أتخل عن طموحي وجهدي من أجل مصر .. مصر العقل الجديد.
وبدأت الكتابة أول الأمر وأنا طالب بالجامعة، في سلسلة «كتابي» التي يصدرها حلمي مراد .. وأول موضوع كتبته عام 1953م بعنوان «مذكرات الولد الشقي»، وهو تلخيص لمذكرات تشارلز داروين. ولكنني لم أره بسبب الاعتقال.
ولكي أتجنب خيوط المنع والحظر رأيت أن أتكلم بلسان غيري، مع إضافة رأيي في مقدمة وهوامش؛ ومن هنا اتخذت الترجمة وسيلة لكي أبدأ مشروعي «تغيير العقل المصري العربي»، وصدر لي عام 1957م عن دار النديم كتابان هما: «السفر بين الكواكب»، وهو أول كتاب علمي مترجم عن علوم ورحلات الفضاء، صدر بمناسبة إطلاق الكلبة لايكا إلى الفضاء. والكتاب الثاني «بافلوف، حياته وأعماله»، وهو أيضا أول كتاب علمي مترجم عن هذا العالم الروسي الفذ الذي كنت أعتزم أن أرصد له جهدي في دراستي الجامعية العليا. ثم انقطعت عن الكتابة والترجمة ثانية سنوات سبعا بسبب الاعتقالات السياسية، وعلى الرغم من كل ما عانيته في المعتقلات تطوعت - وأنا المستقل سياسيا غير المنخرط في أي تنظيم - بعد هزيمة 1967م، لكي أحمل السلاح دفاعا عن بلدي مصر، ولكن جهات الأمن السياسي استدعتني وحذرتني وطالبتني صراحة: «انت لأ .. تقعد في البيت.»
وواصلت جهدي في التحدث بلسان الآخرين، وقدمت ترجمة لرواية «المسيح يصلب من جديد» تأليف نيقوس كازانتزاكيس، الذي عشقت كتاباته وشعرت بنوع من التماهي معه. وتوالت الترجمات التي لا يعنيني كميتها التي تجاوزت الستين، ولكن يعنيني أنها مختاراتي من بين قراءاتي، وملتزمة جميعها بمشروعي من الانتقال إلى العقل العلمي، والتحول عن ثقافة الكلمة إلى ثقافة الفعل.
وبدأت التأليف في تكامل مع مشروع الترجمة، وصدر لي أول كتاب عام 1990م بعنوان «نهاية الماركسية!» وهدفي منه نقد الثقافة العربية في التعامل النصي الأرثوذكسي مع الفكر العالمي، متخذا الحديث المتواتر عن سقوط الماركسية مثالا، مع فصل بعنوان «هل سقطت الليبرالية؟» وأتبعت هذا بكتاب عنوانه «التراث والتاريخ»، وهو رؤية نقدية لأخطاء ثقافية شائعة في حياتنا، وحاكمة لنا، عن العقيدة والموروث الثقافي وفهم التاريخ.
وصدر كتابي الثالث بعنوان «العقل الأمريكي يفكر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات»، وهو دراسة أكاديمية تعطي بانوراما لتطور العقل الأمريكي السائد على مدى 160 عاما، ابتداء من الآباء المؤسسين لتصحيح صورة أمريكا المدعاة في حياتنا، ومجابهة الحقيقة، وأؤكد فيه العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع العملي نشأة وتطورا، وأن الفكر هو منتج الفعل الاجتماعي في تطور جدلي مطرد، مستشهدا بتطور الفكر/الفعل الأمريكي في مجالات الفلسفة/العلم/الآداب والفنون، موثقا ذلك بنصوص لأئمة الفكر الأمريكيين.
وبلغ مجموع مؤلفاتي أربعة عشر عنوانا، آخرها «الشك الخلاق في حوار مع السلف»، وأعكف منذ سنوات على إصدار دراسة عن انتحار الحضارات .. كيف سقطت بفعل أبنائها وأولهم رجال الدين، حين تكون لهم السلطة دون العقل؛ أي لأسباب داخلية أولا وليست خارجية فقط. وذلك في ضوء ما نشاهده اليوم من جماعات تدمر وتنتحر وتنحر من حولها باسم إحياء حضارة تفككت وسقطت وتأخر تأبينها قرونا.
قضايانا الملحة عديدة ومتكاملة، ومن هذه القضايا التي عرضتها في كتبي: (1)
إعادة بناء الإنسان المصري الذي تعمد الغزاة والحكام المستبدون انسلاخه عن تاريخه وعن هويته؛ ولذلك لا تتوفر نظرية جدلية متكاملة لتاريخ مصر منذ القدم، وقد حاولها صبحي وحيدة، والدكتور حسين فوزي سندباد مصري، ومحمد العزب. وتلزم الإجابة على سؤال: ماذا أصاب الإنسان المصري على مدى التاريخ حتى أصبح على هذه الحال من السلبية واللامبالاة؟ حتى لا نردد ما قاله المقريزي وغيره: «قال الرخاء أنا ذاهب إلى مصر، فقال الذل وأنا معك».
ثم إننا نعيش الآن في عصر أو حضارة الإنسان العام المشارك إيجابيا، عن علم وقدرة، في إدارة شئون أمته مع مسئوليته عن الإنسان والبيئة في العالم. ويتناقص هذا مع الظروف التاريخية وحياة الاستبداد والقهر التي صاغت الإنسان المصري، وباتت موروثا اجتماعيا وثقافة نافذة.
وحري أن نتخلى عن الالتزام بإنجاز ما أسميه المعادلة المستحيلة؛ ألا وهي نزعة المواءمة أو الجمع بين حضارة العلم والتكنولوجيا والعقل العلمي النقدي، وبين الموروث الثقافي المتحجر الذي انتهى عصره. وإن أول معالم الطريق إلى النهضة الحضارية إنما يتجلى بداية في سقوط هيبة السلف والفكر السلفي وعبادة السلف في أذهان العامة، ومن ثم إحلال ثقافة التغيير والتطوير باعتماد العقل العلمي النقدي؛ لذلك نؤكد دائما أن لا نهضة لمصر إلا بنهضة الفلاح المصري في قرى ونجوع الشمال والجنوب، هذا الفلاح هو مصر، الذي ظل يحمل على فوديه رسما نزعم سخرية أنه عصفور .. وهو حورس الحامي. (2)
اتساقا مع هذا نحن بحاجة إلى دراسة العلاقة العكسية بين الاستبداد والإبداع .. الاستبداد يصنع روبوتا فضيلته الطاعة دون حق السؤال، والحرية هي صانعة الإنسان .. الحرية كما يقول فيلسوف العلم دانييل دنيت هي القوة الحافزة للتطور الخلاق للحياة منذ نشأتها حتى بلغت مرحليا أعلى صورها في صورة الجهاز العصبي للإنسان. (3)
المثقفون المصريون مسئولون أولا وأساسا عن واقع حال مصر الراهن؛ إذ بدأ المثقف الحديث موظفا تابعا للسلطة الحاكمة وقد نشأ وتربى على ثقافة الطاعة، بينما المثقف المستنير هو من يحافظ على مسافة نقدية فاصلة بينه وبين ذوي السلطان؛ أي سلطة دينية، أو سياسية، أو عقائدية؛ لكي تتهيأ له فرصة الرؤى في عقل نقدي ينير بها الطريق إلى المستقبل. (4)
سبق أن ذكرت في كتابي «أركيولوجيا العقل العربي» أن التراث الثقافي الذي عاش ممتدا في الزمان التاريخي الاجتماعي، وإن أخذ مسميات دينية لاحقة؛ هو التراث الهرمي في مصر .. تراث هرمي مثلث المعظمات، لا يزال يقسم باسمه المصريون (معظما ثلاثا)، ويحمل هذا التراث صفات وخصائص البيئة والذهنية المصرية، وأراه تراث تحوت أو توت رب الحكمة والقلم في الديانة المصرية، وإن حمل حينا اسما إغريقيا .. وأرى أن هذا التراث هو الحاكم للثقافة الشعبية السائدة التي امتدت مع حالة الركود الاجتماعي قرونا. وهذه الثقافة التي تصوغ ذهنية المصري هي التي تجهض إرادة وفعالية الإنسان لحساب قوة مفارقة، لها القدسية والفعالية.
ويستلزم هذا تحولا حقيقيا وموضوعيا من ثقافة الكلمة والثبات إلى ثقافة الفعل والتغيير .. من ثقافة اللسان إلى ثقافة اليد والأداة. وهذا هو ما سينقلنا طبيعيا إلى ثقافة التناقض والحركة كشرط وجودي .. الحركة مع التناقض .. الفعالية بين «النحن والآخر» .. الانتقال من ثقافة الإقصاء المفضية إلى الانشقاق والانقسام - دائنا التاريخي - إلى ثقافة التناقض أو تلازم النقيضين .. إذ إن ثقافة الحركة الفكرية والمادية في جدل مشترك مطرد، لا تنشأ ولا تكون إلا بين نقيضين «نحن والآخر»، ووجود كل طرف رهن وجود الآخر .. ولهذا نشأ الحوار الذي هو صراع في إطار الوحدة، أو حركة في إطار التناقض .. إن الصورة لا تكتمل ولا نفهمها إلا في دلالاتها الحركية؛ أي وجود النقيضين، وإلا بدت مواتا .. وهل الحياة إلا حركة بين نقائض؟!
ويكتمل ما سبق بالحديث عما اصطلحنا على تسميته أزمة الترجمة في العالم العربي. وسبق أن تناولت هذا تفصيلا في ضوء إحصاءات ذات دلالة، سواء في كتابي «الترجمة في العالم العربي» أو في تقرير التنمية الإنسانية للأمم المتحدة 2003م. وتؤكد الدراسة أن الترجمة متدنية أشد التدني، وطالبنا - كما سبق أن طالب عميد الأدب العربي طه حسين - بإنشاء مؤسسة عربية للترجمة. ولكن على الرغم من محاولات الإنقاذ وستر العورة وإنشاء مراكز ترجمة في عدد من البلاد العربية، مع رصد أموال ضخمة في بلدان الخليج، فإنها تؤكد جميعا تشتت الجهود دون هدف استراتيجي جامع واضح مشترك.
وهذا ما أكده أيضا التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية؛ إذ أوضح تقرير عام 2007م أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي المتطرف. وأشار إلى أن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم، وعن الاهتمام بالقراءة وبالبحث.
والرأي عندي أن واقع حال الترجمة، بعيدا عن الشكليات والأرقام الصماء، ليس أزمة، بل هو موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة والإبداع والتجديد قرين الفعالية المجتمعية لإنتاج الوجود الذاتي. ولا يستقيم الحديث عن الترجمة دون الحديث عن الفعل الإبداعي المجتمعي والفضول المعرفي .. الفعل والفكر الاجتماعيان في اقتران جدلي تطوري .. وهذا غير وارد في ثقافتنا؛ ثقافة الإقصاء والاكتفاء الذاتي بالموروث .. ولا يستقيم كذلك دون الحديث عن الإنسان، وتغيير الواقع بإرادة ذاتية، وبالانخراط كقوة فاعلة إيجابيا في الفعل والفكر العالميين؛ أي الانخراط في الحداثة انخراطا إبداعيا ذاتيا تكامليا في تطور مرحلي .. أعني الوحدة مع الصراع في العالم الحديث؛ فهذا شرط التغيير الجذري الحضاري نحو واقع مصري يبدعه الإنسان المصري.
والآن وقد تجاوزت التسعين من العمر أنظر إلى الحياة نظرة مودع، أراني أفتقد مصر التي كانت في خاطري، وأرى أن مصر على مستوى الإنسان العام تغوص على نحو غير مسبوق في وحل اللامعقول الموروث، مصر لم تعد مجتمعا، بل أصبحت تجمعا سكنيا، وقد أضيف ما أضافه لي الصديق الأجل أنور عبد الملك، وهو أنها باتت تجمعا سكنيا لغرائز منفلتة .. أفتقد مصر الحلم الحافز، مصر الوعي الموحد تاريخيا، مصر الوطن والمواطنة، مصر الواقع المشحون بإرادة الفعل والفكر والحركة الجماعية .. مصر المستقبل .. أفتقد كل هذا ولا أرى غير فرط العمر والركض وراء السراب.
ولكن تحت الرماد جذوة نار قد تتأجج ويشتد لهيبها .. ومن بين ركام الفوضى ينبثق الأمل .. هكذا علمنا التاريخ .. ومياه النيل لا ترتد أبدا إلى وراء.
شوقي جلال
إهداء
إلى من يؤرقهم فعل الحاضر،
وحلم المستقبل؛
حاضر ومستقبل الوطن والإنسان.
شوقي جلال
مقدمة الطبعة الأولى
الترجمة عنصر أساسي من بين عناصر الفعالية الاجتماعية النشطة . فعالية قائمة على المعرفة العلمية؛ إنتاجا لها، وبحثا عنها، وتسامحا معها، وإيمانا بها أساسا للبناء والتجديد. فحياة العصر - بل الحياة الاجتماعية في كل العصور - هي قبول للتحدي الوجودي تأسيسا على المعرفة الاجتماعية وإبداع الجديد. ليس في التاريخ مجتمع ضمن بقاءه ووجوده اقتداء بآخر، أيا كان هذا الآخر في الزمان أو في المكان، يسلم إليه الزمام، ويرتضي حياة الاطراد العشوائي، كأنما أقال العقل الباحث؛ فمثل هؤلاء خارج التاريخ. وإنما ضمان الحياة هو اطراد البناء الحضاري، وهو بناء متجدد أساسه المعرفة، إبداعا ذاتيا، واستيعابا لمعارف الآخرين، في إطار من التنافس ونزوع إلى التفوق.
وهذا الكتاب محاولة نقدية لسبر غور حياتنا الثقافية والفكرية من خلال مؤشر الترجمة، وواقع حالها، بعيدا عن صخب الشعارات، ورطان النعرات، ودغدغة الوجدان؛ وإنما استنفار لقوى الفعل والتحدي في ضوء الواقع، وإن بدا أليما. والتركة وإن كانت مثقلة، إلا على أولي العزم. لهذا أود أن نقرأه وعيوننا على المستقبل وليس على الماضي. قد نرضى أو نهنأ بالقليل في الحاضر، قياسا إلى ماض حديث أو وسيط ساده الخواء الفكري، ونظن - والظن هنا إثم - أننا أنجزنا، وحالنا أفضل، فنخطئ التمييز بين تحول حضري بلغناه بفضل الغير، وتحول حضاري ننشده ولم نبلغه؛ لأننا أخطأنا الوعي بأسسه، ولا يتحقق إلا بفضل جهد الذات. لذلك أحاول هنا أن نرى صورتنا من خلال الآخر، ومقارنة به، لا تمجيدا له، وإنما حفزا للذات، وحثا على قبول التحدي، ودعوة إلى فعل اجتماعي على هدى واقع واضح البيان.
الكتاب يقول - من واقع الإحصاءات: إننا منصرفون عن القراءة، وعن المعرفة الحضارية المعاصرة تحصيلا وإنتاجا، وإننا لا نزال نعيش عصر الشفاهة، وهو ركون إلى فرد نظن به الحكمة المتفردة، وامتلاك ناصية المعرفة، فيه الكفاية، وله الأمر، وتعطيل لفكر الإنسان العام. وبين هذا ومقتضيات التطور الحضاري العصري أزمان. والكتاب يؤكد أننا لسنا دون الآخرين شريطة أن نعقد العزم اجتماعيا، ونهيئ أسباب النهوض. لا نتخذ الثقافة زخرفا وزينة، ولا الاستهلاك معيارا، ولكن نتخذ العلم منهجا وثقافة ومناخا وإنتاجا وتنظيما للحياة؛ فهذه هي بطاقة الانتساب إلى العصر، وتجاوز قرون التخلف. فالإنسان/المجتمع يعيش حياته بين أحد حالين؛ الوضع أو الحركة؛ الوضع سكون ورضاء بالموروث، وقناعة بحكمة القدماء. والحركة فعل نشط ركيزته إبداعات وإنجازات العقل في مستوى العصر. وغذاء الحركة المعرفة؛ فهي ضالة الإنسان/المجتمع إبداعا، وانتزاعا، أو استيعابا من كل مصادرها شرقا وغربا، داخل بنية حاضنة خصيبة. والحركة بهذا المعنى مؤشر الحياة على طريق الارتقاء، وبدونها استسلام للوضع، والثبات في الطبيعة، تحلل للعناصر وفساد للبنية.
والترجمة، وإن كانت عنصرا واحدا، إلا أنها عنصر كاشف لمجمل عناصر الصورة الكلية، وحياتنا الاجتماعية الواقعية؛ إذ لا يوجد عنصر هو جزيرة مستقلة يمكن أن ينشط دون العناصر الأخرى، وإنما عناصر البنية الاجتماعية جميعها تتحرك وتنشط في تكامل وامتداد. ويتجلى هذا في الإنسان/المجتمع أداة وهدفا. والقصد من الحديث هنا عن الترجمة إنما شهادة على المجتمع في شموله. وصورة حالة الترجمة هي تعبير عن حال أشمل وأعم. والنهوض بالترجمة لا يكون إلا حين ينعقد العزم على النهوض بالمجتمع في ضوء صورة للمستقبل واضحة المعالم، تؤكد عامل الانتماء، فتكون الترجمة استجابة لمطلب اجتماعي ملح، وتكون دالة ووظيفة.
لم أشأ الحديث عن نهضة الترجمة في العصر الكلاسيكي الإسلامي؛ فهذا كله معروف ومحفوظ، رددناه مرارا نلتمس فيه التعويض. ولكن قصرت الحديث عن واقعنا الراهن المجهول؛ لإسقاط الغمامة عن العيون. المنطلق فهم الواقع دون زخارف، والغاية دعوة إلى تضافر الجهد لتدارك ما فاتنا وهو كثير. فالوجود عزم ومعاناة، وأبواب التاريخ مفتوحة فقط لصناع الحياة.
مقدمة الطبعة الثانية
الترجمة بين ثقافة الوضع وثقافة الموقف
تقول حكمة صينية: «من لا يقارن لا يعرف.» وإذا كانت المقارنة ضرورية لتعرف الذات موقعها من الآخر، ووقع خطوها في تفاعلها وتنافسها مع هذا الآخر، ومن أجل بناء نفسها؛ فإنها الآن أكثر ضرورة في ظل شرط وجودي عالمي جديد، تداخلت فيه العلاقات بين الأمم والجماعات والأفراد، بحيث يقال: إن الوجود الاجتماعي على الصعيد العالمي وداخل المؤسسات وفيما بينها أضحى وجودا شبكيا، بحيث لا يمكن لمجتمع أن يبني ذاته تأسيسا على رصيده الذاتي، أو بمعزل عن الآخر، أو عالة عليه ، مستهلكا للفكر والتكنولوجيا.
لهذا اعتمدت في كتابي على المقارنة لاستبيان حقيقة وضعنا، واخترت الترجمة مؤشرا على موقفنا من المعرفة؛ لكي نقارن بين حالنا وحال غيرنا ممن يخطون على عتبة عصر جديد يسمى عصر المعلوماتية، أو الثورة المعرفية. عصر يمثل طورا جديدا في سلم التطور الارتقائي للبشرية، يكاد يماثل مرحلة اختراع الكتابة، وستكون له تجلياته الفيزيقية والعصبية والنفسية والاجتماعية. طور ربما يكون حدا فاصلا بين نوعين من البشر، بحيث يخلف وراءه من هم أدنى مستوى، وأعجز عن الملاحقة والتكيف.
والمجتمعات - أو لنقل الثقافات الاجتماعية - في رأيي صنفان، والتصنيف ليس قدرا أبديا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار؛ أقول صنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف.
ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخي الموروث. والمعرفة عندها - أو قل العلم الأسمى - لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد، وأقوال الأولين، والأمل عود على بدء، ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد. والزمان امتداد متجانس، فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم فهو بداية التاريخ وغايته.
وثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار عزم على التغيير والتجديد، وفهم مجريات الأحداث والظواهر، وتراكم متجدد متطور لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثم تطور وارتقاء مطرد للهوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.
ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادة من خارجها. وثقافة الموقف تخوض غمار لجج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب، تأسيسا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.
نتحدث عن أزمة اللغة أو قصورها عند الترجمة أو التعبير. والأزمة هي أزمة الإنسان/المجتمع الفاعل على مستوى حضارة العصر. أزمة الفعل الاجتماعي النشط. فعل إبداع الوجود. واللغة هي الفعل، والفعل على مدى التاريخ التطوري هو استجابة التحدي؛ أي هو الحضارة؛ ففي البدء كان الفعل. لم تبدأ اللغة مع الإنسان في تطوره الارتقائي بصيحة، بل بدأت بفعل اجتماعي منذ الإنسان المنتصب القامة
Homo erectus ، فالإنسان الماهر
Homo habilis ، والإنسان العاقل
Homo sapiens ، ومع تعقد الفعل وتعدد وتباين الاستجابات والتحديات تعقدت البنية العصبية، وتعقدت اللغة وبنية المجتمع، وتعددت الكلمات والمفاهيم.
نتحدث عن تراثنا التاريخي في الترجمة باعتزاز، وننسى أن نقارن، وننسى الفعل الاجتماعي، وننسى الإنسان. الفعل هو الوجود الاجتماعي المشروع، أو هو أساس شرعية الوجود، والإنسان هو الغاية والهدف والشهادة على هذا الوجود.
تراثنا التاريخي في الترجمة يؤكد أن ما كان في لحظة من الزمان كان عظيما بكل مقاييس زمانه، ولكنه مضى مثل سحابة صيف. ولم نسأل: لماذا؟ وتراثنا التاريخي في الترجمة يشير إلى أن جملة ما ترجم على مدى أربعة عشر قرنا لا يتجاوز عشرة آلاف كتاب. ولا نسأل: لماذا؟ ولا: كيف يستقيم هذا مع العظمة التي نزهو بها على امتداد قرون الخواء الفكري أو الأنوميا الاجتماعية؟ تراثنا التاريخي في الترجمة يؤكد أنه بعد أن انقشعت سحابة الصيف كفت المجتمعات العربية عن الأخذ وعن العطاء في إطار المعرفة والفكر والإبداع. وعاشت مع تراث فكري مكرور غلفته أساطير، ووجود اجتماعي ثقافي متجانس. وكفت عن الفعل الاجتماعي الإنتاجي الإبداعي، وانعكس هذا في العلوم والفكر واللغة.
ظلت المجتمعات العربية حبيسة ثقافتها التقليدية إلى أن حل القرن التاسع عشر، وظهرت مصر على ساحة الفعل الاجتماعي أو النهضة والتحديث. واقترن هذا بنشاط فكري وعلمي وتعليمي، وأضحت الترجمة أساسا متكاملا مع هذا النشاط الاجتماعي الهادف. وظهرت أيضا «متصرفية لبنان» التي كانت رائدة في مقاومة التتريك، وتأكيد دور اللغة العربية والترجمة إليها. وتراوح نشاط الترجمة بين صعود وهبوط في اتساق مع حركة الفعل الاجتماعي التجديدي النهضوي.
وبعد أن انتصف القرن العشرين، ومع تصفية الاستعمار، واكتشاف النفط، ظهرت المجتمعات العربية دولا ذات كيانات مستقلة، وبزغت حركات ترجمة وليدة وناهضة في عدد منها، بينما لا يزال البعض الآخر بغير اسم على خريطة النشر. وجدير بنا الإشادة بدور لبنان والكويت.
والكتاب دراسة نقدية مقارنة، لسبر غور حياتنا الثقافة والفكرية، من خلال مؤشر الترجمة وواقع حالها، مع مقارنة بالآخرين في مسيرتهم الحضارية. ودعوت إلى أن نقرأه وعيوننا على المستقبل وتحدياته، وليس على الماضي فقط، حتى لا نخطئ التمييز بين تحول حضري بلغناه بفضل إنتاج الغير، وتحول حضاري أخطأنا الوعي بأسسه.
وحاولت أن نرى صورتنا من خلال الآخر ومقارنة به، لا تمجيدا له، وإنما استنفارا لقوى التحدي الكامنة عند أولي العزم.
والكتاب يقول: إن موقفنا من الترجمة هو تعبير عن موقفنا من المعرفة إنتاجا إبداعيا، وتحصيلا لها من كل مصادرها المتعددة المتباينة، والتزاما بمنهجية الإنتاج والتحصيل في ضوء عقل ناقد. ويقول الكتاب من واقع الإحصاءات: إننا منصرفون عن القراءة، وعن المعرفة الحضارية العلمية المعاصرة، وإننا لا نزال نعيش عصر الشفاهة. ركونا إلى وجود فرد له الهيمنة حاضرا، أو من ماضيه البعيد، نظن به الحكمة المتفردة، وامتلاك ناصية المعرفة، فيه الكفاية، وله الأمر، وتعطيل لفكر الإنسان العام.
والكتاب يقول: إن شروطا وجودية تحكم حياتنا الثقافية صرفتنا عن الإنتاج المعلوماتي، والإبداع الفكري، والتنسيق المعرفي، ووأدت فينا الفضول والنهم لتحصيل معارف الآخرين، واكتساب أسباب وأسس الحضارة وتوطينها. وبتنا نعيش عيالا على الآخر في إنتاجه الثقافي والمعرفي، مستهلكين تابعين؛ ولذلك لسنا طرفا في حوار أو صراع الحضارات.
وتعطلت أو انحسرت الترجمة كنشاط اجتماعي، وهي إحدى أدوات تمكين المجتمع من التفاعل مع الجديد في العلوم والفنون والإنسانيات قرينة الإبداع المحلي، ولكننا نصرخ من موقع الضعف والخواء. الغزو الثقافي يتهدد الهوية، بينما الهوية ليست: من أكون؟ بل: ماذا أفعل؟ ليست الهوية ذكرى ماض تاريخي، بل انخراط إيجابي في الفعل الحضاري. والترجمة قوة تحرير، وأداة تمكين، وشرط للاستقلال، وليست أبدا عونا لغزو فكري حين يتلقاها عقل فاعل ناقد.
تفيد الإحصاءات الواردة في الكتاب أن البلدان العربية تحتل موقعا شديد التدني، ليس فقط بالنسبة لدول المركز المنتجة مرحليا للمعارف، بل وبالنسبة لبلدان الأطراف المجاهدة لاحتلال موقع متقدم على صعيد التحدي الحضاري. العالم العربي كله وتعداده يناهز 270 مليونا يترجم ما لا يزيد عن 450 عنوانا، وانخفض إلى أقل من ذلك بعد أن كف العراق عن الفعل إثر الاحتلال الأمريكي . والملاحظ أنه من بين هذا العدد لا تحتل العلوم، ولا تحتل الكتب التي تصوغ عقلا علميا وعلمانيا، إلا نسبة ضئيلة جدا، تصل عند الدول العربية المنتجة للترجمة إلى 2,5 بالمائة. هذا بينما إسبانيا وتعدادها 38 مليون نسمة تترجم أكثر من عشرة آلاف عنوان سنويا، وتترجم السويد وتعدادها 9 ملايين نسمة 2500 عنوان سنويا، منها ألف عنوان تقريبا أعمال أدبية، وألف عنوان دراسات غير أدبية؛ أي علمية، و500 عنوان من كتب الأطفال (تتس روك: المستعرب والمترجم والأستاذ بجامعة أوسلو السويد). وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية تترجم تراث البلدان الأخرى لتكون هي بنك أو مصدر المعلومات للعالم، وفق الصياغة الأيديولوجية التي تراها هي، ومن ذلك كتب عن الطب في مصر الفرعونية، وعن التراث الإسلامي.
وفي دراسة للدكتور محمود إسماعيل صالح الصيني، الأستاذ بجامعة الملك سعود، نرى مثالا آخر. تشير الدراسة إلى أن سلاح الجو الأمريكي في عام 1978 ترجم حوالي 75 ألف صفحة؛ أي ما يعادل 250 كتابا في دراسات تخصه، مع العلم بأن الإنجليزية لغة حضارة العصر الأولى. وتشير الدراسة أيضا إلى أن هيئة حكومية واحدة هي هيئة الخدمات المشتركة للمنشورات البحثية، والتابعة للمكتب الفيدرالي للمعلومات العلمية والثقافية في وزارة التجارة الأمريكية، ترجمت خلال النصف الأول من العقد السابع حوالي 274 ألف صفحة؛ أي حوالي 910 كتب. واللافت للنظر أنه في الوقت الذي أجاز فيه نظام التعليم في مصر، في إحدى المراحل، نجاح التلاميذ مع رسوبهم في مادتين، وقع اختيار التلاميذ على الإنجليزية والرياضيات، وهما المادتان اللازمتان للاطلاع والتفاعل مع إنجازات العصر؛ أقول: في هذا الوقت أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعا عام 1958م يحمل اسم
Title lv Defence Act ، يقضي بتشجيع تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الأمريكية، باعتبار هذا قضية أمن قومي، ونجد في الولايات المتحدة أيضا أن وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» مولت إعداد دليل يضم عناوين الهيئات التي توفر المواد العلمية والتقانية المترجمة إلى الإنجليزية داخل الولايات المتحدة. وصدر هذا الدليل عام 1987م، ويتألف من 32 صفحة تشمل فقط عناوين تلك الهيئات التي يعتبرونها مصدرا لترجمة إنجازاتها العلمية العالمية فور صدورها. ومرة أخرى أقول: على الرغم من أن الإنجليزية هي اللغة الأولى في المنشورات العلمية.
وأشار الكتاب إلى جهود اليابان التي وصلت بها إلى ما هي عليه الآن.
عمدت اليابان، منذ مطلع القرن، إلى الاتفاق مع أهم دور النشر العالمية لترجمة أعمالها، وصدورها باللغة اليابانية في ذات الوقت الذي تصدر فيه بلغتها الأصلية. وكانت اليابان تترجم في مطلع القرن أكثر من 1700 عنوان في السنة، ويتجاوز العدد الآن 35 ألف عنوان. إنه نهم التحصيل لإنجازات العصر. ولم تفقد اليابان هويتها، بل تعززت.
ويشير الكتاب إلى أن إنتاج إسرائيل في الترجمة يعادل إجمالي إنتاج البلدان العربية، هذا على الرغم من أن المجتمع الإسرائيلي متعدد الألسنة، إضافة إلى العبرية. وأسست إسرائيل عام 1959م برنامجا للترجمة العلمية تنفذه مؤسسة هي أكبر مؤسسة حكومية متخصصة ضمت عام 1967م عدد 250 مترجما متفرغا، و1440 مترجما متعاونا من الخارج (د. صفاء محمود عبد العال، التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2002م).
وحتى نقرن هذا بإصدارات الكتب تأليفا وترجمة، ونصيب الفرد منها؛ نجد الآتي:
إصدارات الكتب لكل مليون في أوروبا عام 1991م هي 802 عنوان.
إصدارات الكتب لكل مليون في العالم العربي عام 1991م هي 29 عنوانا. المشكلة هي كتاب وقارئ.
ويدعو الكتاب إلى تعريب نشاط الترجمة على الرغم من ضآلته.
وأعني بذلك أن يكون المنطلق عربيا نهضويا في إطار استراتيجية قومية للتطوير الحضاري، شاملة كل مناحي الحياة؛ إذ الملاحظ أن قدرا كبيرا من نشاط الترجمة إنما تديره وتنظمه وتموله مؤسسات دبلوماسية أجنبية، وما عداه نشاط عفوي لا يخضع لخطة.
مرة أخرى الفجوة بيننا وبين العالم المتقدم فجوة معرفية حضارية؛ أعني فعالية اجتماعية على صعيد حضارة العصر، في إبداع وإنتاج المعارف وتوظيفها. وأضحت الهوة أكثر اتساعا مع الثورة العلمية التكنولوجية التي تقتضي إعادة تشكيل الأساس المادي للمجتمعات، وبناء الإنسان. العصر الجديد يتميز بتسارع تكثيف وتراكم إنتاج المعلومات، تأسيسا على تكنولوجيا توليد المعرفة، ومعالجة المعلومات، والاتصال الرمزي. وهنا المعلومات قوة منتجة للمعلومات والمعارف، مع مزيد من التعقد في معالجة المعلومات.
إن قوة عظمى سقطت؛ لأنها عجزت عن دخول عصر المعلوماتية، ليس فقط من حيث الإنتاج والتوظيف، بل من حيث القيم، وإعادة تشكيل البنية الدينامية، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقة مع السلطة، ودور الإنسان العام. ومن أهم هذه القيم ثقافة الحرية والابتكار، وثقافة إدارة جديدة لعلاقات المجتمع. ولعل مسألة إعادة هيكلة النظام الرأسمالي هي وجه لمخاض أزمة ميلاد جديد في الغرب.
لهذا كان الفصل الختامي من الكتاب دعوة إلى إنشاء مؤسسة عربية للترجمة تتضافر فيها الجهود. وأن تكون هذه المؤسسة دعامة من دعامات بنية متكاملة لاستراتيجية تحول حضاري شامل لكل مجالات الحياة؛ العلم المؤسسي، والتعليم، والإعلام، والسياسة، والتنشئة الاجتماعية ... إلخ، وهذه دعوة قديمة دعت إليها جامعة الدول العربية، ولم تر النور؛ لغياب فعل التحول الحضاري الشامل. وأرى أن تنطلق الدعوة من جديد، وتظل مفتوحة لكل من آمن بالخط العام للتطوير الحضاري.
مقدمة الطبعة الثالثة1
قد يبدو غريبا أن أستهل مقدمة الطبعة الثالثة بالإشارة إلى خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم في واشنطن. ولكن الخطاب وثيق الصلة من حيث دلالته بموضوعنا عن الترجمة ونقل المعرفة، خاصة أنني هنا أعتمد التعريف الذي قدمته للترجمة بأنها إحدى آليات تمكين المجتمع في السباق الحضاري بين الأمم. وتتأكد أهمية وحيوية هذا التعريف في سياق ظروف العولمة التي تعني تكثف الزمان والمكان وتكثف الاتصالات؛ ومن ثم تكثف التفاعل العلمي والتكنولوجي والثقافي بين الشعوب.
إن المجتمعات المتصفة بالحيوية في عصر العولمة مجتمعات مشاركة إيجابيا في حوار علمي/تكنولوجي/فكري/ثقافي على الصعيد العالمي، ومشاركة أو متنافسة على أرضية الإبداع أو السبق الإبداعي في عناصر هذا الحوار، والسبق في امتلاك ناصية أغنى رصيد للمعرفة. معنى هذا أن رصيد المجتمع من إنجازات في صورة إبداع علمي وتكنولوجي يمثل الدعامة الأولى والأساسية التي تؤهله للمشاركة الإيجابية في هذا الحوار. وطبيعي أن هذا الرصيد جامع بين مصدرين؛ إبداع محلي، واستيعاب لإنجازات الآخرين.
إن جناحي النهضة أو البناء الحضاري هما معا وفي آن واحد الإبداع المحلي قرين استيعاب إنجازات الآخرين، ويصبح هذا النهج أكثر ضرورة وإلحاحا في عصر الترابط الشبكي بين المجتمعات في عصر العولمة.
يؤكد أوباما في خطابه أن الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم بإنجازاتها وتاريخها وتطلعاتها شهادة على روح الفضول المعرفي لدى الأمريكيين، الروح الذي لا يهدأ ولا يستقر له قرار، ويتطلع دوما إلى آفاق لا حدود لها لإنجاز ودعم، ليس المشروع العلمي وحده، بل دعم التجربة الحية المطردة التي نسميها أمريكا.
وانعقد هذا الأمل مع إصدار إبراهام لنكولن قانون إنشاء الأكاديمية الوطنية للعلوم على الرغم من نشوب الحرب الأهلية، ولكنه كان يؤمن أن مستقبل أمريكا ونهضتها رهن العلم.
ويضيف قائلا: رفض إبراهام لنكولن الرأي القائل: إن الهدف الوحيد لأمتنا هو مجرد البقاء. ولكنه أضاف بإنشائه الأكاديمية الوقود اللازم لإثارة الاهتمام وتأجيج عبقرية الاكتشاف.
واستطرد قائلا: ولكن كل مجالات النشاط في الولايات المتحدة تعاني الآن تحديات، وتعيش أزمة؛ أزمة تدني الاستثمار في مجال البحث العلمي على الرغم من ضرورته الحيوية لرخائنا وأمننا وصحتنا وبيئتنا ولنوعية الحياة الجيدة. لقد انخفض حجم التمويل الفيدرالي للبحث العلمي إلى حوالي النصف، وتخلفت مدارسنا عن مستويات مدارس بلدان أخرى متقدمة، بل وعن مستويات بعض الأقطار النامية. وأصبح طلاب مدارسنا دون المستوى في الرياضيات والعلوم بالقياس إلى نظرائهم في سنغافورة واليابان وإنجلترا وهولندا وهونج كونج وكوريا وغيرها. هذا على الرغم من أن الولايات المتحدة التزمت منذ أكثر من نصف قرن بأن تقود العالم بقدراتها الريادية في مجال الإبداع العلمي والتكنولوجي، وكذا الاستثمار في التعليم وفي البحوث والهندسة والسباق في الفضاء.
وأضاف: وندرك جميعا أن بحوث العلوم الأساسية هي رأسمال علمي، ونعرف أيضا أن إمكانات الأمة للاكتشافات العلمية تحددها القدرات المالية والبحثية العلمية التي يوفرها المجتمع للباحثين. واتخذت قراري الذي يقضي بأن الأيام التي فرضت على العلم في الولايات المتحدة أن يحتل مكانا خلفيا تابعا للأيديولوجيا قد انتهت؛ ذلك لأن تقدم أمتنا وتقدم قيمنا يمتد بجذوره إلى حرية البحث. لهذا فإن تقويض سلامة ووحدة وحرية العلم تقويض للديمقراطية. وحري أن تتأسس السياسات الفيدرالية على أفضل قاعدة من المعلومات العلمية الأبعد ما تكون عن الانحيازات الأيديولوجية؛ إذ يجب أن نؤكد أن الحقائق الموضوعية هي ركيزة قراراتنا وليس الأيديولوجيا.
واستطرد قائلا: نحن بحاجة كذلك إلى العمل مع أصدقائنا في العالم؛ ذلك أن العلم والتكنولوجيا والإبداع نشاطات تتسارع حركتها أكثر فأكثر بفضل تقاسم الجهد والاستبصارات والكلفة المالية والمخاطر. وندرك أيضا أن تقدم ورخاء الأمة وأجيال المستقبل رهن ما نقدمه لهم من غذاء تعليمي؛ لهذا أعلن التزامنا بالنهوض بالتعليم في مجالي الرياضيات والعلوم؛ إذ إن هذه هي سبيلنا لكي يحتل طلابنا مكانة أرفع مستوى. إن الأمة التي تتفوق في التعليم اليوم هي التي ستبز غيرها وتفوز عليها في المستقبل. إنني أحثكم على التزام روح التحدي لكي تستثمروا حبكم للعلم والمعرفة العلمية لتأجيج حاسة الدهشة والإثارة والتساؤل والمغامرة المعرفية لدى جيل جديد.
حري أن نقرأ هذا بعقل نقدي واع، نقدي للذات وللآخر، يعتمد الموضوعية العلمية، ويعتمد منهج المقارنة بين حالنا وحال أمة قادت العالم على مدى قرن، هو القرن العشرون، حتى أطلق عليه الباحثون صفة «القرن الأمريكي». وتواجه الولايات المتحدة، القطب العالمي الأول ثم الأوحد قرابة قرن من الزمان، تحديا حقيقيا من الصين والهند. وإنها إذ تنظر إلى نفسها نظرة نقدية في مرآة واقعها ومرآة البلدان المنافسة، تكشف بصدق الباحث عن الحقيقة في ضوء رؤية نقدية علمية، عن أوجه القصور الحقيقية ومظان الإصلاح الفوري بعزيمة صادقة؛ لضمان اطراد الريادة أو على الأقل عدم التراجع لتحتل مرتبة ثانوية. بيد أنها يؤرقها الخوف من المستقبل القريب، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الراهنة على الرغم من أنها لا تزال البلد الأقوى اقتصاديا وعلميا.
والسؤال لنا - عن أنفسنا في ضوء ما سبق: ماذا أعددنا نحن للنهوض بمجتمعاتنا وإنقاذها من مهاوي التخلف الذي استسلمنا له عمليا وإن كنا ندينه كلاما ورطانا. وهذا هو ما يحدث ويتكرر دون ملل عند الحديث عن الترجمة ونقل المعرفة.
واقع الترجمة موضوع كاشف لحال المجتمع في ضوء أبعاد متعددة؛ البعد المعرفي والثقافي والعلمي والتعليمي والإبداعي، وهي جميعا متشابكة في جديلة أو منظومة واحدة ذات عمق تاريخي اجتماعي، وأيضا ذات مدلول اقتصادي سياسي. أو لنقل بمعنى آخر: إن نشاط الترجمة دال على نشاط المجتمع جملة في حركة هذا المجتمع سلبا أو إيجابا، تقدما أو نكوصا على صعيد السباق الحضاري. ونلحظ أنه على الرغم من تواتر الحديث في كل أنحاء العالم العربي عن الترجمة ونقل المعرفة خلال السنوات الأخيرة، إلا أننا لم نخط خطوة عملية حقيقية على طريق الكشف، ومن ثم معالجة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تدني مستوى الترجمة.
وجدير بنا أن أشير هنا إلى أنه مع صدور الطبعة الأولى من كتابي هذا صادف الكتاب ما يشبه الإغفال التام. ولكن بعد حديث الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عن أزمة المعرفة وتدني مستوى العلم والبحث المعرفي في العالم العربي، وهو ما يتجلى في تحصيل المعارف العلمية تأسيسا على ما قدمته من إحصائيات ضمن تقرير التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2003م، وهي الإحصاءات والرؤى ذاتها المثبتة في هذا الكتاب. هنا انبرى كثيرون لنقد الإحصاءات، وحقيقة الأمر أن هول الصدمة كان كاسحا وكأننا أفقنا من غفوة وكشفنا عن عورة أو سوأة مجتمعات اعتادت في كبرياء مزعومة أن تسمي نفسها دائما «أمة اقرأ». هذا بينما واقع الحال يكشف أن لا علاقة لها البتة بتوسيع آفاق قراءة المعارف العلمية العالمية، ناهيك عن توسيع آفاق الإبداع المحلي.
وقنع الناقدون الموسومون بصفة «أعلام الفكر العربي» بتكذيب الإحصاءات. ولم يشأ أحدهم أن يكلف نفسه الالتزام بمنهج عقلاني نقدي أو بالمقارنة التي قدمتها بين دفتي الكتاب؛ إذ كان كل ما يعنيهم، والأمر الأهم في نظرهم مداراة العورة، وليس البحث عن الأسباب والعلاج. وأود أن أذكر هنا أنني مع الإحصاءات التي قدمتها عن أعداد الكتب والترجمات قدمت إحصاءات موازية عن استهلاك ورق الطباعة ومقارنتها أيضا بالمجتمعات الأخرى، وترجح المقارنة صدق النتائج إلى حد يقرب من التأكد. وأذكر علاوة على هذا، ما يدركونه ولكنهم أغفلوه عمدا، أن إحصاءات منظمة اليونسكو التي اعتمدت عليها استقتها المنظمة من البلدان العربية ذاتها ولم تبتدعها أو تصطنعها لخدمة أغراض أيديولوجية تآمرية . ولكننا لأننا مجتمعات تعشق الطرب، ويروقها فقط ما يطربها ويدغدغ وجدانها، وتقبل فقط ما يتطابق مع فكرها هي دون أن تتكلف مشاق البحث عن الحقيقة؛ لهذا ضاقت بالإحصاءات الواردة في الكتاب شأنها دائما حين تضيق بكل ما هو مختلف. ونظرا لأن ثقافتنا ثقافة كلمة لا ثقافة فعل؛ فقد انتهى الأمر بعد تدبيج المقالات المعارضة.
وإذا كنا نؤمن بأن التفكير عبر الحقيقة العلمية هو سبيلنا للنهوض، فإنني أؤكد أيضا أن نهج الالتزام بالحقيقة العلمية هو ديدن المؤمنين بالتغيير؛ تغيير الواقع والفكر معا. وطبيعي أن العمل على التغيير يستلزم مع توفر الإرادة الذاتية الجمعية، معرفة الواقع في ضوء منهج البحث العلمي المعتمد مرحليا. ولكن أسرى الأيديولوجيات يهيمون عادة مع تخييلات مقطوعة الصلة بالواقع، وعندهم الماضي والحاضر والمستقبل. امتداد متجانس على صعيد سواء حيث لا تغيير.
وعلى الرغم من مضي سنوات فإننا لا نلمس جهدا مجتمعيا حقيقيا لتنشيط حركة الترجمة في اتجاهها وسياقها المجتمعي الصحيح. وهكذا جاءت شهادة صدق على لسان التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية عن الحصاد الثقافي العربي لعام 2007م؛ لتؤكد صواب ما سبق أن أوضحته الإحصاءات التي أثبتناها في الطبعة الأولى، ولم يأت العالم العربي بشيء جديد، إن لم نقل: ساء الحال أكثر كما تفيد كل الشواهد. عرض التقرير العربي الأول الوضع، وأكد أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والفكر الأصولي السلفي والتطرف. وأشار إلى ما يفيد بأن هذا المناخ هو المسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم وعن الاهتمام بالقراءة العلمية وعن البحث، وهو ما يتجلى في ميدان النشر تأليفا وترجمة. ويؤكد التقرير تدني النشر العربي تأليفا وترجمة، وقصوره الشديد، وندرة الكتاب الذي يتناول علوما أساسية، وغلبة الكتب الدينية والأدبية.
وقد يدفع البعض دفاعا عن الوضع المتردي القائم، بأن ثمة جهات عربية خليجية كشفت عن اهتمام طارئ بنشاط الترجمة. وتجسد هذا في صورة مخصصات مالية ضخمة، أو في إقامة مراكز ترجمة في أنحاء مختلفة من العالم العربي. بيد أن هذا كله لا ينفي عشوائية وفردية النشاط، ولا ينفي تعطله من هدف قومي مرسوم وفق استراتيجية تطوير حضاري؛ مما يفرغ الجهد من صفة المنظومية الهادفة، فضلا عن افتقار المجتمعات العربية للمناخ الداعم لحرية التخطيط والاختيار. ولعل الأخطر والأهم أيضا افتقار المجتمعات العربية لمراكز الإبداع العلمي الحر على مستوى حضارة العصر، وهي الشرط البنائي الذي يجعل من الترجمة استجابة مؤسسية هادفة يستوعبها المجتمع لتسري دما في نسيجه الفكري والثقافي، وتدعم حركته الارتقائية إن وجدت.
وتدني الترجمة ليس مجرد ضآلة عدد الإصدارات المترجمة؛ ذلك أن أزمة الترجمة هي في التحليل الأخير لها أزمة قارئ/كتاب/مترجم/مجتمع له تاريخه الثقافي وواقعه الراهن علميا وتعليميا وثقافيا. وغير خاف أن المجتمعات العربية تعاني - كمثال - من تفشي حالة الأمية الأبجدية وإن اختلفت درجاتها مع اختلاف المجتمعات. ولكن الأمية ذات الصلة بالترجمة ليست فقط الأمية الأبجدية، بل هناك أيضا معها الأمية الحاسوبية والأمية الثقافية والأمية العلمية، بما يتسق مع إنسان حضارة العصر. وتؤثر هذه جميعها في طبيعة البنية الذهنية للمرء، ومدى فضوله المعرفي، واتجاه هذا الفضول ومحتواه، هل للتحصيل العلمي؟ أم لتحصيل وتكرار معارف الأقدمين التي لا تقدم جديدا ولا تفيد إلا للدراسات التاريخية؟
الارتقاء بمستوى الترجمة إلى مستوى المنافسة العالمية يستلزم بالضرورة الارتقاء بالمجتمع وبالإنسان معا على مستويات عدة؛ أولا: ارتقاء بالمستوى الثقافي الاجتماعي والعلمي والتاريخي؛ أعني إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان، بحيث يكون فضوله المعرفي موجها نحو تحصيل معارف لازمة لبناء المجتمع جميعا على مستوى حضارة العصر وفق صورة يصوغها المجتمع بعبقرية وإنجازات أبنائه عن الذات وعن الحاضر والمستقبل. وحري أن يتحدد هذا في ضوء دراسة اجتماعية ميدانية لبيان الموضوعات التي تحظى باهتمام المرء، ونوع القراءات، وكم هذه القراءات ومحتواها وعلاقتها بالحركة المجتمعية المنشودة، وأثرها في حفز المرء لأي نوع من المعارف. ويقترن هذا ببذل الجهد المنظم الهادف لمحو كل من الأمية الأبجدية والثقافية والحاسوبية والعلمية. ويتعين ألا ننسى ونفيد من تجارب ناجحة في كوبا واليابان والصين وغيرهم.
وأذكر هنا - إيجازا - تجربة كوبا؛ لطرافتها ودلالتها، وهي مجتمع فقير محاصر، ولكنها استطاعت محو الأمية الأبجدية في سنتين، وأصدرت منذ ست سنوات قانونا ينظم بناء الإنسان الكوبي تعليميا وعلميا. حدد النظام ما يسمى حاسب أو كومبيوتر ما قبل سن الدراسة؛ إذ يتعين على الطفل قبل الالتحاق بالمدرسة الابتدائية أن يتعامل مع الحاسوب. وتضمن النظام أيضا تدريس علوم البيولوجيا والرياضيات وكذا اللغة الإنجليزية في المدرسة الابتدائية؛ إدراكا من المسئولين والمجتمع أن هذه هي مؤهلات المرء للانتماء إلى حضارة العصر. وليس غريبا أن تضم كوبا الفقيرة عددا من مراكز البحث العلمي العالمية التي يؤمها علماء من الولايات المتحدة على الرغم من الحصار.
وطبيعي أن الارتقاء بالإنسان رهن الارتقاء بالسياق؛ أعني الارتقاء بالمجتمع. نحن لا نزال نعيش تحت عباءة ثقافة مجتمعات الرعي والزراعة، ولا نزال بعيدين عن حضارة عصر الصناعة، ناهيك عن عصر المعلوماتية. وطبيعي أن الارتقاء بالإنسان وبالمجتمع هنا عملية واحدة متكاملة ومطردة التطور. ونعني بذلك أساسا الانتقال إلى حضارة العصر؛ أي تحديث المجتمع؛ ذلك أن عملية التحديث، أو الانتقال إلى حضارة الصناعة والمعلوماتية، عملية شاملة متكاملة، وليست تجزيئية أو انتقائية عمياء، ومن ثم التحديث ثورة تغيير لذهنية الإنسان وللاقتصاد وللسياسة والمؤسسات الاجتماعية ولدور الإنسان العام ... إلى آخر نشاطات المجتمع كمنظومة واحدة متكاملة. وهنا ستكون للقراءة أو لتحصيل المعارف وللمغامرة المعرفية حافزها الباطني ودور اجتماعي، وسيكون لها عائدها على الفرد والمجتمع، وسيكون المجتمع إطارا حافزا لهذه الجهود. وطبيعي أنه في مثل هذا السياق تأتي الترجمة أو الفهم في حرية لتحصيل معارف الغير، استجابة لحاجة مجتمعية، مما يهيئ اندماجها وتجسدها مجتمعيا، وتدخل في نسيج المجتمع قرينة إبداعاته المحلية، وتكون أداة دعم وتمكين وتطوير. وبدون ذلك يظل الحديث عن الترجمة رطانا، وتظل جهود الترجمة على تدنيها ومحدوديتها، بل وعشوائيتها، أشبه بماء مسكوب في صحراء قفر لا تثمر.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنها أضحت في مسيس الحاجة إلى تنشيط الإبداع والبحوث العلمية ضمانا لاطراد الريادة والزعامة، وأنها بحاجة إلى مشاركة على صعيد عالمي في الإنجاز وفي الحوار والتفاعل؛ أقول: إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للولايات المتحدة القطب والرائد؛ فإن البلدان العربية بحاجة أشد إلحاحا وضرورة لكي تثري رصيدها المعرفي بالإبداع المحلي والاستيعاب العقلاني النقدي الهادف للأجنبي، وما أكثره وما أشد تباينه وما أكثر مزلقاته!
وطبيعي أن الترجمة هي سبيلنا لذلك، وأن الإنسان العربي المبدع في مناخ من الحرية، حرية الإبداع وتلقي المعلومات والمشاركة السياسية والعلمية في البناء، هو دعامة هذا التحديث؛ إذ كيف يكون للعرب نصيب في الحوار والمشاركة دون امتلاك نصيب من الإبداع، ودون استيعاب إنجازات الآخر. هذا وإلا سنقع في ما حذر منه أوباما الولايات المتحدة. أعني نقنع بمجرد البقاء دون الوجود الإرادي الفعال. وهنا يغدو لزاما أن نمايز بين البقاء الذي هو مجرد اطراد عشوائي، وبين الوجود الذي هو إرادة فعل هادف، ومشروع خلق، وإنتاج للثروة، الثروة التي هي الآن المعرفة وفائض المعرفة.
نحن لا نستطيع أن نفصل تدني حال الترجمة عن تدني الوضع العلمي والتعليمي بكل مستوياته وتخصصاته في العالم العربي، خاصة تعليم اللغات في صورة متطورة، وأعني اللغة العربية قرين اللغات الأجنبية. ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني واقع الترجمة عن تدني الواقع الاقتصادي والاجتماعي والحضاري بعامة. ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني الترجمة عن واقع قمع الحريات، حرية الفكر والتعبير وتلقي المعلومات، وحرية النقد والإبداع. ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني واقع الترجمة عن تدني حقوق الإنسان، ومنها حق ومسئولية الإنسان العام في المشاركة الإيجابية في إدارة ومهمة شئون البلاد، وحق الإنسان العام في أن يختار لنفسه وبنفسه في حرية حياته وعمله ومستقبله.
ونحن لا نستطيع أن نفصل تدني الترجمة عن طبيعة وقيم وأساليب التنشئة الاجتماعية. التنشئة القائمة على الخوف من المجهول وليس اكتشافه، والتنشئة القائمة على القناعة بالرصيد المعرفي الموروث دون إثرائه بالبحث والتجديد والمغامرة، التنشئة الاجتماعية القائمة على ثقافة الاختزال عند السؤال عن الأسباب وردها إلى سبب واحد خارج طبيعة الظاهرة دون ثقافة تعدد الأسباب الكامنة في الظاهرة والطبيعة والتاريخ. التنشئة الاجتماعية التي تحصر الواجب المعرفي في قراءة كتب ما بعد الحياة دون الاهتمام بقراءة ومعرفة كتاب الحياة، ومن ثم التنشئة التي تكرس تغييب إرادة الفعل وتفضي إلى تغييب المسئولية وواجب الإنسان/المجتمع؛ مسئولية وواجب قبول التحدي والثقة في الاعتماد على النفس للإنجاز. تنشئة تؤكد وترسخ ثقافة قصور العقل وقصور إرادة الفعل وقصور العلم، وبالتالي إعفاء الإنسان من مشقة البحث وإعمال الفعل والفكر، وإعفاءه من بذل الجهد للقراءة والتحصيل.
ومن هنا لا نفصل تدني واقع الترجمة عن غياب الرؤية العامة المجتمعية نحو مستقبل حضاري جديد، وشيوع السلفية التي هي في جوهرها هجرة إلى الماضي وإلى الغيب ملاذا آمنا هربا من واقع قاس غير آمن وغير واعد وعاطل من الأمل المشترك جميعا. صفوة القول: النهوض بالترجمة لا يكون إلا عبر النهوض بالمجتمع والارتقاء بالإنسان وتعظيم رأس المال البشري؛ أعني التحديث الشامل للمجتمع على مستوى حضارة العصر، وعلى نحو يؤكد إرادة الإنسان العام المشارك إيجابيا، ويؤكد عمليا ودستوريا حقه وواجبه في الاعتزاز والانتماء.
ونعود لنقول ما قاله أوباما، وما قاله مفكرون عرب كثيرون على مدى التاريخ في الماضي القريب وفي الحاضر، وإن أهملهم التاريخ سواء لحساب دعاة التقليد؛ تقليد السلف، أو لحساب قوى السلطة المحافظة؛ نقول: نرفض أن يكون هدف أمتنا الوحيد هو مجرد البقاء كاطراد عشوائي، وإنما ليكن هدفنا تحقيق، أو انتزاع حق الوجود لأنفسنا؛ الوجود من حيث هو مشروع إرادة وحرية الفعل والاختيار وبناء المستقبل، مستقبل الأمة، في مواجهة تحديات هي إفراز طبيعي لصراع الوجود الذي هو قانون الحياة، وفي إطار قيم إنسانية جديدة نكون أهلا للقيام عليها وحراستها بفضل قوة العلم والعقل المبدع. ولتكن أولوية الصدارة والانحياز للعلم دون الأيديولوجيا؛ ليتأسس عن صدق المجتمع الديمقراطي المشارك بحرية على الصعيد العالمي. مجتمع حرية البناء، وبناء الحرية. وهنا تحديدا تكون الترجمة حقا آلية دعم وتمكين لا غنى عنها، وتبلغ غاية الازدهار.
القاهرة 2009م
العرب والترجمة
أزمة، أم موقف ثقافي؟
حق وحرية الانفتاح في تسامح على فكر الآخر، والتفاعل مع أطر المعاني والدلالات فيما بين الثقافات؛ أي الترجمة. قضية خلافية، وإشكالية صعبة في ظل ثقافة الكلمة التي تعبر عن ذلك بمقولة تتكرر على مستوى التقديس في عبارة «ثوابت الثقافة العربية»؛ إذ حسب هذه النظرة: الكلمة هي الوجود الذهني المثالي الحقيقي، وليس الوجود بمعنى فضاء الفعل والتغيير المولد للفكر في تفاعل جدلي مطرد ومتطور. والكلمة/الوجود امتداد وتجل لمشيئة قدسية خالدة، ومن ثم أضحى الخلود قسمة مميزة، ومن هنا يأتي الحديث عن الثوابت ورفض التفاعل الذي يؤدي إلى صدع إطار المعنى والرؤية مع كل جديد.
ونجد في التاريخ العربي والإسلامي، أو لنقل: تاريخ الشرق الأوسط بعامة؛ خطين متوازيين متضادين فيما يتعلق بهذه المسألة التي تمثل فضاء الترجمة من حيث الموقف منها وحدودها واستثمارها مجتمعيا، ومن ثم منتجها الثقافي. هناك تاريخيا من يرفضون بحجة الحفاظ على «ثوابت الثقافة العربية»، على الرغم من عدم توافق الآراء بشأن تاريخية نشوء وتطور ومدلول هذه الثقافة وثوابتها، وكذلك بحجة الحفاظ على الهوية الاجتماعية على الرغم أيضا من أن هذا موضوع مستحدث جديد، وليس لدينا رؤية علمية لمدلول الهوية عربية كانت أم إسلامية، من حيث النشوء التكويني والتطور التاريخي الاجتماعي
sociogenesis ، وهل هي هوية متخيلة أم هوية حية دينامية رهن الزمان والمكان.
وإذا عدنا إلى التاريخ العربي والإسلامي التماسا لفهم الترجمة ودورها في المجتمع، نرى بوضوح مظاهر هذا الصراع ونتائجه، ثم هزيمة طرف لحساب طرف آخر ظل له الفوز والولاية على الفكر العام حتى الآن، وله تجلياته المادية المؤثرة ومسئوليته عما آل إليه حالنا.
البداية هنا - بحكم الخطاب العربي المنحاز عقديا - مع فترة اتساع الرقعة الجغرافية الحضارية الموصوفة بالحضارة العربية حينا، والإسلامية حينا آخر؛ إذ إنه مع خروج موجة جديدة من موجات الهجرة لسكان شبه الجزيرة العربية على امتداد الحقبة التاريخية الأركيولوجية الحديثة من نطاق أو حصار صحراء شبه الجزيرة، انطلق المهاجرون العرب هذه المرة يحملون عقيدة بمسمى جديد هو الإسلام.
وتحققت لهم الهيمنة في مناطق ذات تواريخ حضارية عريقة أوشكت شعلة الحضارة - أي الإبداع والتجديد - على الانطفاء فيها، أو لنقل: ذوت جذوة الفعل الإبداعي الحضاري لأسباب عديدة؛ ثقافية وتاريخية واقتصادية وسياسية وعسكرية ... إلخ. أنهكتها الصراعات فيما بينها، وفي داخلها، ولكنها تملك تراثا غنيا من الإنجازات وقضايا الفكر والعقيدة ذات الخصوصيات المميزة. وعرف التاريخ مدارس أو منارات للفكر في هذه البلدان، مثلما شهد صراعات وغزوات متبادلة.
ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، أكاديمية جنديسابور في خوزستان في فارس، وجهود علمائها في مجالات الفكر والفلك والترجمة وغيرها. ونذكر مدرسة الإسكندرية لتنوع الاتجاهات العقدية والفكرية فيها، سواء في العصر الهيليني أو ما قبله؛ حيث كانت مدرسة أو معبد «برعنخ» راقودة المصري الفرعوني، الذي أنشئت مدرسة الإسكندرية البطلمية على غراره، ناهيك عن معابد مصر الفرعونية. ونذكر بلاد الإغريق ومدارس الفكر الفلسفي والرياضيات والإلهيات فيها. وكانت للإغريق تعاملاتهم وغزواتهم مع المنطقة حتى حدود الهند. ونذكر كذلك شرق المتوسط وآسيا الوسطى التي توهجت فيها مدارس فكرية وصراعات عقدية حول المسيحية في تنوع خصب، حيث مدارس النساطرة. ونذكر تاريخ بابل وآشور والسريان ومراكز الفكر في أنطاكيا وحران والرها ونصيبين وأوغاريت. وكانت جميعها قلاعا فكرية وعقائدية أثرت بإشعاعاتها في الإقليم على اتساعه، مثلما كانت لها جميعها تفاعلاتها خارج حدود هذه الأقاليم. وكان لبعضها حضور ثقافي، بل ومادي، مثل الفرس والرومان داخل شبه الجزيرة.
ضم العرب قطاعات واسعة من هذه البلدان المنهكة حضاريا، والشديدة التنوع فكريا وعقديا تحت راية سلطة سياسية واحدة تحمل اسم عقيدة الإسلام. وخلق الواقع الجديد فرصة جديدة لتفاعل جديد على نطاق إقليمي واسع بين هذه الإنجازات الحضارية السابقة. تفاعل في سياق جديد مغاير؛ سياق يمتد مكانيا من حدود الصين عبر الهند وفارس، إلى شرق المتوسط ومصر والإغريق. وكان الوضع الجديد أشبه بحقنة أدرينالين منشطة لجسد واه ضعيف، فبثت الروح والحمية فيه من جديد، وأفاق الجسد إلى حين.
وتجلت ثمار التفاعل في ظل السياق الجديد وقضاياه الجديدة، وكانت مرحلة لاستيعاب فكر وافد، وإيقاظ فكر موروث، وتفاعل من منطلق خصوصيات سابقة متنوعة مع رؤى وفكر إسلامي جديد، وليس بالغريب، وإنما يمثل نقلة على امتداد متصل الأديان في تطورها الإقليمي.
وحقق المأمون حلمه الذي استهل به فترة لم تدم طويلا، هي فترة أو عصر تأكيد سلطان العقل على الفكر والفعل الدنيويين. وهذا هو الإنجاز الذي أثمر إبداعات في الفكر الفلسفي وفي العلوم والرياضيات وفي الفلك، واستحق المأمون من أجله أن يطلق علماء الفلك المعاصرين لنا اسمه على إحدى فوهات القمر. وحلم المأمون وصياغته، الذي جاء تجليا لنشأته وبيئته، له دلالة ذات مغزى، سواء أكان تعبيرا عن وعي باطن، أم رواية عن وعي ظاهر. ويروى أنه رأى في منامه أرسطو، المعلم الأول، وسأله: «أيها الحكيم، ما الحسن؟» أجابه الحكيم: «ما حسن في العقل.»
وهذه هي العبارة ذاتها التي ظلت مقولة فلسفية موضوع جدال وسجال بين المعتزلة وخصومهم، والتي قالها الفيلسوف العربي الكندي، إلى أن بلغت ذروتها في فكر فيلسوف العقل ابن رشد، الذي حرر الحسن والعقل والحق من أي انحيازات عقدية أو مرجعيات دينية. وكان نموذج المأمون إقامة مركز يعنى بتعلم المذهب العقلي على غرار الأكاديمية الفارسية في جنديسابور التي عنيت بترجمة المعارف الإغريقية والرومانية والبيزنطية وعلوم الشرق الأقصى إلى اللغة الفارسية. وانفتحت الأكاديمية على مذاهب المفكرين والفلاسفة في تنوعهم، بمن في ذلك من كانوا يسمون الهراطقة.
وأنشأ المأمون نموذجا محاكيا في بغداد هو بيت الحكمة. ولا غرابة في ذلك؛ إذ إن المأمون أمه فارسية، وعاش حينا واليا على بلدة مرو الخاضعة للسلطان الفارسي. وأصبح بيت الحكمة في بغداد مؤسسة علمانية لمجتمع قائم على العقل والإبداع. وأقام المأمون مرصدين ومكتبة. واشتمل بيت الحكمة على برامج بحثية في علوم اللغة والطبيعة وما وراءها والرياضيات والطب والفلك. وعني بيت الحكمة عناية فائقة بالترجمة عن العديد من اللغات، وفي جميع المعارف، في نهم لا يعرف حدودا أو قيودا، وعرف التاريخ أسماء أعلام مشهود لهم دون اعتبار لفوارق عقدية، ويمثل إنتاجهم الخصب المتنوع جهدا مؤسسيا لفريق عمل بكل معنى الكلمة.
ولكن الفكر الأصولي السلفي المتشدد ناصب المأمون وبيت الحكمة العداء، وخاض معارك باسم الدين والتفسير الحرفي ضد مشروعات المأمون العلمانية، التي كان مقدرا لها - لو استمرت - أن تنقل الشرق الأوسط إلى آفاق حضارية رحبة . وكان رائد هذه الحركة السلفية المناهضة للعقل في أيام المأمون هو الإمام أحمد بن حنبل في مجال العقيدة، والثاني الإمام أبو حامد الغزالي ، الذي كان بفكره معولا لهدم العقل الفلسفي، وانعقدت للفكر السلفي السيادة منذ ذلك التاريخ. ونلاحظ أن هذه المعارك لا تلبث أن تظهر نشطة دوما، معارضة لكل دعوة للعقل والعقلانية والنهضة العلمية والتطور.
وعلى الرغم من هذا الصراع باسم المقدس، فقد أعطى التفاعل ثمارا فكرية متنوعة وإبداعات علمية توجزها عبارة الحضارة الإسلامية أو العربية. ومن عجب أننا نجد من يشيد بهذا العصر، على قصره، في زهو باعتباره عصر ازدهار، ونجد من هم على طرف نقيض، ويرون أن هذه الفترة هي سر وبداية النكبة. وهاتان رؤيتان متوازيتان على امتداد التاريخ حتى اليوم. والأمر الجدير بالبحث والتفسير هو لماذا تنعقد الغلبة في النهاية دائما لأصحاب التوجه السلفي؟
والذي يعنينا هنا أن وقائع هذه المرحلة تؤكد لنا أن الترجمة كانت إحدى آليات هذه النهضة في تزاوج مع واقع ينبض بحياة فكر وفعل اجتماعيين جديدين، واقع تربطه علاقة رحم بالسابق على تنوعه، وعلاقة نسب بقضايا الحاضر الجديد آنذاك.
واستسلم العقل العربي بعدها لحالة انكفاء ووهن حضاري؛ أعني انطفأت جذوة الإبداع في ظل سيادة نظم حكم عاطلة من ثقافة الفعل الاجتماعي والعقل الإبداعي والانتماء والتطوير الحضاري، وسادت مقولة: «كل مستحدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.»
وامتد عصر الوهن الحضاري إلى أن تيسرت ظروف تفاعل جديدة مع ما اصطلح على تسميته الحضارة الحديثة؛ أي الغرب. وبعيدا عن اختلافات التفسير أقول: بدأت الترجمة في العصر الحديث من موقعين، ولكل أسبابه الخاصة للنشأة والتطور؛ في مصر، وفي متصرفية لبنان، أو جبل لبنان أثناء الحكم العثماني.
ارتبطت الترجمة في لبنان بموقف مناهض لسياسة التتريك، ومن ثم محاولة الحفاظ على اللغة العربية ضمانا لفصل المنطقة ثقافيا عن تركيا، وهو الموقف الذي دعمه الغرب. وقدمت لبنان أعلاما في الفكر العربي والترجمة، نذكر منهم: أمين المعلوف صاحب معجم الحيوان، والمعجم الفلكي، ومعجم النبات. وكذلك فارس نمر، ويعقوب صروف، اللذان أصدرا مجلة المقتطف، وتضمنت الكثير من الدراسات المترجمة في سياق سياسة التنوير.
ولكن حركة الترجمة كنشاط اجتماعي تنويري واستقلالي داعم للنهضة والتحديث، بدأت في مصر في عهد محمد علي. ويعتبر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إمام التنوير والعلمانية؛ إذ جعل الترجمة، وبدعم من السلطة، مؤسسة اجتماعية هدفها إنجاز مشروع قومي اجتماعي شامل لجميع أنشطة الحياة، وتحقيق نهضة في العلوم والصناعات.
بدأ تاريخ الترجمة في العصر الحديث للعالم العربي انطلاقا من هذين المركزين. وتعثر نشاط الترجمة أو انحسر بعدما أصابت جهود النهضة انتكاسة بسبب الدور الاستعماري الغربي، والنظم الحاكمة الاستبدادية المحلية التي حالت دائما دون أن تكون قضية الوطن أمانة بين يدي شعب واع ومشارك في إدارة شئون مجتمعه بحرية. وبدأت صحوة جديدة للترجمة مع مطلع القرن العشرين قرينة صحوة اجتماعية وسياسية للمطالبة بالاستقلال. وبرز أعلام للفكر العربي، كما نشأت مؤسسات للترجمة والتنوير في إطار رؤية قومية لتحصيل علوم الحداثة التي هي أساس نهضة وازدهار الغرب.
ومع بداية ما يمكن أن نسميه عصر استقلال الكيانات العربية ونشوء دول جديدة في منتصف القرن العشرين، ظهرت مراكز ومؤسسات للترجمة في غير المركزين السابقين؛ في الكويت وسوريا والعراق والسعودية، وأخيرا في دبي وأبوظبي وقطر.
وأبدت الجامعة العربية اهتماما بدور الترجمة، ودعت، بناء على مبادرة من عميد الأدب الراحل طه حسين، إلى إنشاء مؤسسة عربية للترجمة لإعداد المترجمين. ولكن لم يتحقق من هذا كله سوى إقامة المعهد العالي العربي للترجمة الذي أقيم منذ بضع سنوات فقط في الجزائر، ولا يزال في دور التجربة، وشرع في تخريج مترجمين يؤرقهم سؤال: ماذا عسانا أن نترجم؟ ولماذا نترجم؟ ولمن نترجم؟ أعني أن جهدهم التعليمي غير مقترن بمشروع قومي محلي أو عربي، وأمامهم العالم العربي عاطل من هدف نهضوي.
معنى هذا أن هناك إدراكا عربيا رسميا لدور الترجمة وتدني وضعها، ولكن في حدود الإدراك النظري للموقف دون أن يصدقه سلوك عملي ووعي قومي. ولهذا نرى نشاط الترجمة بؤرا متناثرة على صعيد الأرض العربية، ولا يخرج عن كونه جهودا شكلية لمراكز أو منظمات أو مؤسسات هي في حقيقتها مجرد دور نشر.
ويمكن أن نلخص حقيقة الوضع العربي الراهن للترجمة فيما يلي: (1)
أكثر البلدان العربية حديثة العهد بنشاط إصدار الكتب تأليفا وترجمة، بل إن هناك بلدانا ليس لها اسم على خريطة صناعة الكتب. (2)
الترجمة من حيث الكم متدنية أشد التدني قياسا إلى البلدان الأخرى، وقياسا إلى مقتضيات حضارة العصر والنهوض بالإنسان وبالوطن. (3)
الترجمة على الرغم من تدنيها ومحدوديتها هي نشاط فردي، حتى وإن صدرت باسم مؤسسة ما هنا أو هناك؛ إذ هي جهد متباين التوجهات، مما يعكس غياب رؤية وخطة عربية عامة أو محلية تعي مقومات العصر وتحدياته، وتمثل استجابة لها. (4)
نسبة الكتاب المترجم أقل من ٪10 من إجمالي الإصدارات على المستوى العربي، وهي أربعة في الألف بالنسبة للإصدارات المترجمة عالميا سنويا، بينما نسبة عدد العرب إلى العالم واحد على أربعة وعشرين. وسبق أن أشرنا في كتابنا «الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي»، ما سبق أن نشرته منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للجامعة العربية في كتابها الصادر عام 1996م، من أن إجمالي عدد الكتب المترجمة إلى العربية منذ عهد خالد بن يزيد حتى عام إصدار الكتاب، لا يتجاوز عشرة آلاف عنوان، وهو ذات عدد إصدارات إسبانيا في عام واحد من الكتب المترجمة. (5)
الغالبية العظمى من الكتب المترجمة لا تربطنا بما يسمى العلوم الأساسية
Basic Sciences ، التي هي دعامة البناء الحضاري، وحصاد جهود البحث والتطوير والمنافسة. ولكن غالبية ما يوصف بالكتب العلمية هي علوم تطبيقية، مثل إصلاح الحاسوب مثلا. ولا يكشف الكتاب المترجم عن توجه مجتمعي ماكرو... أي توجه كلي وشامل لحركة مجتمعية ناهضة في اتجاه العصر. والقليل النادر الذي يهدف إلى صوغ ذهنية علمية إبداعية نقدية. (6)
ثمة حاجز فاصل كثيف بين بلدان ومثقفي العالم العربي وبين إصدارات العالم المتقدم؛ لأسباب ثقافية، فضلا عن أن استيراد الكتاب جهد فردي. هذا علاوة على أن المجتمعات العربية موزعة كل تحت سيادة لغة أجنبية هي لغة المستعمر السابق، مما يجعل كلا منها خاضعة لرؤية ثقافية منحازة. وتعاني مشكلة توحيد المصطلحات العلمية عربيا على الرغم من وجود «مكتب تنسيق التعريب» في الرباط التابع لجامعة الدول العربية. (7)
قدر كبير من الترجمات صادر عن دور نشر لحساب هيئات ومراكز دبلوماسية أجنبية؛ ولذلك فإنها تعكس رؤاها ومصلحتها. ومن هنا جاءت دعوتنا إلى «تعريب الترجمة»، بمعنى أن تصدر انطلاقا من رؤية عربية نهضوية خالصة. (8)
الافتقار إلى إحصاءات ببليوجرافية شاملة ومحققة عن الحاضر والتاريخ؛ مما يعني افتقار المجتمع إلى ذاكرة تسجل نشاطه الثقافي، بما في ذلك الترجمة. هذا على عكس ذاكرة الثقافة الدينية الأصولية. (9)
غياب دليل المترجمين العرب وتخصصاتهم وإنجازاتهم، على الرغم من أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أصدرت دليلا، إلا أنه قاصر ومعيب. (10)
غياب جيل جديد من المترجمين الخبراء المجيدين، ويعكس هذا فقر الثقافة وقصور التعليم، تعبيرا عن غياب الجهد النهضوي. (11)
غياب الدراسة التحليلية للمترجمات دراسة بناء على منهج المباحث العلمية المتداخلة، تاريخ وعلم نفس واجتماع وأنثروبولوجيا ... إلخ؛ لتحليل الموضوع وتحليل الأسباب؛ أسباب التدني من حيث الكم والكيف، دون الاقتصار على إحصاءات كمية وأرقام مجردة. هذا إذا أردنا أن نعرف أنفسنا ونفكر عبر الحقيقة وإن كانت مؤلمة، تأكيدا لعزمنا على التغيير. وغني عن البيان أن دراسة تحليل الموضوع سوف تكشف عن أي فروع المعرفة تحظى باهتمامنا، وأيها نعزف عنها، ومن ثم وجه القصور المعرفي الحقيقي في حياتنا الثقافية، ومدى ارتباط ذلك تاريخيا بثقافة مجتمعية غالبة، وكذلك اقتران ذلك بتخلفنا المعرفي العلمي. (12)
غياب الدراسة التحليلية المقارنة لمراحل وعصور نشاط الترجمة في حياتنا، والمقارنة مع المجتمعات الأخرى؛ حتى لا نزهو بفتات وقشور الإنجازات الفكرية العلمية. ويكفي أن نعرف أن العالم ينفق أكثر من خمسمائة بليون دولار سنويا على البحوث والتطوير، وجدير بالذكر أن الدول المتقدمة تنفق سنويا ما بين 2 و3 بالمائة من إجمالي الدخل القومي على البحث العلمي في المجالات غير العسكرية، بينما تنفق البلدان العربية ما بين 0,2 و0,5 بالمائة من دخلها. ويتجلى فقر البحث العلمي في اغتراب غالبية العلماء العرب خارج أوطانهم.
وحري بنا هنا أن نلقي نظرة إلى خلاصة ما انتهى إليه التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية، والذي يعرض الحصاد الثقافي العربي لعام 2007م؛ إذ يؤكد أن المناخ السياسي المتسم بالاستبداد والقهر وغياب الحريات أدى إلى انتعاش الظلامية والأصولية والتطرف. ونعرف أنه مناخ ممتد على مدى قرون. وطبيعي أنه مسئول عن انصراف الإنسان العربي عن ثقافة تحصيل العلم، وعن الاهتمام بالقراءة العلمية والبحث، والعجز عن التغيير، وهو ما يتجلى في مجال النشر تأليفا وترجمة.
ويشير التقرير العربي الأول إلى تدني النشر العربي تأليفا وترجمة، وقصوره الشديد، وندرة الكتاب الذي يتناول علوما أساسية، وغلبة الكتب الدينية والأدبية.
وسبق لنا، منذ أكثر من عشر سنوات، أن عرضنا في الطبعة الأولى من كتابنا «الترجمة في العالم العربي: الواقع والتحدي» (إصدار المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة)، رؤيتنا التي تؤكد ذلك على أساس من دراسة تحليلية وإحصائية. ولكن للأسف انبرى عدد من المثقفين الذين فزعوا من هول الصدمة، وحرصوا على الدفاع الأعمى عن النظم الحاكمة، وعن واقع مهين مترد، وشرعوا في التشكيك في الرؤية وفي الإحصائيات عن غير علم. ونحن لن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نلتزم منهج «التفكير عبر الحقيقة».
بعد هذا أقول إجمالا: الترجمة في التاريخ العربي موقف ثقافي اجتماعي سلبي من المعرفة إنتاجا وإبداعا وتحصيلا واستثمارا. إن مناط الأمل ومحور الجذب في ثقافتنا الاجتماعية التي أفقرها ورسخ واقعها البائس، الاستبداد والجمود والتخلف، هو تحصيل علم لدني دون الدنيوي، ونرى في هذا صراطنا المستقيم وخيرنا الأعظم.
ولهذا فإن النهوض بالترجمة لا يكون إلا بشرطين: (1)
عقد العزم المجتمعي على إنجاز نهضة شاملة لكل مجالات النشاط والحياة في المجتمع من سياسة وإدارة وتعليم وتأويل واجتهاد ديني عقلاني حر، وبحث علمي دون قيود من خارج المنهج العلمي في البحث والتفكير في تناسب مع تحديات ومقتضيات حضارة العصر. (2)
أولوية إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان العربي في إطار رؤية علمية نقدية لواقعنا راهنا وتاريخا، وترسيخ ثقافة الفعل الاجتماعي والتغيير والتنوع في حرية، والانفتاح على الفكر العالمي في تعدده، والهدف بناء عقل جديد لإنسان جديد ومجتمع جديد. وهذا هو الواجب الأول لأي مؤسسة أو وزارة معنية بالثقافة الحقة لا الثقافة الاحتفالية، ولكنه واجب غائب عن الوعي غياب الحاجة الملحة إلى النهضة.
بقيت نقطتان وثيقتا الصلة بموضوع الترجمة وموقف العرب من الترجمة، وهاتان النقطتان موضوع دراسات جادة متطورة على الصعيد العالمي بدأت في العقدين الأخيرين:
أولا:
دراسة المنتج أو العائد الثقافي للترجمة إلى ومن العربية، مع دراسة مقارنة في الزمان بين مراحل وعصور نشاط الترجمة، وكذا مقارنة مع المجتمعات الأخرى.
تفتقر البلدان العربية لمثل هذه الدراسة على الرغم من أنها تحظى باهتمام واسع مع بداية مرحلة نهاية الاستعمار الغربي الأوروبي، والمراجعة لكل تراث التنوير. وكم هو واجب أن نعود إلى أنفسنا بفكر نقدي أو ما يسمى
self-reflexiveness
على الامتداد التاريخي، وندرس أسباب تدني الترجمة وطبيعة الحصاد على الرغم من تدنيه، والأثر الناتج عنه، أو عن توظيف واستثمار هذا الحصاد! وندرس كيف صاغت الترجمات صورة الآخر الذي نترجم عنه في الأذهان وانعكاس ذلك على سلوكنا، وكيف صاغت صورتنا أمام أنفسنا، وكيف جرى التفاعل ليكون الحصاد تعميقا لشعور بالدونية إزاء الآخر، أو ترسيخا لشعور نرجسي بالتفوق الزائف حين نزهو بالسلف دون أنفسنا وجهودنا، أو عزما على التحدي على أساس من الندية في إطار مقارن مع المجتمعات الأخرى.
هذا مع إيمان بأن الترجمة هي مترجم وثقافة وكتاب وقارئ ومجتمع داعم، وديناميكية حركية نحو هدف مشترك، ونقد عقلاني، وتسامح وموضوعية في التلقي وفي النقد، ومغامرة في سبيل نهم معرفي واستكشاف للمجهول. ولكن من أسف أن هذه العناصر ودراستها دراسة تحليلية نقدية غائبة جميعها.
وجدير بالذكر هنا جهود الباحثين في المستعمرات السابقة في أمريكا اللاتينية وفي الهند وعدد من بلدان جنوب وشرق آسيا؛ مثال ذلك: أن فريقا من الباحثين الهنود استحدث خلال الثمانينيات فضاء معرفيا جديدا في مجال الدراسات التاريخية الهندية، ويحمل الفريق اسم «فريق دراسات المهمشين أو التابعين»
Sub-altern Studies Group ، والاسم مأخوذ عن المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي، والهدف نقد العلاقات غير المتوازنة بين الذات والآخر، خاصة خلال فترة الاستعمار، وكيف صاغ الغرب أيديولوجيا صورة الآخر (الغرب) من خلال ثقافته المنقولة إلى مثقفي الهند. واصطنع الغرب صورة شائهة عن المجتمع الهندي يثبتها الباحثون الغربيون خارج إطار الزمان والمكان، وكأنها هي الهند دائما في كل زمان ومكان. وتجلى هذا في مجالات بحث عديدة. وذهبوا في مجال التاريخ إلى أن تاريخ الهند، ليس كما صور الغرب، هو تاريخ شركة الهند الشرقية، وإنما هو فعالية وصراع عامة الهنود على مدى التاريخ لبناء الذات والحفاظ على هويتهم.
وجاء ميلاد هذا المنهج تحديدا بعد الحرب العالمية الثانية ومراجعة الشباب الأوروبي لتاريخه وانحيازاته التي أدت إلى اكتواء مجتمعاتهم بويلات حربين متعاقبتين مدمرتين. واقترنت هذه المراجعة باستقلال المستعمرات السابقة. وتوافقت آراء المثقفين هنا وهناك على ضرورة تصحيح الرؤية ورفض هيمنة ثقافة الغالب، وتأكيد نسبية الثقافة، والاعتراف بخصوصية ثقافة الأنا والآخر في تكافؤ ندي.
وتقتضي الأمانة أن نذكر أن مصر الحضارة والتاريخ كانت تنبعث دائما حية من جديد على أيدي مثقفيها وعلمائها خلال مراحل النضال التماسا للنهضة، ولكن لا تلبث أن تخبو مع انحسار زخم حركة النهضة، وطغيان حاكم أجنبي أو مستبد محلي، أو هيمنة أيديولوجيا سلفية.
وحري بي أن أذكر هنا مثالا يوضح مدى الأثر الراسخ لآلية نقل المعارف من الغرب واصطناع صورة الآخر في انحياز أيديولوجي، أو لنقل: صورة الأنا والآخر (الغرب والشرق) كوجهين نقيضين. ذلك أنه عند مناقشة ترجمة كتابي «أثينا إفريقية سوداء» تأليف مارتن برنال، و«التراث المسروق» تأليف جورج جيمس، في ندوة في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وضح أن عددا من الأكاديميين كانوا أعجز من أن يستسيغوا أو يتحرروا من الأطر المعرفية الغربية المنقولة عن الغرب، واغتذوا عليها خلال فترة دراستهم الأكاديمية في ظل الاستعمار. والغريب أن هذه هي الأطر ذاتها التي تخلى عنها وأدانها كثير من الباحثين الغربيين في الدراسات والمراجعات النقدية التي راجت مع وبعد ثورة الشباب في السبعينيات.
ثانيا:
النقطة الثانية هي الترجمة في عصر العولمة أو عصر ثورة المعرفة أو ثورة الاتصالات أو لنسمها ما شئنا. وكذا الترجمة في إطار صراع الوجود تأسيسا على المعرفة فيما بين المجتمعات ضمانا للسبق الحضاري والمنعة الحضارية وليس مجرد البقاء. وغني عن البيان أن الترجمة من أهم آليات التواصل المعرفي على الصعيد الكوكبي. وأصبح واضحا أن هذا العصر بكل مسمياته يحمل طاقة وقدرة على التأثير والتغيير جذريا في ثقافات الشعوب جميعها من خلال كثافة التواصل الذي أصبح يسيرا وبلا حدود، حتى وإن سار في اتجاه واحد على الرغم من قيود الاستبداد. وطبيعي أنه تواصل ليس قاصرا على اللغة الشفاهية واللغة المكتوبة، بل تواصل سمع بصري، وعبر وسائط الإعلام المتعددة «المالتي ميديا»، وعبر المعارض والمتاحف والسياحة والهجرة. والترجمة هنا لها دور واضح في التلقي. وتطمح بلدان إلى أن تحقق لنفسها الهيمنة على الآخر عن بعد، من خلال صياغة عقول وأطر معرفة الآخر، وضمان السيادة لثقافتها واحتكار المعلومات وشغل موقع المرجع والمصدر للمعلومات والمعارف؛ أي أن تكون هي بنك معلومات العالم. وهذا ما تحرص عليه الولايات المتحدة من خلال الشبكات الفضائية. وسؤالنا: ترى ما هو الموقف العربي من الترجمة في هذه المجالات إرسالا واستقبالا؛ أي في إعادة تشكيل الثقافات وإعادة تشكل الهوية؟
الترجمة الآن هي الوسيط العالمي بامتياز في نطاق ما يسمى فضاء التفاوض فيما بين الثقافات على الصعيد الكوكبي
Global-Inter cultural Negotiation ، وتزايد الاهتمام بحدة لدى الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول لفهم ثقافة/فكر المنطقة العربية.
وتجري دراسات الغرب في إطار معرفي غربي. والترجمة النقدية هنا ضرورة حيوية. ولكن السؤال: ما الذي يصنع صورة الأنا لدى الآخر؟ ترك العرب للغرب مهمة صناعة الصورة وتواروا خلف عبارة تدغدغ الوجدان النرجسي السقيم قالها شيخ ذائع الصيت: «لقد سخر الله لنا الغرب ...» وهذا خطأ فادح. وانسحب الأصوليون ولاذوا بالماضي وانكفئوا على تراث قديم خارج العصر؛ فكانت نرجسية مريضة. وهذا خطأ فادح آخر يتجلى في رفض التعددية والتنوع والتطور ووأد للعقل العلمي الحر، على الرغم من أن هذه بعض خصائص التراث الذي يجهلونه.
الترجمة أحد جناحي النهضة للاستيعاب النهم واقتناص معارف الآخر، والجناح الثاني هو الإبداع الذاتي في مجال الفعل والفكر. وهذان الجناحان لا يحلقان بالمجتمع إلا في مناخ من الحرية والديمقراطية وثقافة الفعل والتغيير.
الطريق إلى المستقبل مشحون بالتحديات، تحديات مع أنفسنا لفهم وتغيير أنفسنا ثقافيا وتاريخيا، وتحديات مع الآخر في ضوء مقتضيات حضارة العصر، وإن لم نقارن لن نفهم. وإن لم نعقد العزم على التزام نهج علمي في الفهم وفي مواجهة التحديات لن نخطو أبدا إلى أمام.
ونعود لنسأل: أين العرب من كل هذا؟!
الترجمة
بين عالم جديد ومستقبل مجهول
بداية أضع تعريفا للترجمة غير الشائع، تعريفا تحدد صيغته المهام والمسئوليات ومقتضيات نشاط المجتمع الذي يحق أن نسميه ترجمة. وينأى بنا عن المزاج الثقافي الاحتفالي السائد بيننا الذي يفضي إلى تزييف الوعي، ويضيع معه الطريق، ونقع أسرى الصخب حيث ضجيج ولا طحين.
ليست الترجمة نقل معرفة، ولا هي حوار حضارات بالمعنى السطحي الذي نردده إلا وفق شروط. الترجمة إحدى آليات تمكين المجتمع
Social enpowerment ، وهي اقتناص لأفضل معارف حضارة العصر العالمية اللازمة لدعم عملية التمكين على صعيد استراتيجي في سياق التحدي والمنافسة، أو الصراع العالمي. وطبيعي أن يخرج بنا هذا عن الترجمة كترف ثقافي. وتمثل الترجمة بحكم هذا التعريف نشاطا منظوميا اجتماعيا، بمعنى أن الترجمة نشاط اجتماعي لا فردي، تخطيطي لا عشوائي، يجري إنجازه من خلال مؤسسات ومنظمات تجمع بينها بنية شبكة اجتماعية وصولا إلى هدف أو مستقبل.
وحري بنا أن ندرك بادئ ذي بدء أن الترجمة في عصور نهضتها تكون قرينة نهضة مجتمعاتها، بل ثمة تلازم بين الاثنين. وتمثل في حالة النهضة حركة ومنظومة مؤسسية، وليست نشاطا فرديا أو تراكما عدديا. وتجسد منظومة معرفية وتعبيرا عن حالة حضارية اتخذت الطابع المؤسسي، ويهيئ لها المجتمع الدعم المؤسسي الاجتماعي والاقتصادي والصناعي والعلمي والتعليمي ... إلخ؛ أي يحشد لها مثلما يحشد لكل أنشطة المجتمع عوامل التمكين، وصولا إلى المستقبل المنشود وفق استراتيجية جرى التخطيط لها علميا.
ولكن لماذا المعرفة/الترجمة؟ ولماذا السعي إليها سعيا شبكيا في إطار المؤسسات الاجتماعية؟ وما هي حدود المعرفة المنشودة ومجالها من حيث التخصصات والفنون، ومن حيث الموطن والمصدر؟ وما هي آليات ومعايير اختيار المعارف للترجمة على الصعيد الاجتماعي؟ معارف محلية، تاريخية، معاصرة؛ أي باعتبارها نشاطا اجتماعيا داخليا، أم نشاطا متبادلا بين المجتمعات؟
الإجابة تأتي تأسيسا على فهم معنى المستقبل، ومعنى البحث في الزمان والمكان الحضاريين كدور وكحركة. ونعني هنا المستقبل الاجتماعي؛ إذ يتميز الإنسان/المجتمع بأنه كيان حي دينامي هادف. والمستقبل هدف حركة أو حراك اجتماعي يأتي بناء على وعي بالواقع والسياق المحلي والعالمي كطور حضاري واختيار. ويخضع الاختيار الواعي لمحددات عدة هي أشبه بإحداثيات تتلاقى في محل هندسي مشترك، بحيث تشكل في مجموعها قوة دفع متكاملة ومتناغمة ضمانا لبلوغ الهدف. أو لنقل بعبارة أخرى: إن بلوغ الهدف له مقتضيات من حيث تشخيص الواقع المحلي وخط المسار والأساليب، وطبيعة محيط الحركة الاجتماعية؛ أي الواقع الإقليمي والعالمي وما ندركه من تحديات حافزة إلى الحركة في إطار صراع لا حوار فيما بين المجتمعات. وأقول: صراع لا حوار؛ لأن الحوار مرحلة تعبر عن توازن القوى، وتوازن القدرة على الأخذ والعطاء فيما بين الأفراد أو المجتمعات، إلى حين اختلال حالة التوازن، فيتحول الحوار إلى صراع، وتكون الهيمنة للأقوى بفضل ما يملك من أدوات القوة؛ الفكر والتكنولوجيا.
ذلك لأن المجتمعات في حركتها وفي تناقضها وتعاونها وصراعها إنما تسير لهذا كله بين بعدين؛ الثقافي، والعلمي التكنولوجي. وهذان البعدان على الصعيد الإنساني في تطور مطرد، أو هكذا الوضع السوي النظري، وإن تغيرت حركة بندول الحضارات في تناوب أو تبادل بين المجتمعات حسب طبيعة واقعها وحصتها من التقدم وشروط فعاليتها. وإذا كانت الحضارة - حسب تعريفنا لها - هي الإبداع العلمي التكنولوجي قرين إطار فكري قيمي، بمعنى أن التطور التكنولوجي في المجتمعات لا يعني فقط تطور وارتقاء الأدوات المادية، بل وأيضا تطور وارتقاء الأداة المعنوية التي هي الثقافة. ومن هنا فالثقافة متغيرة ومتفاعلة، وهي إجمالا أداة المجتمع لتشخيص ظواهر الحياة وتحديد أسلوب التعامل الهادف معها.
لهذا فإن الثقافة في حركة مجتمعية مع التاريخ، ومتنوعة بتنوع الزمان والمكان. والثقافة نجل لواقع إبداعي علمي تكنولوجي، وهي إحدى أداتين حضاريتين في التمكين وفي الحوار والمناقشة والتناقض والصراع بين المجتمعات. وحري أن ننظر إلى الترجمة في إطار هذا الفهم، وليس بمعنى أنها معارف مجردة منقولة، وهو ما يصدق على الترجمة كترف ثقافي. وحسب هذا الفهم تكون الترجمة أداة لفعل اجتماعي نشط هادف. والهدف تحقيق إنجاز؛ أي التمكين الاجتماعي في إطار الماراثون الحضاري بين المجتمعات، وينعكس على الإنسان فكرا وحياة اجتماعية ودورا حضاريا.
إذن لا بد وأن تكون الترجمة نشاطا اجتماعيا لا فرديا، وهادفا ومخططا وليس عفويا، وإلا أضحت كماء مسكوب في صحراء حتى وإن أفاد به بعض الكلأ. ويتعين أن تكون كذلك مستوفية لشروط تكفل بلوغ الهدف الذي هو علة الحركة؛ لأن الهدف أو المستقبل هو دائما علة حركة الإنسان. فالإنسان/المجتمع لا يتحرك ميكانيكيا بدافع خارجي قسري، ولا يتحرك عفويا، وإنما يتحرك من أجل ... أي نحو المستقبل كما يعيه أو يفهمه، أو كما تقضي ثقافته؛ ذلك لأن بعض الثقافات الاجتماعية قد تبتر عوامل إرادة التغيير وصولا إلى هدف حياتي دنيوي في إطار الطبيعة وقوانينها، وإنما تحث الإنسان على الانصراف عن هذا، وأن يرى هدفه الأجل فرديا يعزز الخلاص من بلاء الدنيا، والتوق الأبدي إلى ما وراء الطبيعة.
نأتي أخيرا إلى تحديد معنى الهدف المحرك لنشاطنا؛ أعني تحديد معنى المستقبل في ضوء المحددات التي ذكرتها، وأيضا في ضوء تشخيص واقعنا الحضاري ومدى التناقض بين الواقع والهدف، ومن ثم مدى وطبيعة الجهد اللازم (من حيث الترجمة) لضمان بلوغ الهدف.
يؤكد الواقع الحضاري الآن أننا إزاء مرحلة حضارية جديدة لها خصائص مميزة نحن عاطلون منها، ومن ثم معوقون حتى الآن. الحضارة الجديدة أو الطور الحضاري الجديد الذي يحدد لنا معالم التحدي والمستقبل الذي يتعين أن ننشده ونحشد القوى والطاقات من أجله، هو حضارة عصر المعلومات وبناء مجتمع المعرفة؛ الاقتصاد والإنسان والثقافة ... إلخ، وهذا الطور الحضاري هو الباب الثاني من حضارة عصر التصنيع.
نعم، وكما يؤكد مانويل كاسيلز في كتابه المرجعي «عصر المعلومات»؛ المعلومة لها دور على مدى التاريخ التطوري الارتقائي للإنسان والمجتمع. والمعلومة بمعنى اتصال المعرفة حاسمة ومهمة في جميع المجتمعات. ولكن الجديد مع التطور العلمي التكنولوجي خلال النصف الثاني من القرن العشرين بعامة، والعقدين الأخيرين بخاصة، أنه نشأ ما يسمى مجتمع المعرفة الذي تمثل فيه المعرفة أهم مكونات النشاط الاجتماعي في كل صوره، وبخاصة النشاط الاقتصادي. نعم، القول بأن المعرفة المشتركة والمتواصلة مجتمعيا هي أساس الإنتاج وترابط البيئة الاجتماعية، ليس بالجديد، ولكن الجديد: (1)
التكنولوجيا الجديدة تجاوزت الحدود الجغرافية القومية، وتجاوزت معها هذه الحدود التطلعات والتفاعلات والتكوينات الشبكية لجماعات النخبة والمصالح. (2)
تقدم التكنولوجيا الجديدة إمكانات مهولة للشراكة في المعرفة والأرشفة والاستعادة وصياغة المحتوى معرفيا، بل والتلاعب به. (3)
المعرفة أهم رأسمال، ومن ثم نجاح أي مجتمع يتمثل في نجاحه في إدارة المعرفة. التحكم فيها إنتاجا وصياغة واستيعابا واستثمارا واستغناء وتجديدا. (4)
نشوء مجتمع كوكبي قائم على التفاعل الشبكي. (5)
ثورة في إنتاج المعرفة والتسارع المذهل في توليدها؛ بحيث إن التمييز بين المجتمعات وقدراتها ينبني على أساس فائض قيمة المعرفة الموظف والمستثمر لتأكيد التمكين والهيمنة. (6)
تلاشي الحدود بين المجتمعات، وما يفضي إليه من تكثف التواصل والتفاعل بين الثقافات، سواء عن طريق الهجرة والسفر أو عبر الميديا، وما يقتضيه هذا من تمكين وحصانة ودينامية وتسامح وحرية تفاعل ووعي علمي بالحقائق عند المواجهة والقدرة النقدية العقلانية عند التلقي (الترجمة).
إنه عصر ثورة تفجر المعلومات، وكوكبية هذه الثورة إنتاجا وفعالية وهيمنة، حتى ليمكن القول: إن البشرية على أعتاب مرحلة تطورية ارتقائية جديدة تعادل مرحلة اختراع الكتابة وما أفضت إليه من تحولات. نحن على أعتاب مرحلة ستغير من البشر - المشاركون في هذه الحضارة طبعا - عصبيا، وتغير من النمط الظاهري
، بل وربما تغير من شروط البيئة المؤثرة في الجينات على المدى الطويل، وسوف تغير كذلك من الاستعدادات العقلية والنفسية، ومن العلاقات الاجتماعية والعلاقات بين المجتمعات. ثورة جديدة في سلم الارتقاء التطوري تبشر القائمين بها وعليها بإمكانات واعدة، وتنذر المتخلفين عنها بتبعية دائمة، وربما ليكونوا نموذجا لكائنات مرحلة تاريخية سابقة.
ويستهل مجتمع/اقتصاد المعرفة نمطا جديدا للإنتاج يغير مصدر خلق الثروات والعوامل الحاكمة للإنتاج. بالأمس كان الحديث عن فائض قيمة العمل كإنتاج، الآن فائض قيمة المعرفة كإنتاج. القيمة هي المعرفة، والعمل المنتج للمعرفة، والعاملين المنتجين للمعرفة، والمعرفة المنتجة للعمل.
ويجسد مجتمع المعرفة صورة جديدة ومميزة للتنظيم الاجتماعي من حيث كيف أو نوع الإنتاج (المعرفة وهضمها وتوظيفها وسرعة التوظيف ومحتواها والمنتج منها)، وكم الإنتاج، ونطاق استثمار المنتج وهدفه. هنا توليد المعلومات/المعرفة ومعالجتها ونقلها وطاقتها التفاعلية هي المصادر الرئيسية للإنتاجية الاجتماعية وصور القوة والهيمنة بفضل ظروف تكنولوجية وعلمية جديدة تهيأت ونشأت خلال الفترة الأخيرة. وأصبحت الإنسانية تتكامل كوكبيا على أساس شبكي بين المشاركين. ويقتضي هذا الأساس توفر الكفاءة والندية. هذا أو إفراز وإخراج من هم دون المستوى ربما ليقنعوا بالتلقي، ومن ثم الاغتراب عن العالم أو الإقصاء والتهميش.
ويمثل مجتمع المعرفة - بصورته هذه - ثورة متسارعة من التكنولوجيا والمعلومة والمحتوى المعرفي بفضل التغذية المتبادلة والتلاحم؛ ذلك أن النظام المعلوماتي يفضي إلى تنام تكنولوجي للتراكم المعرفي، وصولا إلى مستويات أرقى من التعقد في معالجة المعلومات؛ فالتكنولوجيا والمعلومات مترابطتان في جديلة واحدة متنامية صاعدة. وهنا رابطة وثيقة بين الثقافة وقوى الإنتاج؛ إذ لا ثقافة - ثقافة حضارة العصر - بدون قوى الإنتاج (إبداعا وتوظيفا وتطويرا)، ولا قوى إنتاج بدون هذه الثقافة. ويعني هذا أيضا أن الهيمنة ستكون حق مجتمعات المعرفة. فهي بؤرة وركيزة ومصدر عملية توليد المعرفة والإنتاجية، وهي المصدر الفعال للثروة والسلطة والرموز؛ أي الثقافة.
هنا نقول: إن حياة المجتمعات ومستقبلها الآن رهن تمثل واستيعاب ثورة المعرفة كوكبيا. حضارة عصر المعلومات أو عصر ثورة المعرفة وتجلياتها في النظام الاجتماعي؛ أي إعادة تشكيل جذرية لهياكل المجتمعات وعلاقاتها الداخلية الرأسية التراتبية والتحول الجذري إلى نمط جديد للإنتاج يوحد بين التكنولوجيا والمعرفة في صعود متسارع ارتقائي؛ ولهذا فإن الانتماء إلى العصر رهن المشاركة الإيجابية أخذا وعطاء على أساس الكفاءة والندية، وما يقتضيه هذا من تحول في ظروف وشروط التنشئة الاجتماعية والتغذية الفكرية (الثقافية العلمية في التعليم والإعلام ... إلخ)، من حيث نطاقها الكوكبي ومضمونها ومحتواها الداعم والمؤسس محليا. وليس الانتماء إلى الماضي والقناعة به، وليس الاكتفاء بالتلقي في سلبية . وتأسيسا على هذا نقول: إن المستقبل ليس مستقبل نشاط الترجمة منعزلا عن الجماع المنظومي لأنشطة المجتمع، وإنما مستقبل المجتمع حيث الترجمة إحدى التجليات، أو هي آلية من بين آليات الحراك أو التمكين الاجتماعي كما وكيفا، وهي مؤشر أيضا على مدى ما يتحلى به المجتمع من خصوصيات النهم المعرفي ووضوح الرؤية نحو مستقبل مرسوم وقدرة على تعبئة الطاقات والجهود.
لهذا أقول: إن الهوة بيننا وبين المجتمعات المتقدمة هوة معرفية في الأساس، من حيث إبداع وإنتاج وتوظيف المعلومة وإغناؤها بمحتوى معرفي. وليس الفارق كميا - أي كم المعلومات - بل فعالية الإنتاج الإبداعي والقدرة على معالجة المعلومة وصياغتها في نسق معرفي. أعني إرادة فعل التغيير ومقتضيات توفر هذا الفعل لدى إدارة المجتمع والتكوين النفسي والثقافي والعلمي لأفراد المجتمع الذي يخلق بينهم صورة البحث المشتركة. الانتماء والتضافر والفعالية المشتركة المتكاملة. هكذا حتى نكون مشاركين عن أصالة في عملية البناء الحضاري. ومن شروط هذه المشاركة سد الفجوة المعرفية عن طريقين؛ إبداع محلي، وتحصيل المعارف أو المعلومات التي أبدعها الآخرون. تحصيلها وملاحقتها في نهم عقلاني نقدي لتدخل في نسيج البنية المعرفية للمجتمع وتوظيفها اجتماعيا ضمن استراتيجية تحول حضاري لمجتمعنا. وهنا يبرز دور الترجمة وشروط فعاليتها ونجاحها.
هذا هو مناخ العصر، أو السياق الحضاري الذي يتعين أن نتحاور ونتفاعل فيه ونرسم في ضوئه المستقبل، وتكون الترجمة إحدى آليات التمكين، إحدى آليات حشد الطاقات والجهود الفكرية والعلمية والإعلامية والثقافية والإبداعية ... إلخ؛ لتعظيم رأس المال البشري؛ أي الإنسان هدف النهضة وأداتها وضمان الكفاءة والندية للخطو على طريق النهضة. ويبقى هنا سؤال أو أسئلة:
هل الترجمات الصادرة في العالم العربي على قلتها وتدنيها وتشتت أهدافها تمثل خطوة على الطريق؟
هل تصدر بناء على خطة مجتمعية هادفة؟
هل هي نشاط مؤسسي؟ ليس بمعنى أنها تصدر عن إدارة أو مجلس حكومي أو تجاري، وإنما بنية اجتماعية تاريخية ذات سياسة موجهة ورؤية مستقبلية جامعة لجهود أعضائها عن وعي نحو الهدف مع تغذية عكسية مستمرة بين الصادر والعائد لتصحيح المسار، فضلا عن علاقة شبكية تربطها بمؤسسات/منظومات المجتمع ككل.
والسؤال المحوري الأهم: ما هو المستقبل الذي رسمناه كمجتمع عام ويمثل صورة مشتركة بيننا حتى نحدد على هديه آلية ومحتوى الترجمة كما وكيفا ؟ إذ مثل هذه الصورة عن الواقع والمستقبل والتحديات هي بعض مكونات الوعي الوجودي الاجتماعي، وهو وعي علمي وسياسي رفيع المستوى لصياغة ما يمكن أن نسميه الإطار الفكري أو النموذج الإرشادي «البارادايم»
لنشاط أو أنشطة المجتمع.
أعود لأقول: مجتمع المعرفة، مجتمع المستقبل القريب والتحدي المباشر، مجتمع تفاعلي قائم على حرية الفكر والرأي والتعبير والإبداع وحرية تدفق المعلومات والتأكيد على حقوق الإنسان والحريات الأساسية مجتمعة دون تجزئة. ومجتمع المعرفة مجتمع تعظيم رأس المال البشري وحق وحرية المرء في تنمية شخصيته نموا حرا كاملا، وألا يخضع المواطن - وليس الرعية - لأية قيود وانحيازات تفرضها سلطة ما، سياسية أو دينية أو أبوية. ويمثل التعليم والمعرفة والمعلومات والاتصالات بؤرة النشاط المتجدد بغية تقدم البشرية ورفاهيتها في مساواة كاملة دون تمييز من حيث النوع أو الجنس أو الدين أو النسب ... إلخ. ومجتمع المعرفة أيضا مجتمع مؤسسي مدني، ومن ثم نقيض كامل لمجتمع السلطة السياسية المركزية الأبوية. وهو أيضا ساحة للإبداع العلمي والتكنولوجي في ترابط كوكبي حر. والترجمة هنا هي حلقة وصل كوكبية ورافد تغذية جوهرية لجميع هذه الأنشطة، وهي تغذية مجتمعية لا فردية وهادفة تخطيطيا.
دعونا نسأل - في ضوء هذا التصور - هل مصر أو أي أمة عربية تمثل المستوى العام والسوي للأمم من حيث الإبداع العلمي والفكري وتهيئة شروط التحول الحضاري إلى مجتمع معرفة؟ وهل تمثل المستوى العام والسوي من حيث الترجمة والنهم المعرفي وإصدار وانتشار الكتاب؟ وإذا كانت الأمة - أي أمة عربية - دون المستوى، فهل هي كذلك عن جهل، بمعنى أنها لا تعرف، ومن ثم هذه حقيقة خافية وإذا تكشفت سوف تعقد العزم وتعبئ الجهود للحاق به؟ وإذا لم تكن كذلك فلماذا؟
الشيء اليقيني أن مصر والمجتمعات العربية، والمثقفين العرب جميعا - خاصة مثقفي السلطات - يعرفون حقيقة الهاوية العلمية والفكرية والثقافية والتكنولوجية، وكذا حقيقة تدني وضع الترجمة. وشاعت هذه الحقيقة على الصعيد العالمي في تقارير الأمم المتحدة، وعايرنا بها جورج بوش الابن. ماذا كان رد الفعل؟ انبرى مثقفو السلطات العربية يكذبون عن وعي ما قلناه تأسيسا على إحصاءات صدرت عن المواقع الرسمية للدول العربية. هذا بدلا من عقد دراسات ميدانية وإحصاءات علمية موضوعية لاستكشاف حقيقة الدعوى أو الادعاء وحقيقة واقعنا.
لست بحاجة إلى أن أعيد وأكرر إحصاءات سابقة. ولكن أقول إجمالا: الوضع المصري والعربي عامة أسوأ الآن كثيرا مما كان منذ عشر سنوات. العالم تغير، والهوة المعرفية اتسعت. العالم يعيش ثورة حضارية معرفية، ونحن نناشد عقول السلف ونناجي الماضي. والثورة المعرفية جوهرها ومحورها الثقافة/الفكر/المعرفة المؤهلة لاقتسامها على نطاق كوكبي.
ويكفي أن نشير إلى:
ينفق العالم سنويا أكثر من 500 مليار دولار على البحث والتطوير العلميين، وهذه معرفة يتعين استيعابها وتوطينها والإسهام فيها بإبداع محلي.
ويستحدث العالم كل سنة أكثر من 40 ألف مصطلح علمي جديد، كما يستحدث قرابة 200 ألف قضية رياضية جديدة تحمل معها عددا كبيرا من مئات المصطلحات. وطبيعي ليس لنا أن نقنع بالتنقيب عن مقابل للمصطلح في التراث، وإنما تلزم المتابعة للجديد وابتكار واستحداث جديد في اللغة، علاوة على المشاركة الإيجابية في النشاط العلمي.
وتصدر المعرفة العلمية والتكنولوجية كلها بلغات غير عربية؛ 86٪ بالإنجليزية، والباقي بلغات ألمانية وفرنسية وغيرها، وليس للغة العربية فيها نصيب.
هنا الترجمة بقدر ما هي إحدى آليات تمكين المجتمع، هي أيضا إحدى آليات تخصيب وتطوير؛ أي تمكين اللغة.
ولكننا - لأننا شعوب تعشق الطرب - نقنع بنرجسية الثناء على اللغة العربية، ونتقاعس عن الإبداع وعن الترجمة. والأزمة ليست أزمة لغة، بل أزمة الإنسان/المجتمع العربي. وإذا تطلعنا إلى المستقبل الذي يجسده العالم المتقدم أمامنا، نرى واضحا كم هو مستحيل تصور مجتمع معرفة بدون ترجمة، أو لنقل: كم هو مستحيل بناء مستقبل بدون ترجمة!
الترجمة في العالم العربي ومجتمع المعرفة
سؤالان يلحان على الذهن كلما حاول المرء الحديث عن واقع حال المجتمعات العربية والطريق إلى المستقبل، إلى مجتمع المعرفة، وهذان السؤالان هما:
كم حجم المعرفة التي ينتجها العرب إبداعا ذاتيا وإضافة محلية وعالمية، وتجد سوقا رائجة أو مقبولة من حيث المحتوى في العالم، وتتسم بالجدة والقدرة على المنافسة؟
وما هي صورة المستقبل التي رسمها وخطط لها كل مجتمع عربي، وحشد طاقاته لضمان إنجازها ومن بين هذه الطاقات الترجمة؟
هذان سؤالان وثيقا الصلة بموضوع الترجمة، والمستقبل الذي يجسده الآن مجتمع المعرفة؛ ذلك أن الترجمة - وإن اختلفت كما ونوعا مع كل عصر - هي إحدى آليات تمكين المجتمع عند حشد الطاقات والكفاءات واقتناص الخبرات، وصولا إلى مستقبل منشود تحدد مجتمعيا في ضوء التحديات الحضارية لعصر بذاته. وتمثل الترجمة هنا تجليا لفهم معرفي يسود جميع مؤسسات وأفراد المجتمع، كل فيما يخصه، تعزيزا لبنية المجتمع وقدراته وفعاليته وعلاقاته محليا وإقليميا وعالميا.
إذ من المسلم به أن المعرفة تمكين للفرد والمجتمع، ونقص المعرفة ضعف يفضي إلى تبعية. وإن القدرة على اكتساب المعرفة نقلا عن الآخر، قرينة القدرة على توليد المعرفة بكل أشكالها إبداعا ذاتيا، بما في ذلك الاستعادة الإبداعية للمعارف التقليدية والارتقاء بها واستثمارها وظيفيا، دليل واضح على حيوية المجتمع وقدرته على البقاء ومواجهة التحديات، وكذا دليل على قدرته على تقاسم المعرفة في إطار عملية تفاعلية فيما بين المجتمعات وداخل المجتمع الواحد.
وتمثل الترجمة في هذه الحالة سعيا مجتمعيا مؤسسا على التخطيط، ومدفوعا بإرادة التحدي للاستيعاب العقلاني النقدي الانتقائي والإبداعي للمعرفة التي تتكامل وتتلاحم مع إبداع معرفي ذاتي. إبداع تجديدي سواء لرصيد الماضي عند استعادته، أو لإنجازات الحاضر في ضوء استشراف المستقبل؛ ولذلك تكون الترجمة بمثابة فعل مجتمعي نشط حافز دائما، أو هي استجابة لحاجة اجتماعية ملحة؛ لأن التطوير حياة وتحد مستمرين. وبدون ذلك تتدنى الترجمة كنشاط ورؤية مستقبلية إلى أدنى مستوى، وتنحصر فيما يمكن وصفه إجمالا ثقافة ترفيه تلهي عن جدية البناء ومواجهة التجديد.
ومن ثم فإن حياة المجتمعات دائما رهن المعرفة، مثلما أن المعرفة تتطور ويطرد اكتمالها بفضل الفعل الاجتماعي والتفاعل بين الأفراد والمؤسسات داخل المجتمع الواحد، وتتطور كذلك بفضل التفاعل بين المجتمعات عن طريق نقل المعرفة/الترجمة. ونحن نرى أن تمكين المجتمع على أساس المعرفة المنقولة، فضلا عن المعرفة الإبداعية الذاتية، لا يعني فقط نقل المعرفة كنشاط مظهري احتفالي، بل يعني استثمارها بكفاءة بهدف زيادة الثراء العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والسياسي واللغوي ... إلخ، وهذا ما لا يتسنى تحققه إلا في مجتمع إنتاجي، يرى وجوده مشروعا ممتدا حاضرا ومستقبلا على مستوى حضارة العصر وتحدياته؛ إذ بدون توفر هذا الشرط تفقد الترجمة فعاليتها، ولا نجد لها مردودا اجتماعيا، فضلا عن تدني انحسار مستواها. وليس غريبا أن يتوارى نشاط الترجمة العلمية تحديدا في المجتمعات المتخلفة والمعتمدة على استهلاك منتجات المجتمعات الأخرى، وليس غريبا كذلك أن تعاني مثل هذه المجتمعات من تخلف اللغة؛ لأن اللغة هي الإنسان/المجتمع في حيويته وفي نشاطه الإنتاجي العلمي والتكنولوجي.
نذكر هذا والعالم الآن على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخ تطور الإنسان والإنسانية، تعادل مرحلة اختراع الكتابة. وسوف يفضي هذا التحول إلى تقسيم المجتمعات مستقبلا إلى مجتمعات ما قبل عصر المعلوماتية ومجتمعات عصر المعلوماتية أو مجتمعات المعرفة. مثلما سيفضي إلى تحولات عضوية/عصبية في بنية وسلوك الإنسان. وهذه المرحلة هي الطور الثاني في مرحلة الثورة الصناعية. وتباينت الأسماء لتعريفها ما بين ما بعد الصناعة أو ما بعد الفوردية أو المعلوماتية، أو مجتمع اقتصاد المعرفة، وهو الاسم الذي استقرت عليه مصادر كثيرة.
ويمثل مجتمع المعرفة صورة المستقبل الذي أطل بفجره على المجتمعات المتقدمة، وهو أيضا مجال المنافسة فيما بينها. كما يمثل التحدي الأول والأساسي أمام المجتمعات النامية ومنها المجتمعات العربية.
الآن ومع التحول العصري الذي تغير معه مشهد العالم، لم تعد القيمة التفاضلية المتمثلة في الثروات الطبيعية من مواد خام، ولا عدد البشر والأيدي العاملة الرخيصة، هي وجه التمايز والتميز بين المجتمعات، وإنما وجه التمايز والتميز هو قدرة البلدان على أن تبدع وتنظم وتنشر وتستثمر وتدير بكفاءة وفعالية وحرية وسرعة، المعارف والمعلومات المتاحة عالميا، والمبتكرة محليا، لدعم مشروع وجودها، ودعم قدرتها على المنافسة كنموذج جدير بأن يحتذى في الصناعة والسياسة والتطوير. إن مناط الأمر الآن الميزة التنافسية لا ميزة المقارنة. ليس حيازة تكنولوجيا، بل إبداعها وتطويرها؛ لأن حيازتها في ظل التخلف تمثل عبئا وعائقا.
وتسعى المجتمعات الناهضة بكل طاقاتها إلى توطين العلم والتكنولوجيا، وترى أن المفتاح هو العلم المعرفي . ويعني العلم المعرفي الاستيعاب النقدي لإنجازات العالم المعرفية، واحتضان أو توطين العلم والثقافة العلمية، والقدرة على التعامل المنهجي ومعالجة هذه الثروة المعرفية، وكذا القدرة على إدارة المعرفة إبداعا أو توليدا واستثمارا وتطويرا، بل ونسيان في ضوء احتياجات النهضة. ويعني العلم المعرفي أيضا كيف نتعلم، وكيف نطور، وكيف نخطط طاقاتنا المعرفية، وحفز نزوع النهم المعرفي عند أبناء المجتمع، وأن نعرف كيف نغير ونتحكم علميا في البيئة الأساسية؛ أي في كلمة واحدة كيف نبدع ثقافتنا الحضارية لعصر جديد؛ ولهذا نؤكد أن قضية الترجمة ليست كما يحلو لكثيرين قضية لغة، بل هي قضية سياسة ثقافية حضارية، ومع الترجمة القائمة على التخطيط قرين الفعالية الاجتماعية، تتطور وتثرى اللغة.
وتأسيسا على هذا لم تعد السلعة الخام وعدد البشر ورخص الأيدي العاملة، هي محور تقييم الثروة، بل المعرفة وفائض قيمة المعرفة. وظهر بذلك مجتمع الثراء المعرفي، وما يحققه من فائض قيمة معرفية، مقابل مجتمع الإفلاس المعرفي.
نعم، المعرفة على مدى تاريخ الوجود البشري هي أهم مكونات الأنشطة الاجتماعية على اختلافها في الاقتصاد والثقافة، وفي السياسة، وفي الحرب والسلم ... إلخ، ولكن الفارق الآن أن مجتمع/اقتصاد المعرفة هو المجتمع الذي تمثل فيه المعرفة المنتج الرئيسي والمادة الخام موضوع الإنتاج والمناقشة. ويتمثل الجديد في أن التكنولوجيا تجاوزت الحدود الجغرافية القومية. وتقدم هذه التكنولوجيا الجديدة إمكانات مهولة لتقاسم طوفان المعرفة ومعالجتها واستعادتها. وأضحت المعرفة بذلك - أي بطابعها العالمي ومحتواها المتميز - أهم رأسمال للمجتمع مع توفر القدرة على التحكم فيها إنتاجا وتوظيفا.
انتقلت حضارة عصر الصناعة؛ أي البلدان الصناعية المتقدمة، إلى حضارة عصر الفضاء الإلكتروني، عصر الحاسوب «الكومبيوتر». وتشكل معه فضاء جديد تسيطر فيه لغة المعلومات أو المعرفة، والتي تعني المعلومات في صياغة نسقية حاملة معها طابعها الاجتماعي والأيديولوجي، وانعقد سلطان الهيمنة لوسائل الإعلام والاتصال (الميديا)، التي تعتمد في صناعتها على اللغة.
وأدت - وتؤدي - هذه التحولات إلى قلب أو نقض الأسس التي قام عليها العالم الصناعي الحديث؛ إذ تنشئ روابط جديدة بين المعرفة والثروة والسلطة. وأدت كذلك في الوقت نفسه إلى تشوش العلاقات ما بين الكلمات والأفكار والأشياء. معنى هذا أننا بصدد بيئة رمزية مغايرة، ورؤى وعلاقات جديدة. إنها المعرفة في ثوب جديد ودلالة جديدة، تفيض طوفانا عبر آليات جديدة غير مسبوقة. طوفان المعرفة الذي يصوغ صورة العالم، ويصوغ معالم إدراكنا له، ويعيد تشكيل كل مظاهر حياتنا.
نحن إزاء صورة جديدة، وطوفان لا ينتهي من المعرفة، وإزاء منظومة جديدة للعالم ندركها من خلال، وفي إطار، مفاهيم أو معارف جديدة؛ إذ من الطبيعي أن يقتضي هذا التحول أنماطا مغايرة من التفكير، وعتادا جديدا من المفاهيم، وممارسات اجتماعية مغايرة، وخبرات وجودية جديدة تنتظم في منظومات شبكية كوكبية. وطبيعي أيضا أن ليس بالإمكان لمن شاء إنجاز مشروعه الوجودي؛ أي ضمان البقاء والتطور والمنافسة، أن يفهم عالم اليوم بذات أطر الفكر والمفاهيم التقليدية السابقة التي سادت في عصر الصناعة، ناهيك عن العصور الأسبق؛ ذلك لأن لكل فضاء وجودي أنماطه الفكرية، ولكل ممارسة اجتماعية لغتها ورموزها ومفاهيمها ومعاييرها. معنى هذا أن المجتمع الذي يتقاعس عن نقل/ترجمة واستيعاب المعرفة الجديدة، ويتقاعس عن تطوير ذاته للإسهام في الإبداع المعرفي؛ مثل هذا المجتمع سيظل أسير صورة العالم القديمة، ويعيش مغتربا معرفيا يعاني من أزمة المفارقة الزمنية والانفصام، بين تخلف الفكر وحيازة المستحدث التكنولوجي؛ الأمر الذي يفضي حتما إلى التهميش والتبعية.
ومجتمع المعرفة هو الوليد الشرعي لثورة الاتصالات والمعلومات التي تحققت وتجسدت خلال العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة. وأفضت هذه الثورة إلى الثورة المعلوماتية التكنولوجية الآخذة في التقدم في تسارع مطرد. وحري أن ندرك أن حيازة التكنولوجيا لا تصنع تطويرا أو تقدما للمجتمع، بل تبعية. والقناعة بالحيازة والاستهلاك لا تتولد عنها حاجة موضوعية للترجمة ونقل المعرفة، سوى ما نراه من كتب عن إصلاح؛ إصلاح الراديو، وإصلاح الكومبيوتر ... إلخ، على الرغم من تدني مهارات الصيانة. وإنما التقدم الذي يحفز إلى نقل/ترجمة المعارف العلمية رهن إبداع وتطوير واستثمار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المنتجة للمعرفة، والتي هي الوسط وآلية التفاعل والتنافس الكوكبي للمعرفة بين القوى الفاعلة؛ أي القوى الإنتاجية الإبداعية الحاضنة للمعرفة. وها هنا تنشط الترجمة وعملية نقل المعرفة من شتى بقاع العالم استجابة لحاجة المجتمع.
ويمثل هذا التحول أزمة حقيقية وموضوعية تواجه البلدان العربية؛ مما يضعف شهيتها للمستحدث من المعرفة أو ضياعه؛ بسبب عدم وجود بنية حاضنة تستثمرها. وجدير بالذكر أن البنك الدولي يشير في تقريره عن العام 1998/1999 الذي لا يزال صادقا إلى أهم القضايا التي تواجه البلدان النامية في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، فيوضح: (1)
طوفان المعرفة الجديدة والعجز عن الاستيعاب وعن احتضان هذا المستحدث، فضلا عن تناقضه مع منظومة العلاقات الاجتماعية في هذه البلدان وتراثها وما تقتضيه المعرفة من حرية تدفق وتفاعل. (2)
تسارع التقدم العلمي والتكنولوجي؛ مما يزيد هوة التخلف. (3)
الزيادة المطردة في المنافسة بين المجتمعات المتقدمة في إبداع المعرفة وسرعة توظيفها. ويؤدي هذا أيضا إلى تفاقم خطر ما اصطلح على تسميته الفجوة الرقمية.
معنى هذا أن المجتمع الذي عقد العزم على النهوض لا بد وأن تتوافر لديه: (1)
صورة عن المستقبل وقدرة علمية عصرية على حشد الطاقات الاجتماعية للإنجاز. (2)
نهم معرفي لتحصيل واكتساب المعارف المستحدثة عالميا لتوظيفها محليا؛ أي ترجمتها واستثمارها قرينة الإبداع المحلي استجابة لضرورة التطوير، فضلا عن إعادة هيكلة البنية والعلاقات الاجتماعية ومضاعفة رأس المال البشري.
ويعيدنا هذا إلى سؤالينا في صدر هذا المقال:
ما نصيب العالم العربي من نقل المعرفة/الترجمة؟
تشير جميع الإحصاءات والمقارنات مع بلدان العالم الأخرى إلى التدني الشديد لما يسمى مجازا نشاط الترجمة في العالم العربي. ويتجلى هذا واضحا سواء من حيث كم ونوع الترجمات، أو من حيث الميزانيات المالية المرصودة للترجمة، أو البحث العلمي واحتضان الثقافة العلمية والعلم، ناهيك عن غياب تام للتخطيط؛ إذ إنها ترجمات فردية وعفوية. يضاف إلى هذا شيوع نسب عالية من الأمية - الكتابة والقراءة - ناهيك عن الأمية الحاسوبية، وكذا استخدام الحاسوب يكاد يكون قاصرا على الأعمال الروتينية، وليس لإبداع علمي وفكري جديد. ونرى - لهذا - أن أزمة الترجمة في العالم العربي هي أزمة كتاب وقارئ وسياسة ثقافة، وهذه جميعها أعراض لأزمة الثقافة والفعالية الإنتاجية والعلمية للمجتمعات.
ويضاعف أو يفاقم من هذا الوضع الغياب الكامل لمؤسسات ومنظومات صناعية تخلق الحاجة المتطورة إلى طلب المعرفة من مختلف مصادرها العصرية في العالم، ناهيك عن الإسهام العالمي في الإبداع للجديد.
وغني عن البيان أن ليس بالإمكان نقل/ترجمة المعرفة العلمية والتكنولوجية المتخصصة إلا بين منظومات صناعية؛ إذ يلاحظ أن جميع المؤسسات الصناعية في العالم المتقدم تؤسس صناعتها على مراكز للدراسات والبحوث والتطوير العلمي، وهي جزء متكامل مع المنظومة الإنتاجية. وغير خاف في مقابل هذا أنه لم تؤسس أي دولة عربية منظومة للعلوم والتكنولوجيا، تكون هدفا ووسيطا لتلقي المعرفة وتوظيفها وتطويرها. وتسهم مثل هذه المؤسسات في تنشيط تدفق المعرفة العلمية من مصادرها؛ مما يثري الخبرة العلمية، ويوفر مناخا ثقافيا علميا. وتساعد هذه المنظومات على تطوير أدوات التعليم والتمويل والاكتساب والتطبيق والإنتاج والتراكم للعلوم والتكنولوجيا. وتسهم كذلك ماليا في تطوير التعليم وتنشيط حركة الترجمة التخصصية وتوجيهها؛ ليكون لها مردودها الاجتماعي.
صفوة القول: إن مشكلة الترجمة في العالم العربي هي تجسيد لأزمة التخلف العلمي والتكنولوجي والاجتماعي؛ أي أزمة مجتمعات غير إنتاجية، وانعكس هذا واضحا في إنتاج المعرفة العلمية وفي التعليم والثقافة العلمية، وتجلى واضحا في الانصراف عن القراءة وعن الترجمة.
نعم توجد مؤسسات فردية تبذل جهدا متميزا للترجمة؛ مثل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، أو المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. وإذا كانت الجامعة العربية تدرك منذ سنوات خطر أزمة الترجمة وغياب البحث العلمي؛ فإنها أقدمت أخيرا وأنشأت المعهد العالي العربي للترجمة في الجزائر. وإذا كانت دولة الإمارات رصدت قدرا كبيرا من المال للترجمة والنشاط الثقافي، إلا أن هذه الجهود جميعها غير المترابطة تدعونا للسؤال: أي نتيجة باهرة كنا نتوقعها لو أن هذا الجهد وهذا القدر الضخم من الأموال مرصود في مجتمعات مؤسسية صناعية؟ وعلى أي نحو يا ترى ستجري إدارة وتوظيف هذه الجهود لتصب متكاملة في اتجاه بناء مستقبل جديد تتغير معه الثقافة السائدة، ويصوغ رؤى جديدة على طريق التطوير؛ الطريق إلى مجتمع المعرفة؟
الترجمة عن العربية (التعجيم)
نعود لنقول: إن نقل المعرفة، بما في ذلك الترجمة، التماس معرفة بهدف التفاعل الحضاري؛ أي لاستثمارها في إطار استراتيجية إنجاز قومي محلي، على اختلاف مجالات أنشطة المجتمع؛ علمية، وثقافية وصناعية ... إلخ. وإذ نقول تفاعلا حضاريا؛ فهذا يعني الأخذ والعطاء معا في سياق من الوجود الشبكي لحضارة عصر المعرفة، على أساس من الكفاءة والندية، وضمانا للاستقلال الذاتي، وتطويرا للهوية وللغة القومية. وحضارة العصر هي كما أشرنا العلم والتقانة في سياق مجتمع المعرفة، ومن ثم لنحاول أن نستشرف الواقع العربي تأسيسا على هذه النظرة، لنرى ماذا يأخذ وماذا يعطي، وقدرته على العطاء اتساقا مع مستوى ومقتضيات حضارة العصر.
نلحظ بداية غيابا كاملا لأي دراسات أو بيانات إحصائية منهجية ونسقية عن نشاط الترجمة والمترجمين عن العربية، ولكن المراقب لما يجري تحت هذا المسمى في العالم العربي يرصد ما يلي، وإن بدا رصيدا يشوبه قصور للسبب المذكور:
الترجمة عن العربية تنهض بها: (أ)
مؤسسات أو دور نشر أجنبية. (ب)
مؤسسات إقليمية. (ج)
مؤسسات حكومية ودور نشر محلية.
المؤسسات أو دور النشر الأجنبية
نذكر منها: (1)
الجامعة الأمريكية في القاهرة: أصدرت عام 2001م عدد 26 عنوانا، تأليفا وترجمة، وأصدرت عام 2002م عدد 30 عنوانا، تأليفا وترجمة. المؤلفات الأجانب، والترجمات شارك في بعضها مصريون. وتدخل جميع الإصدارات ضمن مجال نقل المعرفة عن واقع عربي. وتشمل الترجمات أعمالا أدبية وروائية أساسا، وقضايا فكرية واجتماعية أحيانا. (2)
مراكز دعم الأدب العربي والأفريقي: التي تتلقى دعما من الاتحاد الأوروبي؛ مثل: جمعية دعم الأدب في ألمانيا، التي تصدر ترجمات لأعمال روائية عربية، وكذلك الجمعية الدولية
SECUM
ومركزها ميلانو، والمعنية بعلوم وثقافات البحر المتوسط؛ حيث شرق وجنوب المتوسط بلدان عربية. (3)
مدرسة طليطلة في إسبانيا: المعنية بترجمة أعمال عربية إلى الإسبانية وبالعكس، وجميعها دراسات تاريخية وأدبية. (4)
مؤسسات رسمية أمريكية معنية بترجمة أعمال تراثية في العالم العربي إلى الإنجليزية، وتضمينها بنوك المعلومات، وقد عهدت إلى مركز الترجمة والنشر بجريدة الأهرام بمثل هذه المهام. (5)
حرى أن نذكر هنا اليابان والصين: أصدرت دور نشر في اليابان عددا من المترجمات الأدبية العربية، وبدأت الصين تهتم أيضا بثقافة العالم العربي ، وحرصت أكاديمية العلوم الاجتماعية بجامعة شنغهاي على ترجمة العديد من الأعمال الروائية والفكرية العربية، علاوة على «معجم الأدباء العرب»، لمؤلفين صينيين، للتعريف بالأدباء والحياة الأدبية العربية، وأنشأت الصين منذ عام مركز دراسات الشرق الأوسط. (6)
مجلة بانيبال: بريطانية، صدرت 1998م، وتخصصت في التعريف بالأدب العربي (الحياة 23 / 11 / 2002م). (7)
السويد، حركة الترجمة الجديدة: وتمثل مدرسة حديثة العهد منذ خمس سنوات. وعدد المترجمين عن العربية إلى السويدية حوالي أربعة مترجمين غير متفرغين. ولا تزيد الأعمال المترجمة عن خمسة أعمال روائية كل عام، وبعضها ترجمة غير مباشرة، كما يقول الدكتور تتس روك المستعرب، وأستاذ اللغة العربية، والمترجم بجامعة أوسلو.
مؤسسات إقليمية (على سبيل المثال لا الحصر) (1)
المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإيسيسكو): وتضم قسما خاصا بالترجمة. ومقرها الرباط، وأنشئت تنفيذا لتوصيات مؤتمر قمة الدول الإسلامية المنعقد في فاس عام 1982م. وتعمل على نشر الثقافة الإسلامية، وتصدر مجلة «الإسلام اليوم» باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، وتنهض بترجمة بعض الكتب التي تخدم الثقافة الإسلامية من العربية إلى لغات أخرى. (2)
مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود: مقرها الدار البيضاء، وتمولها المملكة العربية السعودية. وتصدر عنها بعض الترجمات عن العربية لخدمة العقيدة. عملت منذ أول التسعينيات على تأسيس شبكة للترجمة والنشر بالاشتراك مع معهد العالم العربي في باريس، وقسم الترجمة التابع للبعثة الفرنسية للبحث والتعاون بالقاهرة. وضعت خطة في منتصف التسعينيات تهدف إلى توسيع الشبكة باسم «المبادرة الأوروبية العربية للترجمة». وكان الهدف التعاون مع الجهات المعنية بالترجمة من اللغة العربية وإليها على صعيد أوروبا والعالم العربي. وتقول د. الحبابي تعقيبا على هذا: «ولكن المؤسف له أن كل ذلك بقي حبرا على ورق.» (3)
جامعة الدول العربية: تصدر وثائق، ومجلات، وكتبا وثيقة الصلة بالقضايا العربية.
مؤسسات حكومية ودور نشر محلية
نذكر من بينها: (1)
مجمع البحوث الإسلامية في مصر: يصدر دراسات وكتبا عن العقيدة للمسلمين في غير البلدان العربية. (2)
الهيئة العامة للكتاب، القاهرة: وتصدر ترجمات أدبية وسياسية لكتاب مصريين. (3)
المكاتب الإعلامية التابعة لوزارات الخارجية أو الدواوين الملكية والرئاسية: وتعنى بترجمة خطب وأحاديث الملوك والرؤساء وسيرهم الذاتية ، وتصدر مجلات أو كتبا عن الاتصالات والعلاقات مع الدول الأخرى أو للتعريف بالبلاد. (4)
بيت الحكمة في تونس: تأسس 1982م، ويقول د. عبد اللطيف عبيد إنه «أصدر ما يزيد على 90 كتابا منها 23 كتابا مترجما عن العربية وإليها، من بينها 19 كتابا معربا» (أي أربعة كتب معجمة وهي من الأدب التونسي) (ص10)، ويذكر أيضا أن دراسة عبد الوهاب الدخلي (1985م) تشير إلى أنه بلغ عدد النصوص المترجمة من الأدب التونسي الحديث والمعاصر إلى اللغات الأخرى 645 نصا، تتراوح ما بين نص نثري أو شعري قصير أو مجموعة مختارات، ولا يزيد عدد الكتب عن 11 عنوانا (ص12). (5)
الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض: تهتم بترجمة الكتب المختصة بالعقيدة الإسلامية الموجهة لغير العرب من المسلمين. (6)
رابطة العالم الإسلامي: مقرها مكة، تهتم بترجمة الكتب والبحوث التي تهم الشعوب والأقليات المسلمة في غير البلدان العربية. (7)
منظمة المؤتمر الإسلامي، والمؤسسات المنبثقة عنها: مقرها جدة، ولها إصدارات تربوية ودينية بلغات عدة. (8)
الندوة العالمية للشباب الإسلامي: مقرها الرياض. (9)
مكتب التربية لدول الخليج: عقد اتفاقات مع منظمات دولية وبعض دور النشر العالمية، واتحاد الطلبة المسلمين بالولايات المتحدة؛ لترجمة كتب دينية إلى اللغة الإنجليزية (دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي ص228).
فلسطين
حرى أن نخص بالذكر نشاط الترجمة عن العربية لدى أبناء فلسطين. يشير د. حسام الخطيب في «دراسات عن واقع الترجمة» ص64-83 إلى أن الفلسطينيين لهم جهد مميز في مجال الترجمة عن العربية، لعرض قضاياهم وثقافتهم بلغات أجنبية، على الرغم من حالة الشتات. ويقول: على الرغم من النكبة وعدم توافر أجهزة ومؤسسات للترجمة، فإن هذا لم يمنع ظهور حركة ترجمة موازية للحركة النضالية؛ للتعريف بقضايا وآداب الشعب الفلسطيني، ويشيد بدور الشاعرة الباحثة المترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، صاحبة مشروع «بروتا» الذي تولى نقل روائع التراث العربي، ماضيه وحاضره ، هذا علاوة على جهود نقل الشعر، والنتاج الأدبي الفلسطيني إلى لغات أخرى عديدة.
المغرب العربي
من الأهمية بمكان إضافة كلمة ذات دلالة عن وضع متمايز للمغرب العربي في مجال الترجمة عن وإلى العربية؛ إذ تعاني بلدان المغرب العربي من أزمة ثنائية أو ازدواجية اللغة. ويقول شحادة الخوري «دراسات» ص138: «إن ازدواجية اللغة (أي العربية والفرنسية في التعليم والتأليف والصحافة) أثرت تأثيرا فعالا على حركة الترجمة، فأبطل الشعور بالحاجة إليها.» ويبلغ إجمالي الكتب المطبوعة في المغرب عام 1980م، عدد 253 كتابا بالعربية، و200 كتاب بالفرنسية. وفي عام 1983م، 123 كتابا بالعربية، و102 كتاب بالفرنسية. ويضيف أن الكتاب والمثقفين يفضلون الكلام والكتابة بالفرنسية (وطبيعي أن يدخل هذا ضمن نقل المعرفة والثقافة العربية بلغة غير العربية).
وتقول د. الحبابي في هذا الصدد: «الترجمة تتم عموما من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية ...»
وتضيف: «ترجمة الإبداعات الروائية غالبا ما تتصدى لأعمال حديثة الصدور»، «وإن ما يترجم في كثير من المجالات الأخرى قد تفصله عن تاريخ صدوره سنين، بل قرون (مثل ترجمة نقد الشعر عند العرب لمؤلفه الطرابلسي). وتستثنى من هذه الظاهرة المحاضرات الرمضانية السنوية التي تلقى في شهر رمضان في حضرة صاحب الجلالة الملك ... وتترجم إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وتمثل وحدها كمية مهمة مما يترجم في مجال الفكر والدين الإسلامي، كما تستثنى من ذلك الخطب السياسية الملكية، وخطب بعض القيادات الحزبية والسير الذاتية السياسية»، ص98-99. وتشير إلى وجود بيوت معنية بترجمة الثقافة العربية مثل؛ بيت آل الحبابي، الذي عني بنقل كتب فلسفية، وأدبية ودواوين شعرية من اللغة العربية إلى الفرنسية، ص71.
ونقرأ في هذا الشأن للدكتور عبد اللطيف عبيد ما يلي: «وتتصف الوضعية اللغوية في تونس بالثنائية التي تهيمن ضمنها اللغة الأجنبية (الفرنسية أساسا) على اللغة العربية، وتستأثر دونها بالمجالات الحيوية في التعليم والإدارة والاقتصاد؛ إذ تستخدم الفرنسية في تدريس المواد العلمية والتقنية، وفي تدريس التخصصات العلمية والهندسية ... إلخ.» ويضيف: «إنه لمن الجائز القول: إن الثنائية اللغوية في تونس قصرت استخدام العربية كليا أو غالبا على المجالات السياسية والدينية والأدبية، وعلى الإعلام والثقافة الجماهيرية، في حين استأثرت الفرنسية بالمجالات العصرية.» ثم يستطرد قائلا: «وإن فرض اللغة الفرنسية في التعليم، واحتكارها للتعبير العلمي، يجعلان من الترجمة عملا لا جدوى من ورائه» ص3.
الخلاصة
نخلص مما سبق إلى ما يلي:
يدور نشاط الترجمة عن العربية في المجالات التالية حصرا: (1)
الهم الأول ترجمة خطب وأحاديث الملوك والرؤساء وسيرهم الذاتية. (2)
نشر العقيدة وتأكيد الصلات بين المسلمين في مختلف بلدان العالم. (3)
ترجمة أعمال أدبية من شعر أو قصص أو تراث.
ويبين جليا أن العطاء العربي (النقل المعرفي) محصور في نطاق إفادة الغرباء بحياة الملوك والرؤساء، أو اطراد رسالة إبلاغ العقيدة؛ فهذان هما الهم الأول الذي يستوعب جل الجهد، ثم يليهما بمسافة أو مسافات نقل دراسات تراثية تاريخية وأعمال أدبية، ولا شيء بعد ذلك من المعارف العلمية.
والسؤال: ماذا لو تأملنا هذا الوضع الذي نسميه تجاوزا «العطاء المعرفي العربي للعالم»، في ضوء تعريفنا لمعنى نقل المعرفة، تأسيسا على السياق الكوكبي؛ أي في عصر المعلوماتية، ونشوء مجتمعات المعرفة، وثورة العلم والثقافة؟ وماذا لو تأملنا واقعنا المعرفي العربي من منظور الواقع المعرفي الشبكي، والمشاركة الإيجابية في المعرفة على الصعيد الكوكبي، وإلى أي مدى تتوافر لنا مؤهلات لكي نسهم كطرف منتج في حوار علمي ثقافي مؤسسي كوكبي، شرطه إبداع جديد، واستثمار هذا الجديد، وتمكين المجتمع وللإنسان في مناخ من حرية المعرفة والتفكير والإبداع؛ من أجل اطراد التقدم والتغيير والمنافسة، وتجنبا لهيمنة الآخر؟
إن عطاءنا من احتياجات ومقتضيات عصر العلم والثقافة صفر. هذا على عكس الحال حين ينهل الغرب بنهم شديد في مطلع نهضة علوم العرب الأسبقين؛ إذ كانت علومهم دعامة لحركته، وخطوة على درج سلم ارتقى به مدارج حضارة، بلغت عصر الصناعة، ثم المعلوماتية.
نقل المعرفة والترجمة في العالم العربي
تعريف
الترجمة التماس معرفة وتفاعل حضاري، عن طريق النقل البشري أو الآلي من لغة إلى لغة تحريريا أو شفاهيا، وبهدف معرفي علمي وثقافي، أو بهدف مهني مثل؛ ترجمة الرسائل والخطب والنشرات ... إلخ. ونقل المعرفة أوسع وأشمل؛ إنه التماس معرفة بوسائل عديدة متباينة من بينها الترجمة، وقد يكون من خلال المشاركة في المؤتمرات استضافة أو ضيافة، والعلاقات الشخصية بين العلماء والتقانيين، واللقاءات المباشرة أو عبر الشبكات (الإنترنت). وقد يكون من خلال جهود البحث، وهي جهود تعتمد على الإبداع العلمي التقاني الذاتي، مع الإفادة بحصاد خبرات الآخرين، خاصة وأن الإنجاز العلمي التقاني لم يعد محليا، بل عالمي وشبكي مؤسسي، معتمدا في تطوره المطرد على التغذية والتغذية المرتدة بين إنجازات المجتمعات في العلم والتقانة. وقد يكون نقل المعرفة من خلال الدراسة في جامعات الخارج، أو تبادل البعثات والمنح، أو التأليف المشترك بين أساتذة الجامعات. وقد يأتي نقل المعرفة استراقا من رصيد يحرص صاحبه على الاحتفاظ به سرا، لأنه مصدر هيمنة وقوة علمية أو تقانية، وهذه من مهام حرب الذكاء. وقد يأتي عن طريق استنزاف العقول، على نحو ما نرى من جهود البلدان المتقدمة في جذب عقول متميزة من أبناء البلدان النامية، أو على نحو ما فعلت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الثانية من جذب العلماء الألمان، أو في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق من جذب العلماء السوفييت الذين استهوتهم الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرهما.
وهنا تنقسم المجتمعات إلى مجتمعات جاذبة للعقول وأخرى طاردة. ونشهد اليوم نقل المعرفة وتبادلها عبر الإنترنت، أو طريق المعلومات فائق السرعة، الذي يستلزم توافر مؤهلات للتمكين من المشاركة والاستفادة معا، مثل؛ مستوى ونوع التعليم، وحرية التعبير، والقدرة على الاستيعاب، وقيام مجتمع نهم للمعرفة واستثمار الجديد، وقدرة على التعلم مدى الحياة.
ويمثل نقل المعرفة - بما في ذلك الترجمة - رصيدا استثماريا وإبداعيا، بما يضيفه ويهيئه من فرص لتجديد البنية الذهنية للفرد وللمجتمع، وما يهيئه من قيمة جديدة وفكر جديد للمجتمع، وطاقة جديدة للتمكين وممارسة النفوذ، واطراد عملية التحديث. وكذا فرص جديدة للاستيعاب والعطاء في إطار المشاركة المعرفية الكوكبية، عبر شبكة الاتصالات الكوكبية التي هيأتها ثقافة الاتصالات، وللتأثير المتبادل دون التأثر سلبا فقط حين يجف نبع العطاء. وأدت عملية نقل المعرفة وتبادل الآراء والحوارات عبر شبكة الاتصالات الكوكبية إلى نشوء مجتمعات افتراضية، أضحت تشكل قوة تأثير على نحو ما حدث في سياتل وغيرها من جانب المناهضين للعولمة، علاوة على ما حققته من مضاعفة الشفافية في نقل المعلومات عن المجتمعات دون اعتبار للحدود والقيود.
وتمثل المعارف والثقافات في جميع الأحوال قاسما مشتركا، وهدفا إراديا منشودا لاستثمارها وفاء لحاجة مجتمعية، وإن تنوعت آليات التحصيل. ونقصد بالمعرفة مرحلة تتجاوز مرحلة المعلومات والبيانات. إنها بناء نسقي منهجي وهادف من المعلومات، صاغه المجتمع في ضوء تجاربه وخبراته وثقافته وحاجاته الراهنة والمستقبلية؛ ليكون أداة تكيف فاعلة في علاقاته الاجتماعية الداخلية، وفي تفاعله الأيكولوجي، وعلاقاته مع المجتمعات الأخرى.
وترصد جميع الأمم على مدى التاريخ جهود المحيطين بها، والمنافسين لها، أو المتصارعين معها. ويحرص البلد الناهض على استيعاب جهود الآخرين، وتمثل الإيجابي منها، ضمن جهوده الهادفة إلى التفوق؛ ضمانا وأمانا لوجوده المادي والفكري. وإن تمثل المعرفة الإبداعية المتجددة والمتفاعلة معلم على قدرة المجتمع على التفكير والتحليل وفهم الأوضاع، والتي بدونها يكون التخلف والضياع. والمعرفة منذ البدء هي وليدة فعل ونشاط الإنسان/المجتمع وتفاعله لإنتاج وجوده، وهي بذلك شرط اطراد وجود تقدم الإنسان/المجتمع. غير أن المعرفة تحتل اليوم صعيدا أرقى، وباتت مصدر تمكين ومنافسة في سياق كوكبي، وهي ثروة المجتمع وعماد إنتاجه. وفائض قيمة المعرفة هو رصيد البناء والتطوير، وتراكم أو تنامي رأس المال الاجتماعي البشري. وجدير بالذكر أن المعرفة الإبداعية لا حدود لها؛ فهي إنتاج متجدد متسارع. إنها رسملة الثروة المعرفية، وبدونها يئول المجتمع إلى نكسة متسارعة في سياق التنافسية الكوكبية.
ويقول في هذا الصدد مانويل كاسل في سفره المرجعي «عصر المعلومات»: «وفي نمط التطور المعلوماتي الجديد يتمثل مصدر الإنتاجية في ثقافة توليد المعرفة، ومعالجة المعلومات والاتصال الرمزي. حقا إن المعرفة والمعلومات عنصران حاسمان في جميع أنماط التطوير؛ نظرا لأن عملية الإنتاج تعتمد دائما وأبدا على مستوى ما من المعرفة ومعالجة المعلومات. ولكن ما يميز نمط التطور المعلوماتي هو تأثير المعرفة على المعرفة نفسها كمصدر رئيسي للإنتاجية. وتتركز عملية معالجة المعلومات على تحسين تقانة معالجة المعلومات كمصدر للإنتاجية في دوائر تفاعل متباينة، بين مصادر معرفة التقانة واستخدام التقانة لتحسين توليد المعرفة، وتحسين عملية معالجة المعلومات.»
صفوة القول: ثمة معايير جديدة خلقها مجتمع المعرفة لتقدير القيمة التنافسية بين المجتمعات؛ من ذلك براءات الاختراع، والبحوث، والتطوير، وتوافر عمالة المعرفة. والمعرفة في جميع الأحوال هي معيار التقييم والتقسيم بين المجتمعات، وهي قوة الإنتاج ومناط الفائض، وقاطرة التقدم، وأداة الهيمنة، وعماد المنافسة؛ ومن ثم فإن المجتمعات المهمشة الآن، أو مستقبلا، هي المهمشة معرفيا؛ أي أرادت لنفسها ذلك بسبب تقاعسها؛ لأن المعرفة لا حواجز تحول دون إنتاجها وتحصيلها ونقلها سوى حواجز ذاتية.
السياق الكوكبي
الحديث عن النشاط الاجتماعي لنقل المعرفة، بما في ذلك الترجمة، لا يستقيم دون الإشارة إلى السياق الكوكبي الذي يمثل في آن واحد بيئة صراع وتحد، وبيئة للفعل الاجتماعي لنشاط المعرفة، في تكامل أو تباين مع السياق المحلي، تأسيسا على المقارنة بين مستويات الفعل هنا والفعل هناك، والتفاعل وبيان أوجه القصور أو التميز، ومن ثم طبيعة التحديات ومؤشرات الحركة.
وإذا كانت المقارنة ضرورية لتعرف الذات موقعها من الآخر، ودفع خطوها في تفاعلها وتنافسها مع هذا الآخر، ومن أجل بناء نفسها وتصحيح أوضاعها الذاتية؛ فإنها الآن أكثر ضرورة في ظل شرط وجودي عالمي جديد، تداخلت فيه العلاقات بين الأمم والجماعات والأفراد، بحيث يقال: إن الوجود الاجتماعي على الصعيد العالمي وداخل المؤسسات وفيما بينها، أضحى وجودا شبكيا، ومن ثم لا يمكن لمجتمع أن يبني ذاته تأسيسا على رصيده الذاتي أو بمعزل عن الآخر أو عالة عليه، مستهلكا للفكر والعلم والتقانة.
لقد تحولت الاقتصادات الكوكبية المتقدمة إلى اقتصادات معرفة، وأضحى الكوكب بؤرة تواصل متداخل، وتشارك وتقاسم للمعرفة في سياق تفاعل وتنافس محليا وعالميا. وتمثل المعرفة بذلك مصدر ثروة عالي القيمة للغاية، يتعين حيازته وإحراز السبق فيه والسيطرة عليه؛ لمنافعه الاقتصادية، وضمان أمن واطراد الوجود المجتمعي.
وإن نقل المعرفة والترجمة بالمعنى الذي أسلفناه، وباعتباره الوجه المتكامل مع الإبداع المحلي للمعرفة، يمثل مؤشرا على موقفنا من المعرفة؛ لكي نقارن بين حالنا وحال غيرنا ممن يخطون على عتبة عصر جديد، عصر الثورة المعرفية أو مجتمع المعرفة، عصر يمثل طورا جديدا في سلم التطور الارتقائي للبشرية، يكاد يماثل مرحلة اختراع الكتابة، وستكون له تجلياته الفيزيقية والعصبية والنفسية والاجتماعية. طور ربما يكون حدا فاصلا بين نوعين من البشر، بحيث يخلف وراءه من هم أدنى مستوى، وأعجز عن الملاحقة والتكيف.
وإذ تقف البشرية المتقدمة والناهضة على أعتاب عصر الثورة المعرفية، فإنها بصدد تشكل ما يمكن أن نسميه بعدا كوكبيا إضافيا للذاتية المحلية؛ أي ذاتية كوكبية مضافة، تتحدد معالمها ومكوناتها أكثر فأكثر، وتتفاعل مع ما هو محلي من خلال الاتصال عبر اللغات والثقافات، والتفاعلات في مجالات العلم والتقانة والاقتصاد والفكر. قد تكون الذاتية المضافة تهجينا وثمرة تفاعل يفضي إلى ظهور أنماط جديدة من الأفكار، وقد تكون هيمنة تصل إلى حد الطمس لثقافات اجتماعية جفت ينابيعها، أو جهود أصحابها عن العطاء، وهكذا تفرض الذاتية الكوكبية أبعادا وأطرا جديدة للصراع الأبدي بين المجتمعات على الأصعدة الثقافية والاقتصادية. وتدور هذه الأبعاد الآن حول محور المعرفة، أو الكثافة المعرفية إبداعا واستثمارا وفائضا.
يعيش العالم اليوم صراعا محموما تقوده تقانة الاتصالات والمعلومات من أجل سرعة إنتاج واستثمار المعلومات والسيطرة عليها، باعتبار المعلومة مادة وهدفا استراتيجيا شأن الطاقة. ويتجلى الصراع في جهود البحث العلمي والتطوير، والذي يعني كما تشير مقدمة الكتاب السنوي لليونسكو: «الأنشطة المنهجية والإبداعية التي تمارس بغية زيادة رصيد المعارف، بما في ذلك المعارف الخاصة بالإنسان والتقانة والمجتمع، واستخدام رصيد المعارف هذا لابتكار تطبيقات جديدة. ويشمل نطاق البحث العلمي والتطوير التجريبي البحوث الأساسية (أي الأنشطة النظرية والتجريبية التي تجرى بدون هدف تطبيق عملي مباشر). كما يشمل البحوث التطبيقية في مجالات كالزراعة والطب والكيمياء والصناعة ... إلخ (أي الموجهة أساسا نحو هدف عملي محدد)، وكذا أنشطة التطوير التي تؤدي إلى استحداث أنظمة وطرائق ومنتجات جديدة.»
وينفق العالم سنويا على البحث والتطوير أكثر من 500 مليار دولار، ويعمل في هذا المجال 4,3 مليون باحث. وتخصص البلدان الصناعية حوالي 3٪ من إجمالي الناتج الوطني للبحث والتطوير، وينتج هذا رصيدا متزايدا من المعرفة العلمية، ويمثل هذا الجهد مجال المشاركة الكوكبية في المعرفة. وتطمح كل البلدان المتقدمة والناهضة إلى استيعاب هذا الكم المتزايد من المعلومات من مصادر المنشأ عن لغته الأصلية. وتمثل اللغة الإنجليزية قرابة 85٪ من جملة هذا الرصيد العلمي التقاني. وهنا تبدو الترجمة بالنسبة للمجتمعات العربية تحديا ثقيل الوطأة، ومطلبا حيويا يستلزم تنظيم وتخطيط الجهود على الصعيد العربي كله، في إطار استراتيجية عربية متكاملة وطموحة، تشمل التعليم والإدارة والاقتصاد ... إلخ، وإعادة هيكلة اجتماعية. وسوف يبين خطر هذه المهمة حين نعرض إحصاءات الترجمة العلمية وجهود البحث العلمي العربي.
وتبدي الدول المتقدمة والناهضة اهتماما كبيرا بنقل المعرفة وبالترجمة من شتى مصادرها، ولا تقتصر الجهود على الجديد والحديث من المعارف، بل وأيضا القديم والتراثي؛ ليكون البلد المعني موسوعة ومرجعا كبنك معلومات ومصطلحات. وهذا ما تفعله الولايات المتحدة تحديدا. وظهرت شركات تخصصت في الترجمة، علاوة على جهود المؤسسات الرسمية؛ مثال ذلك: شركة بريطانية تحمل اسم
Wordbank ، ويعمل لديها وحدها 550 مترجما محترفا. وتقدر مجلة نيوزويك كلفة الترجمة عام 1989م بمبلغ 20 مليار دولار. ويصدر العالم سنويا أكثر من مائة ألف عنوان مترجم. وجاوزت جملة الإصدارات تأليفا وترجمة 830000 عنوان سنويا.
وجدير بالذكر أن اليابان مع مطلع نهضتها في عصر «الميجي»، حرصت على نقل جميع المعارف العلمية والثقافية إلى اليابانية، علاوة على إيفاد البعوث من الطلاب النابهين؛ لتحصيل علوم الغرب المتقدم والعودة إلى اليابان، حيث المجتمع يعيش نهضة حقيقية تمثل للخريجين مجالا حيويا لتوظيف واستثمار معارفهم. قررت اليابان آنذاك أن العلم أداتها للنهوض، شريطة أن تمتلك ناصيته بحثا وتجريبا. ولذلك عنيت بتعليم اللغات الغربية، وتهيئة مناخ تنمية الإبداع من خلال التنشئة الاجتماعية في البيت والمدرسة والمجتمع. واقترنت جهودها بنهضة تعليمية ودستورية شاملة لصناعة عقل جديد. وأصابت اليابان آنذاك - ولا تزال - حمى التهام علوم وثقافة الغرب. لم يكن منطقها محاكاة الحداثة الغربية، بل استيعاب علوم الغرب من موقع المنافسة والندية لتحديث اليابان. وأقيمت في بداية عصر «الميجي» المؤسسة الهولندية التي اضطلعت بأعباء إنشاء حركة ترجمة واسعة النطاق، وعقدت اليابان اتفاقات مع كبرى دور النشر العالمية لإصدار طبعة باللغة اليابانية من إصداراتها العلمية حال صدورها بلغتها الأصلية. ويقدر عدد العناوين المترجمة آنذاك 1700 عنوان سنويا.
ويقول الدكتور محمد إسماعيل صالح (الصيني) - الأستاذ بجامعة الملك سعود: إن اليابان تترجم سنويا 30 مليون صفحة. كذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي تحرص على أن تكون هي بنك المعلومات الكوكبي والمرجع. وعلى الرغم من أن قرابة 85٪ من الإنتاج العلمي العالمي باللغة الإنجليزية، فإننا نجد الولايات المتحدة حريصة على ترجمة كل شاردة وواردة من المنشورات العلمية، علاوة على ترجمة الرصيد الثقافي لحضارات العالم. ويشير الدكتور الصيني إلى أن قسم الترجمة التقنية الأجنبية التابع لسلاح الجو الأمريكي قد ترجم إلى الإنجليزية عام 1987م ما بين 70 و75 ألف صفحة. كذلك إدارة الخدمات المشتركة الخاصة بالمنشورات البحثية - وتتبع المكتب الفيدرالي للمعلومات العلمية والتقنية في وزارة التجارة الأمريكية - ترجمت في النصف الأول من العقد السابع 273449 صفحة، ويعمل لديها 330 مترجما في المتوسط. ويذكر أن هاتين هيئتان من بين آلاف الهيئات والمؤسسات الأمريكية العامة والخاصة. وأصدرت المؤسسة الوطنية للعلوم
NSF
في واشنطن نسخة ببليوجرافية للمواد العلمية المترجمة تحت عناوين بحوث وكتب تقع في 47 صفحة لعام واحد 1978/1979م، ص139-140.
وإذا ألقينا نظرة على نمور شرق آسيا، نجد أن تكثيف الجهود لدعم البحث والتطوير وراء نجاحها؛ إذ خططت ماليزيا 148 مليون دولار في الخطة الخمسية 1986/1990م، لتمويل مشروعات البحوث والتطوير، و222 مليون دولار في الخطة السادسة. ويمثل الإنفاق على البحوث والتطوير أكثر من 1٪ من إجمالي الناتج المحلي. وحرصت سنغافورة على تعزيز أنشطة البحوث والتطوير لدعم القدرة الإنتاجية لتصدير المعرفة التقانية وتطوير الميزة التنافسية. وتنفق سنغافورة نحو 3,4 مليار دولار أمريكي على تقانة المعلومات في مجال التعليم، وتنفق كوريا الجنوبية على البحوث والتطوير 2٪ من إجمالي الناتج المحلي.
وتدمج نشاط البحوث والتطوير في اقتصادها الصناعي بحيث إن كل مجمع صناعي (شيبول) يضم مركزا متقدما للبحوث والتطوير (د. محمود عبد الفضيل، العرب والتجربة الآسيوية).
وحرى أن نلقي نظرة على تجربة إسرائيل في مجال الترجمة والعلم والتقانة؛ لتكون النظرة سببا لشحذ الهمم. أدرك الصهاينة من قبل نشأة إسرائيل دور المعارف العلمية والتقانية، وضرورة توطينها لضمان وجودها، وأنشئوا في حيفا عام 1912م المدرسة التقنية العليا «التخنيون»، وأقاموا عام 1934م معهد «دانييل زيف» للأبحاث العلمية. وفي عام 1946م تم وضع حجر الأساس لمعهد «وايزمان للعلوم» ... إلخ. وأسست إسرائيل منذ عام 1956م مؤسسة «البرنامج الإسرائيلي للترجمة العلمية»، وتعتبر من أهم مؤسسات الترجمة العلمية، تعتبر من أهم مؤسسات الترجمة في العالم الآن. وكان لديها عام 1967م عدد 250 مترجما متفرغا، و440 مترجما نصف الوقت، وحوالي 1000 مترجم من الخارج. وتنتج المؤسسة وحدها أكثر من مائة ألف صفحة مترجمة سنويا، وتنشر حوالي 200 كتاب جديد سنويا. وتضم الآن أكثر من 500 مترجم متفرغ، بينهم عدد كبير من العلماء. وبلغت ميزانيتها عام 1960م، 300 مليون دولار، تضاعفت الآن عشر مرات (د. صفاء عبد العال محمود، التعليم العلمي والتقاني في إسرائيل). وتخصص إسرائيل 2,2٪ من إجمالي الدخل القومي للبحوث والتطوير، وترسل علماءها إلى جامعات العالم المتميزة في تخصص ما، في إجازات تفرغ دراسية دورية مدتها أربع سنوات؛ لاستيعاب إنجازات الخارج. وتوجه الدعوات لعلماء الخارج للتدريس في جامعاتها بشكل دوري.
الواقع العربي
إن وصف مجتمع ما بالتقدم أو التخلف لا يكون ضربا من أحكام القيمة، أو الانحياز تفاؤلا أو تشاؤما، إذا استند إلى إحصاءات مقارنة مصدرها منظمة دولية. والدفع بأنها إحصاءات معيبة أو قاصرة حجة مردودة؛ ذلك لأن منظمة اليونسكو استقتها من البلدان المعنية.
ولكن وجه القصور هذا أن البلدان صاحبة الشأن قصرت في إعداد إحصاءات مدققة، ولا تلتزم منهجا علميا في المتابعة الإحصائية لأنشطتها، ييسر لها صوغ نظرة نقدية تحدد وقع خطواتها على طريق التطوير.
إذ المقارنة المستمرة بين الذات والآخر هي العين الناقدة، والضوء الهادي لخطى المجتمع في سباق الصراع أو التنافس الكوكبي. وإبراز جانب التخلف ليس مدعاة للإحباط، بل دافع لشحذ الهمم وقبول التحدي. هذا كان حال اليابان مثلا عقب هزيمتها على يد الجنرال بيري؛ إذ بحثت عن أسباب الغلبة، وعرفت أن السر في امتلاك العلم والتقانة. والنظرة المؤكدة أن الصراع أو التنافس مكون رئيسي للحياة داخل المجتمعات وفيما بينها، والسياسة العلمية الحكيمة هي الفهم والتحليل ورسم منهج العمل مع قبول التحدي. ولكن المجتمع الذي يقنع راضيا بذاته وبالموروث التاريخي، دون ملاحقة نقدية على أساس من المقارنة والمنافسة مع المجتمعات الأخرى، يضيع من أقدامه الطريق، وتخفى عنه الحقيقة، وتصدمه وقائع الأرقام؛ فيكذبها سعيا إلى تطويع الواقع قسرا؛ ليتلاءم مع فكره الانفصامي.
الترجمة في التاريخ العربي الحديث موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة، إنتاجا وإبداعا وتحصيلا واستثمارا. فالترجمة كنشاط اجتماعي هادف لا تزال قضية خلافية؛ هناك من يراها تغريبا للمجتمع أو صرفا للأذهان والوجدان عن علم نافع، وهناك من يراها حقا للمجتمع في أن ينهل ما شاء من علوم الآخرين بحرية وعقل ناقد؛ وفاء لحاجات اجتماعية، وأداة تكميلية للتطوير والتغيير.
والقضية في ضوء واقعنا وتحدياتنا يجسدها السؤال التالي: ما نصيبنا من الفكر العلمي أخذا وعطاء، وكذا التفكير العلمي المنهجي؟ وما نصيبنا من ترجمة الفكر العلمي ودوره الفاعل في حياتنا، وليس فقط نصيبنا من الإنجازات التقانية، التي هي وجه مكمل ومتكامل مع إبداع الفكر العلمي. وإنما قنعنا باستيرادها سلعا استهلاكية، وهكذا وكأن الحداثة حيازة، وليست توطينا وتطويرا للعلوم والتقانة. وكيف يجري اختيار هذا النصيب؟ هل من أساس نسقي، أم اختيارات فردية عفوية؟ وهل الفكر العلمي المترجم - إن وجد - يمثل ركائز علوم العصر الأساسية والتطبيقية، ويجسد دعامة أساسية في بنية تنموية استراتيجية، ورؤية مستقبلية لمجتمعاتنا العربية؟
بدأ تاريخ الترجمة في العصر الحديث انطلاقا من مصر ولبنان مع اختلاف الحوافز والدوافع والمسار. بدأت في لبنان ضمن جهود المحافظة على اللغة العربية ضد حركة التتريك العثمانية، وبدأت الترجمة في مصر في عهد محمد علي، وأخذت صورة تيار اجتماعي نشط. واستطاع الشيخ رفاعة الطهطاوي أن يجعل الترجمة مؤسسة اجتماعية تساهم في إنجاز مشروع قومي اجتماعي لتحقيق نهضة في العلوم والصناعات، ومن ثم نقلة تطويرية لمصر إلى عصر جديد. ولكن تعثر النشاط وانحسر، بعد أن أصابت النهضة انتكاسة؛ بسبب الدور الاستعماري الغربي، والنظم الاستبدادية الأوتوقراطية في الداخل، واطراد نظم اقتصاد الريع المحافظ بطبيعته.
والملاحظ أن أي محاولة لاستكشاف الجهد العربي المعاصر في مجال الترجمة، من حيث الكم والنوع، تصطدم بعقبة غياب الإحصاءات أو تشوشها وعدم دقتها. مثال ذلك: أصدرت الهيئة العامة للكتاب في مصر فهارس تعريف بالإصدارات تحت عنوان «الثبت الببليوجرافي للمؤلفات والمترجمات»، وجملتها خمسة: من 1956م وحتى 1967م، ثم الأعوام 1979م و1983م و1990م و1993م، ثم توقفت. وجميعها سرد للعناوين المؤلفة والمترجمة منذ الخمسينيات، وتكرارها في السنوات التالية دون تخصيص، أو تحديد عام الإصدار. ولكنها تكشف بعد مراجعتها عن ضآلة عدد العناوين المترجمة إجمالا، والتي تتجاوز 200 عنوان، كما تكشف عن التدني الشديد للترجمات العلمية. ثم إننا نجد تحت عنوان «العلوم التطبيقية» عناوين مثل؛ الطب الروحاني، والجبن الدمياطي وصناعته، والرضى لمن يرضى (دليل الكتاب المصري 1990). وإذا استوفينا الإصدارات المترجمة منذ الأربعينيات، ومشروع الألف كتاب الأول والثاني؛ نجد انحسارا واضحا في نوع وكم الكتب ذات التوجه العلمي الحضاري من حيث النسبة العامة.
وتنص الخطة القومية للترجمة - المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1996م - على ما يلي: «ولم يجر حصر شامل لما تمت ترجمته من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية وبالعكس منذ بداية عصر النهضة حتى اليوم.» بيد أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أجرت إحصاءين لهما دلالة مهمة؛ أحدهما عن الكتب العلمية المترجمة منذ 1970-1975م في خمس دول عربية، فبلغ العدد 872 كتابا. وثانيهما عن الكتب المترجمة بداية من عام 1970م لغاية 1983م في ست عشرة دولة عربية، فبلغ 2840 كتابا. وتشير الإحصاءات إلى أن حركة الترجمة في الدول العربية دون المستوى المنشود. معنى هذا أن معدل الترجمة السنوي من 1970م لسنة 1975م يبلغ 175 عنوانا. ومعدل الترجمة السنوي من 1970-1980م يبلغ 284 عنوانا. وسوف نجد في ضوء الإحصاءات التالية أنه قارب الضعف في التسعينيات وأواخر القرن العشرين؛ وهو ما يعني أن المجتمعات العربية حققت إنجازا. ولكن إذا ألقينا نظرة مقارنة في ضوء حركة المجتمعات الأخرى وتطورها الحضاري، نجد أن الهوة اتسعت.
دولة الإمارات العربية
عرفت نشاط الترجمة والتأليف المؤسسي مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين. ويمثل المجمع الثقافي - أبوظبي - المؤسسة الرسمية المنوط بها هذا الدور. وإصداراته من الترجمة كالآتي:
السنة
1993م
1995م
1997م
1998م
1999م
2000م
2001م
2002م
عدد
2
13
3
23
10
5
3
5
تونس
في دراسة بعنوان «حال الترجمة في تونس وعلاقتها بالوضعية اللغوية»، 1998م للدكتور عبد اللطيف عبيد يقول: تمت ترجمة 46 عنوانا إلى العربية من 1838م إلى 1881م؛ أي 46 عنوانا في 43 سنة، قبل الاحتلال. وتمت ترجمة 204 عناوين خلال النصف الأول من القرن العشرين حتى عام الاستقلال 1956م، بمتوسط 4 عناوين في السنة. ويضيف أن ما ترجم في تونس منذ الاستقلال (1956م)؛ أي على مدى 40 عاما، يبلغ 150 عنوانا بمتوسط 4 عناوين في السنة. ويقول: الترجمات العلمية قليلة الأهمية عددا ونسبة.
المملكة العربية السعودية
في دراسة للدكتور عبد الله الفقاري 1998م، يشكو من صعوبة الحصول على بيانات. ويشير إلى دراسة للباحثة نورة صالح الناصر بعنوان «ترجمة الكتب إلى العربية في المملكة العربية السعودية»، من1351-1412ه؛ أي 1932-1992م. وتقرر أن المترجمات 502 كتاب خلال ستين عاما مع سيطرة العلوم الاجتماعية الإنسانية؛ أي بمعدل 8 كتب سنويا. ولكن د. الفقاري يذكر أن الترجمات على مدى خمسين سنة حتى 1998م بلغت 729 عنوانا، بمعدل 15 عنوانا في العام. وأن الترجمات خلال السنوات الست الأخيرة بلغت 227 عنوانا، بمعدل 38 عنوانا في السنة. ويشكو من قلة عدد الأفراد السعوديين الممارسين للترجمة. ويقرر أن جميع المترجمات التي قام بها أفراد سعوديون خرجت من قاعات الدرس في الجامعات أو المراكز البحثية المخصصة. ويضيف أن الكتب المترجمة الصادرة هي في أغلبها نشاطات لأعضاء هيئة للتدريس والباحثين في مجالات تخصصهم.
سوريا
يشير الإحصاء السنوي لليونسكو عام 1992م إلى أن إجمالي المترجمات كما يلي:
السنة
عدد المترجمات
1984م
43
1985م
41
1986م
59
العراق
في دراسة للأستاذ سمير عبد الرحيم الجلبي 1997م، يقرر أن مجموع الكتب المترجمة الصادرة عن دار المأمون بيت الحكمة في ست سنوات 125 عنوانا، وتقلص النشاط بسبب ظروف الحصار.
مصر
بدأت حركة الترجمة بمصر الحديثة منذ عهد محمد علي أواخر القرن 19م، واستطاع الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي - رائد النهضة الفكرية - خلق مدرسة أو حركة ترجمة نهضوية تضع مصر على أعتاب عصر الصناعة.
وظهر في مطلع القرن العشرين عديد من رواد الترجمة من أمثال: الشيخ محمد عبده، الذي ترجم كتاب هربرت سبنسر «التربية»، وأحمد فتحي زغلول، وأحمد لطفي السيد، وآخرين. وتوجد في مصر أجهزة حكومية معنية بالترجمة، علاوة على دور النشر الخاصة، وعدد من مراكز الترجمة التابعة لسفارات أجنبية.
ونذكر من المؤسسات الحكومية؛ الهيئة العامة للكتاب، والمجلس الأعلى للثقافة، وهيئة الاستعلامات.
وجدير بالتنويه أن المجلس الأعلى للثقافة عمل منذ عام 1994م على إنجاز المشروع القومي للترجمة، وهو الأول من نوعه في العالم العربي، ويصدر سنويا قرابة 80 عنوانا مترجما في مختلف العلوم والفنون، وبلغت جملة إصداراته أكثر من 750 عنوانا. هذا علاوة على إنشاء ورش عمل لتدريب مترجمين من الشباب، وإصدار مجلة بعنوان «الترجمة».
دولة الكويت
في دراسة للدكتور عبد الرحمن أحمد الحمد 1998م، يشكو من عدم وجود إحصاءات، ثم يقول: «من العقبات التي تواجه مؤسسة الكويت للتقدم العلمي عدم وجود ببليوجرافية محلية أو عربية.» ويوضح الجهات المعنية بالترجمة وإصداراتها من كتب ومعاجم: (أ)
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي: عنيت بنشر قواميس ومعاجم وموسوعات علمية، وأصدرت سلسلة من الكتب المترجمة، صدر عنها منذ 1982م حتى 1991م 22 عنوانا، وتعمل على توحيد المصطلحات، وتصدر مجلة «علوم» - المترجمة - شهريا، وتعنى بمنح جوائز عن النشاط العلمي ومن بينه الترجمة. (ب)
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب: يصدر كتبا مترجمة ضمن سلسلة عالم المعرفة، صدر منها قرابة 86 عنوانا من 1978م وحتى 1998م، وتصدر كذلك سلسلة المسرح العالمي (إبداعات عالمية)، علاوة على مجلة الثقافة العالمية المترجمة، وتصدر كل شهرين.
ويشير الإحصاء السنوي لعام 1992م (اليونسكو) إلى إصدارات الكويت المترجمة:
السنة
عدد المترجمات
1984م
17
1985م
17
1986م
21
لبنان
يوجد أكثر من 170 دار نشر للتأليف والنشر. مجموع الدراسات المترجمة في لبنان 1970-1985م، 396 عنوانا، جميعها علوم إنسانية، و6 عناوين في علوم الطب والتداوي بالأعشاب.
المغرب
تشير الدكتورة فاطمة الجامعي الحبابي في دراسة لها عن الترجمة في المغرب 1998م، إلى أن نشاط الترجمة بدأ محدودا في القرن 16م، وشهد منتصف القرن 19م بدايات جديدة، اقترنت بمحاولات نهضة علمية، وتذكر أنه يوجد بالمغرب عشرة مكاتب أو معاهد أو أكاديميات معنية بالترجمة، من أهمها؛ مكتب تنسيق التعريب، الذي أنشئ عام 1961م ثم أصبح اسمه عام 1962م المكتب الدائم لتنسيق التعريب، وألحق بالأمانة العامة للجامعة العربية عام 1969م، ثم بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1972م، وأن مهمته الأساسية تنسيق تعريب المصطلحات على الصعيد العربي، وأنه أصدر أكثر من 50 معجما. وهناك أيضا معهد الدراسات والأبحاث والتعريب الذي أنشئ عام 1960م، وهدفه إنجاز الدراسات والأبحاث للتعريب، ويعمل الآن على إنشاء قاعدة معجمية (بنك بيانات) يضم قرابة 2 مليون كلمة.
وتشكو الباحثة من عدم وجود إحصاءات، وتضع عدة مقاربات. وتذكر إحداها أنه تمت ترجمة 50 عنوانا من 1970م إلى 1985م؛ أي في 15 سنة، وتشير مقاربة أخرى إلى أن جملة المترجمات 98 عنوانا من 1932م إلى 1992م، وتذكر مقاربة رابعة 46 عنوانا في الفترة من 1986م إلى 1990م، وأن المترجمات على مدى الأعوام 1992-1997م تبلغ 125 عنوانا.
وتعرض الباحثة الإحصائية التالية:
السنة
1992م
1993م
1994م
1995م
1996م
1997م
العدد
13
24
19
23
27
19
إصدارات الكتب تأليفا وترجمة، الإحصاء السنوي، اليونسكو 1999م.
اسم البلد
1974م
1985م
1990م
1991م
1993م
1994م
1996م
مصر
1765
1366
2036
2559
3108
2215
ليبيا
26
تونس
107
450
535
569
الأردن
663
500
465
السعودية
125
218
390
مقارنة إحصائية
إصدارات الكتب لكل مليون نسمة (تأليف وترجمة)، الكتاب السنوي، اليونسكو 1995م.
1970م
1980م
1990م
1991م
العالم
182
161
159
160
أفريقيا
22
25
20
20
آسيا
59
54
73
70
أوروبا
515
682
726
802
الدول المتقدمة
428
490
488
513
الدول النامية
39
46
60
55
البلدان العربية
38
40
29
29
أفريقيا بدون العرب
17
25
20
20
أمريكا الشمالية
366
393
385
365
إجمالي الترجمة في عدد من الدول للمقارنة (نفس المصدر)
إسرائيل 4,5 مليون نسمة.
السنة
إجمالي
ملاحظات
1981م
387
ما بين 93 و76 كتابا لكل مليون نسمة، مع ملاحظة شيوع الإنجليزية، وأن 50٪ من سكان إسرائيل مهاجرون، يقرءون بلغاتهم الأصلية علاوة على العربية.
1982م
348
1983م
232
1984م
366
1985م
313
1986م
462
المجر، التعداد 10571000 نسمة (المصدر نفسه).
السنة
إجمالي
ملاحظات
1981م
419
حوالي 108 كتب لكل مليون
1982م
1227
1983م
1397
1984م
1238
1985م
1202
1986م
1144
إسبانيا 39 مليون نسمة.
السنة
إجمالي
ملاحظات
1981م
6361
حوالي 240 عنوانا لكل مليون نسمة
1982م
6381
1983م
7447
1984م
7741
1985م
7944
1986م
9647
إجمالي الإصدارات في العالم تأليفا وترجمة.
1970م
1980م
1990م
1991م
العالم
52100
715000
842000
863000
أفريقيا
8000
12000
13000
13000
أمريكا
105000
142000
148000
144000
آسيا
75000
138000
228000
215000
أوروبا
246000
333000
364000
403000
الاتحاد السوفييتي سابقا
80000
80500
77000
76000
البلدان المتقدمة
451000
562500
600000
635000
البلدان النامية
70000
153000
242000
228000
أفريقيا بدون العرب
4600
9000
10000
10000
آسيا بدون العرب
73700
134500
224000
215000
البلدان العربية
4700
6500
6400
6500
أمريكا الشمالية
83000
99000
106000
102000
أمريكا اللاتينية والكاريبي
22000
47000
42000
42000
إجمالي الترجمة في العالم العربي (250 مليون نسمة).
السنة
إجمالي
ملاحظات
1981م
225
حوالي كتاب واحد لكل مليون نسمة، إحصاء اليونسكو 1992م
1982م
72 (لم ترد مصر والعراق)
1983م
70 (لم ترد مصر والعراق)
1984م
459
1985م
272 (لم ترد مصر والعراق)
1986م
268 (لم ترد مصر والعراق)
البحوث والتطوير والمؤتمرات العلمية
ذكرنا أن من آليات نقل المعرفة، أو المشاركة في المعرفة المتاحة كوكبيا نشاطات البحوث والتطوير
R & D ، والمؤتمرات العلمية وتبادل بعثات العلماء. ونورد هنا بعض الإحصاءات التي ذكرها أنطوان زحلان، ولعله أهم باحث عربي متابع لنشاطات العلم والتقانة في العالم العربي وفي إسرائيل. وتتطابق إحصاءاته مع إحصاءات منظمة اليونسكو.
يقول زحلان: «منذ عام 1498م والوطن العربي مذعن لتقدمات تقانية أنجزت في أوروبا. وكانت العلوم والتقانة هي الأداة الرئيسية التي جرى عبرها التفكيك المستمر للوطن العربي خلال السنوات الخمسمائة الماضية (ص 17)، ويعتمد العالم العربي على المشروعات الجاهزة «تسليم المفتاح»، دون توطين العلم والتقانة في كل محاولات التحديث المعاصرة. وإحدى نتائج تبني ثقافة المشروعات الجاهزة هي أن المرء يرى نفسه فقط عبر عيون أجنبية (ص43). وينعكس عدم توطين العلم والتقانة سلبا على أي جهد للنهوض بالبحث والتطوير.»
ويشكو من أن المعلومات الإحصائية عن أي ناحية من العالم العربي محدودة. وقاعدة المعلومات الموثقة الوحيدة هي تلك التي تصدر عن مؤسسة المعلومات العلمية في فيلادلفيا، عن منشورات في دوريات مستشهد بها (ص114).
ويذكر في إحصائية أن إجمالي نتاج البحث في الوطن العربي مقارنا بإسرائيل كما يلي، وتعبر الإحصائية عن مجمل التفاعل المعرفي إنتاجا محليا، وتحصيلا من الخارج، مع ملاحظة أن نتاج البحوث يتركز في الجامعات العربية التي بلغ عددها 175 جامعة عام 1995م.
1967م
1977م
1987م
1990م
1991م
1992م
1993م
1994م
1995م
المجموع العربي
465
1348
4569
5595
5460
5408
5341
6144
6652
إسرائيل
1125
3284
7969
7571
7377
8053
9182
9567
10206
ويضيف أن غالبية المنشورات العربية هي في حقول لينة، والكثير من نتاج البحث ذو طبيعة تطبيقية وصفية ومستوصفية. ومستوى النشاط البحثي في العلوم الأساسية لا يكاد يذكر (ص66-72). وتفتقر البلدان العربية إلى منظومات علم وتقانة، علما بأن صمام الأمان الوحيد هو تعزيز اندماج العالم في منظومة علم وتقانة وطنية، ثم عبر هذه المنظومات إلى أسرة العلم الدولية للمشاركة في المعرفة الكوكبية (ص102).
ويقول د. إبراهيم قويدر مدير عام منظمة العمل العربية في حوار معه على صفحة الأهرام 12 / 11 / 2002م: «إننا نحتاج لمضاعفة برامج البحث العلمي 770 ضعفا لنصل إلى المستوى المماثل في إسرائيل ...» ويدعو إلى أن نلتفت بعمق إلى مستوى التنمية البشرية؛ لأن النوع البشري وإبداعه أفرادا ومجموعات هو الذي يضع الفارق في التفوق والتقدم؛ حيث إن ترتيب إسرائيل في دليل التنمية البشرية هو 23 بين بلدان العالم، بينما يتراوح ترتيب الدول العربية بين 82 و119.
وينفق العالم أكثر من 500 مليار دولار سنويا على البحوث والتطوير؛ مما يعطي حصادا متسارعا من المعارف العلمية والتطبيقية التي يتعين ترجمتها واستيعابها (161).
وتخصص البلدان الصناعية حوالي 3٪ من إجمالي الناتج الوطني للبحث والتطوير. هذا بينما خصصت الأقطار العربية 750 مليون دولار؛ أي حوالي 0,2٪، وأن ندرة النشاط البحثي العربي تعني أن أساتذة الجامعات تتعرض معارفهم للتقادم بسرعة؛ مما ينعكس على مستوى التعليم، خاصة مع توقف تبادل بعثات الأساتذة. وبينما يبلغ شبه العائد من الإنفاق على البحث الأكاديمي في الولايات المتحدة حوالي ٪30، نجدها حوالي الصفر في الأقطار العربية (ص175، 224).
الإنفاق على البحث والتطوير كنسبة مئوية من إجمالي الناتج الوطني، إحصاء اليونسكو 1995م.
البلد
النسبة
الولايات المتحدة
3٪
إسرائيل
2,2٪
اليابان
2,9٪
فرنسا
2,4٪
ألمانيا
2,4٪
العالم العربي
0,2٪
كوريا (ج)
2٪
ماليزيا
أكثر من 1٪
أزمة المصطلح العلمي
الثورة المعرفية تعني أيضا ثروة لغوية؛ مما يفرض على أي مجتمع ناهض أن يواكب الفيض الدافق من المصطلحات العلمية والتقانية الجديدة. ويقول عبد الحفيظ الهرفام في مقال له - «الحياة» 4 / 10 / 1998م: «التطور الراهن تفجير لثورة لغوية؛ إذ يتعين على كل لغة تنشد البقاء أن تتوافق دلاليا ومفاهيميا وتعبيريا مع المستحدثات. ونحن نشهد من الآن ثورة في مستوى المفاهيم والمصطلحات والمضامين فرضتها ضرورة مواكبة التطور العلمي التقاني.»
وهكذا أصبح لزاما على كل لغة أن تتكيف في دينامية ومرونة مع الجديد من المصطلحات. ويشهد العالم كل عام ميلاد قرابة أربعين ألف مصطلح جديد على الأقل.
وتصدر 200 ألف قضية رياضية جديدة، تجر معها عددا كبيرا من مئات المصطلحات (محمد شفيق، عضو أكاديمية المملكة المغربية).
ولعل أهم الإشكاليات التي اعترضت ولا تزال تعترض نجاح تعريب المواد العلمية، هي عدم توافر المصطلحات العلمية باللغة العربية، وغياب كتابة علمية بلغتنا الوطنية، وندرة الاهتمام بالبحث العلمي في الدول العربية، بالإضافة إلى فوضى وضع المصطلح للمقابل الأجنبي بين عدة مجامع لغوية عربية، علاوة على الجهود الفردية؛ مما يضاعف من تعثر توحيده.
وإدراكا من المسئولين عن الثقافة لهذه المشكلة انعقدت مؤتمرات عدة لتعريب المصطلح. ويمثل المكتب الدائم لتنسيق التعريب الذي أسلفت ذكره، المنسق العربي العام لتوحيد المصطلح العربي؛ إذ يعمل على تتبع جهود العلماء والمجامع اللغوية ونشاط الكتاب والأدباء والمترجمين. ويقوم بتصنيف ذلك تمهيدا لعرضه على مؤتمرات التعريب. وأصدر أكثر من 50 معجما في العلوم المختلفة، هذا غير جهود مجامع اللغة العربية في القاهرة والأردن وغيرها، وجهود الأفراد.
ولكن الملاحظ: أن حجم التعريب دون الكم الهائل من المصطلحات التي تولد جديدة كل عام في العلم والتقانة. ثانيا: تعثر توحيد المصطلح على الصعيد العربي. وثالثا: أن المصطلح العلمي المعرب في مجتمع راكد علميا لن تكتب له الحياة؛ إذ يولد في وضع سكوني فاقد لعنصر التطور الحياتي. وإنما يحيا ويتجدد المصطلح في مجتمع يمثل العلم فيه فعالية نشطة؛ أي يحيا المصطلح من خلال شيوع استعماله في الحياة؛ مما يعني أن نجاح التعريب مرهون بالتطور العلمي التقاني. لذا نرى أن أزمة المصطلح هي أزمة الإنسان/المجتمع العربي الراكد علميا وتقانيا. رابعا: نجاح التعريب يعزز الشعور بالذاتية القومية. ونلحظ كذلك أن نشوء بنوك للمعلومات العلمية التي تتوافر في بلدان المركز، بشكل يتجاوز القدرات العربية الحالية؛ مما يعني ضرورة تطويرها، وإعادة هيكلة البنية الاجتماعية، والتحول إلى مجتمع التصنيع والمعرفة وتطوير التعليم.
الترجمة الآلية
نظرا لأهمية الترجمة وثورة المعلومات تم إعداد وتطوير بنوك المصطلحات الآلية، وتيسر هذه البنوك البحث عن المصطلح وأية معلومات عنه؛ مثل: التاريخ، والمصدر، ودرجة الاعتمادية، وشرح موجز، والمرادفات مع صور ورسوم توضيحية، وأية تعديلات طارئة. لذلك تبذل الدول جهودا مضنية لتطوير بنوك المصطلحات؛ لتكون أداتها لكسر الاحتكار اللغوي، وسرعة متابعة ونقل الجديد.
وتقترن هذه الجهود بجهود تطوير أنظمة ترجمة آلية، وإن لم تصل بعد إلى حد الكمال أو الأمان، إلا في مجالات محدودة. ويبذل العالم العربي جهودا في هذا الصدد، ولكنها مشتتة في عدد من البلدان العربية، وحبذا لو أمكن توحيد هذه الجهود توفيرا للوقت والجهد والمال، ومنعا للازدواجية، وضمانا للسرعة. وتوجد الآن في العالم العربي عدة برامج أو نظم للترجمة هي بنوك مصطلحات، منها: (1)
برنامج المترجم العربي
ATA
للترجمة من الإنجليزية. (2)
العالمية (صخر)، طورت عددا من البرمجيات للترجمة الآلية. (3)
المعهد الإقليمي للعلوم الإعلامية والاتصالات عن بعد في تونس. (4)
البنك الآلي السعودي للمصطلحات. (5)
معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط، الذي أعد بنك المصطلحات (معربي). (6)
بنك المصطلحات التابع لمجمع اللغة العربية الأردني. (7)
أعد مجمع اللغة العربية في القاهرة
CD
بجميع المصطلحات المعربة.
أين المشكلة؟
ليس جديدا ولا غريبا كل ما سبق على السلطات العربية المسئولة عن السياسة والثقافة. وهذا ما تؤكده جهود جامعة الدول العربية لإصلاح الوضع المتدني في مجالات الترجمة، ونقل المعرفة، والبحث العلمي، والتطوير.
هناك مرحلتان للترجمة تحت رعاية الجامعة العربية؛ الأولى: حيث أنشأت الجامعة إدارة ثقافية بناء على المعاهدة المبرمة بين الدول العربية عام 1945م، وتنص المادة السابعة من هذه المعاهدة على: «تنشيط الجهود لترجمة الكتب الأجنبية القديمة والحديثة، وتنظيم تلك الجهود، وتنشيط الإنتاج الفكري في البلاد العربية بمختلف الوسائل». وصدر عن الإدارة عدد من الترجمات التي ترتكز على الإنسانيات.
المرحلة الثانية: عقب توقيع ميثاق الوحدة الثقافية العربية عام 1964م، الذي تضمن الدعوة التي دعت إليها المعاهدة الثقافية السالفة الذكر. وتحولت الإدارة الثقافية عام 1970م إلى «منظمة التربية والثقافة والعلوم»، اقتداء بمنظمة اليونسكو العالمية.
واضطلعت بأعمال منها: (أ)
الدعوة عام 1973م إلى عقد حلقة الترجمة في الوطن العربي. وانعقدت في الكويت في 31 / 12 / 1973م. وبحثت الحلقة «تنسيق حركة الترجمة في البلاد العربية، وإقامة جهاز تنسيق على صعيد العالم العربي يتولى وضع خطة قومية للترجمة بالاشتراك مع الأجهزة الوطنية، وبالتنسيق مع المنظمات الدولية.» (ب)
أنشئت بالفعل وحدة للترجمة عام 1981م، ووضعت هدفا لها: (1)
إقامة مشروع المعهد العالي العربي للترجمة الذي استضافته الجزائر ولم يفتح. وبدأ أخيرا 2004م الإعداد لافتتاحه في الجزائر. (2)
إنتاج الترجمات: وقد أنشئ المركز العربي للتعريب والتأليف والترجمة، واستضافته سوريا، لكنه بدأ العمل منذ 1990م، وإنتاجه محصور في حدود 150 ملزمة سنويا. (3)
نشر الخطة القومية للترجمة. وكانت قد أقرتها المنظمة العربية، ثم أقرها مؤتمر الوزراء المسئولين عن الشئون الثقافية عام 1983م، ونشرت عام 1985م. ولكن توقف المشروع في أواخر 1985م بسبب إلغاء وحدة الترجمة بإدارة الثقافة؛ نتيجة تراخي الدول العربية.
وفي عام 1994م أوصى وزراء الثقافة العرب خلال الدورة التاسعة لمؤتمرهم في بيروت بما يلي: «دعوة المنظمة إلى تحديث الخطة القومية للترجمة ونشرها»، ونشرتها عام 1996م، ولكن المنظمة العربية تشكو حتى الآن من تعثر إجابات الدول العربية وضياعها بين دهاليز مكاتب الموظفين.
وفيما يتعلق بالبحث العلمي والتطور التقاني نشير إلى أحد القرارات الرئيسية لمؤتمر الوزراء العرب المسئولين عن تطبيق العلوم والتقانة في التنمية، والمنعقد في الرباط من 6 إلى 25 آب/أغسطس 1976م، وينص القرار بالإجماع على تأسيس صندوق برأسمال 500 مليون دولار لدعم البحث والتطوير بالوطن العربي. ولكن لاقى الاقتراح الإهمال من الدول العربية بعد ذلك (زحلان).
وفي عام 1983م وضع اتحاد مجالس البحث العلمي العربية سلسلة أوراق بهدف تطوير استراتيجية عمل مشترك في العلم والتقانة. ولم يثمر هذا الجهد شيئا يذكر. وقامت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في أوائل الثمانينيات بجهد آخر، وعهدت إلى إحدى اللجان إعداد استراتيجية عربية للعلوم والتقانة. وقدمت اللجنة تقريرها المعنون «استراتيجية للتطوير العلمي والتقانة في الوطن العربي»، إلى مؤتمر ألكسو عام 1988م، وأقرت اللجنة التقرير. ويقول زحلان: وكان الاستقبال الشديد التواضع الذي لقيته الاستراتيجية المقترحة في النقاشات العامة، وردود الفعل لها، مثالا على حالة السبات الذي تبتلى به الأقطار العربية (ص108-109).
والسؤال: إذا كان المسئولون على وعي بأبعاد الأزمة، فأين تكمن المشكلة، أو معوقات النهوض في مجالات الترجمة، ونقل المعرفة، وتطوير العلم والتقانة؟
المعوقات (أ)
الثقافة الاجتماعية التقليدية السائدة الحاكمة للسلوك، والتي تتجلى في أساليب التنشئة الاجتماعية والتعليمية والإعلامية والسياسية. إنها ثقافة تقتل الفضول المعرفي وحرية البحث، وتئد نزوع مغامرة البحث عن المعرفة والمجهول، أو التمرد المنهجي المعرفي، وتجعل النظر إلى الإبداعات التقانية وكأنها ضرب من المعجزات، وتصرف الأذهان عن منهج فهم العلل والأسباب الواقعية لظواهر الحياة، وترسخ أن العلم النافع غير علم الدنيا، وترى الحياة ابتلاء وليست تحديا وإرادة، وتغرس فضيلة الطاعة والخضوع والتبعية لمركز القوى الأيديولوجي (السلف)، والسياسي (الأب المهيمن)، لا فضيلة التغيير الذي يستلزم البحث عن المعرفة المنهجية. (ب)
نظام اقتصاد الريع الأبوي المنتمي إلى تقاليد عصر ما قبل الصناعة، والقائم على الثقة في الأقارب والأصدقاء، ويتنافى مع طبيعة بنية المنظومات الشبكية، بين مؤسسات اجتماعية فاعلة مستقلة ذاتيا، وشرطها الأهلية والكفاءة. ويتبع نظاما تراتبيا هرميا، حيث الحق والحقيقة هما رأس المجتمع، ومن ثم غلبة السياسة الفوقية على تفاصيل الأنشطة الاجتماعية. ويرى هذا النظام الحداثة حيازة ومحاكاة، وليست إنجازا إبداعيا ذاتيا، وإراديا جمعيا ومنافسة، ويرسخ ثقافة المحافظة على الهيكل الاجتماعي الأبوي، ومن ثم لا يتبنى استراتيجية تطوير بعيد المدى، وأي تغيير رهن الإرادة العلوية. ولا يلتزم سياسة تربط بين العلم والتعليم والتنشئة كمثال، وتشيع فيه روح الاتكالية، ويعزز حالة الانفصال بين الفكر والفعل.
لهذا نلحظ المعوقات التالية على طريق نقل المعرفة والترجمة والتي هي تجليات لهيكل اقتصاد الريع التقليدي المحافظ: (1)
غياب استراتيجية تطوير اجتماعي شاملة تعبئ وتنظم طاقة الشعوب العربية، ويجري بناء الإنسان على هديها، وتكون أساسا لنشاط علمي مجتمعي إبداعي، وإطارا حاكما لأي استراتيجية فرعية لنشاط اجتماعي مثل الترجمة ونقل المعرفة. (2)
النظام التعليمي تقليدي ويعتمد على الاستظهار والحشو، ولا ينمي القدرات العقلية النقدية والإبداعية، ومحوره الحفاظ على الموروث الثقافي باعتباره ثوابت، والطاعة وعدم التمرد. (3)
غياب المنظومات المؤسسية؛ مما أشاع الفردية الأنانية في النشاط، سواء في مجال الترجمة أو العلم، ومن ثم عدم وجود خطة قومية على الصعيد العربي والقطري للترجمة أو للبحث والتطوير؛ فالترجمات فردية عفوية، والبحث العلمي جهد فردي. (4)
التخلف الحضاري والعلمي، ومن مظاهره شيوع الأمية الأبجدية، وأمية تقانة المعلومات، وكذلك الأمية العلمية والثقافية، ومن أهم مظاهرها تدني قيمة العقل والعلم والفكر الحر، وسيادة الدجل والشعوذة؛ مما يضع سدا أمام دخول مجتمع المعرفة. (5)
أزمة المصطلح العلمي العربي التي هي تعبير عن أزمة البحث العلمي وغياب السياسة العلمية في أي من المجتمعات العربية. (6)
غياب جيل جديد من المترجمين الخبراء، خاصة في الترجمة العلمية. (7)
غياب إحصاءات ببليوجرافية، سواء عن المترجمات أو المترجمين والعلماء، وكأننا مجتمع بدون ذاكرة. (8)
الكتاب العلمي الأجنبي غير ميسور في المجتمعات العربية، إلا لمن يحصل عليه بجهد فردي، سواء للاطلاع أو للترجمة، وكأن المثقف العربي معزول عن النشاط الفكري والعلمي في الخارج، إلا ما تعوضه به الآن شبكة الإنترنت. ولم تعد المكتبات العامة تفيد في هذا الصدد.
لهذا نرى أن نشاط الترجمة موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة، إنتاجا وإبداعا واستثمارا، والتي هي بطبيعتها خلق متجدد ويتجاوز الواقع. ونرى أن الأزمة هي أزمة كتاب وقارئ وبنية اجتماعية صانعة لإنسان عربي تقليدي؛ لذلك فإن التطور الحضاري الشامل، ودخول عصر الصناعة المعلوماتية بكل ما يقتضيه من تحولات هيكلية، هو ضمان البقاء والازدهار.
المراجع (1)
أنطوان زحلان: «العرب وتحديات العلم والتقانة»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999م. (2)
الخطة القومية للترجمة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1996م. (3)
دراسات عن واقع الترجمة بالوطن العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1987م. (4)
د. محمود عبد الفضيل، العرب والتجربة الآسيوية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002م. (5)
د. صفاء محمود عبد العال، التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل، الدار المصرية اللبنانية، 2002م. (6)
شوقي جلال، الترجمة في العالم العربي، الواقع والتحدي، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، 1999م. (7)
الكتاب السنوي لمنظمة اليونسكو، سنوات عدة. (8)
دليل الكتاب المصري، الهيئة العامة للكتاب، 1968م، 1979م، 1988م، 1990م، 1993م. (9)
د. عبد اللطيف عبيد، دراسة بعنوان: «حالة الترجمة في تونس وعلاقتها بالوضعية اللغوية». (10)
تقرير رسمي عن مركز الترجمة، جامعة الملك سعود ، مرسل من الدكتور محمود إسماعيل صالح (الصيني). (11)
د. فاطمة الجامعي الحبابي، دراسة حال الترجمة في المغرب، 1998م. (12)
د. عبد الرحمن أحمد الحمد، دراسة بعنوان «الدراسة المسحية لجهود الترجمة في دولة الكويت 1998م». (13)
إحصاء الترجمة والتأليف بالمجمع الثقافي، أبوظبي، مرسل بفاكس. (14)
د. محمود إسماعيل صالح (الصيني)، الاتجاهات المعاصرة في حركة الترجمة في العالم، 1998م. (15)
سمير الجلبي، النشاط الترجمي في العراق، دراسة مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م. (16)
د. عبد الله سليمان الفقاري، دراسة بعنوان «حال الترجمة في المملكة العربية السعودية»، 1998م. (17)
Manuel Castell; Information Age, 3 voi. Rlackwell, London, 1996 .
ما الترجمة؟ ولماذا؟
وجود الإنسان/المجتمع وارتقاؤه اجتماعيا ونفسيا وثقافيا وفكريا، بل وبيولوجيا، رهن العمل الاجتماعي العقلاني المجسد للمعرفة. وهذا النشاط الاجتماعي المزاوج بين العمل والمعرفة هو ما يمنح الإنسان/المجتمع أقوى أداة وأكبر إمكانات متاحة للسيطرة على مصيره؛ أي للتحرر، وليكون له الخيار في تقرير مستقبله. ورصيد المعرفة الاجتماعية هنا من مصدرين أولين متداخلين في لحمة واحدة: (أ)
معرفة هي ثمرة العمل أو الإنجاز الاجتماعي. (ب)
معرفة هي ثمرة السعي الاجتماعي النشط بدافع الفضول، لاكتساب خبرات الآخرين في إطار المواكبة والمنافسة.
وبقدر فعالية الإنسان/المجتمع بقدر ما يكون ثراء هذا الرصيد، وغنى الحوار، وبقدر ما يتجلى مرة أخرى في قدرة الإنسان/المجتمع المتعاظمة على النشاط والحركة الهادفة المثمرة الإيجابية في بيئته؛ إذ إن هذا النشاط وثراء الرصيد هما نشاط معلوماتي وثراء معرفي يصبان في فعالية هادفة. وتعطل هذا النشاط يعني انحسارا ونكوصا إلى معارف موروثة مقطوعة الصلة بالحاضر، ترسخ الغربة الاجتماعية والانكفاء على النفس، وفقدان سلاح معايشة العصر، ناهيك عن المواكبة أو المنافسة أو الصراع.
أقصد بهذا أن الحياة المعرفية للإنسان/المجتمع هي أولا نشاط إبداعي، وهي أيضا تفاعل أو ترجمة متصلة نشيطة فيما بين المجتمعات، وأنها هي عماد الحياة المجتمعية الفاعلة؛ ومن ثم تكون الترجمة توسيعا لدائرة الحوار والمعرفة، وبالتالي توسيعا لدائرة الفعالية؛ ومن ثم حرية الإنسان/المجتمع.
الترجمة بهذا المعنى هي حوار حضارات، وهو حوار شامل جميع مجالات المعرفة، علوما إنسانية وطبيعية. والترجمة أداة اكتساب وأداة تعبير عن عزم الإنسان/المجتمع على استيعاب أكبر قدر يعنيه باختياره وإرادته، من حصاد المعارف الإنسانية، التي هي سلاح الإنسان في التطور والمنافسة والارتقاء، والأخذ والعطاء على المستوى الحضاري، تعزيزا للوجود.
وحوار العصر حوار علمي منهجا ولغة وفكرا وإنجازا. وأريد بكلمة الحوار أن أتجاوز كلمة النقل الشائعة كمرادف للترجمة؛ إذ ليست الترجمة المنشودة مجرد نقل من لغة إلى لغة عبارات مسطورة بين دفتي كتاب، لا تخلق تيارا فكريا، ولا تدخل في نسيج رؤية للوجود والحياة، ومن ثم تظل عاطلة من الطاقة الدافعة للحراك الاجتماعي. الحوار هنا هو حوار فكر وأفعال وإنجازات علمية تؤكد وجود الإنسان/المجتمع، وجودا فاعلا ومؤثرا في العلاقات بين المجتمعات التي هي علاقات تنافس قد يتصاعد إلى حد الصراع، وتكون فيه الغلبة للأقدر علميا والأنشط عمليا؛ أي الأقدر على الإنجاز العلمي في شتى مجالات الطبيعة والمجتمع والنفس، والأقدر على إنجاز أكبر قدر من المعلومات الصحيحة، والأسرع كذلك في معالجتها وتوظيفها لأهدافه. والحوار العلمي هنا مجلى للمنافسة وامتلاك واستراق أسباب تقدم الآخر في مضمار المنافسة والتحدي والملاحقة والتجاوز. وأعني بالحوار العلمي ذلك الحوار المرتكز على الجهد النسقي المنطقي المنظم منهجيا، والمتبلور في صورة نظريات هادية، ومن ثم يدور الحوار بلغة حضارة العصر؛ أي بفكرها العلمي ومنهجها العلمي في التفكير والبحث، وبعلومها الأساسية ذات السيادة. وحوار اجتماعي على هذا المستوى لا يتوافر إلا بين أطراف يسهمون جميعا بنصيب في النشاط الاجتماعي العلمي، وإبداع المنهج والنظريات.
وهكذا تغدو الترجمة - كنشاط اجتماعي - أداة المجتمع للتفاعل مع الجديد في العلوم والفنون والإنسانيات، وتمثل عاملا أساسيا ضمن مجموعة عوامل متكاملة للتقدم الحضاري. وباتت اليوم أكثر لزوما مع السرعة المذهلة في مظاهر التقدم العلمي والتقني على المستوى العالمي. وتصبح الترجمة بصورتها هذه تعبيرا مكثفا عن المجتمع في تحولاته الإنسانية الشاملة، وعلى المستويات كافة. ومن هنا وفي ضوء عرضنا التالي لواقع الترجمة في العالم العربي، أرى الحديث عن الترجمة إنما هو دعوة لإعادة تكوين البنية الذهنية للإنسان العربي، تكوينا حضاريا من حيث المحتوى وآلية الاستجابة؛ فالإنسان العربي بوضعه وبحالة بنيته الذهنية وآلية ردود أفعاله، غير مؤهل للتعامل مع التحديات الحضارية. وإن الحفاظ على البقاء هو تحد حضاري شامل لكل أنشطة وعلاقات حياتنا الاجتماعية التقليدية، وإن القدرة على مواجهة إسرائيل أو غيرها هي قدرة على مواجهة حضارية وليست عقائدية.
والصراع الحضاري ينطوي دائما على صراع ثقافي، بمعنى الثقافة الأعم كإطار معرفي قيمي حاكم للسلوك الاجتماعي. والأساس العميق لهذا الصراع، كما يقول توينبي، هو آلية التحدي والاستجابة، وهي آلية مستمرة استمرار المجتمعات، ومشروطة بظروف وملابسات التنشئة والنشاط الاجتماعيين. وها هو ذا التحدي ماثل بين ظهرانينا، بل وفي داخل أراضينا من واقع التخلف، واقع مادي يحاصرنا ويؤزمنا. والسؤال عن الاستجابة وعن المستجيب فكرا وتأهيلا.
الفجوة بيننا وبين الآخر المتقدم فجوة معرفية، أو معلومات منتجة وموظفة اجتماعيا، بحيث نعيها ونستوعبها ونمارسها ونسهم في إبداعها. التخلف الذي نعانيه قبل أن يكون اقتصاديا هو تخلف ثقافي معرفي؛ لأنه تخلف عن حضارة عالمية تمثل فيها المعرفة العلمية القوة المحركة والدافعة. المعرفة العلمية منهجا للتفكير، ولغة في التعبير، ومبحثا للنشاط الاجتماعي، وإطارا للسلوك والتنظيم، وأصبح اللهاث وراء المعرفة - إبداعا وترجمة - سمة العصر حتى بين أكثر البلدان تقدما. لقد أصبحت الترجمة ممارسة وآلية يومية في الدول المتقدمة لنقل إنجازات الآخرين إلى لغة العلماء والمتخصصين والممارسين من أبنائها. وها هي الولايات المتحدة الأمريكية لا تترجم فقط البحوث والدراسات المنشورة بلغات أخرى فور صدورها، بل تترجم أيضا تلك التي نشرت منذ قرون. وسبق أن طلبت بالفعل من مركز الأهرام للترجمة والنشر ترجمة كتاب عن الطب في مصر الفرعونية، وكتاب آخر عن الطب في الدول الإسلامية. معنى هذا أن الترجمة أداة الأمة على صعيد المنافسة الحضارية لتكون سباقة في العصر، وأيضا مرجعا للثقافة العالمية تنهل منها الأمم الأخرى. وهذا عين ما فعلته أوروبا إبان نهضتها حين ترجمت دراسات العلماء العرب والمسلمين، وحين استعادت ذخائر الإغريق عبر الترجمات العربية لها.
ونحن في بلدان العالم العربي لن نستطيع أن نعيد تأسيس أنفسنا انطلاقا من معطيات ذاتية، واعتمادا على تراث علمي ثقافي موروث مضى زمانه، وبعيدا عن التواصل الحر مع الثقافات العالمية وآلية الإنجاز العلمي الحضاري العصري؛ انفتاح على العالم، وانفتاح عقلاني نقدي على تاريخنا الحضاري، بكل تنوعاته وتناقضاته، منذ فجر الوعي الإنساني. واستيعاب أو تمثل منهج ولغة التفكير العلمي والإنجاز. ومن شروط التفكير العلمي أن نملك غذاء تاريخنا وواقعنا، والواقع الحضاري للآخر، عقلا علميا ناقدا يشكل أساسا لرؤية مستقبلية واستراتيجية تنموية شاملة لجميع أنشطة وعلاقات المجتمع عند مستوى العصر، وهذه الاستراتيجية التنموية هي جهد قائم على الأخذ والعطاء، أو لنقل: جناحاها؛ دراسة إبداعية جذورها نشاط اجتماعي إنتاجي، وترجمة معبرة عن هذا ومتكاملة معه؛ ترجمة تأخذ عن وعي نقدي، وتنتقي وتحفز وتنهض بالمجتمع فكرا ولغة ونشاطا متعدد المناحي، وتسهم في صوغ منظومة معرفية قيمية تقف بالمجتمع ندا وكفئا في ساحة النزال الحضاري، وله استقلاله الحداثي معا.
والهدف أن نبتكر صيغة لنهضتنا تتجلى في علاقاتنا الاجتماعية على نحو جديد، وفي إنجازنا العلمي النظري والتطبيقي على مستوى العصر، وأن يكون منطلقنا وعي علمي بواقعنا وقضاياه والتحديات الماثلة، ووعي علمي بالواقع الإقليمي والعالمي من حولنا، وبكل ما يجري على أرضنا وآفاق المستقبل. ولن يتسنى ابتكار وإنجاز هذه الصيغة إلا بفضل جهد مجتمعي مؤسسي؛ أي قائم على مؤسسات تحظى بحرية الفكر والتعبير، كمناخ عام راسخ حقيقي، وتحظى بحق التواصل العالمي الحر مع المجتمعات الأخرى، التي هي بدورها مجتمعات قائمة على مؤسسات متقدمة. ويترسخ هنا مبدأ حرية انتقال المعلومات، وينهض كل مجتمع من خلال نشاط الترجمة بالحوار؛ أي بالترجمة والتفاعل؛ ولهذا أضحت جهود الترجمة هي جهود مؤسسات ضالعة بدورها المميز في استراتيجية التنمية والمواجهة الشاملة.
إن المجتمع لا يستطيع أن يصوغ مثل هذه الاستراتيجية، ولا أن يصوغ صورة المستقبل، ولا أن يعيد بناء مؤسسته الداخلية لتكون أهلا للمواجهة، إلا إذا جرى تنظيم سياسته العلمية في ضوء الصلات الثقافية الوثيقة بمؤسسات البحث العلمي في البلدان المتقدمة واستيعاب إنجازاتها، شريطة توافر مناخ محلي عام داعم وواع بالعلم قيمة وأداة ومنهجا. ولن يتأتى هذا إلا بفضل سياسات ثقافية واقتصادية وإعلامية وعلمية وتعليمية تحشد الجهود، ويكون الإنسان العام عنصرا إيجابيا حرا ومتحررا من كل أسباب التجهيل والتضليل الإعلامي والأيديولوجي؛ أعني: حين يفكر أبناء المجتمع عبر الحقيقة وتأسيسا على رؤية علمية صحيحة، وصولا إلى هدف قومي يدعم الانتماء، ويشحذ الجهود، وتنتفي معه كل مشاعر الاغتراب، بحيث تكون الأمة فكرا وقيما ووجدانا مؤمنة بالتقدم العلمي، راغبة فيه، حريصة عليه، ومثقفة به، وواعية بكل ما يجري على الساحة العالمية من أمور وثيقة الصلة.
وتمثل الترجمة في إطار هذا التطور مؤشرا على طبيعة واتجاه الحراك الاجتماعي وقوة الدفع، ابتغاء النهوض أو اطراد التقدم، ودالة على الوعي بالذات في إطار المنافسة أو الصراع على الوجود؛ أي: باعتبار الترجمة بعامة والترجمة العلمية خاصة - حسب مقتضيات حضارة العصر - دالة على موقف وهدف اجتماعي واستراتيجي، ودالة على صدق العزم ومصداقية الجهد، قياسا إلى عناصر التحدي. وشهادة التاريخ القديم والحديث والمعاصر أن ازدهار الترجمة واكب - إن لم يسبق - حركات النهوض الاجتماعي، ولازم التقدم المطرد للمجتمعات.
شهادة التاريخ
شهادة التاريخ قديمة قدم المجتمعات في التواصل ونقل الخبرات والمعلومات؛ إذ تشهد الوثائق والتسجيلات والنقوش كيف أن الحضارات القديمة في مصر وبابل والصين ... إلخ، قدمت إنجازات مترجمة إلى اللغات الأخرى ونقلت عنهم. مثال ذلك: مخطوطات نجع حمادي التي تم العثور عليها مصادفة في منطقة نجع حمادي في صعيد مصر عام 1954م، ويرجع تاريخها إلى ما قبل القرن الرابع الميلادي؛ إذ تحتوي على ترجمات إلى اللغة المصرية القبطية لعديد من الدراسات والنصوص، مثل؛ فصول من جمهورية أفلاطون، ونصوص زرادشتية، بل ونصوص فلسفية يونانية قديمة كانت مفقودة. وهناك شهادة أواخر العصر الأموي في عهد خالد بن يزيد الذي كرس حياته لدراسة علوم الإغريق، وأمر بترجمة مؤلفات الكيمياء والطب، ثم شهادة العصر العباسي، وقد تنوعت مصادر الترجمة من اللغات السريانية واليونانية والفارسية والهندية؛ مما ساعد على النهوض باللغة العربية، وأضحت لغة جميع الشعوب من بغداد إلى قرطبة، بل ولغة العلم شأن اللاتينية بعد ذلك في أوروبا. وهكذا تفاعلت الدولة الإسلامية في عز نهضتها تفاعلا إيجابيا مع الحضارات الأخرى المحيطة بها، وإن كانت حضارات آفلة، ولكنه التفاعل الذي أكسبها منعة وقوة ضمنا لها الحياة زمنا. ثم نشاط الترجمة في الأندلس وعقب سقوطها مباشرة؛ إذ تمت ترجمة علوم العرب إلى اللاتينية لتكون أساسا لنهضة أوروبية. ونجد شهادة صدق أخرى في مصر أيام محمد علي، ودور رائد النهضة الثقافية رفاعة الطهطاوي، ثم في مطلع القرن العشرين مع زخم الدعوة إلى الاستقلال والنهضة؛ إذ ازدهرت الترجمة آنذاك في مصر وفي متصرفية لبنان وبيروت.
وشهادة اليابان حين اكتشفت جفاف ينابيع التقليد وقصور الموروث عن مواجهة الجديد، وعقدت العزم على تجاوز هوة التخلف والانضمام إلى ركب التقدم. هنا أدركت وقررت أن العلم هو أداتها للنهوض، شريطة أن تمتلك ناصيته؛ ومن ثم عنيت بتعليم اللغات الغربية في اقتران بنهضة تعليمية ودستورية شاملة لبرامج التعليم وتنظيم المجتمع وصناعة العقل؛ حيث احتلت العلوم مكانة متميزة وسامية. وجعلت اليابان في عصر «الميجي» - أو النهضة - العلم والتعليم ضمن خطتها التنموية الأشمل، وسيلة لاكتساب المهارات والخبرات، واتساع نطاق الحكمة وإنتاج الموهوبين؛ أي جعلت العلم والتعليم أداة لبناء الإنسان القادر على تغيير المجتمع وبناء اليابان المعاصرة تحت شعار: «أمة غنية وجيش قوي». ونشطت حركة البعثات التعليمية والتكنولوجية، كما نشطت حركة الترجمة، ترجمة العلوم والمعارف العلمية النظرية والتطبيقية. وأصابت اليابان آنذاك - ولا تزال - حمى التهام ثقافة وعلوم وتكنولوجيا الغرب، وبذا تفتحت وازدهرت الذاتية القومية اليابانية في صورة حضارية أصيلة، ونهضت اللغة والفكر. وأقيمت في اليابان مع بداية عصر «الميجي» المؤسسة الهولندية، التي اضطلعت بأعباء إنشاء حركة ترجمة واسعة النطاق، وقرأ اليابانيون إنجازات أعلام الفكر والعلم في أوروبا، وعقدت اليابان اتفاقات مع كبرى دور النشر العالمية لإصدار طبعة باللغة اليابانية من إصدارات هذه الدور حال صدورها بلغتها الأصلية. ويقدر عدد العناوين المترجمة في اليابان آنذاك في أوائل القرن العشرين بحوالي ألف وسبعمائة عنوان سنويا، وهذا جهد مهول لا يدانيه إلا جهد اليابان في محو الأمية تماما خلال بضع سنين، والتوسع في إنشاء المؤسسات التعليمية والجامعات، حتى سبقت في هذا المضمار أكثر البلدان الأوروبية تقدما آنذاك.
وكان هذا هو أيضا حال الاتحاد السوفيتي السابق في مستهل نشأته، حين عقد العزم على النهوض من وهدة التخلف وقبول التحدي؛ فقد أنشأ لينين - ضمن استراتيجية شاملة - جهازا للترجمة ضم أكثر من مائة ألف مترجم لنقل علوم الغرب إلى اللغة الروسية، وكان يشرف بنفسه على هذا الجهاز الذي حقق المعجزة بأن أصبح الاتحاد السوفييتي السابق موطنا للإنجاز العلمي، وتطورت اللغة الروسية لتكون لغة العصر والعلم. وكان الاتحاد السوفيتي قبل انهياره يضم أكثر من مليوني مترجم عن جميع لغات العالم. وما كان لهذا كله أن يتحقق لولا تطوير جذري عصري للتعليم، ولولا اقترانه بنهضة علمية ودعم المؤسسات العلمية، ولولا حشد جهود الترجمة والمترجمين في وضع مؤسسي مخطط ومنهجي؛ ليكون نشاط الترجمة استجابة لحاجة مجتمعية.
وهذا هو حال إسرائيل، التي ظهرت إلى الوجود كمجتمع ودولة، بينما اللغة العبرية شبه ميتة، وإذا بها تصبح لغة علم، وأضحت إسرائيل قوة علمية وتكنولوجية، أو أصبح العلم قوة داعمة وأداة حماية تتحدى به كل من حولها. وعلى الرغم من أن نصف سكانها مهاجرون يجيدون لغاتهم الأصلية، فإننا نجد حركة الترجمة نشطة للغاية. وهذا ما سوف نعرض له من خلال الدراسة والإحصائية المقارنة.
واقع العالم العربي
الترجمة في التاريخ العربي موقف ثقافي اجتماعي من المعرفة إنتاجا وإبداعا وتحصيلا وتوظيفا. والملاحظ أنه على الرغم من كل الزهو والتباهي بعصر الترجمة في الدولة العباسية، على قصره الشديد بل وهامشيته، وكذا حقبة الترجمة في العصر الحديث التي بدأت في مصر مع مطلع القرن التاسع عشر، فإن الترجمة كنشاط أو دور اجتماعي هادف لا تزال إشكالية؛ أي قضية خلافية يتصارع بشأنها رأيان. فالترجمة بمعنى حق الأمة العربية في أن تكثف سعيها لكي تنهل بحرية من معارف الآخرين ولا تقنع بما لديها، وكله موروث وليس بالجديد؛ يراها البعض غاية مرذولة وهدفا خطرا عند الكثيرين، بينما يراها القليلون فرضا واجبا وضرورة، وهؤلاء هم دعاة التحديث الاجتماعي. ترى هذه القلة أن الترجمة شرط النهضة، بينما يرى الأكثرون من أهل التقليد، أن العلم هو العلم الذي ينفع في الآخرة. هكذا كان السلف، في زعمهم، ومن ثم فإن الترجمة على إطلاقها هي عندهم عامل هدم وتغريب وفيروس سرطاني يتعين التحصين ضده. أما كيف؟ فذلك بأن نحتمي وراء أصالتنا؛ أي ثقافة التقليد، كأن الأصالة كينونة اكتملت مع الأقدمين، صاغها السلف، ومستقلة عنا نحن التابعين. ومع هذا يتحدثون عن نهضة وصحوة، بدون علوم الآخرين؛ حفاظا على الذاتية التي هي ذاتية دينية سلفية، وكأن النهضة شرطها سد السبل ضد هذا الفيروس الوافد اللعين، وفرض حجاب على الفكر دون أسباب الغواية والتضليل التي هي علوم الآخرين. وتتضخم عقدة التمحور حول الذات وكأن ما قاله الأقدمون هو القول الفصل المبين، ولا حاجة إلى مزيد. وهكذا يصدر الحكم إطلاقا دون بيان أو تمييز (انظر أنور الجندي، حركة الترجمة، دار الاعتصام 1979م). ونجد في المقابل من يرى فتح الباب على مصراعيه دون استراتيجية تنموية شاملة توجه خطأنا وتستهدف الاندماج كعناصر مساهمة بفعالية وكثافة في إبداع وإنجاز علوم العصر. وهنا يكون الهدف تجارة للاستهلاك لا دعامة للبناء.
وجدير بنا الإشارة هنا إلى الفارق بين الترجمة والتعريب، حيث يعني التعريب، الذي يدور بشأنه الحديث كثيفا وملحا في بلدان المغرب العربي، الدعوة إلى استمرارية اللغة العربية لغة الأم في الثقافة والحياة تأكيدا للأصالة. نجد هذا واضحا في البلدان التي خضعت للاستعمار الفرنسي الذي اتبع نهجا محددا هو الاستيعاب؛ أي استيعاب مستعمراته وكأنها أجزاء من فرنسا بحيث تفقد هويتها ولغتها القومية. ونجد في المغرب العربي من يدعو إلى الانفتاح على الثقافة العالمية بلغة أجنبية (الفرنسية)، ومن ثم لا داعي للترجمة. ويرى البعض الآخر عدم الانفتاح والاقتصار على العربية. وهنا نجد المثقفين البرجوازيين فكرا وانتماء يرون أن لا حاجة إلى الترجمة، وهنا موقف يدعم التمييز النخبوي ثقافيا، ويحول دون مقرطة الثقافة التي هي شرط للتحديث الاجتماعي.
والسؤال الأول عندي ونحن نجري دراسة استقصائية تحليلية لحالة الترجمة في بلدان العالم العربي: ما نصيبنا من الفكر العلمي أخذا وعطاء، ولن أقول: التفكير العلمي المنهجي، وإن كان كل منهما شرطا أو وجها للآخر؟ وما نصيبنا من الفكر العلمي العالمي ودوره الفاعل في حياتنا (أعني الترجمة العلمية)، وليس نصيبنا من الإنجازات التكنولوجية، وهي أيضا وجه مكمل ومتكامل مع إبداع الفكر العلمي، وقنعنا باستيرادها سلعا استهلاكية؟ وكيف يجري اختيار هذا النصيب الذي نحصل عليه شذرات - لا نسقا - بعدد الأفراد الذين حظوا بالاطلاع عليه؟ وهل يمثل الفكر العلمي المترجم ركائز العلوم الأساسية البحتة والتطبيقية، ويجسد عندنا دعامة أساسية في بنية تنموية استراتيجية ورؤية مستقبلية لمجتمعاتنا العربية؟
ليست الترجمة كما قلنا نقل معارف فحسب؛ بل تواصل حر بين الحضارات. ولا يكون هذا التواصل مثمرا إلا حين تفرقنا روح المغامرة الإنسانية التي يزكيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع بإرادته! تغيير واقعنا الثقافي والبناء الاجتماعي بسبب حاجتنا الملحة إلى ذلك؛ وبذا نكون بنائين للحضارة عن وعي وإرادة وعقلانية. إننا قد ننقل نصوص النظريات أو المصطلحات، ولكن يظل حديثنا بها رطانا؛ لأننا لا نستطيع أن ننقل الرأس المبدع ولا حياة وتاريخ النشاط الإنتاجي الخالق له. وقد نستورد نظريات ومناهج التعليم، ولكننا لا نستطيع أن نستورد الشغف بالعلم والنهم المعرفي؛ أي روح التعليم ذاته.
والسؤال: ما هو واقع الترجمة بعامة، والترجمة العلمية بخاصة في عالمنا العربي؟
نبدأ الإجابة بنبذة سريعة عن الترجمة إلى العربية في العصر الحديث:
يرجع تاريخ الترجمة في العالم العربي خلال العصر الحديث أو مطلع القرن التاسع عشر؛ أي بينما كانت لا تزال المجتمعات العربية واقعة تحت نير الحكم التركي ، الذي حاول فرض سياسة التتريك وجعل اللغة التركية هي اللغة السائدة في الثقافة والحديث وفي الدواوين. وبرز هذا الاتجاه بوضوح في بلدان الساحل الشرقي للمتوسط.
يبرز هنا مركزان للترجمة؛ متصرفية أو جبل لبنان أثناء الحكم العثماني. وجاءت ولادة الترجمة هنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بحركة التبشير، وفتح المدارس العربية لمواجهة سياسة التتريك، ومن ثم إحياء أو الحفاظ على اللغة العربية. وتحول لبنان إلى أحد أبرز مراكز الحوار العربي الأوروبي. وأعلنت الجماعات التبشيرية التي توافدت على لبنان منذ القرن ال 18 أن رسالتها هي التنوير وإنشاء المدارس وتشجيع التدريس باللغة العربية. وكان واضحا أن الهدف هنا هدف أوروبي ضمن الصراع بين سيطرة تركية متهاوية وبين قوى أوروبية استعمارية صاعدة، ورأت سبيلها فصل المنطقة ثقافيا عن تركيا وتعزيز اللغة العربية أداة للثقافة. ولكن حرى بنا أن نشير إلى أن جماعات المبشرين لم يكونوا هم طليعة التنوير الحداثي في أوروبا العلمانية العقلانية، بل ارتبط معظمهم بالقوى الاستعمارية الساعية للسيطرة على البلدان العربية.
وقدمت لبنان بعد ذلك من خلال الجامعة الأمريكية في مطلع القرن العشرين أعلاما في الفكر العربي من أمثال: بطرس البستاني الذي أصدر دائرة معارف البستاني، وأمين المعلوف الذي أصدر معجم الحيوان والمعجم الفلكي ومعجم النبات، وكذلك فارس نمر، ويعقوب صروف، وقد أصدرا مجلة المقتطف التي تضمنت الكثير من المقالات والدراسات المترجمة.
ولكن حركة الترجمة بمعناها الحقيقي كتيار اجتماعي نشط في مجال ترجمة علوم الغرب بغية تحديث المجتمع، قد بدأت في مصر منذ أن تولى محمد علي السلطة، ورأى أن سبيله للاستقلال بمصر تحديث جيشها ضمانا لمواجهة السلطان التركي. وعني محمد علي بإرسال البعوث إلى أوروبا لتلقي العلم ونقل العلوم إلى العربية. ويعتبر الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بحق إمام التنوير والعلمانية؛ إذ جعل الترجمة مؤسسة اجتماعية تعمل على تنفيذ مشروع قومي اجتماعي لتحقيق نهضة في العلوم والصناعات. ويعبر تاريخ الترجمة في مصر عن حالة المد أو الانحسار للحياة الثقافية المجتمع المصري، بل للمجتمعات العربية في سعيها من أجل الاستقلال والاندماج في حضارة العصر. وقد ساهمت الترجمة من بداية تاريخها في بلورة الاتجاهات الأساسية لحركة النهضة. وساعد على هذا ترجمة تيارات الفكر ومناهج البحث؛ مما ساعد على علمية التوجه ومناقشة الفكر الاجتماعي، ورسم خطوات النهضة والارتقاء بالحوار، والاطلاع على إنجازات العلوم ومناهج بحثها. وانعكس هذا كله على صفوة المثقفين وعلى حركة التثقيف العام للجميع.
بدأ تاريخ الترجمة في العصر الحديث للعالم العربي انطلاقا من هذين المركزين؛ مصر ولبنان، مع اختلاف الحوافز والدوافع والمسار والفعالية الاجتماعية في كل منهما. وتعثر نشاط الترجمة أو انحسر بعدما أصابت النهضة انتكاسة؛ بسبب الدور الاستعماري الأوروبي والنظم الاستبدادية الأوتوقراطية من الداخل. ولكنها لم تنعدم وإن تغير مضمونها ومدى تشابكها في النسيج الاجتماعي. وإذا حاولنا أن نجري دراسة وثائقية تحليلية لنشاط الترجمة كما وكيفا في البلدان العربية خلال الحقبة الحديثة والراهنة، سنجد أن ذلك يكاد يكون ضربا من المحال.
وهنا ننتقل إلى الوضع العربي الراهن للترجمة في دور الدراسة الاستقصائية على أساس من المسح الميداني. وقد لاحظنا ما يلي:
إن أكثر البلدان العربية حديثة عهد بنشاط إصدار الكتب، ناهيك عن الترجمة، بل إن بعض البلدان لا نجد لها اسما على خريطة صناعة الكتاب تأليفا وترجمة في الإحصاءات الدولية. ويبدو كأن غالبية البلدان العربية تعيش عصر الثقافة الشفاهية.
الترجمة ترف فردي في أغلب الأحيان، وجهد متباين التوجهات، مما يعكس غياب رؤية عربية عامة تعي مقومات العصر ومقتضياته وتحدياته؛ عصر ثورة معلوماتية إنتاجا إبداعيا وتوظيفيا، وعصر إبداع علمي وتكنولوجي، والتزام بمنهج تفكير علمي.
الكتاب المترجم لا يصل إلى أكثر من 5٪ من إجمالي المنشور على المستوى العربي، في ضوء الإحصاء لعدد من دور النشر، وقد يصل إلى صفر بالمائة بالنسبة للكتب العلمية المتعلقة بعلوم العصر الأساسية. والكتاب المترجم على المستوى الحضاري متعدد أو متنافر الاتجاهات والمستويات، لا يكشف عن توجه مجتمعي غالب في اتجاه العصر، وإنما كتاب يربطنا بل ويحصرنا في ماض سلفي على أساس أيديولوجي وقطيعة حضارية مع العصر، أو كتاب يربطنا بالعصر على أساس أن العصر عصر أعاجيب ومعجزات، أو كتاب معرفة استهلاكية، والقليل النادر الذي يصوغ ذهنية علمية إبداعية للإنسان، ويحدثنا عن العصر منهج فكر ونظريات، ويضعنا في إطار معرفي/قيمي لحضارة العصر على نحو يحفزنا إلى البحث، ثم إن هذا الكتاب نراه متعثرا في طريقه إلى القارئ العربي كأنه غريب في بلد غريب. وحظه من توصيل المعرفة لا يتجاوز حدود الدهشة؛ إذ يتلقاه القارئ على نحو ما يتلقى إعجازات الغيب، التي لا تأخذ سمة التحدي الدافع إلى التطبيق.
الترجمة جهد فردي، وعلى الرغم من محدوديتها فإنها تتم بدون تخطيط، وإنما انتقائية فردية على مستوى المترجم أو الناشر.
الملاحظ أن ثمة حاجزا فاصلا كثيفا بين بلدان ومثقفي العالم العربي وبين إصدارات العالم المتقدم دون أي محاولة مجتمعية منظمة لكسر هذا الحاجز أو زيادة درجة شفافيته، وصولا إلى تضييق الهوة المعرفية العلمية بيننا وبين العالم المتقدم؛ الأمر الذي يجعل من الضروري ضرورة مطلقة، سرعة بذل الجهد في هذا الاتجاه من خلال مشروع «مؤسسة عربية للترجمة».
من أخطر الظواهر أن القدر الأكبر من الترجمات الصادرة عن دور النشر هي ترجمات لحساب هيئات ومراكز رسمية؛ أي دبلوماسية أجنبية (مركز الكتاب الأمريكي، البعثات الفرنسية، مؤسسات فولبرايت ... إلخ)، مما يعني غياب الرؤية والمصلحة القومية.
لا توجد إحصاءات ببليوجرافية شاملة ودقيقة عن واقع الترجمة خلال القرنين 19 و20، تكون أساسا للتحليل وتحديد رؤيتنا، وإذا أخذنا مصر كمثال باعتبارها الرائدة والأكثر كثافة من حيث الإنتاج، نجد بين أيدينا «دليل الكتاب المصري»، وهو قوائم الكتب المتاحة لدى الهيئة العامة للكتاب كجهة إحصاء، باعتبار أنها الجهة الرسمية التي يودع لديها الناشرون إصداراتهم.
غياب دليل للمترجمين العرب وتخصصاتهم، ولا يوجد غير دليل واحد أصدرته المنظمة العربية للتربية، وهو قاصر ومبتسر؛ نظرا لأن طريقة تأليفه تمت بتكليف جهات حكومية غير معنية بالنشر (جامعات وهيئات)، والنتيجة أن أدرج أساتذة الجامعات والموظفون أسماءهم. وظل الدليل حبيسا، وكان لا أحد بعدهم منذ عشر سنوات.
غياب جيل جديد من المترجمين الخبراء المجيدين والمتخصصين؛ إذ الملاحظ في السوق نفس الأسماء القديمة للترجمات الجيدة.
الترجمات جلها في العلوم الإنسانية بالمعنى التقليدي (الأدب والسياسة والأيديولوجيا الدينية)، أو كتب للتسلية، أو كتب تعليمية؛ لأنها الأكثر رواجا وربحية لدور النشر. والترجمة العلمية شبه غائبة، وما يوصف بالعلمية هي كتب عن نظم تشغيل الكومبيوتر، وإصلاح الفيديو والثلاجة ... إلخ.
إحصاءات مصرية
إذا حاولنا الاسترشاد بحالة مصر تأسيسا على إحصاءات دليل الكتاب المصري، يبين لنا الآتي:
الثبت الببليوجرافي في الأعمال المترجمة في مصر فيما بين 1956-1967م الصادر عن هيئة الكتاب، ويحوي كما تقول المقدمة: «الجديد لما ترجم في بلدنا خلال سنوات 1956-1967م»؛ أي على مدى إحدى عشرة سنة نلحظ الآتي:
جملة العناوين المترجمة 4261 عنوانا؛ أي بمتوسط 400 عنوان في السنة من بينها:
274 عنوانا (أي أقل من 6٪، وحوالي 37 عنوانا في السنة)، رياضيات وعلوم بحتة.
185 عنوانا (أي أقل من 5٪، وحوالي 18 عنوانا في السنة)، علوم تطبيقية، طب وزراعة وصناعة وتكنولوجيا.
3802 (أكثر من 80٪، وحوالي 380 عنوانا في السنة)، إنسانيات غالبيتها أدب، وديانات، وتاريخ وتراجم.
دليل الكتاب المصري لعام 1979م
جملة الإصدارات في جميع التخصصات مؤلفة ومترجمة 15427 عنوانا.
ومن بينها علوم بحتة وتطبيقية مؤلفة ومترجمة 649 عنوانا (حوالي 5٪).
إصدارات العلوم المترجمة 145.
مع ملاحظة أن الإحصاء هنا شامل الإصدارات الموجودة في السوق منذ الخمسينيات، بمعنى أن عدد الإصدارات ليس إصدارات 1979م، بل أكثر من عشرين عاما، ولكنه لا يزال متاحا.
ومن بين هذه القائمة 3393 ديانات؛ أي حوالي 25٪.
ومن بينها 20 عنوانا مترجما.
و3267 في العلوم الاجتماعية منها 286 مترجما.
دليل الكتاب المصري عام 1983م (الحصر هنا متداخل مع الدليل السابق.)
594 عنوانا في العلوم البحتة، مؤلفا ومترجما (بأقل من 2,5٪).
من بينها 79 عنوانا مترجما.
1826 عنوانا في العلوم التطبيقية، مؤلفا ومترجما.
19000 عنوان في الإنسانيات مؤلفا ومترجما.
ومن بينها 3807 ديانات (280 مسيحيا - 3527 إسلاميا).
864 فلسفة.
6642 في العلوم الاجتماعية.
3996 في الآداب.
2600 في التاريخ والتراجم ... إلخ.
دليل الكتاب المصري عام 1990م
يضم أكثر من 6200 عنوان مؤلف ومترجم في جميع التخصصات (هي إصدارات سنوية سابقة).
350 عنوانا مؤلفا ومترجما في العلوم البحتة والعلوم التطبيقية.
كمثال: الطب النبوي، إصلاح التليفزيون، العلاج بالأرواح، الطب الروحاني، الجبن الدمياطي وصناعته، الرضا لمن يرضى.
24 عنوانا كتب علمية مترجمة.
دليل الكتاب المصري عام 1993م
ضم أكثر من 3500 عنوان مؤلف ومترجم (لعدة سنوات) من بينها 200 عنوان و25 عنوانا في مجال العلوم الرياضية البحتة والتطبيقية. ونلاحظ على ما سبق:
ضآلة عدد العناوين المترجمة إجمالا، وهو ما سوف يتضح لنا من خلال الدراسة المقارنة، وهو ما أكدته لنا عملية المسح الميداني لنشاط الترجمة في البلدان العربية. والترجمة العلمية هزيلة جدا، بل هي خارج الإطار الحضاري، وبعيدة عن ترجمة أساسيات الفكر العلمي الذي يضعنا على عتبة العصر، ويدفع حركة التقدم، ويصوغ نظرة شاملة إلى الحياة؛ الإنسان والمجتمع والكون، ويرسخ أسس العقل النقدي والتفكير العلمي كتكوين ذاتي قادر على مواجهة واقع متغير في استجابة ملائمة للتحديات. وأكثر من هذا أن الإنسانيات التي يتغذى عليها العقل العربي ليست تطبيقا للمنهج العلمي في التفكير والتحليل، لتسهم في صوغ إنسان قادر على تحقيق ذاته والتلاؤم الحضاري؛ أي قادر على النمو والتقدم على مستوى حضارة العصر. وإذا ما استعرضنا الإصدارات المؤلفة والمترجمة منذ الأربعينيات، ومشروع الألف كتاب الأول حتى اليوم، نجد انحسارا واضحا في نوع وكم الكتب ذات التوجه العلمي الحضاري، من حيث النسبة العامة. وتكفي هنا الإشارة إلى تحقيق نشرته صحيفة الأهرام (ملحق 19 / 5 / 1995م) يعلن أن آخر إحصائية أصدرتها دار الكتب تشير إلى أنه قد صدر خلال العام الماضي وحده أكثر من ثلاثة آلاف كتاب تحمل عناوين الدجل والشعوذة، يتم تداولها الآن مع الباعة وفي المكتبات، وتتناول ما يسمونه العلاج الروحي. هذا في الوقت الذي لم يصدر فيه كتاب واحد يواجه هذا السيل من كتب الدجل والشعوذة التي تخرب عقل القارئ المصري. وإذا كنت قد اكتفيت الآن بعرض حال المنتج المصري عددا ونوعا؛ فذلك لأن العينة المصرية هي الغالبة، قياسا إلى حجم المنتج العربي بعامة؛ إذ تكاد تكون مصر قبل ثلاثة عقود هي البلد الوحيد - مع لبنان - المنتج للترجمة.
والملاحظ عموما أن الترجمة في عالمنا العربي أضحت نوعا من الترف الذهني في الغالب الأعم للاستهلاك، أو أنها مجرد جهد من أجل نقل معلومات فحسب، وتخضع لمبدأ الربح التجاري. إنها تفتقر إلى البرامج على المستويين القطري والقومي، ومن ثم لا علاقة لها بمحاولة منهجية لدراسة الواقع بلغة التطور، أو التطوير الاقتصادي الاجتماعي الثقافي. إنها لا تخضع للتخطيط، بل هي نشاط اجتماعي في صلب حراك مجتمعي هادف يساهم في الانتقال بالمجتمع من حال إلى حال أخرى؛ أي من طور التخلف إلى طور النهوض حسب رؤية مستقبلية مدروسة مسبقا، وتصوغ الوعي الاجتماعي. ولكي يكون للترجمة دورها لا بد وأن تكون نشاطا اجتماعيا مؤسسيا يمثل عنصرا متكاملا في استراتيجية ثقافية هي بدورها وجه لاستراتيجيات تنموية شاملة، وبهذا الشكل تشكل تيارا سائدا، وجناحا آخر للإبداع الداخلي، بحيث يعبران معا عن التوجه الفكري والتنموي للمجتمع في حركته المستقبلية، ومن ثم تكون الكتب المترجمة دالة وشاهدا على المضمون الفكري للتطور الاجتماعي والبناء الحضاري للذاتية القومية في اتصالها التاريخي وتواصلها الحضاري الإنساني.
معوقات الترجمة في العالم العربي
أزمة الترجمة هي أزمة مجتمع. وإذا كان لنا أن نحدد طبيعة المعوقات في ضوء دراستنا الميدانية فإننا نجملها فيما يلي: (1)
فقدان خطة أو استراتيجية تنموية شاملة تعبئ طاقة البلد أو البلدان العربية، وتكون أساسا لنشاط علمي مجتمعي إبداعي. وتشكل هذه الاستراتيجية الأساس المجتمعي المادي لحرية الفكر والإنسان، وهذه هي أيضا مشكلة القارئ واللغة والكتاب. (2)
الثقافة والتنمية الفكرية العقلانية العلمية تحتل - إن وجدت - مرتبة ثانية. (3)
التنشئة الاجتماعية التي ترسخ حالة الانحصار الذاتي وتقتل الفضول المعرفي وروح المغامرة والتمرد. (4)
النظام التعليمي الذي يعتمد على الحشو ولا ينمي القدرات العقلية والفضول المعرفي والنهج العلمي النقدي والتحصيل الثقافي، وأيضا عدم الاهتمام باللغات. والقيمة العليا في التعليم هي لاستظهار النص. (5)
الطابع الفردي في اختيار الموضوعات، وكذا على مستوى النشر، فضلا عن أولية اعتبار الربح. (6)
عدم توحد المصطلح العربي. (7)
التخلف الحضاري والعلمي (ومن مظاهره شيوع أمية القراءة والكتابة، ناهيك عن أمية التعامل مع تكنولوجيا المعلومات المعاصرة، واستيعاب دلالة ومحتوى هذه المعلومات ومواكبتها، وسيادة نزوع هروبي باسم القناعة بعلوم السلف أو أسلمة العلوم). (8)
عدم توافر القواميس العلمية، وهذا طبيعي؛ نظرا لعدم حاجة النشاط الاجتماعي السائد والفكر المتخلف لمثل هذه القواميس. (9)
الافتقار إلى تنظيم مؤسسي للمترجمين يكفل حقوقهم، ويرتفع بمستوى الأداء والعطاء. (10)
الأمية العلمية والثقافية، وأهم مظاهرها تدهور قيمة العلم اجتماعيا، وشيوع الخرافة والدجل والشعوذة. (11)
الافتقار إلى التمويل في بعض البلدان، وإن كانت جميعها تعطي أولوية لأمور أخرى مظهرية ولا تعتبر الثقافة، ومن بينها الترجمة، استثمارا إنتاجيا اجتماعيا بعيد المدى. (12)
الجامعات ومراكز البحث ليست على مستوى المنافسة العالمية، وهو ما يتمثل في إنتاجها وإسهاماتها في المؤتمرات العلمية العالمية. (13)
لعل من أهم معوقات الترجمة العلمية أو الانصراف عنها، أن الترجمة العربية لا تزال تفتقر إلى البرامج على المستويين القطري والقومي؛ أعني كفالة وحدة اللغة والفكر قوميا. والقدرة على المساهمة الحضارية عالميا، انطلاقا من تأكيد الذاتية القومية. وحري بنا أن نطرح السؤال التالي: كيف نساهم في بناء الذات دون دراسة الواقع بلغة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بمنهج علمي، ودون رؤية مستقبلية، ودون قارئ ناضج علميا أو يفكر علميا ونهج للمعرفة تواق للاستكشاف والبحث؟ من هنا نجد ضرورة إنشاء مؤسسة عربية للترجمة، وفي ضوء هذا يتحدد دورها القومي.
وفي ضوء ما سبق يبين أن ازدهار حركة الترجمة رهن وضع استراتيجية تستهدف ازدهار المجتمع والإنسان ماديا وفكريا، وأن تعبر عن زخم أو قوة دفع وحراك في المجتمع. إننا ونحن نفكر في الترجمة يجب أن نفكر في القارئ - الذي هو المجتمع - ومشكلاته وأثر بيئته عليه سلبا وإيجابا.
ونشير هنا - على سبيل المقارنة والتحدي - إلى أن إسرائيل كانت تعي حتى وهي لا تزال مجرد حركة صهيونية، وقبل أن تكون دولة كانت تعي مقتضيات التحدي الحضاري وبناء قاعدة علمية نظرية وتطبيقية تكون ركيزتها وأساسها؛ إذ عنيت بإنشاء الجامعات ومراكز البحوث، وأصبح لديها ضعف ما لدى أفريقيا كلها أو أمريكا اللاتينية كلها من العلماء الذين ينشرون أبحاثهم. كذلك فإن العلماء الإسرائيليين وهم أساتذة جامعات ومعاهد بحوث لا يتركون مؤتمرا علميا ينعقد دون أن يشاركوا فيه بعدد كبير من أوراق البحث. ويحرصون على التواصل عن بعد وعلى الاتصال المباشر بعلماء وجامعات البلدان المتقدمة وتبادل المعلومات. ويحظى أساتذة العلوم الأساسية بأطول الإجازات لمعايشة البحث العلمي والعلماء في الخارج. وهكذا تعبر الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث عن مجتمع يموج بالحركة والنشاط العلميين؛ مما يجعل العلم يحتل مكانة أولى، على عكس الحال في البلدان العربية؛ إذ نرى أن هذا الضرب من النشاط محدود جدا (أنطوان زحلان، العلم والتعليم العالي في إسرائيل، ترجمة محمد صالح العالم، دار الهلال 1970م). (14)
الملاحظ انحسار نشاط الترجمة بعامة في بلدان المغرب؛ نظرا لأن البرجوازية المثقفة تجيد - بحكم النظام التعليمي في ظل الاستعمار الفرنسي - اللغة الفرنسية؛ لذلك نرى هذه الفئة تعرب عن عدم الحاجة إلى الترجمة. ويعيش المجتمع بلغتين؛ مما يفضي إلى شيوع الجهل بالحضارة وعلومها بين من يتحدثون لغتهم الأم فقط، سواء من العرب أم من الأمازيغ (البربر). هذا علاوة على انحسار سوق التوزيع والانصراف عن القراءة العلمية، وهي آفة شائعة في جميع البلدان العربية. (15)
الملاحظ أن كتاب المشرق لا يجسد سبيله إلى المغرب، والعكس صحيح، على الرغم من أن الثقافة أداة لتوحيد الوجدان العربي. وأحد أسباب ذلك الافتقار إلى نظام توزيع وتنسيق شاملا بلدان العالم العربي. وطبيعي أن هذا يؤثر على رواج الكتاب المترجم.
الجامعة العربية والترجمة
عند الحديث عن الترجمة من حيث دورها الثقافي النهضوي وفعاليتها الاجتماعية لا يسعنا أن نغفل دور الجامعة العربية ووعيها بدور الترجمة، وكذا جهودها في سبيل إصلاح هذا الوضع المتدني. ولا سبيل إلى إنكار أن ثمة وعيا عربيا بهذا القصور الشديد؛ حيث إن الجامعة العربية هي تجسيد للمسئولين الرسميين في الأقطار العربية، ومن ثم جهودها تعبير عن رغبة أو فكرة جرت مناقشتها وألحت على الأذهان، ولكن سوف تنكشف عادة سائدة في حياتنا، وهي الفصل بين الفكر والفعل.
هناك مرحلتان للترجمة تحت رعاية الجامعة العربية تعكس صورة صادقة للوعي بالوضع الثقافي العربي وحالة الترجمة؛ المرحلة الأولى مع الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية. وقد أنشئت هذه الإدارة في منتصف الأربعينيات بناء على المعاهدة الثقافية المبرمة بين الدول العربية عام 1945م. وتنص المادة السابعة من هذه المعاهدة على «تنشيط الجهود التي تبذل لترجمة عيون الكتب الأجنبية القديمة والحديثة، وتنظيم تلك الجهود، وتنشيط الإنتاج الفكري في البلاد العربية بمختلف الوسائل».
وضمت الإدارة الثقافية عددا من أئمة الفكر العربي المستنير من أمثال طه حسين، وسليمان حزين، وغيرهما. وعنيت الإدارة بموضوع الترجمة، واتجهت إلى ترجمة بعض الأعمال الثقافية والعلمية والأدبية. وصدر عنها عدد قليل من أمهات الكتب العالمية، من بينها على سبيل المثال: «قصة الحضارة» تأليف ويل ديورانت، وكتاب «السلطة والفرد» تأليف برتراند رسل، وكتاب «العلم والموارد في الشرق الأوسط» ... إلخ. وكانت تعتزم - بناء على اقتراح طه حسين - ترجمة روائع الأدب العالمي الخالدة، وأن تبدأ بأعمال شكسبير، ولكنها توقفت.
المرحلة الثانية تأتي عقب توقيع ميثاق الوحدة الثقافية العربية الذي أقره مجلس جامعة الدول العربية عام 1964م، وتضمن الدعوة إلى ما دعت إليه المعاهدة الثقافية المبرمة عام 1945م؛ أي الدعوة إلى تنشيط الترجمة والإنتاج الفكري. وأضاف الميثاق الدعوة إلى توحيد المصطلحات العلمية والحضارية، ومساعدة حركة التعريب. وتحولت الإدارة الثقافية عام 1970م إلى «منظمة التربية والثقافة والعلوم»، اقتداء بمنظمة اليونسكو العالمية، وتم وضع دستور لها. ونذكر من بين الأعمال التي اضطلعت بها: (1)
الدعوة في عام 1973م إلى عقد حلقة الترجمة في الوطن العربي، وانعقدت في الكويت في 31 / 12 / 1973م. وبحثت الحلقة في «تنسيق حركة الترجمة في البلاد العربية، وإقامة جهاز تنسيق على صعيد العالم العربي يتولى وضع خطة قومية للترجمة بالاشتراك مع الأجهزة الوطنية، وبالتنسيق مع المنظمات الدولية والمؤسسات العلمية الأجنبية المعنية بالثقافة العربية». (2)
أنشئت بالفعل وحدة للترجمة عام 1981م، ووضعت هدفا لها: (أ)
إقامة مشروع المعهد العالي العربي للترجمة، وقد استضافته الجزائر ولم يفتح.
1 (ب)
إنتاج الترجمات. وأنشئ المركز العربي للتعريب والتأليف والترجمة. وقد استضافته سوريا، ولكنه بدأ العمل منذ 1990م. (ج)
التنسيق والتخطيط من أجل:
نشر دراسات عن واقع الترجمة في الوطن العربي.
إصدار دليل المترجمين ومؤسسات الترجمة والنشر، وقد صدر.
نشر الخطة القومية للترجمة، ونشرت عام 1985م. (3)
وفي الفترة من 8 إلى 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1982م، عقدت أمانة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت الندوة الثانية بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والعلوم واتحاد الناشرين العرب، وأصدرت الندوة توصيات من بينها: (أ)
إنشاء مؤسسة عربية للتعريب والترجمة والتأليف والنشر تكمل عمل المؤسسات القائمة. (ب)
تنفيذ الخطة القومية للترجمة التي أقرتها المنطقة العربية عام 1982م، وأقرها من بعدها مؤتمر الوزراء المسئولين عن الشئون الثقافية عام 1983م. (4)
في محاولة من المنظمة لدراسة واقع الترجمة وجمع المعلومات، أرسلت استبانات تتضمن عددا من النقاط والأسئلة، ولكنها تلقت إجابات سبع دول فقط. علاوة على هذا توقف المشروع في أواخر عام 1985م بسبب إلغاء وحدة الترجمة بإدارة الثقافة، ولوحظ أن الجهات المختصة في الدول العربية لم تبذل الجهد اللازم لتنفيذ الخطة. ويكفي الإشارة إلى أن عددا من الدول العربية لم يعبأ بالرد على الاستبانات المرسلة إليها، هذا علاوة على أن الردود التي وصلت تكشف عن وضع مأساوي؛ مثال:
تونس:
تضمنت إجابة تونس أنها أصدرت من 1966م إلى 1981م، أي على مدى 14 سنة 37 كتابا فقط من بينها 8 قصص أطفال. وبعض المترجمات من العربية إلى لغات أجنبية هي ترجمات لخطب الرئيس بورقيبة خلال هذه السنوات.
الجزائر:
أفادت أنها ترجمت خلال الفترة من 1970م إلى 1980م، من وإلى العربية، 24 كتابا فقط.
السودان:
ترجم 18 كتابا من 1960م إلى 1970م، ولم يترجم أي كتاب من 1970م إلى 1980م.
سوريا:
نشطت حركة الترجمة بعد إنشاء وزارة الثقافة والإرشاد القومي مع قيام الجمهورية العربية المتحدة. والجانب الأكبر من الكتب المترجمة مخصص لتلبية حاجات الجامعة وبضعة كتب ثقافية. والغالبية كتب مترجمة من العربية تتضمن الخطب الرسمية وموضوعات حزبية.
ليبيا:
أفادت بأنه أنشئ معهد الإنماء العربي بطرابلس سنة 1975م؛ من أجل تنمية البحوث وترجمتها. أصدر حوالي 15 كتابا معظمها كتب مدرسية، وبعضها من العربية، مثل: «الكتاب الأخضر»، الذي ترجم إلى عدة لغات.
السعودية:
أفادت أن وزارة التعليم لديها شكلت لجنة لاختيار وترجمة المصطلحات العلمية، يشارك فيها أعضاء من مكتب التربية العربي لدول الخليج، وحتى الآن - 1980م - لم يصدر كتاب واحد.
الأردن:
أفاد في تقريره بعنوان: «واقع الترجمة في المملكة الأردنية الهاشمية»، وكتبه د. عيسى الناعوري فقال: «... تزدهر حركة الترجمة حيث توجد المؤسسات الداعية إلى تشجيعها ... وهذا ما لم يتوافر في الأردن، ولا يبدو أنه سيوفر في القريب ...»
ثم يضيف: «والحقيقة أن عدد المترجمين في الأردن قليل جدا، ومن المؤسف أن الكثيرين منهم، حتى بين أساتذة الجامعة، يترجمون بلغة عربية ضعيفة، وبعض المترجمين لا يتقنون اللغة التي يترجمون عنها؛ ولذلك يزداد الشك في قيمة ما يترجم إلى العربية. وهذه مصيبة لا في الأردن وحده، بل في العالم العربي برمته.» وإن كان الوضع قد تغير نسبيا الآن.
ونعود إلى جهود المنظمة العربية للتربية: (5)
أصدرت المنظمة «دليل المترجمين»، ولكنه قاصر؛ لأن الإجابات جاءت على لسان موظفين حكوميين لا علاقة لهم بالعمل الثقافي، أو أساتذة جامعات لا يعملون بالترجمة وإن أجادوا اللغة.
وفي عام 1994م أصدر وزراء الثقافة العرب توصية إثر الدورة التاسعة لمؤتمرهم المنعقد في بيروت 1994م نصت على: «دعوة المنظمة إلى تحديث الخطة القومية للترجمة التي أقرها المجلس التنفيذي في دورته الثلاثين، وكذلك أقرها المؤتمر العام في دورته الرابعة التي عقدت في الجزائر عام 1983م، على أن تقدم للمؤتمر العام في دورته القادمة.»
ولكن المنظمة تشكو حتى الآن من تعثر إجابات الدول العربية وضياعها بين دهاليز مكاتب الموظفين.
وتحاول المنظمة الآن وضع ببليوجرافيا عامة تتضمن جميع الأعمال المترجمة في العالم العربي وأسماء المترجمين ومؤسسات الترجمة والنشر. وأسهمت المنظمة أيضا في صياغة لائحة قانونية لرابطة المترجمين العرب، إذا ما حدث وأقيمت هذه الرابطة. وتحمل مسودات اللائحة العنوان التالي: «مشروع قانون نموذجي بشأن تنظيم مهمة الترجمة»، من إعداد الدكتور محمد حسام لطفي أستاذ القانون المدني. ويتمثل المشروع في خمسة أبواب تتعلق بالموضوعات الآتية: في إنشاء النقابة وأحكام العضوية، النظام المالي للنقابة، إدارة النقابة، التزامات المترجمين وتأديبهم، وصندوق المعاشات والإعانات.
ووضعت مسودة «دستور اتحاد المترجمين العرب»، ويتناول النظام الداخلي والأهداف وأجهزة الاتحاد والأمور المالية والإدارة. (6)
مكتب «تنسيق التعريب» الذي أنشئ عام 1960م تحت اسم «معهد الأبحاث والدراسات للتعريب» في الرباط (المغرب)، ثم أصبح من عام 1970م جهازا من أجهزة المنظمة العربية، ويعنى أساسا بتوحيد المصطلح العربي، وأنتج حوالي 50 معجما في التخصصات المختلفة، ويتبع منهجا خاصا في دراسة المصطلح والاتفاق عليه واعتماده، ولكنه مع هذا منعزل عن النشاط العلمي الاجتماعي.
الترجمة والجهات المنوط بها الترجمة في
العالم العربي
دولة الإمارات العربية المتحدة
عنيت منذ نشأتها بترجمة بعض الوثائق الرسمية للمحاكم والمستندات، وبعض مقتطفات الصحف والمجلات ذات الصلة. وأنشأت مركز الدراسات التاريخية، ويعنى بتجميع وترجمة عدد من الوثائق التاريخية البريطانية عن تاريخ الإمارات .
بدأت منذ 1991م محاولة لإنشاء دار أو قسم للنشر يتبع المجمع الثقافي، وصدرت بعض العناوين لكتب علمية في الإنسانيات.
وبدأ في 1994م نشاط لمركز أنشئ حديثا هو «مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية»، والمركز معني بالترجمة التوثيقية للبحوث والدراسات الاستراتيجية التي تساهم في صناعة القرار، وتتناول الخليج والعالم العربي. ويقع المجمع الثقافي ومركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في إمارة أبوظبي.
البحرين
الترجمة أساسا من العربية إلى الإنجليزية للخطب والموضوعات الرسمية. ولا توجد كتب علمية مترجمة في العلوم الأساسية أو التطبيقية، وإنما هناك محاولات وجهود فردية لترجمات أدبية.
المملكة السعودية
ترجمة وثائق المصالح الحكومية إلى الإنجليزية.
حظر نشر كل ما يخالف العقيدة والخطاب الديني الرسمي.
الترجمة إلى الإنجليزية شريطة الاتساق مع الخطاب الديني الرسمي للسلطة، مثل: كتاب الحلال والحرام للدكتور يوسف القرضاوي، قصص النبيين لأبي الحسن الندوي، وغيرها من الكتب التي يجري إرسالها إلى المسلمين في أمريكا.
الترجمة إلى العربية محدودة جدا، وهي التي تدعم خطاب الدولة الديني والسياسي، أو بعيدة تماما عن شئون العقيدة، وهو نشاط بدأ مؤخرا مثل:
ما أصل الإنسان؟ إجابات العلم والكتب المقدسة.
تأليف موريس بوكال، ترجمة كمال الهلباوي.
شمس العرب تسطع على الغرب، مترجم عن الألمانية.
وأشارت المؤلفة إلى أنها ألفته اعترافا بالوفاء للنظام السعودي.
المنهج النموذجي في علم الحاسبات الآلية.
ندوة الرياضيات المعاصرة.
دراسات في التنصير.
كيف تستخدم الملح في صيد الطيور، ترجمة عزيز ضياء.
تخضع الكتب المترجمة لعملية مراجعة فنية ودينية وسياسية متشددة في شروطها، التي منها: (أ)
تنمية المكتبات العربية والإسلامية وبناء الإنسان على الأسس والقيم العربية والإسلامية الصحيحة من وجهة نظر النظام. (ب)
الكشف عن مكنون التراث العربي الإسلامي المتسق مع خطاب النظام.
لم يرد اسم المملكة العربية السعودية في إحصاءات اليونسكو (الكتاب السنوي) قبل 1984م.
والكتاب السنوي الصادر عام 1992م يشير إلى:
السنة
إجمالي الإصدار
1984م
لا شيء
1985م
20
1986م
13
وتشير آراء شفاهية لبعض الأكاديميين المعنيين بشئون الترجمة داخل الجامعات السعودية إلى أن المملكة العربية السعودية شهدت خلال العقد الأخير قفزة في مجال الترجمة ؛ إذ جاوزت الترجمة لكتب أكاديمية وغيرها الثلاثين كتابا في السنة، هذا علاوة على العناية باستحداث وتطوير وسائل الترجمة الآلية، ولكن الملاحظ أيضا أن المترجمين إلى العربية هم من غير السعوديين.
دولة الكويت (1)
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وتصدر عنه: (أ)
سلسلة كتاب «عالم المعرفة» شهريا، ويتضمن أعمالا مترجمة علمية. (ب)
مجلة «عالم الفكر»، فصلية، تشتمل على مقالات ودراسات مؤلفة ومترجمة. (ج)
سلسلة كتاب «المسرح العالمي»، كانت تصدر عن وزارة الإعلام، وهي الآن تتبع المجلس. (د)
مجلة «الثقافة العالمية»، وتنشر مقالات علمية مترجمة. (2)
مؤسسة الكويت للتقدم العلمي.
يرأسها أمير البلاد، وتساهم فيها غرفة التجارة والصناعة. أنشئت 1976م، تضم ست إدارات إحداها إدارة الترجمة والتأليف والنشر، ومهمتها دعم المكتبة العربية بالمراجع والدراسات والمعاجم والمخطوطات والمجلات، يصدر عنها: (أ)
كاتب وكتاب. (ب)
قواميس علمية متخصصة. (ج)
مجلة التقدم العلمي. (د)
مجلة العلوم (مترجمة عن
Scientific American ). (ه)
تمنح جائزة سنوية لأفضل كتاب مترجم على المستوى العربي. (و)
أمهات الكتب. (3)
لجنة التأليف والتعريب والنشر، جامعة الكويت؛ إصداراتها محدودة جدا وفي حدود احتياجات الجامعة العلمية.
هذا عدا بضع دور نشر قطاع خاص تصدر ترجمات، ويشير الكتاب السنوي لليونسكو - إحصاءات الترجمة - إلى:
السنة
إجمالي الإصدارات
1984م
17
1985م
17
1986م
21 (4)
المركز العربي للوثائق والمطبوعات الصحية «أكمل»: وهو منظمة عربية تتبع مجلس وزراء الصحة العرب، أنشئت عام 1982م ومقرها دولة الكويت، والترجمة في مجال الطب. (5)
معهد الكويت للأبحاث العلمية: ترجمة دراسات وتقارير المعهد. (6)
المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: ترجمة من العربية للتعريف بجهود العلماء المسلمين في الطب. (7)
اللجنة الوطنية الكويتية للتربية والعلوم والثقافة (وزارة التربية): لترجمة بعض إصدارات اليونسكو الحديثة.
لبنان
يوجد أكثر من 170 دار نشر وتوزيع مسجلة.
الترجمة والنشر نشاط للقطاع الخاص، والدولة لا علاقة لها بذلك.
الترجمة العلمية في الصحف اليومية والمجلات الشهرية.
والسيادة لكتب الأدب والسياسة والإنسانيات.
القطاع الخاص يعمد إلى ترجمة المستحدث الذي يغطي تيارات الفكر الحديث، وكل دار حسب توجهها الفكري والأيديولوجي.
مجموع الدراسات المترجمة في لبنان من 1970م إلى 1985م:
396 عنوانا جميعها علوم إنسانية وأدبية.
6 عناوين في العلوم والطب والتداوي بالأعشاب.
بدأ بعد ذلك الاهتمام بترجمة كتب تعليم وتبسيط الحواسب، وسبق أن ذكرنا أن لبنان بدأ نشاط الترجمة منذ أن كان «متصرفية جبل لبنان»، في ظل الهيمنة العثمانية، وبدأ هذا النشاط على أيدي البعثات التبشيرية.
مصر
بدأت الترجمة في عصر محمد علي بريادة الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي منذ 1831م، وقتما عرض رفاعة فكرة إنشاء مدرسة الألسن لتدريس اللغات الفرنسية والتركية والفارسية والإيطالية. وترجم رفاعة وتلاميذه أكثر من 2000 كتاب، وترجم وحده وهو في باريس 12 كتابا. وانصرفت الجهود آنذاك إلى ترجمة كتب العلوم والصناعات (التكنولوجيا) المختلفة دون الأدب والفلسفة والفنون إلا بقدر ضئيل. ومع نشاط حركة الترجمة نشطت حركة المعاجم والموسوعات التي تشكل ركيزة لأي نهضة فكرية ولغوية. نذكر الآتي: (أ)
المعجم العربي الإنجليزي
English Arabic Lexicon
تأليف وليم لين
Lane
بالاشتراك مع الشيخ إبراهيم عبد الغفار الدسوقي، 1863م.
وخبا نشاط الترجمة ليعود إلى الازدهار مع بدايات النهضة المصرية في مطلع القرن العشرين، ونشأت مؤسسات وهيئات عنيت بنشاط الترجمة والتأليف، منها:
دار المعارف للطباعة والنشر: أنشأها نجيب متري 1891م، وقدمت مؤلفات ومترجمات أسهمت في حركة التنوير.
لجنة التأليف والترجمة والنشر: ورأسها أحمد أمين عام 1914م.
لجنة دائرة المعارف الإسلامية: بدأت عام 1933م، وترجمت الموسوعة التي أصدرها أئمة المستشرقين في العالم باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية تحت رعاية الاتحاد الأوروبي للمجامع العلمية. وقام بالترجمة عدد من شباب الخريجين هم: محمد ثابت الفندي، أحمد الشنتناوي، عبد الحميد يونس، إبراهيم زكي خورشيد.
لجنة النشر للجامعيين عام 1943م.
لجنة البيان العربي عام 1946م.
دار الهلال: أنشأها جورجي زيدان، وهو من لبنان.
ظهرت مجلات تخصصت في نشر ترجمات من روائع الفكر العالمي وأحدث النظريات العلمية؛ مثل مجلات: المقتطف التي رأس تحريرها المفكر اللبناني فؤاد صروف، مجلتي، الزهور ... إلخ.
مجلات اليونسكو: ديوجين، المجلة الدولية للعلوم الاجتماعية مجلة اليونسكو، ومستقبليات. وجميعها تصدر عن منظمة اليونسكو، وتتم ترجمتها إلى العربية بشكل دوري.
الإدارة الثقافية: أنشأتها وزارة التربية والتعليم، وأشرف عليها طه حسين. وأهم ما صدر عنها مشروع الألف كتاب الأول، الذي بدأ عام 1955م وانتهى عام 1968م، وضم المشروع حوالي 700 عنوان من بينها 78 عنوانا مترجما في العلوم البحتة. وميزة هذا المشروع: (أ)
التخطيط المسبق. (ب)
استهدف مسايرة ركب العلم والحضارة، والمشاركة الإيجابية في تطوير العلم، ومساهمة مصر في عصر الذرة. (ج)
وصولا إلى هذا الغرض عني المشروع بنقل أمهات الكتب من مصادرها الأصيلة.
المجلس الأعلى للثقافة، لجنة الترجمة: وعني المجلس بإصدار عدد من الترجمات والمعاجم المهمة، ثم تعثر نشاطه. وتجدد شبابه مرة أخرى، وأعد مشروعا قوميا للترجمة صدرت منه خلال الأعوام الثلاث الأخيرة أكثر من مائة وعشرين كتابا. ويدعم المشروع صندوق التنمية الثقافية التابع لوزارة الثقافة. وبلغ إجمالي إصداراته المترجمة حتى أكثر من 750 عنوانا.
المجلس القومي للثقافة والفنون والإعلام: يفكر في إنشاء ديوان للترجمة يضم صفوة من المفكرين والعلماء للتخطيط والإشراف.
الألف كتاب الثاني، ويصدر في العام حوالي عشرة عناوين.
هناك عدد من مراكز النشر التابعة لهيئات دبلوماسية أجنبية وتتميز بالنشاط، مثل: (أ)
مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر: أصدرت الكثير من الكتب الأمريكية المترجمة إلى العربية، وأصدرت الموسوعة العربية الميسرة بمعونة مالية من مؤسسة فورد. (ب)
مركز الكتاب الأمريكي: وتتعاون معه دور نشر عديدة لترجمة كتب أمريكية، مع دعم من المركز يتمثل في شراء عدد من النسخ. (ج)
البعثة الفرنسية: ونشاطها مماثل لمركز الكتاب الأمريكي. (د)
كان في السابق ترجمات للمركز الثقافي السوفييتي.
صندوق التنمية الثقافية، وزارة الثقافة: يدعم نشاط النشر تأليفا وترجمة داخل مصر بتقديم دعم مالي.
المركز القومي لثقافة الطفل: يتبع المجلس الأعلى للثقافة، وله ترجمات محدودة جدا لقصص الأطفال العالمية.
الهيئة المصرية العامة للكتاب: الترجمة بها جهود واختيارات فردية. تصدر مشروع الألف كتاب الثاني بناء على اقتراحات المترجمين، وليس خطة قومية كالسابق.
هناك العديد من دور النشر الخاصة التي تصدر من بين منشوراتها أعمالا مترجمة، مثل: (أ)
مركز الأهرام للترجمة والنشر:
ترجمة وثائق الأمم المتحدة ومنظماتها. وقد توقف عن ذلك أخيرا.
إصدار كتب مؤلفة ومترجمة أكثرها لحساب مركز الكتاب الأمريكي ، مثل روايات عبير. (ب)
المكتبة الأكاديمية. (ج)
دار الشروق .
يشير الكتاب السنوي لمنظمة اليونسكو، إحصاءات الترجمة، إلى:
السنة
إجمالي الإصدارات
1984م
74
1985م
98
1986م
104
سوريا
يوجد بها علاوة على دور النشر الخاصة: (1) «المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر»:
يتبع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
وهو منظمة تربوية علمية، ويصدر كتبا مؤلفة ومترجمة شديدة التخصص. ونشاطه محدود ب 150 ملزمة سنويا.
يعاني من ضعف الميزانية، وعدم التوزيع، ونشاطه شبه راكد. (2) «مركز الدراسات والبحوث العلمية»:
ويتبع المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا.
والمعهد معني بالترجمة البشرية والآلية، وتصدر عنه سلسلة الثقافة المميزة. (3) «الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية»:
وهي معنية بنظام إدخال المعجم الصرفي وقواعد نحو اللغة. (4)
وزارة الثقافة السورية، مديرية التأليف والترجمة:
وتصدر عنها مجموعات ثقافية متميزة في العلوم والفنون والآداب. (5)
معهد التراث العلمي العربي، حلب:
المعهد معني بإصدار المصطلحات العلمية من بطون المخطوطات العربية. ويعنى بالمقابلة بين المخطوط العربي وترجماته السابقة.
ويصدر مجلة تتضمن نصوصا مع ترجماتها.
ويشير الكتاب السنوي لمنظمة اليونسكو - إحصاء الترجمة - إلى أن جملة إصدارات الترجمة كالآتي:
السنة
إجمالي الإصدارات
1984م
43
1985م
41
1986م
59 (6)
مجمع اللغة العربية في دمشق:
وهو إحدى ثمرات الاستقلال عن تركيا. وقد أنشئ برئاسة محمد كرد علي في 8 / 6 / 1919م، وبه «الشعبة الأولى للترجمة والتأليف» التي أنشأتها الحكومة السورية.
تونس
يوجد بها علاوة على دور القطاع الخاص للنشر: «الجمعية المعجمية العربية»: وهي متخصصة في شئون المعجم العربي على المستويين التنظيري والتطبيقي. أنشئت عام 1983م، وينحصر نشاطها في إصدار مجلة «المعجمية»، وكذا تنظيم الندوات الدولية عن المعاجم. «المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم»: وتتبع جامعة الدول العربية، وتحدثنا عنها في مجال سابق.
بيت الحكمة أو المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات: وهي مؤسسة ثقافية تتبع وزارة الشئون الثقافية، تأسست عام 1982م.
ويشير الكتاب السنوي لمنظمة اليونسكو - إحصاء الترجمة - إلى أن إجمالي إصدارات الترجمة كالآتي:
السنة
عدد
1984م
12
1985م
9
1986م -
المغرب
هناك علاوة على دور القطاع الخاص للنشر:
الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر: نشأت اقتداء بنظيرتها السابقة في مصر. وتعنى أساسا بالتراث المغربي وترجمته دون التخلي عن البعد العربي. من أشهر الأعمال المترجمة كتاب «وصف أفريقيا » لمؤلفه الحسن الوزان. «مكتب تنسيق التعريب»: ويتبع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، جامعة عبد المالك السعدي، طنجة: تعنى بإعداد وتخريج مترجمين يجيدون اللغة العربية واللغة الأجنبية التي سيترجم منها مع ثقافة متخصصة.
معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، جامعة محمد الخامس: والمعهد معني بالترجمة الآلية، وترجم القرآن إلى الفرنسية. ويجري ترتيبات لاستكمال إقامة قاعدة المصطلحات المحوسبة.
مؤسسة الملك عبد العزيز للعلوم والدراسات الإسلامية والإنسانية: هناك علاقات بين المؤسسة ومعهد العالم العربي في باريس بشأن أعمال تخص الترجمة، منها:
إنشاء قاعدة معلومات عما تمت ترجمته في العالم العربي.
وإنشاء جائزة أدبية في مجال الترجمة.
علاقات مع الإسبان لإعادة مجد طليطلة.
ويشير الكتاب السنوي لمنظمة اليونسكو إلى أن إجمالي إصدارات الترجمة كالآتي:
السنة
إجمالي الإصدار
1984م -
1985م
8
1986م
7
مقارنة بين إحصاءات واضحة الدلالة
الدراسة الإحصائية المقارنة خير مؤشر على طبيعة الاتجاه وزخم النشاط الاجتماعي، قياسا إلى بلدان تشاركنا أو تنافسنا في المسيرة الحضارية. وهكذا نستطيع أن نعرف موقعنا على خريطة الصراع أو التنافس العالمي الثقافي، ونعرف مصداقية ما نفعله، ومصداقية عزمنا على التصدي لتحديات العصر، أو لنعرف جدارة حقنا في الوجود القائم على الصراع. ولن نعقد المقارنة مع رءوس التقدم الحضاري؛ فهؤلاء تفصلنا عنهم مسافات شاسعة، وإنما سنكتفي بعدد من البلدان المتواضعة، ولكنها تنتمي أو تسعى على الانتماء لحضارة العصر. وعمدنا إلى عقد مقارنة بين حال العالم العربي وحال عدونا الجاثم على أرضنا؛ وأعني به إسرائيل. وهدفي أن نعرف كيف يفكر، وكيف رسم خطواته، وكيف صاغ استراتيجيته، وكيف كان واضح الهدف، واعيا بخط الوصول إلى الهدف ومراحله، حتى أصبح عنصرا ضالعا علما نظريا وإنجازا عمليا في حضارة العصر، وأصبح تحديا رادعا كما يقولون. وسوف نكتشف في ضوء خطواته وسياساته نطاق الخطأ في حياتنا العلمية والثقافية التي أوردتنا المهالك، علاوة على مؤامراته؛ ليكون هو صاحب اليد الطولى والكلمة النافذة أو القاهرة، بفضل ما هيأ له البحث العلمي والتنظيم الاجتماعي البشري من إمكانات رادعة.
وانطلاقا من إيماننا بأن التفكير العلمي والبحث العلمي هما محور ارتكاز حضارة العصر؛ لذلك اتخذتهما أساسا لبيان طبيعة اتجاه حركة الترجمة، والمقارنة بين البلدان العربية وبين إسرائيل وعدد من البلدان الأخرى. وتأكيدا لما ذهبنا إليه، نشير بداية إلى أن الصهيونية واعية منذ نشأتها في القرن التاسع عشر بحقيقة التحديات العلمية، ودور سلاح العلم اجتماعيا وثقافيا وعسكريا، باعتباره أمضى سلاح في المواجهة. لهذا شرعت الحركة الصهيونية منذ البداية في تمهيد «أرض الميعاد» على أساس علمي، وبدأت في تطوير العلوم البحتة والتطبيقية بهمة وإدراك موضوعي للمكانة الأولى التي يحتلها العلم في السلم وفي الحرب. وهكذا جعلت العلم - إنجازا نظريا وتطبيقيا - عدتها وسلاحها لبناء قوة ردع عسكرية ذاتية (عدة وعتادا، مركز بحث وقوة بشرية منظمة)، تهيئ لها قدرا من استقلال الرأي والاعتماد على النفس، علاوة على ما يصلها من دعم خارجي. وبدأت الصهيونية جهودها هذه منذ مطلع القرن العشرين، بينما كانت تركيا العثمانية أو الرجل المريض على فراش المرض يحتضر. ووضعت الصهيونية حجر الأساس للجامعة العبرية في القدس عام 1918م، وهي الجامعة التي تركز، شأن جامعات أخرى نشأت بعد ذلك، على العلوم الطبية والبيولوجية والزراعية والعلوم الأساسية (علوم الوراثة والهندسة البيولوجية والمعلوماتية وعلم الكمبيوتر والإلكترونيات، وهي العلوم التي تشكل طليعة التكنولوجيا الحديثة) (أنطوان زحلان، المستقبل العربي، ع86 أبريل/نيسان 1986م). وبدأت إسرائيل أول برنامج للأبحاث النووية لها عام 1948م؛ أي عام النشأة، وافتتحت جامعة إسرائيل قسما لهندسة الطيران عام 1954م، واشتركت إسرائيل في معرض هانوفر الجوي عام 1968م، حيث عرضت طائرة ذات محركين توربينيين تصلح لنقل المسافرين والبضائع. وبدأ إنتاج هذه الطائرة بالجملة قبل نهاية 1969م (أنطوان زحلان، العلم والتعليم العالي في إسرائيل، دار الهلال، ومؤسسة الدراسات الفلسطينية، ترجمة محمد صالح العالم 1970م).
وفي أوساط الستينيات كانت إسرائيل أنشأت بنية أساسية علمية وتكنولوجية، واحتلت المرتبة السادسة عشرة بين دول العالم في حجم إنتاج الأبحاث. وكان لديها آنذاك عدد من العلماء الناشرين ضعف ما لدى دول أمريكا اللاتينية مجتمعة، وضعف ما لدى أفريقيا كلها. وبلغ مجموع ما نشره العلماء التكنولوجيون الإسرائيليون ثلاثة أضعاف ما نشره البحاثة في الوطن العربي (أنطوان زحلان، نفس المرجع). ويزيد عدد البحوث العلمية في إسرائيل عام 1967م - أي منذ ثلاثين عاما - عما قدمه العرب آنذاك ب 660 بحثا، بينما يزيد عددها عام 1983م؛ أي منذ خمسة عشر عاما ب 2045 بحثا؛ أي إنها في ازدياد مطرد ونحن في تراجع. هذا بينما توجد في الوطن العربي 71 جامعة كاملة، وما بين 300 إلى 1000 مركز أبحاث تضم جميعها حوالي 50000 من أساتذة وأعضاء معاهد البحوث؛ أي علماء (أنطوان زحلان، الإنتاج العلمي العربي، مجلة المستقبل العربي 774 يوليو/تموز 1985م).
وتوضح الإحصاءات التالية مدى وحقيقة اهتمام كل من إسرائيل والبلدان العربية بالعلم أساسا للنهوض والصحوة الحضارية، وسوف يبين لنا أن نكستنا الحضارية ليست أبدا بسبب الابتعاد عن أي شيء آخر سوى الابتعاد عن العلم إنجازا ومنهجا وإدارة لشئون الحياة والمجتمع، وتفاعلا مع العالم، ثم شيوع الأمية الثقافية والتعليمية الأبجدية، ناهيك عن لغة الاتصالات الإلكترونية؛ مما يؤكد عزلتنا الثقافية، ويكشف أسباب الردة إلى الفكر الخرافي.
تشير إحصائية في الكتاب السنوي لمنظمة اليونسكو، إصدار 1996م، إلى إجمالي المنشور من الكتب عام 1992م (تأليفا وترجمة).
البلد
تعداد مليون نسمة
إجمالي الإصدارات
علوم بحتة
علوم تطبيقية
العالم العربي
250
6759
548
604
إسرائيل
4,5
4608
289
231
اليابان
123
35496
1142
6276
فرنسا
55
45379
2038
5049
ألمانيا -
67277
2141
941
إسبانيا
39
41816
2512
5873
يظهر هنا الفارق الشديد بين العالم العربي - 250 مليون نسمة - وبين إسبانيا - 39 مليون نسمة - وإسرائيل - 4,5 مليون نسمة - وتكشف هذه الإحصائية وغيرها عن أن السبب ليس فقط الأمية الأبجدية، وإنما أيضا الأمية الثقافية والعزوف عن القراءة. العالم العربي تعداده 250 مليون نسمة، ويصدر كتبا هي سدس ما تصدره إسبانيا وتعدادها 39 مليون نسمة.
الصحف والدوريات اليومية لكل ألف نسمة، وهذا مؤشر جيد على شعبية الثقافة والانتماء إلى العالم (نفس المصدر).
البلد
عدد لكل ألف
مصر
64
ليبيا
13
المغرب
13
الجزائر
46
السعودية
54
لبنان
172
العراق
27
إسرائيل
281
إسبانيا
104
المجر
228
ألمانيا
317
فرنسا
237
إحصاء مقارن لإصدارات الكتب (الكتاب السنوي، منظمة اليونسكو 1995م).
البلد
1970م
1980م
1990م
1991م
العالم
521000
715500
842000
863000
أفريقيا
8000
12000
13000
13000
آسيا
75000
138000
228000
215000
أوروبا
246000
330000
364000
403000
البلدان المتقدمة
451000
562500
600000
635000
البلدان النامية
70000
153000
242000
228000
البلدان العربية
4700
6500
6400
6500
أفريقيا (بدون العرب)
4600
9000
10000
10000
أمريكا الشمالية
83000
99000
106000
102000
إصدارات الكتب (تأليفا وترجمة) لكل مليون.
البلد
1970م
1980م
1990م
1991م
العالم
182
161
159
160
أفريقيا
22
25
20
20
آسيا
59
54
73
70
أوروبا
515
682
726
802
البلدان المتقدمة
428
490
488
513
البلدان النامية
39
46
60
55
البلدان العربية
38
40
29
29
أفريقيا (بدون العرب)
17
25
20
20
أمريكا الشمالية
366
393
385
365
النسبة المئوية من توزيع إنتاج الكتب مقرونة بالنسبة المئوية على السكان إلى إجمالي العالم.
البلد
1970م
1980م
1990م
1991م
كتب
سكان
كتب
سكان
كتب
سكان
كتب
سكان
أفريقيا
1,5
12,4
1,7
10,9
1,5
12,1
1,5
12,3
آسيا
14,4
43,2
19,3
57,8
27,1
58,8
24,9
58,9
الدول النامية
13,4
61,5
21,4
74,1
28,7
76,9
26,4
77,0
أوروبا
7,2
16,1
46,2
10,9
43,2
9,5
46,7
9,3
البلدان العربية
0,9
4,4
0,9
3,7
0,8
4,2
0,8
4,2
وتوضح لنا الإحصاءات السابقة معنى بلدان المركز وبلدان الأطراف في التوزيع الثقافي والهيمنة الثقافية وكذا الإنتاج، وهو ما سوف نعرض له في الفصل الخاص «العولمة وتعريب الترجمة»، ويبين بوضوح مدى الهامشية للبلدان العربية، ومن ثم الواجب الملقى عليهم لصحوة أو نهضة شاملة.
وجدير بالإشارة هنا أن أغلب إنتاج الكتب في بعض البلدان في الدين، ثم السياسة والأدب والتاريخ والنقد ... مثال:
إجمالي الإنتاج في السعودية عام 1980م كلها تأليف: 207 عناوين منها 67 دين، 55 أدب.
إجمالي الإنتاج في العراق 1979م: 948 عنوانا منها 86 دين، 194 تاريخ أدب ونقد، 69 سياسة. (المستقبل العربي، الملف الإحصائي 684 أكتوبر/تشرين 1984م)
إن العالم العربي لا يزال يعيش الشفاهة، وهو عصر قبل الكتابة، ناهيك عن عصر العلم، وهذا ما ينعكس بوضوح في الترجمة كنشاط اجتماعي.
هذا بينما بلغت قيمة صادرات إسرائيل من الكتب والمطبوعات عام 1965م ما قيمته 4 ملايين دولار، وبلغ حجم التصدير الإسرائيلي من الطباعة والنشر عام 1970م ما قيمته عشرة ملايين دولار. ويوضح هذا القيمة الاقتصادية للصادرات العلمية في صورة إنتاج معرفي (أنطوان زحلان، العلم والتعليم العالي في إسرائيل، ترجمة محمد صالح العالم، دار الهلال 1970م).
وفي تقرير آخر يوضح أن إسرائيل من الدول الأولى في حجم النشر والترجمة في العالم (من العشرة الأوائل)، باعت في عام 1997م ما قيمته 13 مليون كتاب بمتوسط 3 كتب في العام للشخص الواحد، وتشير إحصائية رسمية إسرائيلية صدرت في يناير 1998م إلى أن 50٪ يقرءون كتابا واحدا كل شهر، و20٪ يقرءون كتابا واحدا كل عام، و.3٪ لا يقرءون الكتب.
إجمالي الترجمة في العالم العربي (250 مليون نسمة) (إحصاء اليونسكو 1992م).
السنة
إجمالي
علوم بحتة
1981م
225
15
حوالي كتاب واحد لكل مليون نسمة
1982م
72 (لم ترد مصر والعراق) -
1983م
70 (لم ترد مصر والعراق)
1
1984م
459
26
1985م
272 (لم ترد مصر والعراق)
23
1986
268 (لم ترد مصر والعراق)
إجمالي الترجمة في عدد من الدول للمقارنة (نفس المصدر)
إسرائيل تعداد 4,5 مليون.
السنة
إجمالي
علوم بحتة
1981م
387
70
ما بين 93 و76 كتابا لكل مليون نسمة. مع ملاحظة شيوع اللغة الإنجليزية، وأن 50٪ من سكان إسرائيل مهاجرون يقرءون بلغاتهم الأصلية علاوة على العبرية.
1982م
348
10
1983م
232
3
1984م
366
4
1985م
313
1
1986م
462
المجر تعداد 10571000 نسمة.
السنة
إجمالي
علوم بحتة
1981م
419
45
حوالي 108 كتب لكل مليون.
1982م
1227
92
1983م
1397
162
1984م
1238
128
1985م
1202
110
1986م
114
141
إسبانيا تعداد 39 مليون نسمة.
السنة
إجمالي
علوم بحتة
1981م
6361
254
حوالي 240 عنوانا لكل مليون.
1982م
7381
331
1983م
7447
273
1984م
7741
259
1985م
7944
325
1986م
9647
428
تكشف هذه الإحصاءات حالة التدني الشديدة والتخلف المروع في مجال الترجمة؛ أي في مجال الاطلاع على علوم العصر والتفاعل معها. وكيف نتفاعل ونحن لا ننتج كما تكشف إحصاءات إنتاج الكتب؟ وكيف نسعى إلى المعرفة ونحن لا نقرأ؟ وهذا ما جعلنا نقول: إننا لا نزال مجتمعات شفاهية؛ ولذا فإن الأزمة أزمة مجتمع، والمشكلة هي قارئ وكتاب بالنسبة للتأليف والترجمة على السواء. وهذا يعني شيوع الأمية العلمية والثقافية العالمية في بلدان العالم العربي، وهو ما يفسر حالة الخواء الفكري والعلمي العقلاني وشيوع الفكر الخرافي؛ مما يضعف عزيمة الأمة، ويضعف الأمل في مواجهة التحديات، أو حتى يحفزنا إلى قبول التحدي وقد أدركنا أبعاده وذلك بمضاعفة الجهد.
إن النظر إلى إحصاءات إجمالي الترجمة تبين أن العالم العربي يقارب إنتاجه 1 / 10 إنتاج البرازيل (26 عنوانا مقابل 2291 عنوانا)، وهي دولة نامية وتعدادها يقارب نصف تعداد السكان العرب. ويبلغ إنتاج البلدان العربية مجتمعة من الترجمة نصف إنتاج إسرائيل (4,5 مليون نسمة)؛ أي 1 / 50 من تعداد السكان العرب. هذا علاوة على الحاجة إلى تحليل مضمون هذا الإنتاج؛ لما له من دلالة مهمة وحاسمة. ونلحظ كما أشرنا، من حيث نصيب كل مليون نسمة من إنتاج الكتب المترجمة، أن:
كتابا واحدا تقريبا (أو 1,2) لكل مليون نسمة في العالم العربي.
100 كتاب تقريبا لكل مليون نسمة في إسرائيل.
250 كتابا تقريبا لكل مليون نسمة في إسبانيا.
وحتى نعرف أن هذا موقف ليس بالجديد، وعلينا أن نبحث عن أسباب العزوف عن الاطلاع في تكويننا الثقافي الاجتماعي، أشير إلى إحصائية تقريبية وردت في كتاب «الخطة القومية للترجمة» الصادر عن المنظمة العربية للتربية والعلوم، إذ يقول ما يلي: (1)
إحصاء الكتب المترجمة من 1970م إلى 1975م في خمس دول عربية - هي بالطبع الدول المنتجة للكتب - بلغ 872 كتابا بمعدل 175 عنوانا مترجما في السنة. (2)
إحصاء الكتب المترجمة بداية من 1970م لغاية 1980م في 16 دولة عربية، بلغ 2840 عنوانا؛ أي بمعدل 284 عنوانا مترجما في السنة. وهذا إحصاء مقارب لإحصاء منظمة اليونسكو. (3)
يشير الكتاب إلى أن إجمالي الكتب المترجمة في العالم العربي منذ الخليفة المأمون وحتى يومنا هذا يصل إلى 10000 عشرة آلاف عنوان؛ أي ما يساوي ما ترجمته إسرائيل في أقل من 25 سنة من وجودها، أو ما ترجمته البرازيل في أربع سنوات، أو ما ترجمته إسبانيا في سنة واحدة تقريبا. وليس هذا التقدير مبالغا فيه بالسلب، خاصة إذا نظرنا إليه في ضوء الإحصاءات المشار إليها. ونحن نعرف أن العالم العربي عاش في ظلام الهيمنة التركية والمملوكية قرونا طويلة، ولم يبدأ في الخروج من هذا الظلام - وإن خرج غافيا - إلا في مطلع القرن التاسع عشر. بيد أنه لا يزال غير مدرك لحقيقة التحدي وأسباب النهوض الحضاري ليعقد العزم على الإفلات من نكسته، والتفاعل مع العالم المتقدم ثقافيا التزاما باستراتيجية تنموية وإطار فكري يعبران عنه.
وإلى من راعته هذه الإحصاءات أو تشكك فيها، نسوق إحصاء آخر يصدق عليها؛ إذ يعتبر مؤشرا محايدا ومحكوم المصدر، وأعني بهذا إحصاء استهلاك ورق الطباعة للصحف والمطبوعات الأخرى بعامة - ومصدر الإحصاء الكتاب السنوي لليونسكو 1995 - وطبيعي أن استهلاك الورق يكشف بوضوح عن علاقة المجتمع بالقراءة والكتاب.
استهلاك ورق طباعة الصحف.
البلد
إجمالي
لكل ألف نسمة
للفرد
مصر
89900 مليون طن متري
1448كجم
1,4-19,5كجم
إسرائيل
107988 مليون طن متري
19547كجم
فرنسا
794000 مليون طن متري
13665كجم
إسبانيا
496000 مليون طن متري
12519كجم
استهلاك ورق طباعة غير الصحف.
البلد
إجمالي
لكل ألف نسمة
للفرد
مصر
107600 مليون طن متري
1733كجم
1,7كجم
إسرائيل
180221 مليون طن متري
32619كجم
32,6كجم
فرنسا
3662000 مليون طن متري
63025كجم
63,00كجم
إسبانيا
1402500 مليون طن متري
35393كجم
35,00كجم
العولمة وتعريب الترجمة
أولا نقصد بتعريب الترجمة أن تأتي الترجمة كنشاط اجتماعي مؤسسي، انطلاقا من أهداف عربية، وتأسيسا على اختيارات عقول عربية، في ضوء استراتيجية تنموية شاملة، بحيث تكون بحق تعبيرا عن الهم العربي واستجابة لقضايانا الاجتماعية، وإشباعا لقدرة المجتمع على النهوض.
ونقصد بالعولمة ذلك النزوع الثقافي الذي يبدو في ظاهره جديدا، ويسميه البعض النظام العالمي الجديد. أو يقال: إن العالم بات قرية واحدة تهاوت معها الحدود القومية، ليسود مركز عالمي علمي وتقني واقتصادي وثقافي. وتروج لهذا المفهوم الولايات المتحدة الأمريكية والشركات المتعدية القوميات. وهذا هو الجديد. ونجد قرين ذلك نزوعا آخر يدعو إلى حوار البحر المتوسط، أو حوار الشمال والجنوب بين أوروبا وبلدان حوض البحر المتوسط (وهي عربية) وبلدان أفريقيا. ويأتي هذا تعبيرا عن صراع خفي بين العولمة بمفهومها الأمريكي، وبين سعي أوروبا بعامة، وفرنسا أو الرابطة الفرانكفونية لخلق مجال قوة مناهض. ونذكر بهذه المناسبة ندوة الترجمة المنعقدة في تاليدو أو طليطلة في إسبانيا عام 1995م بعنوان: «تبادل الأفكار في حوض البحر المتوسط: دورة الترجمة». وساهمت فيها البلدان العربية المطلة على البحر المتوسط. ويأتي ثالثا تحت عباءة شعار العولمة نزوعا باسم الشرق أوسطية الذي يهدف إلى فتح الحدود الاقتصادية والثقافية ... إلخ، بين جميع بلدان الشرق الأوسط وأولها إسرائيل. وغني عن البيان طبيعة العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وانسجام الأدوار بينهما عسكريا واقتصاديا وثقافيا، بل وبحثا علميا. ونذكر هنا ما قاله شيمون بيريز من أنه لم يعد المال هو القوة المحركة وإدارة الهيمنة بل الفكر، وأن العالم العربي يملك المال، ونحن - أي إسرائيل - تملك الفكر والعلم وتكنولوجيا الإنتاج. وهو قول صريح يفسر أشياء كثيرة على مستوى الشرق أوسطية أو «العولمة» الإقليمية؛ حيث تبدو إسرائيل في صورة مقاول الباطن لصالح العولمة الأوسع.
وجدير بالذكر أن من مظاهر العولمة النزوع إلى عولمة الثقافة أو نظام هندسة التحكم الاجتماعي العالمي في سلوك المجتمعات وشيوع قيم لصالح القوة المهيمنة. ونحن نمايز بداية بين العولمة والعالمية في مجال الفكر العلمي والمنتج التقني العالمي القدرات وتجسده، كمثال؛ تكنولوجيا الاتصالات والحواسب والهندسة الوراثية والتشابك الاقتصادي ... إلخ. ولكن العولمة كاسم فعل تعني فرض نهج بذاته ومصالح وقيم ثقافية بذاتها. وكل ما تراه القوة ذات الهيمنة أمرا نافعا وضروريا لها وفاء لمصالحها. إذ إن العالمية لا تنفي التنوع والتمايز والمنافسة والتكامل، بل ولا تنفي صراع المصالح، ولكن العولمة محاولة للحفاظ على، أو لتثبيت الأوضاع على نحو بذاته طبقا لمصالح مركز محدد له الغلبة والهيمنة في الإنتاج التقني والعلمي والثقافي.
نعم نحن نعرف ونؤمن بأن المعرفة العلمية أضحت نشاطا إنتاجيا وإبداعيا في صور شبكة عالمية، وأن التحكم في هذه الشبكة منوط بأصحاب القدرة على الإسهام، كل حسب نصيبه، في هذا النشاط الإنتاجي الإبداعي. ومن الأسف أن العرب - شأن بلدان العالم الثالث - خارج هذه الشبكة. وإنما القوة المتحكمة هي القوة الصناعية الأولى في العالم، بجامعاتها ومراكز أبحاثها وإنتاجها التقني الذي تطور على مدى خمسة قرون. إنها الغرب بكل تناقضاته. ويمثل الغرب المركز. إنه مركز الإنتاج والتحكم والتوظيف المعلوماتي، وهو منهل المعارف والمعلومات العلمية، سواء في صورة كتب أو دوريات أو مراكز بحث وجامعات، أو شبكة اتصالات عالمية إلكترونية، أو وكالات أنباء، إلى كل ما يساهم في صناعة العقول أو التلاعب بها. وحرى بنا ألا ننسى أن المعرفة سلطة وأداة هيمنة، وأن من يملك المعرفة وأدوات توزيعها والقدرة على توظيفها يملك سلطة التحكم في العقول التابعة. وبدأت نشأة هذا المركز أساسا في أوروبا، ثم اتجه إلى الغرب البعيد حيث الولايات المتحدة الأمريكية؛ مما يهيئ لها فرصة المزيد من التحكم على أساس منظور أيديولوجي قومي يعبر عن حلم أمريكي يزيد عمره عن المائة عام.
وثمة مسافة كبيرة تفصل بين المركز وبين بلدان المحيط أو الأطراف أو الحافة، أو سمها ما شئت، وإنما هي بلدان عاطلة من القدرة على التحكم أو المساهمة بنصيب فاعل في هذا كله، أو بدرجات متفاوتة. وهذه هي بلدان العالم الثالث وإن تباين دورها ومستواها وترتيبها في مواقعها عند الحافة. وهكذا أصبح للمركز الهيمنة في عصر المعلومات على بلدان الحافة. المركز له الهيمنة إنتاجا وإبداعا وتوزيعا، حيث أكبر قدر من الجامعات ومراكز الأبحاث التي يقصدها أبناء بلدان الأطراف لتلقي العلم والثقافة، وحيث مراكز الإعلام والتوزيع والمجلات والدوريات ووكالات الأنباء وبث المعلومات التي تصل مصاغة أيديولوجيا إلى أبناء بلدان الأطراف.
وهكذا يبدو العالم الثالث تابعا، ومن بينه بلدان العالم العربي، التي تحتل مرتبة أدنى كثيرا مما هو شائع في رطاننا الاجتماعي، بل أقول: إن ثروات العرب الضخمة، بدون إدارة صحيحة وتغيير جذري، لا يمكنها أن تنقله من موقع الحافة؛ نظرا لعدم أهليته، ليحتل موقعا متقدما ومتميزا على الحافة، ويقربه نسبيا من المركز، إننا قد نشتري منتجا تقنيا متقدما ومعقدا، ولكن هذا ضرب من التظاهر الاستهلاكي لا ينقلنا حضاريا؛ إذ العبرة بالعقل المبدع والنشاط الإنتاجي والمناخ الاجتماعي للتنشئة والتعليم وإدارة المجتمع وحرية الفكر والإنسان. والعبرة بالهدف ودوره في الحراك الاجتماعي. الثروة الحقيقية ليست في امتلاك المال أو حيازة المنتج التقني، بل هي في النشاط الإنتاجي الإبداعي للمعلومات وتوظيفها، وفي القدرة على تشغيل وصيانة وتطوير المنتج، وهذه قدرة مجتمع. ودليلي على هذا أن عددا من بلدان الحافة الفقيرة جدا (مثل الهند) احتلت موقعا متقدما على الحافة لا تحتله البلدان العربية؛ وذلك بفضل تطوير التعليم والجامعات ومراكز الأبحاث والاتصالات، وتوفير بنية أساسية للإبداع المعرفي وتوزيع وتوظيف هذا كله تخطيطا. وهذا هو ما تفتقر إليه البلدان العربية على الرغم من وفرة المال. والطريق ليس ممهدا؛ فإن دول المركز ترى في هذا تناقضا مع مصالحها؛ إذن هي مسألة تحد وصراع.
وهكذا يبين بوضوح أن المعرفة جلها أو كلها، خاصة العلوم الأساسية والمدارس الفكرية، يتم إنتاجها من الخارج. وعالمية المعرفة لا تنفي أبدا مركزية الإنتاج وتبعية الأطراف، وهي علاقة دينامية قابلة للتغير، شريطة وعي بلدان الأطراف وتكثيف العمل العلمي المشترك في تكامل وتضافر؛ من أجل التحول إلى قوة إنتاجية إبداعية للمعرفة وفقا للمقتضيات الحضارية لهذا النشاط.
والحديث عن حرية انتقال المعلومات والتبادل الثقافي سيكون حديثا لا معنى له حين يكون أحد الأطراف خاوي الوفاض، عاطلا من العطاء، لا يملك إلا ثقافة اجتماعية مقطوعة الصلة بحضارة العصر؛ مما يجعله في موقف الضعف والاستهلاك، وحيثما تفاعلت ثقافتان وكانت إحداهما قوية والأخرى ضعيفة، فإن الثقافة الأقوى تستوعب الأضعف وتمحوها مع الزمان. وينتفي التعامل الذي شرطه الندية والكفاءة. وقوة الثقافة لا تأتي من استظهار الموروث، بل تأتي من نشاط المجتمع نشاطا منتجا على مستوى المنافسة العصرية وتنظيم وإدارة المجتمع على نحو عصري، علاوة على جذور العراقة والتاريخ. ليس الموقف الصواب انزواء اجتماعيا واغترابا في الزمان مع السلف، وليس ارتماء في أحضان الوافد القوي، وإنما قبول التحدي والانتصار على أهواء الذات. تحدي ما هو متخلف في الموروث، وتحدي الوافد باستيعاب أسرار قوته ومواكبته والسعي لتجاوزه مع توفير شروط الانتماء إلى العصر. وهذا ما فعلته اليابان حين قررت في عصر «الميجي» الانفتاح على الغرب بعد أن جفت ينابيع التقليد، ولم تعد هي مفتاح الدخول إلى حضارة العصر. قررت اليابان كما كان يقضي شعارها الاجتماعي القومي آنذاك الذي يلخص استراتيجيتها: «أمة غنية وجيش قوي»، واتخذ تحديها وصراعها البعد التالي: (1)
مقرطة نظام الحكم. (2)
رأسمالية صناعية إنتاجية. (3)
التعليم إجباري للجميع. (4)
جيش وطني قوي. (5)
استيعاب العلوم الأساسية والتطبيقية.
وحرى أن نقارن بين هذا وبين النهج الذي اتخذته إسرائيل أو الصهيونية، وقد كانوا عصابات قبل أن تكون لهم دولة، هي الآن إحدى الدول التي تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في مشروع حرب النجوم.
لهذا فإن الاستجابة الصحيحة إزاء العولمة وإزاء وضعنا المتدني عند الحافة، أن نضع خطة لدعم الاستقلال والحرية في إطار النسق الدولي للمعرفة، وبالتعاون والتخطيط مع بلدان العالم الثالث: (1)
أن يكون للبلدان العربية - بناء على تنسيق وتعاون حقيقي - مساهمة واضحة ومميزة وقابلة للتكامل مع النسق العالمي للمعرفة. (2)
دعم التعاون الإقليمي العربي في هذا الاتجاه، وهو ما أشارت إليه اتفاقات ثقافية وتعليمية وعلمية عربية عديدة لم تر النور، ومن بينها إنشاء مؤسسة عربية للترجمة وحرية انتقال الكتاب. (3)
تضافر الجهود مع بلدان العالم الثالث لمواجهة الاحتكار العالمي للإنتاج وتوزيع المعرفة. ويمكن للمؤسسة العربية للترجمة المزمع إنشاؤها، أن تكون منطلقا وعنصرا أساسيا في الدعوة إلى ذلك. (4)
الوعي على المستوى الاجتماعي بحقيقة التحديات مهما غلفها البعض بعبارات مثل؛ العولمة، والشرق أوسطية، وأن نمايز بين عالمية الفكر وعالمية التحولات والإنجازات، وبين عالمية الهيمنة والإدارة لصالح طرف بذاته. وهو ما يعني الحاجة الماسة إلى عصر تنويري جديد يعبر عن مصالح الإنسانية بعامة دون تمييز، ويكون محور استقطاب عالمي.
إننا لن نستطيع أن نصوغ معنى للوجود الإنساني يقر في نفوسنا، ونشعر بالانتماء نحوه اجتماعيا، ونجاهد وصولا إليه هدفا أسمى في إطار المنافسة العصرية، إلا إذا امتلكنا ثقافة هي نتاج نشاطنا الاجتماعي؛ أي فعاليتنا وتفاعلنا النشط على المستوى الحضاري. وهذا هو سبيلنا إلى صحوة حقيقية وليس انزواء اجتماعيا وردة إلى الماضي. وهكذا تكون أهدافنا نسقا من ابتكارنا، نسقا نحدده في ضوء الخطوات التي ينبغي أن نترسمها نحو أهدافنا التي تصون وجودنا، تأسيسا على علم نشارك في إبداعه وإنتاجه، وثقافة نساهم في إنتاجها؛ إذ بدون ذلك سنظل مستهلكين تابعين.
ولهذا حرى بنا أن تكون الترجمة هي إحدى خطواتنا الاجتماعية التي نخطوها في توافق مع نسق المعلومات والمعارف، وفي اتساق مع إنتاج فكري وعلمي ذاتي، في ضوء استراتيجية تنموية عربية؛ بحيث ترسخ في مجتمعنا ثقافة الإرادة والتغيير الإنتاج المعرفي والتقني.
إن أزمة الانشطار الثقافي بين تقليد وتجريد، أو أصالة وحداثة، إنما هي أزمة بطالة؛ أزمة مجتمع عاطل من العقل الاجتماعي العلمي والتقني النشط، وحين يكون العلم والمعارف العلمية مجالا لممارسة نشاطنا، فسوف يكون نشاطنا حضاريا أصيلا مجسدا في الفكر والعمل. وبهذا تزدهر وتتفتح ذاتيتنا أو هويتنا الاجتماعية، وتتدعم أصالتنا على مستوى العصر، ويبين زيف الانشطار الوهمي المزعوم. وسوف تسهم الترجمة في حسم هذه المشكلة؛ إذ تهيئ من خلال المؤسسة العربية للترجمة، ومن خلال كل نشاط مؤسسي، الفرصة للاختيار الواعي العقلاني، وأن يكون اختيارا جمعيا مخططا وفقا لما يتسق مع حركة نهضوية.
وتساهم الترجمة القائمة على التخطيط والاختيار الواعي العقلاني في دعم ديمقراطية المعرفة بإشاعة الثقافة العلمية، فلا تكون حكرا على نخبة تتعامل مع اللغات الأجنبية؛ مما يفضي إلى تهميش غيرهم، خاصة بعد شيوع تكنولوجيا سمعية وبصرية إلكترونية مصدرا للمعلومات وللمعايشة العالمية، من شأنها أن ترسخ شعورا بالتميز والتمايز والنخبوية المنعزلة والمتعالية. هذا علاوة على أن التقدم العلمي في عصرنا لا يحقق ثمرته المرجوة إلا بفضل مناخ اجتماعي داعم يشمل الإنسان العام المنتمي والمشارك إيجابيا في إدارة المجتمع وشحذ طاقاته.
ومع تحدي العولمة والشرق أوسطية بات لزاما ألا نترك الإنسان العربي العام نهبا مستباحا لهذه الثقافة يختارها له الآخر أو يفرضها عليه وهو مهيض في خواء، وإنما تكون المعرفة اختيارنا نحن تعزيزا للمنعة الثقافية التي تحصنه على أساس علمي ضد الانهيار أو الاستسلام لرياح مغرضة تهب عليه باسم العولمة؛ إذ نلاحظ كما أشرنا سابقا أن قسطا كبيرا من الترجمة في العالم العربي هو اقتراحات بقوائم تعرضها مكاتب ومراكز وبعثات أجنبية دبلوماسية على الناشرين مثل؛ مكتب الكتاب الأمريكي، ومؤسسة فولبرايت، والبعثة الفرنسية ... إلخ. ولهذا ندعو إلى تعريب الترجمة الواعية التي تحمي العقل من الانغلاق الفكري، وتحميه كذلك من التبعية المطلقة والذوبان في الآخر. وأن تكون هذه الترجمة المنتقاة عاملا نشطا في صياغة إطار فكري متبلور في اتساق مع ثقافتنا ومشروعنا القومي. إنها الاختيار المؤسسي الواعي بدلا من الرفض المطلق أو التسليم التام.
الترجمة وحوار المتوسط
حدثان شهدهما عام 1995م ونحن في مستهله، وهما وثيقا الصلة بموضوعنا، وإن بديا متباعدين في ظاهرهما:
الأول:
أن إسرائيل أطلقت قمرا صناعيا للتجسس. وقد عقبت صحيفة معاريف على ذلك الحدث قائلة: «إن المسافة بين إسرائيل وكل جيرانها تقاس الآن بالسنوات الضوئية.» وهي في هذا لسان حال دوائر أخرى كثيرة داخل إسرائيل وخارجها.
ودلالة الحدث أمران، وليست القضية في ظاهرها تجسس إسرائيل؛ فإن أسرارنا العربية ذائعة شائعة وإن خفيت على الشعوب.
ولكن التجسس هنا بقمر إسرائيلي يعني أن إسرائيل عزمت على أن تكون مشاركا مستقلا وأصيلا في الثورة التقنية العسكرية، وجوهرها المعلومات تحصيلا وتنظيما ومعالجة وتوظيفا لصالحها. النصر والسيادة في هذا العصر للأقدر على امتلاك المعلومات، والأفضل والأسرع في استخدامها. وحرب المعلومات ليست فقط حرب ميادين القتال، ولكنها حرب صناعة أو إنتاج وتحصيل معلومات، بل وقدرة على تشويه معلومات الخصم وصناعة وعيه والتلاعب به، سواء في ميادين الحياة المدنية أو العسكرية المختلفة. وصراع الحضارات هو دائما وأبدا صراع معلومات. هذا عن قمر التجسس، أما الصاروخ حامل القمر فهو حامل تاريخ لتطور علمي وتعليمي وتنموي بعامة، ودلالته أن إسرائيل تملك قاعدة علمية وتكنولوجية متطورة هي حصاد مجتمع علمي راق ومستوى تعليمي متقدم، وثقافة سياسية واقتصادية على المستوى الاجتماعي تدعم هذا التطور وتغذيه وتهيئ له الاستقلال والمشاركة الإيجابية عالميا.
الحدث الثاني:
ندوة نظمتها مدرسة الترجمة في تاليدو أو طليطلة في إسبانيا بعنوان «تبادل الأفكار في حوض المتوسط: دور الترجمة». والذي يعنيني هنا أن المتوسط، مرة ثانية أو ثالثة في تاريخ الحضارات، يزمع التحول إلى ساحة لقاء ثقافي؛ أي حوار ساخن أو هادئ بين ثقافات المجتمعات المتوسطية في محيط عالمي متداخل؛ مما سيكون له أثره في تطورها وتنافسها وتحديد السيادة لبعض أطرافها. والسؤال: ما هو سلاحنا إذا أردنا النزول كقوى عصرية إلى هذه الساحة التي لا ترحم؟ وفي تعقيب سريع بين حاصرتين على هذين الحدثين يلخص الموقف: جاء في تحقيق نشرته الأهرام يوم 15 / 5 / 1995م، أن الهيئة العامة للكتاب أصدرت إحصاء يقول: إنه قد صدر في مصر خلال عام 1994م وحده ثلاثة آلاف عنوان عن الشعوذة والدجل صادفت رواجا كبيرا!
صراع الحضارات دائما ينطوي على صراع ثقافي بمعنى الثقافة الأعم، كإطار معرفي قيمي حاكم للسلوك الاجتماعي. والأساس العميق لهذا الصراع، كما يقول توينبي، هو آلية التحدي والاستجابة، وهي آلية مستمرة استمرار المجتمعات. وها هو ذا التحدي ماثل أمامنا. واقع مادي يحاصرنا ويؤزمنا. والسؤال عن الاستجابة وعن المستجيب فكرا وتأهيلا.
الفجوة بيننا وبين العالم الآخر فجوة معرفية، أو معلومات موظفة اجتماعيا بحيث نعيها ونستوعبها ونمارسها ونساهم في إبداعها. التخلف الذي نعانيه قبل أن يكون اقتصاديا هو تخلف ثقافي معرفي في حضارة عالمية تمثل فيها المعرفة العلمية القوة المحركة والدافعة؛ المعرفة العلمية منهجا للتفكير، ومبحثا للنشاط الاجتماعي، وإطارا حاكما للسلوك. إن اللهاث وراء المعرفة أصبح سمة حضارة العصر حتى بين أكثر البلدان تقدما.
ونحن في مصر - أو العالم العربي - لن نستطيع أن نعيد تأسيس أنفسنا انطلاقا من معطيات ذاتية وبعيدا عن التواصل الحر مع الثقافات العالمية. انفتاح على العالم، وانفتاح على تاريخنا الحضاري بكل تنوعاته منذ فجر الوعي الإنساني. ومن شروط التفكير العلمي أن نملك إزاء هذا وذاك عقلا علميا ناقدا يشكل أساسا لرؤية مستقبلية، واستراتيجية تنموية شاملة لجميع أنشطة المجتمع عند مستوى العصر. إنها أخذ وعطاء، أو لنقل: جناحاها دراسة إبداعية جذورها نشاط اجتماعي منتج، وترجمة معبرة عن هذا ومتكاملة معه، تأخذ عن وعي نقدي، وتنتقي، وتحفز، وتنهض بالمجتمع فكرا ولغة ونشاطا متعدد المناحي، وتساهم في صوغ منظومة معرفية قيمية تقف بالمجتمع ندا وكفئا في ساحة النزال الحضاري، وله استقلاله الحداثي معا.
ولكن ما نصيبنا من الفكر العلمي أخذا وعطاء؟ ولن أقول: التفكير العلمي، وإن كان كل منهما شرطا أو وجها للآخر. وأعود لأسأل: ما نصيبنا من الفكر العلمي العالمي ودوره الفاعل في حياتنا (أي الترجمة العلمية)، وليس نصيبنا من الإنجازات التكنولوجية العلمية التي نستوردها سلعا استهلاكية؟ وكيف يجري اختيار هذا النصيب؟ وهل يمثل دعامة أساسية في بنية تنموية استراتيجية ورؤية مستقبلية لمجتمعاتنا العربية؟
ليست الترجمة نقل معارف فحسب، بل الترجمة تواصل حر بين الحضارات. ولا يكون هذا التواصل مثمرا إلا حين تؤرقنا روح المغامرة الإنسانية التي يزكيها نهم معرفي لاستيعاب إنجازات وفتوحات العلم المرتكز على عبقرية الإنسان من أجل تغيير الواقع؛ واقعنا الثقافي والبناء الاجتماعي لحاجتنا الملحة إلى ذلك؛ وبذا نكون بنائين للحضارة عن وعي وعقلانية. إننا قد ننقل النظريات أو المصطلحات، ولكن يظل حديثنا بها رطانا؛ لأننا لا نستطيع أن ننقل الرأس المبدع، ولا حياة النشاط الاجتماعي الإنتاجي الخالق لها. وقد نستورد نظريات ومناهج التعليم، ولكننا لا نستطيع أن نستورد الشغف بالعلم، والنهج المعرفي؛ أي روح التعليم ذاته .
المترجم العربي، الحقوق والدور الاجتماعي
قضية المترجم لها أكثر من زاوية؛ الكفاءة اللغوية والثقافية، وكذا الحقوق، وأيضا المترجم والدور الاجتماعي.
أما من حيث الكفاءة والأهلية لأداء الدور فهذه مسألة إعداد وتنشئة اجتماعية في الأسرة والمدرسة والمجتمع بعامة. وإذا ألقينا نظرة على هذه العناصر الثلاثة (الأسرة، المدرسة، المجتمع) في واقعنا الراهن نجدها جميعا لا تسهم في إعداد مترجم؛ ذلك أن المترجم ليس هدفا من أهداف المجتمع، ولا محط طموح. ويكفي أن أقول: إنه حين تقرر منذ بضعة عقود أن ينتقل التلميذ من صف دراسي إلى الصف التالي، على الرغم من رسوبه في مادتين، فإن التلاميذ وأسرهم حرصوا على الشكل وهو عبور المراحل، واختاروا الرسوب في مادتين أساسيتين هما: اللغة الأجنبية والرياضيات. أي تخرجت أجيال عازفة عن اللغة الأجنبية وعن التفكير الرياضي، ومقطوعة الصلة بالثقافة العالمية، وبأساس مهم من أسس الفكر العصري وهو الرياضيات.
واقترن هذا - للأسف - بشيوع الأمية الثقافية؛ إذ لم تعد الحياة مع حضارة العصر فكرا وثقافة وعقلا معيارا أو قيمة أو هدفا؛ لذلك ليس غريبا ألا نجد جيلا جديدا من المترجمين الأكفاء، وهو ما يؤكد تعطل نشاط أساسي للمجتمع هو نشاط الترجمة كحلقة وصل وتفاعل مع العالم المتقدم، وأداة حوار حضاري عصري. أعني أن المجتمع بسياسته هذه عطل الدور الاجتماعي للمترجم، وهو أساسي تحرص عليه جميع المجتمعات التي عقدت العزم على النهوض، وتحرص على استيعاب علوم العصر.
ودور المترجم رهين تفهم المجتمع لحاجته إلى المعرفة دون حدود، وحاجته إلى التفاعل الفكري (العلمي النظري والتطبيقي والثقافي بعامة) مع حضارات الأمم، واكتساب أسس النهوض والتقدم، وصولا إلى مستوى العطاء والإبداع. إن المترجم هو منفذ المجتمع للانفتاح على ثقافات الآخرين، ومن ثم التحرر من نير الانغلاق والتقوقع داخل شرنقة ثقافات الأنا المهيضة، بل وحفزنا على النفاذ بفكرنا في دائرة فكر الآخر.
وحيث إن دور المترجم هو دور اجتماعي بامتياز، وإن الترجمة بهذا المعنى نشاط اجتماعي هادف، فإن إعداد المترجم وظيفة اجتماعية أولى بالرعاية. وها هنا يكون الإعداد والدور عملين متطابقين يكمل أحدهما الآخر؛ فالإعداد حق للمترجم على المجتمع وعلى نفسه، والدور حق للمجتمع على المترجم. ونذكر من عناصر التكوين الاجتماعي والذاتي السليم للمترجم كي يقوم بدوره على خير وجه: (1)
التكوين الثقافي الموسوعي؛ أي التوفر على ثقافة موسوعية تعزز وتكمل تخصصه العلمي. (2)
إجادة لغتين على الأقل، اللغة التي يترجم إليها، واللغة التي يترجم عنها، واستيعاب قواعدهما وأدواتهما اللغوية والمنطقية؛ الأمر الذي يعينه على فهم أسرار اللغة وصياغة اللفظ وتوليد المصطلح. (3)
النهم المعرفي والتجدد الثقافي؛ بحيث يكون متابعا لكل جديد؛ وبهذا لا يكون مجرد ناقل أو وسيط، بل يكون مبدعا في أدائه وإضافاته وتعليقاته، فضلا عن الإحاطة بالسياق الفكري العام والسياق التاريخي للنص الذي يعكف على ترجمته. وهكذا تكون الترجمة إبداعا، وصياغتها باللغة الأم دقيقة في التعبير، واضحة، يسيرة الفهم. (4)
الإلمام بالقواعد المنهجية للترجمة، من حيث التحليل لبنيات الجمل في تركيباتها المتباينة، وتذوق النص، وتوافر الحس اللغوي في دلالاته وتلويناته مع اختلاف السياق؛ ذلك لأن الترجمة هي قراءة وفهم لحضارة عبر إطار معرفي/قيمي لحضارة أخرى. ومن هنا حرى بالمترجم أن تتوافر لديه القدرة على التحليل الدلالي للنص، وقدرة على اعتبار السياق العام. (5)
وإذا كانت الترجمة أداة إثراء وتخصيب وتطوير للغة الأم، فإن هذا يعني أن للمترجم دورا علميا إبداعيا في تطوير اللغة. وليس غريبا أن نجد اللغة العربية - كمثال - تحقق ثراء في عصر ازدهار الترجمة قرين حركة النهضة الاجتماعية. (6)
وحيث إن الترجمة إبداع علمي، فإن المترجم هنا يلتزم موضوعية المنهج العلمي، من حيث الأمانة والدقة، وتجنب إقحام نوازع ذاتية قد تدفعه إلى الإبهام في موضع الوضوح أو الإخفاء والالتواء في موضع الصراحة.
أما عن حقوق المترجم فهي ضائعة مهدرة في ظل ظروف الانحسار الثقافي والانكفاء على الذات في المجتمع. ويكفي أن نعرف أن جميع مؤسسات النشر العامة والخاصة تعطي المترجم الفتات، باستثناء مؤسسات بلاد النفط. وترفض مؤسسات كبرى الالتزام بالقواعد المتبعة؛ مثل تحرير عقد بالترجمة؛ لحرمان المترجم من حقوقه مستقبلا. وعلى الرغم من أن الصكوك والاتفاقيات الدولية تعترف بأن المترجم مؤلف، وأن الترجمة نشاط إبداعي؛ فإن الأمر على خلاف ذلك في عالمنا العربي. والمترجم مهدر الحقوق؛ لأنه يعمل كفرد لا تربطه رابطة بغيره من المترجمين.
وجدير بالذكر هنا أن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية سارت خطوات جادة ومهمة في هذا الاتجاه. ولكن الدول العربية ومؤسساتها في الداخل لم تنفذ ما دعت إليه المنظمة العربية، نذكر على سبيل المثال: «الاتفاقية العربية لحماية حقوق المؤلف»، التي تعتبر المترجم مؤلفا، وتتضمن بابا عن نطاق الحماية، والذي ينص على: «يتمتع بالحماية أيضا، ويعتبر مؤلفا، لأغراض هذه الاتفاقية؛ من قام بإذن المؤلف الأصلي بترجمة المصنف إلى لغة أخرى، وكذلك من قام بتلخيصه أو تحويره أو تعديله أو شرحه أو غير ذلك من الأوجه التي تظهر الصنف بشكل جديد.»
وتضمنت الاتفاقية بابا، هو الباب السادس، والخاص بوسائل حماية حقوق المؤلف (والمترجم طبعا)، والذي ورد فيه النص التالي:
المادة الثالثة والعشرون
تعمل الدول الأعضاء على إنشاء مؤسسات وطنية لحماية حقوق المؤلف، ويحدد التشريع الوطني بنية هذه المؤسسات واختصاصها.
المادة الرابعة والعشرون
تنشأ لجنة دائمة لحماية حقوق المؤلف من ممثلي الدول الأعضاء لمتابعة هذه الاتفاقية، وتبادل المعلومات، بما يكفل حماية المصالح المعنوية والمادية للمؤلفين (والمترجمين).
وكلفت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الأستاذ الدكتور محمد حسام لطفي أستاذ القانون المدني، بوضع مشروع قانون نموذجي بشأن تنظيم مهنة الترجمة.
ويتمثل مشروع القانون في خمسة أبواب تتعلق بالموضوعات الآتية: (أ)
إنشاء النقابة وأحكام العضوية. (ب)
النظام المالي للنقابة. (ج)
إدارة النقابة. (د)
التزامات المترجمين وتأديبهم. (ه)
صندوق المعاشات والإعانات.
وفي إشارة توضيحية نقرأ النص التالي: «لم يشأ المشروع أن يخص المترجمين بحماية قانونية خاصة؛ حيث يستفيد المترجم باعتباره مؤلفا للنص الذي وضعه من الحماية الوطنية والدولية المقررة للمؤلفين. ولم يشأ المشروع أن يضع تعريفا للمترجم حيث قصد تأكيد وضع المترجم كمؤلف.» (الخطة القومية للترجمة، إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1996م)
ومع هذا وقعت البلدان العربية اتفاقات الجات، ولم تتخذ أي إجراء داخلي لتنفيذ ما نصت عليه مشروعات المنظمة ؛ فاتفاقية الجات تحافظ على حقوق المؤلفين من أبناء العالم المتقدم، بينما يظل المترجم في أغلب البلدان العربية مهدر الحقوق وغير معترف به. وليس غريبا - والحال كذلك - ألا نجد في البلدان العربية قاعدة معلومات عن المترجمين والمترجمات، ولا نجد رابطة تحافظ على حقوق المترجم وتنهض بدوره الاجتماعي.
الجات والكتاب المترجم والعولمة
نناقش أمورنا عادة بمنطق الإحالة. نحيل الأمر على الآخر دون الأنا، وهذا يجعلنا دائما نرى فقط عنصر القوة والسلطة وكأنهما البعد الواحد والوحيد الحاكم لمسار الظواهر، دون تحليل لأسباب القوة ومصادر اكتسابها. وننسى هنا عنصر العمل والفعالية لدى الأنا، وأن علاقات الدول علاقات تفاعل، وليست إما فعلا أو انفعالا، فاعلا أو مفعولا به. وإذا أكدنا على أنفسنا وفعاليتها هنا، فإننا سوف نناقش القضية من زاويتين ومنطلقين؛ الأنا والآخر في تفاعل، دوري ودور الآخر، مسئوليتي ومسئولية الآخر، قبول التحدي وإرادة الفعل كمجال صراع.
وحين نقول الجات مثلا، فهذا فعل الآخر. والسؤال: ماذا عن فعلي أنا؟ ليست القضية قيما أخلاقية مجردة، ليست هي التماس الحق المجرد المطلق من أي صراع على المصالح؛ لأننا نحن كذلك لسنا مجردين من المصالح، ولكننا نبرر نهج التواكل والاستكانة والنزوع الاستهلاكي. وهذا النهج يحمل ثنائية نقيضية هي: إما أنا أو الآخر، الصدر أو القبر، الهيمنة لي مطلقة أو للآخر، وحين تتوفر لي القوة فأنا وحدي، وهذه شهادة التاريخ.
والجات، في ضوء هذا الفهم، آلية تشغيل وضبط علاقات في المستوى الدولي؛ فالعالم ينتج آلياته في سياق التاريخ الاجتماعي. مقتضيات ورؤى العناصر المؤثرة الفاعلة طبقا لمستوى حضارة العصر. وهي آلية جماعية غير متجانسة، ليست نسيجا متجانسا، بل يحمل تناقضاته شأن أي واقع اجتماعي محلي أو عالمي؛ ومن ثم تنطوي على احتمالات الحركة والتغير.
والحضارة هي إبداع ثقافي وفكري على مستوى المجتمع الدولي الآن. وهذا المنتج الثقافي الفكري الجديد يحمل قدرات وسلطات، ويتحرك في مناخ ثقافي اجتماعي، وفي إطار من العلاقات المتبادلة المتفاعلة. وهذا من شأنه أن يحدد رؤى حركية للواقع من الحاضر إلى المستقبل عبر الفعل الاجتماعي النشط؛ ولهذا يتحرك في إطار تناقضات حتى وإن علا صوت أحد العناصر، وساد الظن بأن الغلبة له، أو زعم أنه خاتم الحضارات ونهاية التاريخ، وأن كلمته هي القول الفصل في الفكر والمذاهب والعقائد. والأمر في جميع الأحوال رهن فعالية أطراف المعادلة، والقدرة على خلق علاقات وأطر عمل جديد. وينطوي عادة هذا التطور الثقافي الفكري على نذر وبشائر للإنسانية أو العالم؛ فقد يكون أنيابا مفترسة في يد العنصر القوي. وقد يكون رسالة للتقدم الإنساني. وينطوي كذلك على طاقات وقوى جديدة، وآفاق أطماع جديدة، مثلما ينطوي على لغة وفكر جديدين. وتثور معه قضايا تتعلق برؤى عن الإنسانية بعامة، عن حقوق الإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعن رؤية جديدة للحياة وللوجود، وعن حق التنوع والاختلاف للأفراد أو للمجتمعات، وعن الخصوصيات الثقافية والقومية ... إلخ.
لهذا فإن الحديث عن الجات في إطار العولمة - وأقصد بالعولمة هنا المدلول العلمي والثقافي لحضارة العصر، دون مدلول الهيمنة عبر المضاربات المالية - لا يكتمل إلا إذا تناولنا هذه الاتفاقية أو مجموعة الاتفاقيات في ضوء الواقع العالمي الجديد في تطوره، وأيضا في ضوء النظر إلى أنفسنا وواقعنا وحالنا، مع النظر إلى واقع الآخر وإمكاناته وأطماعه. والتساؤل في وضوح عن: من الذي سيتعولم؛ أي المرشح لفرض العولمة عليه، وفقد دوره الإيجابي - إن وجد - في الإنجازات العلمية والثقافية العالمية ويكون مستهلكا؟ ونسأل كذلك من الذي سيعولم؟ أي المنتج المهيمن بفضل إنتاجه لسلعة مطلوبة داعمة للمرحلة الحضارية. أي من في موقع الفاعل، ومن في موقع المفعول به مرحليا، إلى حين الفعل المضاد والمواجهة؟
الجات كما أشرنا آلية إضافية إلى آليات أخرى؛ مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة الأمريكية. وتهدف هذه الآليات جميعها إلى ضبط العلاقة - في ضوء ميزان القوى - بين دول المركز؛ أي التي لها غلبة الفعل الإنتاجي، ولها الغلبة السياسية والعسكرية بدرجات متفاوتة، وبين هذه في مجموعها وبين دول الأطراف التي لها غلبة الفعل الاستهلاكي. وهذه الآليات جميعها رهن مرحلة بذاتها لواقع جديد هو واقع العولمة الذي هو صيرورة محدداتها ميزان القوى علميا وتقنيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا. وهذه عملية ظهرت مقدماتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويمكن القول: إن ما يجري الآن هو بداية وليس نهاية، وإننا الآن بصدد بداية عملية نشطة يجري خلالها تشكيل الواقع العالمي على مدى هذه الصيرورة؛ نتيجة سلسلة من الصراعات المتعددة الأوجه والأطراف؛ ليبلغ الواقع العالمي على الطريق التطوري نهاية المرحلة وبداية مرحلة أخرى. واطراد هذه الصيرورة لا يعني بحال من الأحوال نهاية التاريخ، ولا ينفي احتمالات تحولات جذرية في مسار هذه المراحل.
وما دام حديثنا عن الجات والكتاب فإننا نركز الضوء على سمة مهمة مميزة لروح العصر، ونعني بذلك العلم إنجازا نظريا وتطبيقيا، والعلم من حيث هو شبكة إنتاج عالمية تتحكم فيها بلدان المركز، وهي البلدان المتقدمة صناعيا، والعلم من حيث هو نشاط اجتماعي مؤسسي، ومن حيث هو سلعة متميزة تحظى ببراءة الاختراع وحق الملكية الفكرية.
وليس لنا أن نواجه واقع اتفاقيات الجات بحجج نظرية مفادها أن الغرب - مركز إنتاج المعلومات - استعمرنا، وعليه أن يرد دينه أو دفع التعويض. ومع صواب هذا الرأي، إلا أن مثل هذا القول لن يعدو كونه صرخة في واد لن يعيرها الأقوياء آذانا مصغية. ومنطق العالم أن الأقوى اقتصاديا وعسكريا وعلميا، هو الأقوى حجة والمسموع كلمة، وأن الأضعف يخضع للأمر الواقع صاغرا ولو إلى حين. لم تأت اتفاقيات الجات بجديد فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية. وإنفاذ هذه الاتفاقيات يشكل عبئا اقتصاديا على البلدان الفقيرة؛ مما يزيدها فقرا وجهلا. وتؤكد هذه الاتفاقيات أن الكتاب والمعلومات عامة سلعة في السوق لمن يشتري، ومن ثم يرى أن النهج الأسلم قبول التحدي والمنافسة، وابتداع سبل جديدة للمنافسة في إنتاج الفكر والثقافة والعلم والمعلومات بعامة. فما هو واقعنا في هذه السوق، نحن والآخر؟ نسأل: ماذا عن دورنا نحن في إنتاج الكتاب والمعلومات والثقافة والملكية الفكرية؟
قلة في العالم تستأثر بإنتاج بضاعة حضارة العصر، وكثرة غالبة معدومة لا تملك شيئا، حظها صفر من الإنتاج، لا تملك حتى القدرة على الاستهلاك الإيجابي النشط؛ أعني الاستهلاك بهدف الإنتاج والإبداع والتطور.
نصرخ لأن الكتاب المترجم ستزداد كلفته حين ندفع حقوق الملكية، ولا نسأل لماذا لا يصادف الكتاب المترجم إلى العربية رواجا محليا يعوض كلفته؛ والسبب شيوع الثقافة الشفاهية وغلبة الأمية الأبجدية التي تتجاوز ستين بالمائة، فضلا عن مرض العزوف عن القراءة العلمية، وسيادة الأمية الثقافية التي تتجاوز تسعين بالمائة، ثم الانصراف الاجتماعي شبه الكامل عن الاهتمام بالعلم معرفة وتعليما وبحثا ومنهج تفكير، بل وإهمال مؤسساته اجتماعيا، وهو الفريضة الغائبة عن وعينا. هذا بينما إذا عولجت أمراض الأمية الأبجدية والثقافية وأمراض الانصراف عن العلم سوف يروج الكتاب، ويحقق أرباحا تفي بالحقوق القانونية للمؤلف والمترجم والناشر.
نجأر بالشكوى؛ لأن الجات ستقف عائقا يحول دون فيض الأعمال المترجمة، وأنها سوف تحد من نشاطنا. ونسأل عن حجم الترجمة في بلادنا كنشاط اجتماعي، وإلى أي حد كانت الترجمة نشاطا اجتماعيا هادفا ومتداخلا في نسيج ثقافتنا، ودعامة لحركتنا النهضوية؛ تلبية لطلب اجتماعي ظامئ ومتنام؟ مقارنة بسيطة تكشف أن هناك من هو أحق بالصراخ والشكوى، ولكنه آثر الفعل النشط ونجح في المواجهة، وأضحت الشكوى غير ذات موضوع. نظرة إلى نشاط الترجمة في عدد من البلدان المصنفة بين البلدان النامية، وليست ضمن بلدان العالم الأول، ومقارنة إنتاجها بإنتاجنا العربي؛ تشكل إجابة واضحة أو فاضحة:
متوسط إجمالي الترجمة في جميع البلدان العربية (250 مليون نسمة): 450 عنوانا؛ أي حوالي كتابين لكل مليون.
متوسط إجمالي الترجمة في إسبانيا (39 مليون نسمة): 9500 عنوان؛ أي حوالي 240 عنوانا لكل مليون.
متوسط إجمالي الترجمة في المجر (10,5 مليون نسمة): 1200 عنوان؛ أي حوالي 100 عنوان لكل مليون.
إذن القضية أولا هي نحن من حيث الإنتاج والنهم المعرفي، وكذلك توجهنا المعرفي؛ أعني ما الذي نعكف على قراءته؟ وما نوع الكتب التي لها رواج واسع في حياتنا؟
في عصر العولمة إنتاج المعلومات ونقلها سلعة عالمية السوق. يجري تبادل ملفات المعلومات داخل شبكات عالمية (الإنترنت)، بضاعة حاضرة بلغة السوق الذي تحتل فيه إسرائيل للأسف المرتبة الثانية في هذه التجارة المربحة بعد الولايات المتحدة الأمريكية. والهيمنة في عصر العولمة للأقدر والأسرع والأكثف في مجال إنتاج ونقل وتوزيع واستيعاب وتوظيف المعلومات.
أما نحن فواقعنا يشهد أننا نشبه تاجر العاديات الذي يعرض سلعا ذات قيمة جمالية أو تاريخية تملأ العين، وتشبع الوجدان إلى حين، ولكن يكفي التطلع إليها وتأملها أو اقتناء بعض منها دون أن تصنع حياة لعصر جديد.
لهذا بات لزاما لزوم الحياة والحفاظ على الوجود مواجهة النفس من أجل مواجهة الجات وجميع آليات دول المركز التي تدعم لها أسباب الهيمنة، حتى بات واجبا الانتصار على عوامل التواكل والكسل والركون إلى الاستهلاك السلبي، واقتحام مجال الإنتاج الإبداعي، والإسهام في المنتج الحضاري؛ أن نهيئ أنفسنا لاقتحام سوق سلع المعلومات، ونعرض المطلوب للسوق طبقا لمستوى العصر؛ أن نكون عنصرا ضروريا في حياة العصر لا عيالا عليها.
ما نصيبنا من إنتاج المعلومات لعرضها في السوق العالمية المطالبة بحقنا فيها؟
ما الكتاب العربي الذي يصادف رواجا، أو يسد حاجة، في مجتمعات أو تجمعات غير عربية في مجال الأدب، والفنون، والعلوم الإنسانية بعامة، وكذا العلوم الطبيعية النظرية والتطبيقية (التقانة)؟
إننا نستطيع أن نواجه الجات على عدة مستويات منها:
الأول:
تنظيم إدارة وتوزيع المنتج الفني والأدبي والعلمي والأثري السياحي؛ لضمان عائد التصدير إلى الخارج سواء على الجاليات العربية أم إلى السوق الأجنبية بعامة. ويقتضي نجاح هذا البند الارتفاع بمستوى المنتج ليكون حضاريا عصريا مطلوبا من الآخر، ويكون سلعة منافسة ذات عائد.
الثاني:
اتخاذ التغييرات اللازمة في البنية الاجتماعية والبنية الذهنية للإنسان العربي؛ لكي نهيئ المناخ للإنتاج الإبداعي والإسهام في إنجازات العصر، وهو أيضا نفس المناخ الحافز للقراءة والتماس المعرفة، بل ومغامرة الاكتشاف المعرفي، ومن ثم رواج الكتاب.
الثالث:
عقد اتفاقات مع دول شمال المتوسط أو الاتحاد الأوروبي؛ إذ إن هذه البلدان تشجع نقل وتعريب إنجازاتها من الآداب والعلوم وترجمتها، تعزيرا للعلاقات بين الجنوب والشمال كأسلوب من أساليب مواجهة العولمة بمعنى الهيمنة الأمريكية، ويقترن هذا أيضا بالتخطيط، من خلال اتفاقات مع بلدان العالم الثالث. ويمثل هذا النهج خطة من استراتيجية متكاملة نسميها عولمة المواجهة، ولكن تأسيسا على فعالية ذاتية، والاندماج في العصر، بعيدا عن الشعارات الكلامية الجوفاء.
ويدفعنا هذا إلى أن نسأل مرات ومرات: ما مدى حاجتنا الاجتماعية إلى المعلومات؟ ما حجم ونوع الطلب الاجتماعي؟ وما حجم ونوع العرض الذي نعرضه من المعلومات؟ ما دورنا في إنتاج التقانة الخاصة بمعدات الكمبيوتر سواء العتاد؛ أي
Hardware ، أو تصميم البرنامج
Software ، بحيث يلبي إنتاجنا طلبا عالميا. ونعود لنقول بكل أسف: إن إسرائيل تحتل المرتبة الأولى في بعض هذه المنتجات، وبلغت صادراتها من المنتجات الإلكترونية في عام 1997م ستة بلايين دولار؛ أي ثلاثة أمثال دخل مصر من قناة السويس.
وإذا كانت الجات تعني الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، فإننا قبل أن نطعن فيها حرى بنا أن نعيد النظر إلى واقعنا، في ضوء رؤية استراتيجية هادفة؛ لنكون في موقع ووضع حضاريين؛ إذ يثرى مجتمعنا بالمبدعين الذين نطالب بحقوق ملكيتهم الفكرية.
إن الجات بكل مساوئها هي بالنسبة للكتاب والمعلومات حافز يستفزنا أو يستنفرنا لكي نرقى بمستوى إنتاجنا من الإنجازات العلمية النظرية والتطبيقية؛ لتكون على مستوى المنافسة الحضارية.
إننا حين نتحدث عن تشجيع الصادرات لزيادة الدخل القومي تتجه الأنظار وتتحول الجهود إلى السلع الخدمية المتوافرة، سواء في صورة خامات أو مصنوعات، وننسى أن البحث العلمي هو أهم الصادرات رواجا، وأهم قوة دعم للصادرات الخدمية. ويجري تصدير البحث العلمي إما في صورة برامج للكمبيوتر أو كتب أو دوريات تتضمن بحوثا علمية دورية، وإما في صورة سلع يجري تطويرها تأسيسا على هذه البحوث، بحيث تكون السلعة متضمنة الإنجاز العلمي الجديد، كعامل ارتقاء وسبب للتفوق والمنافسة، وأيضا عامل رواج وربح. ومعنى هذا أن تصدير السلع لن يحقق نجاحا إلا بفضل البحث العلمي، ولن يتأتى هذا إلا إذا توفرت للمجتمع قاعدة للبحث العلمي متكاملة مع قاعدة الإنتاج. مجتمع يتعلم ويمارس العلم ويسوده مناخ علمي، والتنشئة الاجتماعية فيه تنشئة علمية في البيت والمدرسة والإعلام، أبناؤه يعشقون مغامرة الاستكشاف العلمي بغير حدود ولا قيود. مجتمع لا يخشى الجديد، وإنما يهوى الإبداع والتجديد.
ولنتأمل إسرائيل قطب التحدي والخطر المباشر على أرضنا، كمثال للمرة الرابعة والخامسة ، كيف أصبحت قوة إنتاج علمي وتصدير للإنجازات العلمية بفضل قاعدة البحث العلمي والتنظيم الاجتماعي للموارد والطاقات المادية والبشرية. وأضحت دول كثيرة متقدمة؛ مثل اليابان والولايات المتحدة وألمانيا، ودول نامية مثل الهند تسعى إليها تعقد معها الاتفاقات لاستيراد منتجاتها التقنية، بل والمشاركة مع علمائها في مراكز البحث الإسرائيلي. وتشعر هذه الدول أنها بحاجة إلى إسرائيل التي تبيع من إنتاجها العلمي والتقني، في صورة أبحاث أو إنجازات مادية، ما يعوضها عن الجات، بل ويعود عليها بالربح الوفير، ويكفل لها الأمن والبقاء واستمرار التحدي بفضل ما هيأه لها البحث العلمي والثقافي وتنظيم الموارد من سطوة وقوة؛ إذ لا بد وأن يحتاج إلينا العالم لا أن يكون بقاؤنا صدقة من العالم؛ فالبقاء للأصلح.
ونسأل في المقابل عن تنظيمنا لمواردنا البشرية والمادية، وعن علاقتنا الاجتماعية إلى أي حد هي حافزة، وعن بنيتنا الذهنية وتنشئتنا الاجتماعية والتعليمية. ولنسأل إلى أي حد تمثل جامعاتنا ومراكز أبحاثنا قبلة يقصدها علماء من العالم ليتزودوا بإنجازاتنا ويتدربوا فيها، وكم عدد علمائنا وباحثينا المبعوثين للدراسة والبحث في الخارج واستيعاب علوم وتقانة الآخرين المتقدمين؛ ليعودوا وهم ثروة اجتماعية وأداة إثراء وعطاء حضاري يمثل عائدا اقتصاديا. لا أريد أن أسأل عن س أو ص من العلماء المصريين في الخارج. احتفت مصر مؤخرا بعالم مصري زائر، وهناك غيره كثيرون من الطيور المهاجرة، ولكن لم يسأل أحد نفسه عن مصير هذا أو ذاك لو عاد إلى بلاده؟ ولعل الأصوب أن نسأل: كم آلافا وئدوا داخل المجتمع فكانوا ثروة مهدرة، ولا يزالون؟!
إن العلم النظري والتطبيقي هو روح العصر، وهو روح السوق العالمية في عصر العولمة والهيمنة. السوق العالمية سوق معلومات إبداعا وتوزيعا وتوظيفا، وهي معلومات في صورة أبحاث أو كتب أو مجسدة في سلع مادية إنتاجية وخدمية. لا نريد أن نكون أشبه بمن يواجه قاطع طريق فيصرخ ويقنع بالصراخ، وإنما أن يتدبر أمره فيلتمس الحيلة والوسيلة للتصدي بسلاح العصر، خاصة وأن الوضع العالمي هو محصلة توازن قوى عسكرية وسياسية ومالية واقتصادية، وهي قوة ركيزتها العلم النظري والتطبيقي. وهذا الوضع العالمي ليس قدرا محتوما، وليس نهاية التاريخ، بل التاريخ حركة عالمية هي فعالية المجتمعات، والتي تفضي إلى تغيير أطراف المعادلة. إنه إرادة المجتمعات الفاعلة؛ من أجل الانتصار على سلبيات النفس، والانتصار على الآخر.
لغتنا وتعريب العلم
اللغة، الفكر، المعرفة، الفهم، الفعالية، الإنتاجية والإبداعية؛ هذه جميعها تكاد تكون مفاهيم مترادفة؛ إذ لا لغة بدون فكر، ولا لغة أو فكر بدون فعالية إنتاجية للأنشطة الإنسانية في إطار علاقة الإنسان/المجتمع بالوجود. وإذا كانت اللغة أداة تواصل فإنها تواصل فكري لما هو موضوع فهم الإنسان النابع من تلك العلاقة الإنتاجية النشطة؛ إذ إننا نعي الوجود ونتعامل معه ونعبر عنه باللغة ومن خلالها، فكأن اللغة هي الفكر والفعل والرمز في آن.
وجهان للمشكلة
ومسألة التعريب هي في ظني ذات شقين: (أ)
العلاقة بين لغة العلم واللغة الطبيعية في المجتمع. (ب)
صياغة المصطلحات العلمية.
والشق الأول شق أصيل؛ ذلك أننا بحاجة إلى بحث حقيقة أبنية اللغة الطبيعية وبحث العلاقة بين اللغة العلمية بما لها من خصوصيات، وبين أبنية اللغة الطبيعية السائدة، وإلى أي حد تعتبر هذه العلاقة معززة أو معوقة لصياغة الفكر العلمي؛ فقد تكون أبنية اللغة الطبيعية في المجتمع، كما هو شأنها في الحضارات السابقة على حضارة الصناعة، تعبيرا عن فكر أو ثقافة اجتماعية ترى الوجود تجليات، وترى الظواهر موضوعا لتأملات نظرية مجردة، ونتائج منسوبة إلى علة خارج الذات والطبيعة، وتجاوز فكر الإنسان وقدراته على البحث والاستكشاف. وها هنا تكون اللغة أو أبنية الفكر الاجتماعي حائلا دون فعالية الإرادة الإنسانية للتغيير واستكشاف قوانين اطراد الظواهر الطبيعية، أو لنقل: أبنية تقنع بالتواكل والكسل الفكري والإحالة إلى علة خارقة؛ إذ تكفي عبارة كلامية ينتهي عندها الإشكال، ويقنع الإنسان/المجتمع بالتفسير الذي يتجاوز الطبيعة التي هي موضوع البحث العلمي. بينما البحث العلمي له لغة المنطق من حيث العلة والمعلول، وبعدا الزمان والمكان والعلاقات بين ظواهر طبيعية لها قوانينها التي تعبر عن حركتها واطرادها، ونشأتها وتكوينها، وتهيئ للإنسان إمكانية التحكم والسيطرة؛ أي أن تكون ساحة لفعالية الإنسان وممارسة إرادته في التغيير.
ويرتبط هذا بأوثق ارتباط بالمنهج؛ ذلك لأن المنهج ليس فقط قواعد بحث، بل توجه عقلي، ونهج في الفهم، وأسلوب لغوي في الصياغة، ونحو في التعامل مع الواقع موضوع الدراسة.
لغتان وقطيعة معرفية
فاللغة بمترادفاتها السالفة الذكر هي الإنسان/المجتمع دورا وعلاقات وفاعلية وأسلوب هذه الفاعلية؛ فقد تكون اللغة في مجتمع ما - وبحكم هذه الاعتبارات - لغة غارقة في تهويمات ومفردات وعبارات نظرية مجردة أو تأملية ميتافيزيقية، ومن ثم تكشف عن مسافة فاصلة هي مسافة واقعية، تفصل بين اللغة وبين التعبير الذي يجسد فعالية مادية مباشرة وإيجابية بين الإنسان/المجتمع والوجود، ومثل هذه اللغة تنتظر من الإنسان/المجتمع أن يستن سنة جديدة في علاقته أو في حواره مع الوجود؛ أي تنتظر تحولا حضاريا لتكون اللغة هي لغة الحضارة الجديدة وفكرها ومفاهيمها وفعاليتها الإنتاجية؛ ولهذا يقال: إن التحول الحضاري، وهو في جوهره تحول مادي/فكري، أو مادي/روحي، كما يفضل البعض أن يسميه، هو أيضا بالضرورة تحول في اللغة، أو أن لكل حضارة لغتها من حيث المدلول والتعبير عن الإنسان/المجتمع الجديد في علاقته الإنتاجية النشطة بالوجود، وكذا من حيث النظرة إلى الوجود ونهج التعامل معه.
ولعل هذا هو أحد الأسباب في أن البعض يقاوم ويتشدد في مقاومته لأي تجديد حضاري باسم الحفاظ على اللغة، خاصة إذا كانت اللغة هي إحدى خصوصياته أو مرتكزاته الحضارية التي بدونها يغدو صفرا من كل شيء حسب مفهومه التقليدي، وكأن حضارته هي فقط صياغة لغوية ومضامين تقليدية ورسوم كلامية مكتوبة أو مقروءة، وليست فكرا وقيما ونشاطا إبداعيا له تاريخ؛ أي لا يراها تاريخية الدلالة ومرحلة من مراحل تطور اجتماعي مطرد المضمون أبدا، ومثل هذه اللغة تكون عائقا أمام لغة العلم، بل وأمام منهج البحث العلمي والفهم العلمي للظاهرة؛ ذلك لأنها تضع الإنسان/المجتمع أسير نظرة إلى العالم منافية معرفيا لنظرة العلم.
إن مصطلح السبب أو السببية في لغة التقليد مناف مدلولا ونطاقا لمصطلح السببية في لغة العلم. ولغة التأمل النظري للظواهر من حيث هي تجليات، تحد من قدرة الإنسان على الفعالية الإيجابية واقتحام الظاهرة وفهم قوانينها وتغيرها والخطو بها نحو هدف أو مصير يقرره الإنسان. وتعزو مثل هذه اللغة أسباب الظاهرة إلى علة خارجها، حتى ليتعذر فهمها على نحو آخر، وكل من يحاول التعبير بمثل هذه اللغة عن ظواهر العلم وعن منهج البحث العلمي وإنجازاتها سوف يجد أن لغة التقليد لن تطاوعه، بل سوف يخلط بين اللغتين غصبا ويشوههما؛ فلا هي لغة تأمل ميتافيزيقي في ظاهرها، ولا هي لغة علم في حقيقتها، وإن ظل هو من حيث الفعل والفكر خارج ساحة العلم.
إن لغة العلم هي لغة تغيير الظاهرة بفضل فعل إنساني إيجابي بعد فهم أسبابها من داخلها، وإيمان بقدرة الفاعلية الإنسانية على التحكم في مسارها، ومن ثم في مصير الإنسان. وصورة الكون والإنسان في لغة التقليد أو حضارة ما قبل المنهج العلمي، صورة تعبر عنها لغة تساوي فكرا سكونيا ثباتيا مطلقا لا تاريخيا. على عكس الحال في العلم؛ فالتحدث بلغة العلم لا ينقل صورة العالم إلى صاحب الفكر التقليدي؛ فلكل لغة صورتها عن الوجود أو رؤيتها أو فكرها. وصاحب الفكر التقليدي إذا ما اصطنع لغة العلم في حديثه إنما يصطنع رطانا غير ذي مدلول ما لم تحدث وظيفة معرفية تجعله يرى العالم من خلال إطار معرفي/قيمي جديد هو إطار العلم؛ لذلك نرى التقليدي يصوغ عبارات إنشائية عصرية الشكل ليحدثنا عن صورة تقليدية، ويبين لنا بوضوح أن المفكر التقليدي، بدون هذه الوظيفة المعرفية اجتماعيا والمتجاوبة مع نشاط مجتمعي، يرتد أو ينتكس سريعا إلى التقليد فكرا أو سلوكا؛ أي إطار معرفي/قيمي؛ فهو في باطن فكره له الحاكمية ومقطوع الصلة بالواقع.
وهكذا يمكن القول: إن التقليدي بفكره أو بلغته إنما هو أحد تجليات أزمة الوعي الاجتماعي والتاريخ في مجتمع يعاني من السكون وعدم التجديد، تجديد الفعل والفكر، ومن ثم تجديد اللغة. إن التعامل مع العصر يكون بفكر؛ أي بلغة حضارة العصر التي هي منتج اجتماعي حضاري. وبهذه اللغة نقرأ حياتنا وتاريخنا وعالمنا قراءة جديدة، وتكون هي القراءة الأرجح صوابا والأنجح وسيلة لرسم معالم المستقبل والتحرك نحوه. ومن ثم نقول: إن المسافة الفاصلة بين اللغتين هي مسافة حضارية. وتستلزم المصالحة أو عملية التصحيح نقلة حضارية بكل مقتضياتها؛ لغة، ومنهج تفكير، ونظرة إلى العالم، ونهج تعامل أو تناول لظواهر الوجود؛ أعني أن قطع هذه المسافة الفاصلة لا يتأتى إلا بفضل وظيفة معرفية كاملة الأركان لينتقل الإنسان/المجتمع نقلة حضارية جديدة.
إشكالية الدلالة
أما مسألة المصطلح فإنها تتعلق برسم الكلمة ودلالاتها وذيوعها اجتماعيا، ولا يخفى أننا نعاني مشكلة في هذه العناصر الثلاثة ؛ الرسم، والدلالة، والرواج؛ فقد نجد مصطلحا واحدا مرسوما بالأحرف العربية في صياغات مختلفة باختلاف المترجم، وقد نجد مصطلحا عربيا غير واضح المدلول لغياب إطاره الفكري ونشاطه العلمي المتولد عنه، وقد يكون للرسم الواحد دلالات متباينة عند أصحابه في اللغة الأجنبية لأسباب اجتماعية وثقافية، وتكون المشكلة في التعبير عن ذلك عربيا.
إن المصطلحات العلمية هي في حقيقتها إفراز ونتاج عمليات بحث فكري، وهنا يكون المصطلح تعبيرا وتجسيدا لوحدة الفكر والفعل أو وحدة النشاط الاجتماعي الإنتاجي والنشاط الفكري معا، وليس في استقلال؛ إذ يضع الباحث مصطلحا للدلالة على موضوع اكتشافه، أو حدث ما يعايشه. ووضوح المعنى في الأذهان لا يكون إلا بتصور الذهن لدلالة المصطلح؛ أي عناصر الحدث كآلية أو كموضوع. وطبيعي أننا لا ننشد امتلاك كلمة عربية جديدة نزهو بها أو إبدال منطوق غربي بمنطوق عربي، وإنما غايتنا وضوح المعنى والصورة الذهنية والمفهوم. الأمر الذي لا يبين جيدا إلا من خلال نشاط علمي مواز من شأنه أن يوضح، بل ويضيف.
المصطلح معرفة وفهم
والمصطلح العلمي ليس كلمة فقط منطوقة أو مكتوبة مودعة في قاموس، بل هو جزء من نشاط معرفي هو بعض نسيج المجتمع. الكلمة في حد ذاتها خاملة سلبية، ولكنها ضمن هذا النسيج تعبر عن فعالية نشطة داخل بنية فكرية تجسد علاقة الإنسان بالحياة، ومعبرة عن مستوى معرفي، وتتداخل في رابطة عضوية وبمصطلحات أخرى؛ أي بنية معرفية دينامية آخذة في التطور .
وهكذا لا يكون المصطلح كلمة جديدة، بل وحدة من وحدات لغة العلم التي تسعى إلى إثبات حصاد البحث والتجريب؛ أي إثبات المعارف. إنه معرفة مجالها النشاط المجتمعي، وهو بهذا المعنى إنجاز بكل ما تعنيه كلمة إنجاز من فعالية إيجابية أو إضافة.
وهو أيضا إنجاز من حيث إنه لبنة من لبنات نسيج النشاط المعرفي المجتمعي للتحقق تجريبيا أو نظريا من العالم. إنه إنجاز من حيث إنه وليد شرعي لبحث نظري أو تجريبي يتعين أن يكون ضمن إطار الوعي، ومن حيث إنه إنجاز، فإن - شأنه شأن العلم - له دلالة تاريخية واجتماعية ، ومن ثم فهو رهن بزمان نشأ فيه أدى إلى ظهوره أو اندثاره، ورهن بظروف اجتماعية من حيث القيم التي تعززه أو تنبذه، والنشاط العلمي الذي يستوعبه ويمنحه الحياة.
الوظيفة الاجتماعية للمصطلح
المصطلحات العلمية تأتي ذلولة منقادة لمجتمع يمثل العلم فيه نشاطا معرفيا سائدا، وفعالية لها دورها في بناء المجتمع. هكذا الحال في عصور الازدهار الحضاري، حيث الترجمة تلبية لحاجة اجتماعية؛ أي استجابة لنشاط إنتاجي إبداعي. ليس الأمر أن هناك لغة متخلفة وأخرى متحضرة، وإنما هل ثمة وظيفة اجتماعية للمصطلح، أو سيظل مهجورا أو محصورا؟ فالنشاط العلمي الاجتماعي هو الكفيل بتيسير وإنجاز صوغ المصطلحات ومنحها الحياة، وإضافة الجديد واستيعاب الوافد وليد حركة الإبداع العلمي النشطة في العالم.
ومهمة التعريب لا تنتهي عند صياغة مصطلح برسم عربي ظنا منا أن المصطلح العلمي ثابت الدلالة يكفي تعريبه مرة وإلى الأبد؛ فهذا غير صحيح؛ إذ إن المصطلح - من حيث هو ظاهرة علمية - له حياة ومسار. وتجارب الأمم شواهد صدق على ما ذهبنا إليه، من ذلك تجارب اليابان والصين وإسرائيل. مثال: إسرائيل واللغة العبرية؛ فقد كانت اللغة العبرية في عداد اللغات الميتة، ولكن مع نشأة إسرائيل بدا الاهتمام بإحياء اللغة العبرية لتكون أداة تواصل بين شتات المهاجرين الذين وفدوا من بلدان متعددة الألسن. ومع النشاط العلمي الاجتماعي سرعان ما أصبحت لغة حية متطورة ومعبرة عن مختلف دقائق العلوم. ولو كان المجتمع الإسرائيلي قنع بالأدب والشعر مظهرا للنهوض الحضاري، لجاء إحياء العبرية في صورة لغة أدب وشعر من دون العلوم.
إن إحياء اللغة في مجتمع عازم على استيعاب مختلف العلوم وممارستها والإفادة بها، والمساهمة في النشاط العلمي الإبداعي، جعل اللغة العبرية أداة متقدمة اغتنت بالمصطلحات العلمية الجديدة، وقادرة على التعبير السهل والدقيق عن مختلف القضايا العلمية، وحدث هذا استجابة لحاجة ملحة لمجتمع نشط علميا، وليس مجرد مجتمع يتلقى الوافد الجديد حسبما يأتي له.
لم يكن جوهر المشكلة هو ترجمة المصطلح، بل تهيئة وظيفة اجتماعية للمصطلح، من خلال نشاط اجتماعي أصيل وفعال؛ فاللغة هي أكثر وسائل التفكير الإنساني دقة ومرونة، ومن ثم لا تبقى ساكنة إلا بسكون مجتمعها، ومتطورة أبدا بتطوره. وهي في نشأتها وارتقائها إنما تواكب التغيرات التي تطرأ على بنية الحياة الاجتماعية والثقافية، وتعكس واقع الفعالية النشطة أو ركود المجتمع.
وإذا كانت اللغة نتاج مجتمع، فإنها أيضا وجود هذا المجتمع أو صورته، ولا تستطيع كلمة أن تكتسب أهلية العضوية في نسيج اللغة وشهادة بقاء وحياة، ما لم يكن لها رصيد في النشاط العملي العلمي الذي يضفي عليها مشروعية الوجود.
جوهر القضية ليس كلمة عربية بديلة، بل فعل عربي بديل تجري معه اللغة لسانا عربيا.
أزمة الترجمة العلمية وتعريب المصطلح
أزمة الترجمة العلمية انعكاس لأزمة المجتمع، كذلك أزمة تعريب المصطلح العلمي تعبير عن هذه الأزمة المضاعفة. المصطلح لغة، واللغة فكر، والفكر وجه تعبيري للفعل الاجتماعي النشط؛ إذ لا فكر في المجرد؛ أعني لا فكر بدون فعل اجتماعي. والفكر في عصرنا الراهن فكر علمي؛ لأنه وليد فعل اجتماعي علمي تجسده البحوث العلمية النظرية والعملية بقواعدها المنهجية؛ ولهذا نجد المصطلح العلمي يعود في نسبه نشأة وتكوينا إلى مركز أو موطن النشاط العلمي الاجتماعي، وحيث توجد مراكز البحث العلمي المعرفي التي تبدع اللغة أو المصطلح، تعبيرا عن نشاطها الاجتماعي، وتكون هي موطن تصدير المعرفة والفكر والمصطلح. وتظهر هنا مشكلة الانفتاح. التلقي والترجمة والقدرة على الاستيعاب والمواكبة، شريطة أن يعرف المجتمع طريقه ومفاتيح النهوض، ومن ثم تكون له معايير الاختيار. وقد تكون المشكلة أزمة تحول دون ذلك كله، وتكرس التخلف إذا ما سد المجتمع السبيل وآثر الانزواء والانغلاق، وقنع بمظاهر المحاكاة للاستهلاك، وعجز أو عزف عن بذل نشاط مجانس حضاريا يؤهل المجتمع وفق قضاياه ومشكلاته وخصوصيته لمواكبة الفكر، وابتداع المصطلح الذي يفضي إلى تطوير اللغة من خلال تطوير الفعل الاجتماعي الذي يجسده مشروع قومي.
وفي ضوء واقع حال الترجمة العربية وتناقضاته مع مقتضيات العصر تتكشف أسباب ندرة وقصور الترجمة العلمية وأزمة تعريب المصطلح. وغني عن البيان أن لا تقدم لأمة الآن بدون استيعاب العلوم الأساسية وتوظيف أسس العلم؛ نظريات، ومنهج تفكير، وتطبيقات عملية، باعتبار العلم قوة حركة وهيمنة للبلدان المتقدمة. لقد تعثرت خطواتنا في سبيل ترجمة أمهات الكتب ودوائر المعارف التي تسهم - علاوة على نشاطنا الإبداعي الذاتي - في صوغ نظام معرفي عصري؛ أي علمي.
والترجمة العلمية لا تأتي اعتسافا، ولا تخضع لاختيارات فردية أو عشوائية، وإنما رهن توفر رؤية استراتيجية تنموية شاملة، وإيمان بدور الإنسان العام صاحب المصلحة أن يعايش مناخا عاما وتنشئة اجتماعية وتعليمية، يتأهل بفضلهما للانتماء إلى المعرفة العلمية والتفكير العلمي، ويرى فيهما أداءه لصنع المصير. هذا علاوة على تأسيس حقه اجتماعيا في حرية التماس المعرفة ونهمه في تحصيلها من منطلق عشق المغامرة والاستكشاف، وإيمانه بقيمة المعرفة الإنسانية في تنوعها وتعدد مصادرها وحق تحصيلها وفق منهج بحث محدد القواعد، باعتبار أنها الأقدر على صنع الحياة، وأنها ركيزة البناء الاجتماعي والسلوك الفردي، ودعامة الرفاهية وحل مشكلات الحياة.
واستطرادا لهذا نقول: إن التنمية الحقيقية بكل صورها، بما في ذلك الثقافة والفكر؛ أي بناء الإنسان، رهن العلم. والتنمية تعامل اجتماعي نشط مع الطبيعة والإنسان. وهل يكون ذلك بغير العلم؟ وإذا كان الإنسان العام دعامة البناء الجديد، فهل يكون ذلك بدون تعليم علمي ومعارف علمية ليكون أهلا للفعل الإبداعي العلمي؟ والعلم بلا وطن، فهل نعيد بناء أنفسنا ونؤكد ذاتنا في عزلة عن الآخر دون وعي نقدي وصناعة علمية تشمل الجميع؟
وليس غريبا أن عصر العلم بدأ مع عصر الصناعة، العلم المنهج والمبحث والبرهان العقلي والإيمان بالعقل النقدي وبالتغيير قانونا للوجود. ولكننا لا نزال نعيش عصر ما قبل العلم، وهذا ما تؤكده حال الترجمة العلمية في عالمنا العربي. نعيش عصر ما قبل العلم، ليس فقط بسبب غلبة الإنسانيات - وإن كان الفصل بين علوم إنسانية وعلوم طبيعية بات فصلا غير مستساغ، في ضوء الإيمان بوحدة العلم انطلاقا من الإيمان بوحدة الإنسان/الكون، ناهيك عن تطور الإنسانيات وصبغتها العلمية - ولكن من حيث موقفنا من المعرفة، ونهجنا في الحياة وافتقارنا إلى المنهج، وغياب البحث العلمي المؤسسي أو عزلته اجتماعيا، ومن ثم غياب النشاط العلمي كفعل اجتماعي وغياب المناخ الحافز له، والذي ينعكس في غياب الطلب على الكتاب العلمي وقصور الإقبال على ترجمته. وإذا كان العلم إيمانا بالتغيير بناء على معرفة علمية بالواقع، فإننا في ضوء إغفال العلم نعزف عن تغيير مجتمعنا ونعيش حياة استاتيكية أو راكدة أو حياة تخضع لنظام معرفي استاتيكي؛ ولذلك لا نجد قضية تغيير المجتمع هي القضية الملحة، بل تغيير الذات؛ أي أن نغير ما بأنفسنا. ونعيش عصر ما قبل العلم متمثلا في غياب العلوم الأساسية والموسوعات والدوريات والمعاجم العلمية، غيابها إبداعا وفعلا؛ وهذا لغياب الفعل العلمي كنشاط اجتماعي. ونجد لغتنا - وهي فكرنا - لغة غير علمية وتعبر عن فكر بعيد كل البعد عن العلم. ولأننا نعيش عصر العلم بلغته، فإننا نعيش أزمة التناقض بين العلم واللغة العربية. والتزمنا هنا نهجا خاطئا؛ إذ حصرنا مشكلة الترجمة العلمية في المصطلح العلمي، وراج القول: إنها مشكلة لغة. وأصبح الموقف إما دفاعا عن اللغة أو اتهامها بالقصور، ثم نراه اتهاما مردودا إلى نحورنا؛ لأن اللغة هي ذاتنا. ونحتال لدفع الاتهام دون أن نحتال لشق الطريق الصعب وهو تغيير المجتمع إنسانا وفكرا وسلوكا ونظرة إلى الحياة وتقديسا للمعرفة العلمية. وذهب بنا الظن إلى أننا إذا ترجمنا المصطلح فقط، تيسرت لنا المعرفة العلمية والنشاط العلمي، ونسينا أن اللغة فكر نشط؛ أي فعل اجتماعي في الأساس. واللغة العلمية هي النشاط العلمي الذي يهيئ إمكانات تطويع اللغة. الإنسان يكون إنسانا علميا بفضل نشاطه العلمي وليس بما يمتلكه من مفردات؛ فالكلمات تأتي تالية للنشاط، والمجتمعات التي تقدمت هي تلك التي طوعت النشاط العلمي للغة الأم؛ أي بدأت به ثم عبرت عنه، وأبدعت مصطلحاتها العلمية بفضل نشاطها، ولم تنكب بداية ونهاية على تطويع المصطلح الأجنبي.
نحن ننظر إلى اللغة في انفصال عن النشاط الاجتماعي كأن لها وجودها المستقل، ومن ثم نظن أن العيب والقصور في اللغة وليس في الإنسان الراكد الذي لا يفعل. ولهذا يدفع البعض قائلا: إن اللغة قادرة على أن تكون لغة علم، ولكن كيف والمجتمع عاطل صفر اليدين من النشاط العلمي، وحياة المصطلح رهن الاستعمال الاجتماعي له في مجاله؟! ويرى البعض أيضا أن قصور اللغة سببه الغزو اللغوي وليس الجمود أو حالة الخمول الاجتماعي
Social Apathy . والسؤال هو: كيف نوفر المصطلح ونحن عاطلون عن النشاط العلمي؟
المصطلح قرين ونتاج البحث العلمي. والمصطلح مفهوم، والمفهوم لا يتحصل إلا من خلال وبفضل نشاط البحث العلمي ومعايشة العلم؛ لأن المصطلح لغة أي فكر أو مفهوم، والذي هو الوجه الآخر للفعل الاجتماعي في وحدة وتكامل. وسوف يظل العلماء يكتشفون ويبدعون، وسنظل نحن نكتشف ونبدع، وتظل اللغة تلهث ابتغاء صياغة المصطلحات الدالة على المفاهيم الجديدة، ولكن نشاطنا هو الأساس الأول لكي نواكب. ومع ترجمة القديم أو السابق نستطيع من خلال نشاطنا البحثي أن نلاحق ونضيف. إن لدينا الآن مئات الآلاف من المصطلحات العلمية التي تتزايد باطراد، ولكن أين صداها في التعليم أو في المجتمع؟ وهي على كثرتها لم تصنع من مجتمعنا مجتمعا علميا. إن المصطلح ظاهرة اجتماعية يولد ويحيا من خلال النشاط الاجتماعي. ولغة العلم تنمو وتزدهر في وطن يرعاها حين يجسدها في فكره ونشاطه فتكون بعضا من وجوده الحياتي.
البعد الاجتماعي لأزمة ترجمة المصطلح
المصطلح والخطاب الاجتماعي
لم تبدأ اللغة بصيحة بل بفعل. والكلمة ليست صوتا، ولا الفعل حركة ظاهرية، ولكنها ذلك النشاط التاريخي الفردي المجتمعي الفاعل في الوجود والمنفعل بالوجود عبر دائرة تأويلية يتوسطها الجهاز العصبي؛ لذا فإن عبارة «الكلمة، الفعل، الفهم»، تؤلف معا في تزامن بنية واحدة متحدة العناصر لوعي الإنسان من حيث هو إنسان اجتماعي فاعل متطور تاريخيا تطورا ثقافيا بيولوجيا في إطار من الوجود النفسي الفيزيقي. والوجود هنا ليس شيئا مستقلا عن الفكر، وكذلك الفكر واللغة والأشياء والنشاط في التاريخ تؤلف جميعها الإنسان، أو خطاب الإنسان مع الطبيعة والمجتمع.
وهنا مكمن خطر؛ ففي حالة تخلف أو غياب عنصر الفعل النشط الإنتاجي قد تأخذ الكلمة صورة استقلال ذاتي متوهم باعتبارها وعي الروح الفردي المثالي، ووعاء خبرة مقطوعة الصلة بالفعل؛ أي بالواقع. وتتراص الكلمات طليقة بمحتواها الانفصامي، ويكون الفهم هنا غير عياري من نسيج تخييلات ثقافة مجتمعية محلقة في الفضاء.
والمصطلح شكل أرقى من أشكال الكلمة، قياسا إلى اللغة العادية؛ ذلك أنه إحدى لبنات لغة العلم، ويستهدف التعريف أو تحديد المفهوم في دقة وإحكام وإيجاز، ولكنه من هذه الزاوية تحديدا يدخل أيضا نطاق اللغة العامة وبناء الوعي؛ ذلك لأن العالم المتخصص مثلما يتحدث إلى أقرانه، يتواصل أيضا مع الآخرين من غير أبناء تخصصه، ومن ثم يتعين أن تكون لغته مفهومة للجميع. ومن هنا لا يكون المصطلح، ومن ثم لغة العلم، رموزا اصطلاحية بين متخصصين، بل لغة تفسير ووصف وتحليل لظواهر الكون؛ ولهذا تسهم لغة العلم بمصطلحاتها في صياغة إطار معرفي علمي، أو لنقل: عصري. واتفاق الآراء بشأن هذا الإطار هو ركيزة انتماء المجتمع إلى رؤية واحدة وموحدة للكون والإنسان، ولا يكون الحوار بين أبنائه حوار طرشان.
المصطلح والحوار النشط
ووضع المصطلح في لغة عربية، أو ترجمته إلى أي لغة، هو نوع من التقدمة التي يقدمها المؤمن الصادق على المذبح في محراب العلم المؤسسي، متوقعا طرفا آخر يقبله ويجد فيه اتساقا مع حاجته، ويكتمل بهذا طرفا الحوار اجتماعيا. وبذا يأخذ المصطلح مكانه ممارسة تكفل له الحياة في سياق اجتماعي؛ فاللغة ليست مفردات، وإنما هي نسيج خطاب مجتمعي غير منفصل عن نسيج الحياة الذي هو مجلى هذا الخطاب. وهكذا تكون حياة اللغة رهن نشاط اجتماعي هادف، وإلا فقد الخطاب الاجتماعي مبرر وجوده.
أقول هذا لأننا في مناقشاتنا لمسألة تعريب العلوم، وما أكثر ما قيل في هذا الاتجاه، نذهب إلى أن جوهر الأزمة عندنا هي أزمة تعريب أو صك مصطلحات وفق قواعد الاشتقاق اللغوي، وكأن العلم هو المصطلح فقط، وغاب عن الأذهان أن المصطلح نتيجة وليس سببا. إنه تلخيص أو تجريد موجز لحدث وقع، ومن ثم فإن السبب هو الفعل؛ أعني النشاط العلمي أولا حسب مقتضيات العصر. العلم كمؤسسة اجتماعية وركن أساسي في سدى ولحمة استراتيجية قومية للتطوير الحضاري؛ إذ في ظل هذا النشاط وبفضله ينشأ المصطلح وتجري لغة العلم على الألسن وتتشكل الرؤى. تتطور اللغة، وتتطور العقول، ويتطور واقع المجتمع على جميع المستويات. إننا نبرز قضية الشكل بينما جوهر الأزمة - في ظني - هو أزمة بطالة مصطلحية. قد تتوافر المصطلحات ولكنها عاطلة لم تتحول إلى مصطلحات شغالة اجتماعية؛ أي صيحة بلا عقل، ومن ثم ينعكس عليها حالنا من تشرذم وتباين وتعدد بلا رابط.
اللغة نشاط وتواصل معرفي
ليس مناط الأمر استنطاق القاموس، والتعسف أحيانا في التخريج اللفظي، بل الأمر أبعد من ذلك؛ إنه المفاد والدلالة والتمثل الذهني في ضوء نشاط فعلي وعقلي إنساني ييسر التعريف، وبذا يتكامل الخطاب الاجتماعي؛ ذلك لأن اللفظ أداة لتحقيق وظيفة أو في خدمة فعل اجتماعي يشتمل في آن واحد على رؤية إلى العالم، وعلى جهد بنائي أو إبداعي تطويري؛ فاللغة كما قال سوسير فعل اجتماعي
Social Act ؛ أي فعل من المجتمع وإليه، حيث المجتمع مؤسسة فاعلة وبنية متطورة.
ويقول عالم الفيزياء فيرنر هايزنبرج من واقع خبرته (في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، ترجمة د. أحمد مستجير، المكتبة الأكاديمية، 1993م، ص119): إن العلم يرتكز على اللغة كوسيلة اتصال، وإننا نوسع اللغة إذ نوسع المعرفة العلمية. معنى هذا في رأيي أن المصطلح العلمي أساسي، ولكنه ليس علة وجود ذاته أو ليس وجودا كافيا بذاته، فضلا عن أنه ليس وحده هو المطلوب؛ لأنه لا يمثل بذاته لغة، وإنما قيمته تتحقق من توافر سياق لغة اتصال؛ أي لغة علم، وهو ما يعني بالتالي وجود مجتمع علمي، ثم يخلق هذا الصلة بينه وبين اللغة العادية بحكم الوظيفة الاجتماعية للعلم. ولغة العلم هي لغة تواصل، كما أنها أداة تصور العالم أيضا، وتعطي الصورة العلمية للعالم، ومن ثم فإن اتساع اللغة رهن باتساع النشاط المعرفي العلمي في المجتمع بعامة. هذا وإلا ظلت لغة العلم نوعا من الميتافيزيقا بالنسبة للمجتمع، وتجلت في لغة المجتمع بالمقابل ما يمكن أن نسميه ميتافيزيقا الغياب؛ أي غياب لغة العلم ورؤيته عن لغة المجتمع، وينقطع حبل التفاهم وتجمد حركة المجتمع.
المفهوم ودقة الدلالة
والحياة في ظل هذه الميتافيزيقا تجعلنا أسرى الشكل دون الدلالة؛ حيث يغدو المصطلح على المستوى الاجتماعي كلمة وليس فكرا، صيحة وليس فعلا، مفردات وليس وعيا.
نحن عادة عند ترجمة المصطلح العلمي نناقش دقة المصطلح لغويا، ولا نناقش علاقة المصطلح بالمفهوم أو الرؤية ودقة هذه العلاقة ومدى تطابقها. ولكن حيث إن المصطلح لبنة في لغة علم وثيقة الصلة - حسبما هو مفترض - باللغة الطبيعية، فلا بد وأن يكون المصطلح على لسان الباحث طرفا في حوار أو خطاب اجتماعي يحقق تواصلا عقلانيا، ويضيف إلى الممارسة الحياتية قوة، ويساهم في تدقيق الرؤية، وبذا يكون الاستخدام الصحيح للمصطلح ودقة بنائه عاملين أساسيين في رؤية للكون هي الرؤية الصحيحة حسب مقتضى العلم؛ أي رؤية عصرية. ولقد كانت مشكلة دقة التعريف أو التحديد الاصطلاحي إحدى مشكلات الفلسفة منذ القدم.
ولنا أن نسأل: ولكن لماذا نشأت هذه الحاجة إلى تدقيق العلاقة بين الكلمة والمفهوم وكذا الفهم على المستوى العام، أو مشكلة تحديد المفاهيم في اللغة؟ متى تبرز هذه المشكلة في مجتمع ما كمشكلة ملحة تتجاوز حدود الشكل إلى المضمون؟ وما نوع المجتمع الذي يضع في الصدارة مشكلة المعرفة ودقة المفهوم؟ ليس المجتمع الذي يعيش على الريع أو يأتيه رزقه منحة من الطبيعة أو من حيث لا يحتسب. إنه المجتمع الذي يتصف بكثافة النشاط العلمي وكثافة العمل الحياتي المنتج؛ حيث عدم الدقة يسبب مشكلات وأخطاء وأخطارا في الممارسة العملية. ففي هذا المجتمع تكون الكلمة تساوي الحياة، ويكون المصطلح يساوى المفهوم؛ أي إطارا معرفيا، ويتعذر فهمه أو قبوله أو تصوره إذا كان ضمن إطار مخالف؛ لأنه رهن إنجاز حقيقي واقعي عقلاني وقوة مؤثرة في بنية الثقافة العامة وسط نشاط عملي موضوعي لهذا المجتمع الخالق له.
تحديث اللغة وتحديث المجتمع
إن المصطلح العلمي المترجم في مجتمع راكد يكون مصطلحا استاتيكيا فاقدا لعنصر التطور الحياتي، بل وربما لا يساهم في تغيير الرؤية العامة للكون إلا عند عدد محدود منعزل، بينما في مجتمع يشكل العلم فيه مؤسسة نشطة فاعلة، نجد المصطلح إبداعا حيا ومتطورا ووجودا ماثلا في الذهن والواقع.
وغني عن البيان أن تقديم مصطلح أو معجم مصطلحات يعني جهدا أمينا طموحا يستهدف المشاركة ضمن عملية ترشيد تاريخية شاملة لتحديث المجتمع على جميع المستويات بما في ذلك تحديث اللغة. ولكن ماذا لو أن هذا الجهد يصب في مجتمع راكد لا حاجة به إلى مفردات تتجاوز ميتافيزيقا الغياب؟ ستغدو الكلمة خلقا ذاتيا في حالة حصار وليست نبتا طبيعيا نابعا من خضم الحياة الصاخبة، واستجابة لوظيفة واقعية وحاجات عملية تلح على إيجاد المصطلح ليأخذ سبيله في حياة المجتمع، وتكتمل به عناصر الخطاب العلمي والاجتماعي المحدد المفاهيم في تطور ارتقائي نحو المزيد. وهنا في مجتمع الفعل أو النشاط الإنتاجي يغتني المصطلح بما يملكه من رصيد في نشاط المجتمع وما يحققه من حاجة اجتماعية وممارسة حياتية.
نحو إنشاء مؤسسة عربية للترجمة
تمثل الترجمة نشاطا اجتماعيا في الاتجاه الصحيح، حين تكون وجها لاستراتيجية تنموية شاملة، ومن ثم دافعا قوميا، وحاجة فعلية وليدة نشاط اجتماعي إنتاجي، وبذا تكون بحق بعض النشاط المعبر عن الهوية الثقافية للمجتمع، وتساهم الترجمة إيجابيا في تعزيز وجودنا المستقل، ودعم الروابط المشتركة لأبناء المجتمعات العربية وتوحيد ثقافتهم وفكرهم المشترك من خلال نظام تعليمي علمي مشترك، ونشاط علمي موحد أو متناسق؛ حيث يصبح النشاط العلمي نشاطا مؤسسيا لمجتمع علمي موحد اللغة، ومتكاملا مع المجتمع الواسع.
ومن التحديات التي تواجهنا في مجال الترجمة، علاوة على التحديات الحضارية، أننا لا نجد إجابة واضحة عن تساؤلات كثيرة: لماذا نترجم؟ وماذا نترجم؟ ومن الذي يترجم؟ ولمن نترجم ؟ ومن الناشر؟ وكيف نختار الكتب المستهدفة؟ وما مدى علمنا بالمنشور كله؟ ومدى علمنا بأهداف مجتمعنا؛ أي مدى تأصيل هذه الأهداف - إن وجدت - في بنية الوعي والقيم الاجتماعية؟ ومن الذي يوجه حركة الترجمة في مجتمعنا الآن إن صح تسميتها حركة اجتماعية؟ وما هو دور مؤسسات النشر في تشجيع الحركة وانتمائها؟ والملاحظ أن نسبة كبيرة من المترجمات تدفع بها مؤسسات خارجية لها رؤيتها الخاصة المتمايزة. ثم أخيرا أين تصب جهود الترجمة في المجتمع؟ وهل من سبيل للتنسيق المثمر بين هذه الجهود من حيث الاختيار والإصدار والانتشار؟
وضاعف من خطر التحديات أن تضاعفت كلفة طبع ونشر الكتاب بعد ارتفاع أسعار الورق وما فرضته اتفاقيات دولية جديدة.
نحن مقبلون على حقبة تثاقف قسري مكثف، أو صراع ثقافي غير متكافئ. وهذه الحقبة أحد مظاهر التحدي الحضاري، سواء جرى التثاقف باسم المتوسطية، أو الشرق أوسطية، أو العالمية. ونحن في جميع الأحوال عاطلون من أسباب المناعة الثقافية التي تمثل العلم والإنتاج العلمي ركيزتها؛ مما يجعلنا فريسة محتملة، وبدلا من أن يكون التفاعل ثقافيا صحيا سوف يتراوح ما بين الارتماء على الآخر أو الانكفاء على الذات، ونغدو نماذج لتاريخ انقرض.
إنها تحديات توجب اتخاذ خطوات جديدة جريئة غير مألوفة بدلا من - أو قبل - أن نصبح بالحتم فريسة للأمية العلمية والضياع، حين نسير في الترجمة فرادى على غير هدى، أو يعز علينا الحصول على الكتاب لتجاوز كلفته حدود الطاقة. الخطر جماعي، ومن ثم يتعين أن تكون الاستجابة جماعية؛ أعني التزام نهج قائم على حشد الطاقات لا يلغي خصوصية النشر وإنما يجمع وينسق.
من هنا أدعو إلى قيام «مؤسسة عربية للترجمة»، وأتجه بهذه الدعوة من منطلق الإيمان بأن الترجمة نشاط اجتماعي هادف له عائده المجتمعي الشامل، ومن مقتضى تضافر الجهود لتصب الروافد في مجرى رئيسي على المواجهة وخلق الإمكانات والتقدم في ثقة واعية.
ويحفزني إلى هذه الدعوة إيمان بأن المجتمعات العربية لن تتمكن من تشكيل كيان مستقل متميز يساهم في إحياء الفكر الوطني والقومي الثقافي والحضاري في اتساق مع العصر دون نهضة تنموية شاملة تطول مناشط الحياة، ومن ثم تجد تعبيرها الصادق في اللغة التي تغدو لغة تعلم وتفكير وممارسة وإبداع؛ أي لغة إنتاج حضاري علمي جديد، ولن يتأتى هذا بصورة متكاملة وهادفة ودامغة إلا بإنشاء مؤسسة تنسق بين دور الترجمة، قادرة على خلق حركة ترجمة واسعة تستوعب جميع التيارات على اختلافها، وتستقطب الكفاءات، وتجعل لنشاط الترجمة دورا ومكانة في مجتمع يقدر إنتاجها، ويؤازر جهودها، ويتولى أمرها من يؤثرون العلم وصالح الوطن على المغانم الأنانية العاجلة.
شروط نجاح المشروع
وتحقيق هذا لا يتوقف على اعتبارات فنية فحسب، ولكنه يستلزم رؤية سياسية على جميع المستويات؛ الدولة، والمؤسسات، والهيئات، والأفراد في المجتمع؛ حيث تتضافر الجهود قوميا ووطنيا لمواجهة الصعوبات من أجل فرض: (1)
استراتيجية تنموية شاملة تتخذ العلم أساسا وهاديا لها، وتحتل بؤرة الوعي العام، وتقوم على وعي علمي بالتحديات والأهداف. (2)
تحول النشاط العلمي إلى نشاط مؤسسي داخل في صلب هذه الاستراتيجية، وداعم للمناخ العلمي المحيط بالوعي الاجتماعي. (3)
وضع تعليمي يضع نصب عينيه غرس التفكير العلمي منهجا ومبحثا ونظريات. (4)
وضع ثقافي عام تجسده وسائل الإعلام والممارسات الحياتية والانفتاح الفكري على الفكر العالمي بكل صوره المتعددة وبكل تناقضاته معنا. (5)
الحرية وحقوق الإنسان العام؛ ذلك لأن الترجمة في العالم العربي لا تزال جهد دولة مركزية يخضع لسلطانها؛ ولهذا تنزع إلى الترجمة الأدبية أو التقنية التي لا تتعارض مع بطش السلطة؛ السلطة السياسية أو الثقافية الموروثة. وغني عن البيان أن عصر العلم رهن الديمقراطية؛ إذ إن ما قبل المجتمع الديمقراطي نشاط قبل علمي. وكلما اتسع نطاق الليبرالية اتسع نطاق النشاط العلمي بمدلوله ومضمونه الاجتماعيين، وحيث لا توجد نهضة حداثية حقيقية يقل الاهتمام بالجانب العلمي، وتضيق مساحة التفكير العلمي المنهجي.
والإنجاز العلمي يوصف بحق بأنه إنجاز عصر العلم لمجتمع ديمقراطي؛ أي مجتمع الإنسان العام الذي أصبح صاحب حق في المشاركة في صنع القرار ورسم طريق الحياة بناء على فكر حر، وحرية الوصول أو الحصول على المعلومات ونقدها والتمرد العقلاني المنهجي عليها؛ ولهذا فإن البعد السياسي والاقتصادي مكمل للبعد العلمي التعليمي الثقافي. ودون هذه الشروط تفقد الترجمة العلمية الدافع إليها والسوق الرائجة لها.
وأرى أن تكون المؤسسة العربية للترجمة أشبه بالمنظمات غير الحكومية، بعيدا عن سلطة السياسة والساسة كجهاز دولة حاكم، وإن ضمت عناصر منها بحكم دورهم في النشر أو الفكر، وبعيدا عن الفردية كنزعة تنأى عن المشاركة الإيجابية فيما هو اجتماعي.
الدور المنتظر للمؤسسة
نتوقع أن يكون للمؤسسة العربية في ظل هذا المناخ وفي مواجهة التحديات الحضارية دورها الذي يفي بحاجة أمة تعي عبء مسئولية النهضة وشروطها، وحقيقة التكتلات الإقليمية، وتدرك أسس التكافل والتضامن على الصعيد الاجتماعي الوطني والقومي، ومن هنا يتمثل الدور المنتظر في: (1)
جمع وتوحيد وتنسيق جهود الترجمة والنشر، والتكافل في التكاليف من أجل إصدار الموسوعات وعيون المراجع والمعاجم التي تشكل حجر الأساس لأي نهضة علمية. (2)
خلق حركة ترجمة تتسع لجميع التيارات في تفاعلها وتداخلها وتعارضها في آن واحد، بحيث تكون الترجمة آلية ضرورية تلبي حاجة ملحة وواسعة النطاق؛ مما يدعم كلا من التوجه الفكري وحاجة السوق. (3)
تجنب الأثر السلبي لطابع التربح التجاري والاختيار الفردي أو العشوائي الارتجالي في مجال الترجمة سواء للكبار أو للأطفال. (4)
خلق صلة إيجابية فاعلة مع المجامع العلمية بغية توحيد المصطلحات وإصدارها ضمن المنشورات لتكون مرجعا. (5)
التعاون بين الناشرين لإصدار ثبت ببليوجرافي سنوي بالمنشورات المترجمة، وعرض خطط المستقبل لتكون موضوع حوار، فضلا عن ندوة ليكون الحوار والندوة بمنزلة تغذية مرتدة تراجع وتضيف وتصحح وتحفز المناخ العام. (6)
خلق غرفة اتصال للتنسيق وتبادل المعلومات بشأن الموضوعات والمصطلحات. (7)
تحقيق تكامل اقتصادي في مجال النشر، وتكافل في التوزيع، وتعاون في إقامة معارض مشتركة متنقلة في الأقطار العربية. (8)
يمكن للمؤسسة الاتفاق باسم أطرافها مع الناشرين الأجانب، ومخاطبة دور النشر العالمية لعقد اتفاقات نشر، أو للحصول على قوائم بالمنشورات تحت الطبع لاختيارات المستقبل. (9)
تحديد وسيلة - دون فرض رقابة - لضمان غلبة الجيد في السوق، بمعنى المتفق مع خطة البلاد التنموية في خطوطها العريضة على المستوى القومي. (10)
يمكن للمؤسسة أن تكون لسان حال الناشرين العرب في الاتفاق مع الوزارات والهيئات الحكومية العربية لتزويد المكتبات العامة ومكتبات المدارس والهيئات بإصداراتها؛ مما يساعد على رواج الكتب. (11)
يمكن للمؤسسة أن تجري اتفاقات مع المجالس القومية والأجهزة الثقافية في البلدان العربية، ومع منظمات الجامعة العربية، وكذا مع المنظمات والبعثات والمراكز الثقافية الدولية (اليونسكو، البعثة الفرنسية، الاتحاد الأوروبي، فرانكلين ... إلخ)، ومع الحكومات والمجامع العلمية والاتحادات والنقابات لإصدار الكتب والمجلات العلمية والإفادة بامتيازات هذه الجهات في حدود التوجه الاجتماعي.
ولعلنا نفيد في هذا الصدد من التجربة اللبنانية حيث تتعاون دور النشر اللبنانية بفضل علاقاتها الوثيقة مع عدد من المنظمات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة أو للجامعة العربية في نشر إصدارات هذه المنظمات.
والجدير بالذكر هنا أن منظمة اليونسكو العالمية اقترحت في عام 1992م مشروع «الكتاب - الجريدة»؛ لتطبيقه في عدد من البلدان ومنها البلدان العربية، ومن المتوقع أن يشهد آخر عام 1996م ولادة شبكة صحف يومية صادرة باللغة العربية برعاية منظمة اليونسكو من أجل إصدار دوري لملحقات مجانية.
والهدف من المشروع إصدار عمل أدبي معاصر شهريا، في صورة ملحق صغير مترجم، تزينه صور ورسوم فنانين معاصرين، مع تعريف بكاتب النص. وتشمل الترجمة؛ روايات، مجموعات قصصية، مختارات شعرية. وتقرر أن يكون مركز هذه الشبكة العربية في بيروت. وسوف تحوز الشبكة على دعم تنظيمي ومادي من منظمة اليونسكو.
وسواء كانت الترجمة هنا من العربية أم إليها، فإنها تستهدف الربح، فضلا عن أن الاختيارات لا تخضع لخطة ضمن استراتيجية تنموية شاملة، ناهيك عن تفرد الجانب الأدبي دون العلمي. ولكن إذا ما تحقق حلم إنشاء مؤسسة عربية للترجمة فسوف يتغير الموقف. (12)
تساهم المؤسسة في التعريف بالمترجمين وتنظيم رابطة لهم، ودعم اتحاد الناشرين العرب، حيث تعتبر المؤسسة الوجه التنفيذي التنسيقي العربي للاتحاد. (13)
خلق رابطة عمل بأجهزة الإعلام والصحافة لخدمة نشاط النشر. (14)
تتفق المؤسسة مع عدد من المؤسسات والشركات والاتحادات في البلدان العربية (التي تقبل طوعيا المساهمة بنسبة من صافي الأرباح السنوية، وقد تكون نصفا في المائة، فضلا عن الهبات من الأفراد والهيئات العامة والخاصة). وليس هذا بدعا؛ فقد اعتاد أهل السياسة والجاه والمال ورجال الأعمال المساهمة في تنشيط حركة الترجمة والتأليف؛ لما أدركوه من تفاعل بين مجالات اهتماماتهم واهتمامات عدد من العلوم. ويشهد مجال النشر العديد من أمثلة التمويل الطوعي لهذا الهدف، وإن كانت المشكلة هنا ضمان براءة التمويل والتبرع دون الحاجة إلى زج أو فرض اتجاهات أيديولوجية وحجب أخرى على حساب استراتيجية قومية.
الفكرة والتاريخ ودور الكويت
والدعوة إلى «مؤسسة عربية للترجمة» ليست وليدة اللحظة؛ إذ سبق أن دعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في عام 1973م إلى عقد «حلقة الترجمة في الوطن العربي». وانعقدت الحلقة في الكويت في 31 / 12 / 1973م، وبحث في: «تنسيق حركة الترجمة في البلاد العربية، وإقامة جهاز تنسيق على صعيد العالم العربي يتولى وضع خطة قومية للترجمة بالاشتراك مع الأجهزة الوطنية وبالتنسيق مع المنظمات الدولية والمؤسسات العلمية الأجنبية المعنية بالثقافة العربية».
وفي الفترة من 8 إلى 11 نوفمبر 1982م عقدت أمانة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت الندوة الثانية بالتعاون مع المنظمة العربية للتربية والعلوم واتحاد الناشرين العرب. أصدرت الندوة توصيات من بينها:
إنشاء مؤسسة عربية للتعريب والترجمة والتأليف والنشر تكمل عمل المؤسسات القائمة.
تنفيذ الخطة القومية للترجمة التي وضعتها المنظمة العربية.
وتوالت اللقاءات بعد ذلك ولم ينجح شيء، بيد أن هذا لا يحول دون إحياء الذكرى أو الإلحاح في الطلب ما دام أنه حق. وإن كانت دونه مخاطر ليس أقلها شيوع الفردية في العمل وفي التفكير بين الدول والهيئات، وغياب استراتيجية تنموية قومية ملزمة ودافعة، بل غياب الوعي بالتحديات وفقدان العزيمة المشتركة لمواجهتها، ثم الافتقار إلى قيم عمل الفريق، ولكن ربما ننجح في الاستهلال بالخطوة الأولى التي دونها لا تبدأ مسيرة الألف ميل.
وسوف تظل هناك تساؤلات كثيرة معلقة دون ريب، ربما تجيب عنها ندوة، أو خطوة جريئة بين دارين أو ثلاثة من دور النشر، تمثل النواة والطليعة، وتكون شهادة جدوى.
المستقبل والمصير
نعود إلى ما بدأنا به من حيث مناهضة الترجمة والخوف من الانفتاح على العالم، وهو موقف مؤسس على ثقافتنا الاجتماعية المعاشة التي ترتكز على ثنائية نقيضية
ambivalence ؛ إما الانزواء والانطواء، وإما الانطلاق من موقع الهيمنة. ثقافة تقبل التجانس مع ذاتها فقط، إما أنا وإما الآخر. وأقول: إن مناهضة الترجمة موقف داعم لحالة التبعية، وهي هنا تبعية ثقافية للماضي، وأيضا وفي الوقت نفسه تبعية لقوى مهيمنة أجنبية ومحلية. إن عطالة الفكر والفعل الاجتماعيين على مستوى العصر يجعل المجتمع فريسة لكلا الطرفين، ومن ثم فإنه موقف ضد التحريرية الإيجابية الفاعلة، ونراه تكريسا للتبعية. إنه يحجب الفكر الجديد، ويدعم أو يمهد الأرض لغزو ثقافي مناهض لنا ولمصالحنا؛ إذ يضعف المناعة. ثم إن أصحاب هذا الموقف لا يرون الحداثة سوى تكنولوجيا مستوردة ولا هم لهم إلا استهلاكها . وهذا دعم للتبعية الثقافية والاقتصادية. وقد تظن السلطات المستبدة أن بالإمكان محاصرة الفكر العلمي الجديد داخل مؤسسة عسكرية تهيئ لها الحماية داخليا وتترك لها مهام التصنيع. ولكن هذا نقيض مقتضى الحداثة التي هي تطور جذري لدور الإنسان العام، ولا نجد نظاما حاكما سلك هذا المسلك واستطاع أن يبني أمة ناهضة متحضرة وجيشا قويا صامدا، بل سرعان ما ينهار النظام أمام أول اختبار، وتعود البلاد إلى حالتها البدائية من جديد.
لهذا فإن الخوف من الترجمة هو دعوة للانغلاق والجمود. ولهذا أيضا نرى أن الدعوة إلى الترجمة وتشجيع نشاط الترجمة بحاجة إلى إجابة على عدد من الأسئلة تكشف عن المضمون البنيوي الاجتماعي: ترجمة ماذا؟ ومن من؟ ولماذا؟ إذ يختلف الأمر حين يكون نشاط الترجمة رهن تطوير وتحديث وتحرير اجتماعي ونهوض علمي، وبين أن يكون استهلاكا وترفا. المهم ما الأسباب التي تمثل ضرورة اجتماعية؟ أي حاجة المجتمع النابعة من عملية تطوير داخلية تحدد المتطلبات اللازمة والداعمة؛ أي توفر إرادة وعمل إرادي هو اختيار بين بدائل كثيرة وثقافات عديدة لا نقع أسرى لها، ويعمل العقل العربي في ضوء ضروراته واختياراته التي هي وليدة فعل اجتماعي نشط، وصولا إلى أهدافه.
وطبيعي أن الترجمة كنشاط اجتماعي منفتح وناجح تأبى الانحصار في إطار لغة واحدة ننقل عنها، وإنما تتجه إلى لغات عديدة صاحبة إنجازات حضارية وسباقة؛ ذلك أن الانحصار داخل لغة واحدة يعني انحصارا داخل نسق ثقافي واحد لفكر مجتمع بذاته. وهذا قد يكون له سلبياته، ولكن الترجمة عن لغات عديدة تفضي إلى دعم نهج التفتح ومبدأ التعددية والتنوع والتسامح، علاوة على الاستعانة بالجديد لدعم نسق ثقافي محلي بفضل تفاعل فكري نشط، مثال ذلك؛ مدارس علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو الأنثروبولوجيا، أو الفلسفة أو النقد ... إلخ. إذا أخذنا فقط عن الولايات المتحدة الأمريكية مثلا سوف يحصرنا هذا في إطار نسق ثقافي بذاته؛ نظرا لأن العلم ليس محايدا مائة بالمائة. وتزداد التبعية لهذا الفكر أو ذاك إذا ما وقع العلم بين أيدي مجتمع عاطل عن الإنتاج العلمي .
وإذا ما استعرضنا واقع نشاط الترجمة في العالم العربي نلحظ قصورا وتدنيا شديدين كما ونوعا، ونلحظ فقدانا للتوازن بين المعارف المتنوعة، وما يشبه العزوف أو الانصراف عن العلوم الأساسية. وتكشف المقارنات الإحصائية عن أن البلدان العربية غير محددة ولا موحدة الهدف والرؤية؛ لذا تأتي الإصدارات - تأليفا وترجمة - تعبيرا عن حالة التشتت المعرفي والمستقبلي. ونجد تضاربا ومفارقة واضحين بين الحاجة الاجتماعية من منظور عصري وبين الفعل؛ أعني بين مقتضيات النهوض وبين ما يحدث فعلا ممثلا في إصدارات مؤلفة ومترجمة. ويؤكد هذا الحاجة إلى توحيد وتنسيق نشاط الترجمة، وهو ما من شأنه أن يساهم في توحيد وتنسيق البنية الذهنية أو العقل العربي. ولن يتأتى هذا إلا إذا اقترن نشاط الترجمة الموحد والمنسق مؤسسيا برؤية عربية واضحة الأهداف والفكر، فاعلة ومبدعة ومنتجة؛ أي اقتران باستراتيجية تنموية عربية، وبدون ذلك سيكون كل نشاط في مجال الترجمة حرثا في البحر.
لهذا نرى أن رسالة المؤسسة العربية للترجمة، في ضوء ما حددناه من أهداف لها في دراسة سابقة، رسالة شاقة عسيرة إذا نظرنا إليها في ضوء القصور السائد في العالم العربي، ومقتضيات النهضة من نقل المعارف كما ونوعا على نحو يجعلنا ندنو من العصر.
إن ما نحتاج إلى ترجمته كثير كثير وشديد العسر والتعقيد من معارف ومعلومات لملاحقة الجديد الذي يفيض، ومن معاجم وموسوعات تشكل أساسا للثقافة والعلم والتعليم؛ وهذا كله بحاجة إلى أموال طائلة، وجيوش من المترجمين الأكفاء المؤهلين، ثم إلى شعوب تواقة بعزم صادق إلى النهضة على أساس علمي، ومن ثم نهمة لمعرفة المزيد والمزيد؛ فالنهوض في عصر العلم لا يعرف الشبع المعرفي، بل جوع ونهم وقدرة على الاستيعاب والتمثل والإبداع والإفادة والتوظيف.
وإنشاء ونجاح مؤسسة عربية للترجمة يستلزم تغييرا جذريا حضاريا في البنية والعلاقات الاجتماعية وتهيئة مناخ عربي يتمثل في: (1)
خطة قومية ذات محاور واضحة لإطار مفهومي مؤسس على بيان حالة الترجمة وموقع الترجمة من النهضة ودورها في التنمية الثقافية الشاملة على نحو ما حاولنا أن نعرضه. (2)
خطة اختيار الكتب المترجمة على المستوى العربي، والهدف من ذلك لتكون بعض نسيج النهضة الحضارية. (3)
خطة إنشاء شبكة اتصال عربية بشأن الترجمة والتوثيق للكتب المترجمة. (4)
خطة إنشاء رابطة للمترجمين ونظام تشريعي لهم. ويمكن الاستفادة هنا بما أنجزته المنظمة العربية. (5)
دراسة واعية لواقع التحديات الداخلية والإقليمية والعالمية (حالة الأمية المتفشية، وحالة العزوف عن القراءة)؛ فالقضية ثقافيا هي كتاب وقارئ. (6)
شبكة اتصال وتنسيق عربي لشئون التوزيع والتكامل؛ إذ الملاحظ أن الحدود شبه مغلقة في وجه الكتاب بين بعض البلدان، وأن هناك شبه انفصال بين المشرق والمغرب العربيين.
وإذا كان لنا أن نتعلم درسا من عدونا، فإنني للأسف أقدم كلمة ميجور هاركابي القائد العسكري الإسرائيلي ورئيس جهاز الاستخبارات في كتاب صدر له عام 1993م تحت عنوان «الحرب النووية والسلام النووي»، خاصة وأننا نلح الآن في طلب السلام؛ إذ يقول: «في مقدور الدولة الصغيرة أن تتفوق على الدولة الكبيرة في مضمار العلم إذا كانت:
تحترم الفرد.
يشيع فيها الإقبال على طلب العلم.
تربط نفسها من خلال علمائها بمراكز الأبحاث والجامعات والمؤتمرات العالمية (الكليات غير المنظورة).
تحسن التصرف في إمكاناتها.
تعمل على إذكاء روح التنافس العلمي بين المؤسسات العلمية المحلية في إطار التنافس العلمي مع الخارج.
وإن أي نشاط علمي يظل ضئيلا غير فاعل ما لم يشمل القطاع الأعظم من السكان.» (أنطوان زحلان، العلم والتعليم العالي في إسرائيل، ترجمة محمد صالح العالم، دار الهلال، القاهرة 1970م)
Shafi da ba'a sani ba