وعمد، في حنين وتعقل معا، إلى أحد اللحادين فاشترى منه نعشا من المعدن الذي يمكن أن تحكم منافذه حتى لا يتسرب منه أو إليه الهواء، وطلب من ربان الباخرة أن يوضع في هذا النعش عندما يموت، وأن يبقى في الثلج حتى يرد إلى أسرته ويدفن في الجبانة إلى جوار أقربائه.
وكان قد ساءت حالته حتى لصق الجلد بالعظم، ولكنه تحامل إلى الباخرة، وما هو أن استقبل الاقيانوس وهبت العواصف حتى انتعش وانبعث فيه روح الاقتحام، ثم رأى الهنود في عريهم، والصينيين في بؤسهم، فذكر همومه التي جلبت إليه هذه القرحة، وتعجب كيف أجاز لنفسه أن يتحمل هذه الهموم مع أنه لم ير جزءا من ألف مما يراه هؤلاء الهنود أو الصينيون.
وعاد إلى أمريكا وقد زاد وزنه تسعين رطلا، وباع النعش واكتسب فوق الصحة تربية وفلسفة للحياة، ولباب هذه الفلسفة أو الشجاعة هي خير ما نواجه به المصاعب ونقتحم به المستقبل، وهي العلاج السامي لجميع همومنا وأمراضنا الجسيمة والنفسية.
الفصل الحادي والسبعون
كيف نتعلم؟
كثيرا ما يأسف بعض الشبان؛ لأن الظروف لم تتح لهم أن يحصلوا على تعليم جامعي، اعتقادا بأن هذا التعليم كان يمكن أن يرفعهم إلى مستوى من الثقافة، وإلى قدرة على الكسب، لا يستطيعون الحصول عليهما؛ لأن تعليمهم قد بتر أو قطع قبل الشهادة الثانوية أو بعدها.
ولكن المتأمل يجد أن هذا القول لا ينبني على أساس، فإن القدرة على الكسب في مجتمعنا الحاضر لا تكاد تحتاج إلى تعليم؛ لأن المتجرين باللحوم أو الخضروات أو المنسوجات أو الطوب أو الخمور أو غير ذلك، يزيد كسب أحدهم على مرتب وكيل وزارة، بل أحيانا على مرتب وزير، وهم في الأغلب غير متعلمين، ثم إن الثقافة ليست مقصورة على التعليم النظامي، ذلك أن التعليم الحقيقي، الذي يرفعنا إلى مستوى عال من الثقافة، هو تعليم العمر كله، وليس تعليم المدرسة أو الجامعة، وتدل اختبارات جميع المثقفين البارزين على أن ما يعلمه لنا غيرنا صغير القيمة إلى جنب ما نعلمه نحن لأنفسنا.
وهناك أسباب سيكلوجية لذلك، أهمها أننا حين نعلم أنفسنا إنما نطلب من المعارف ما نحتاج إليه، كما يطلب الجائع الطعام، فهو يحس حاجة فسيولوجية يعبر عنها اشتهاؤه لغذاء معين، ولا يستطيع أحد أن يختار له هنا مثلما يختار هو لنفسه، ومعنى ذلك أن المتعلم الذي يختار بباعث من نفسه يمتاز على ذلك الآخر، الذي يعلمه غيره؛ لأن الأول يحس حاجة ذهنية لا يحسها الثاني.
ثم هو لهذا الإحساس يشتهي، فيقبل في حماسة، ويدرس، ويتعب، ولذلك ينبغ، أو أن النبوغ لا يكون بعيدا عنه، ومن هنا يجب ألا يبتئس شاب قضت ظروفه الخاصة ألا يحصل على تعليم جامعي.
ولذلك أيضا نجد أن المعلم الحسن ليس هو الذي يزودنا بالمعرفة، وإنما هو الذي يزودنا بالمنهج كي نعرف كيف نبحث ونعلم أنفسنا، أو هو الذي يقدم لنا من المعارف تلك التي تثير استطلاعنا، وتبعثنا على البحث والدرس طوال أعمارنا.
Shafi da ba'a sani ba