Tafarkin Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Nau'ikan
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ...
21
وإن كان موتا وألما للذي يقتص منه. وكذلك قطع يد السارق، فمنه نفع عمومي وصلاح الكل، وإن كان يناله حزن وألم. وكذلك غروب الشمس وطلوعها، والأمطار كان النفع منها عموميا والصلاح كليا، وإن كان يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر جزئي ...
ولما كان نزول الأمر في المنقلب إلى الصلاح العمومي والنفع الكلي، كانت الشدائد والجهد والبلوى في جنبه أمرا صغيرا جزئيا. على هذا المثال والقياس ينبغي أن يعتبر من يريد أن يعترض ما العلة وما وجه الحكمة في أكل الحيوانات بعضها بعضا، ليتبين له الحق والصواب. ونحن نريد أن نبين ما العلة وما وجه الحكمة في الكل، وفي أكل الحيوانات بعضها بعضا، ولكن لا بد أن نقدم أشياء لا بد من ذكرها، فنقول:
اعلم أن عقول القوم إنما أنكرت أكل الحيوانات لما ينالها من الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل، ولولا ذلك لما أنكروا، كما لا ينكرون أكل الحيوان النبات، إذ ليس ينال النبات الآلام والأوجاع، فنقول: قصد الله وغرضه في ألم الحيوانات ما جبلت عليه طباعها، والأوجاع التي تلحق نفوسها عند الآفات العارضة، ليس عقوبة لها وعذابا كما ظن أهل التناسخ، بل حث لنفوسها على حفظ أجسادها وصيانة هياكلها من الآفات العارضة لها، إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها؛ ولو لم يكن ذلك كذلك لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها وأسلمتها إلى الهلاك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها، ولهلكت كلها دفعة واحدة في أسرع مدة. فلهذه العلة جعلت الآلام والأوجاع للحيوان دون النبات، وجعل فيها حب للبقاء، إما بالحرب والقتال، وإما بالهرب والفرار والتحرز لحفظ جثتها من الآفات العارضة إلى وقت معلوم، فإذا جاء أجلها فلا ينفع القتال ولا الهرب ولا التحرز بل التسليم والانقياد ...
وإذ قد ذكرنا ما يحتاج إليه، نقول الآن: إن الله تعالى لما خلق أجناس الحيوانات التي في الأرض، وعلم أنها لا تدوم بذاتها أبد الآبدين، جعل لكل نوع منها عمرا طبيعيا أكثر ما يمكن منه، ثم يجيئه الموت إن شاء أو أبى. وقد علم الله أنه يموت كل يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل عدد لا يحصيه إلا الله تعالى. ثم جعل بواجب الحكمة جثة جيف موتاها غذاء لأحيائها ومادة لبقائها، لئلا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع ولا فائدة ، وكان في هذا منفعة لأجسادها ولم يكن فيه ضرر على الموتى. وخصلة أخرى، لو لم تكن الأحياء تأكل جيف الموتى منها، لبقيت تلك الجيف، واجتمع منها على ممر الأيام والدهور، حتى تمتلئ منها الأرض وقعر البحار، وتنتن ويفسد الهواء والماء من نتن روائحها ... فأي حكمة أكثر من هذه أن جعل الباري تعالى في أكل الحيوانات بعضها بعضا من المنفعة للأحياء، ودفع المضرة عنها كلها، وإن كانت تنال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل وليس قصد القابض من القاتل من ذبحها وقبضها إدخال الألم والوجع عليها، بل لينال المنفعة فيها لدفع مضرة بها.
ثم اعلم أن الله تعالى لما أبدع الموجودات واخترع الكائنات، قسمها قسمين اثنين: كليات وجزئيات؛ ورتب الجميع ونظمها مراتب الأعداد المفردات، كما بينا في رسالة المبادئ. وكانت مرتبة الكليات أن جعل الأشرف منها علة لوجود أدونها، وسببا لبقائها ومتمما لها، ومبلغا إلى أقصى غاياتها وأكمل نهاياتها. وكانت مرتبة الجزئيات أن جعل الناقص منها علة للكامل وسببا لبقائه، والأدون منها خادما للأشرف ومعينا ومسخرا له. وبيان ذلك من النبات الجزئي: لما كان أدون رتبة من الحيوان الجزئي وأنقص حالة منه، جعل جسم النبات غذاء لجسم الحيوان ومادة لبقائه، وجعل النفس النباتية في ذلك خادمة للنفس الحيوانية ومسخرة لها. وهكذا أيضا لما كانت رتبة النفس الحيوانية أنقص وأدون من رتبة النفس الإنسانية، جعلت خادمة ومسخرة للنفس الإنسانية الناطقة ... ولما كان بعض الحيوانات أتم خلقة وأكمل صورة، كما بينا قبل هذا، جعلت النفس الناقصة منها خادمة ومسخرة للتامة منها الكاملة، وجعلت أجسادها غذاء ومادة للأجساد الناطقة منها وسببا لبقائها، لتبلغ إلى أتم غاياتها وأكمل نهاياتها، كما جعل جسم النبات غذاء لجسم الحيوان ومادة لبقائه وسببا لكماله» (40: 3، 364-369).
وقد كان لا بد للإخوان في مناقشتهم لمسألة الخير والشر من التعرض للعقائد الثنوية القائلة بوجود أصلين للعالم واحد خير والآخر شرير، فنقدوها على قاعدة فلسفية مكينة في أكثر من موضع في رسائلهم. ومن ذلك قولهم: «اعلم، وفقك الله، أن القائلين بالأصلين طائفتان: إحداهما ترى وتعتقد أن لهما فاعلين أحدهما نور خير، والآخر ظلمة شرير. وهذا رأي زرادشت وماني وأتباعهما وبعض الفلاسفة. والطائفة الأخرى ترى وتعتقد أن إحدى العلتين فاعل، والأخرى منفعل، يعنون به الهيولى. وهذا رأي بعض الحكماء اليونانيين، والذي دعاهم إلى هذا الرأي هو نظرهم إلى الشرور التي تجري بين كل اثنين متنازعين من الناس والحيوان، من القتل والحروب والخصومات والعداوات، وما يحدث بينهما من الأسباب والأحوال. فبهذا الاعتبار قالوا، وبهذا القياس حكموا بأن حدوث العالم كان سببه فاعلين اثنين متنازعين، لكن أحدهما خير والآخر شرير ...
فأما القائلون بأن أحد الأصلين فاعل والآخر منفعل، فإنما دعاهم إلى هذا الرأي ما رأوا أنه يلزم القائلين بالفاعلين من الشنعة والقبح، وما يوجب لهما من العجز والنقص من فعالهما وتناقضهما، وما يقتضي دون ذلك من قلة النظام في تركيب العالم وخلق السماوات، وما يعرض من الفساد العام والبوار الكلي ... وذلك أنهم قد تبينوا نظام العالم، وعرفوا إتقان خلق السماوات مع سعتها وكبر أجزائها وكثرة خلائقها التي هناك، وليس فيها شيء من الفساد والشرور البتة، وأنها كلها على أحسن النظام، وأجود الترتيب والهندام، وأن الشرور لا توجد إلا في عالم الكون والفساد التي تحت فلك القمر، ولا توجد الشرور أيضا في عالم الكون والفساد إلا في النبات والحيوان دون سائر الموجودات، ولا في كل وقت أيضا، ولكن في وقت دون وقت، وأسباب عارضة لا بالقصد الأول من الفاعل، بل من جهة نقص الهيولى وعجز فيه عن قبول الخير في كل وقت أو على كل حال ... ومثال ذلك أن الحكيم منا، في الشاهد، في وده أن يعلم كل علم وكل حكمة يحسنها لأولاده وتلامذته، وأن يجعلهم حكماء فضلاء مثله في أسرع ما يكون، ولكنهم لا يقبلون ذلك إلا على التدريج، وفي ممر الأيام والأوقات شيئا بعد شيء، [وذلك] لنقص فيهم لا لعجز في الحكيم ... والنقص في الكمال يسمى شرا، وليس الشر سوى عدم الخير والتمام والكمال.
فأما القائلون بالعلة الواحدة وأنها قديمة فإنهم نظروا أدق من نظر أولئك وبحثوا أجد من بحثهم وتأملوا غير تأملهم، فرأوا من القبيح الشنيع أن يكون محدث العالم [اثنين] قديمين؛ واعتبارهم وقياسهم كان في ذلك هكذا: [فقد] قالوا لا يخلو الأصلان القديمان من أن يكونا متفقين في كل شيء من المعاني، أو مختلفين في كل المعاني، أو متفقين في شيء ومختلفين في شيء. فإن كانا متفقين في جميع المعاني فواحد [هما] لا اثنان، وإن كانا مختلفين في المعاني فأحدهما عدم، وإن كانا متفقين في شيء ومختلفين في شيء فالشيء الثالث، وقد بطلت المثنوية فيجب أن يكون أصل العالم ثلاثة، والقائلون بالثلاثة أو أكثر لازمة بهم هذه الحكومة والشنيعة أيضا» (42: 3، 462-464).
Shafi da ba'a sani ba