Tafarkin Ikhwan Safa
طريق إخوان الصفا: المدخل إلى الغنوصية الإسلامية
Nau'ikan
13
ثم اعلم أن الإنسان إذا عقل الأمور المحسوسة وعرفها، وتفكر في الأمور العقلية وبحث عنها وعن عللها، استقبلته عند ذلك طريقان: إحداهما ذات اليمين تؤديه إلى الهداية والرشاد، والأخرى ذات الشمال تؤديه إلى الغي والضلال. وذلك أن أمور العالم نوعان: كليات وجزئيات لا غير. فإذا أخذ الإنسان يفكر في كلياتها ويعتبر أحوالها وتصاريفها، ويبحث عن الحكمة فيها بانت له، وأمكنه أن يعرفها بحقائقها وأرشد إليها ... وإذا أخذ يتفكر في جزئياتها، والبحث عنها وعن عللها، خفيت وانغلقت مناحيها، وكلما ازداد تفكرا ازداد تحيرا وشكوكا، ومن الله بعدا ...
مثال ذلك أنه إذا ابتدأ الإنسان أولا وتفكر في نفسه، ونظر إلى بنية هيكلها وكيفية تركيب جسده، وكيف كان أولا في صلب أبيه ماء مهينا، ثم كيف صار نطفة في قرار مكين ... ثم كيف أخرج من الرحم ... [إلخ]. فإذا فكر الإنسان في هذه الحالات التي ينقل فيها من أدونها إلى أتمها، ومن أفضلها إلى أكملها، فيعلم بالضرورة ويشهد له عقله أن له صانعا حكيما هو الذي اخترعه وأنشأه وأنماه ... فهذا هو الطريق ذات اليمين المؤدي سالكه إلى الله تعالى وإلى نعيم جنانه.
وأما الطريق الآخر، ذات الشمال، المؤدي إلى الشكوك والحيرة والضلالة والعمى، فهو أن يبتدئ الإنسان، قبل النظر في العلوم والآداب والرياضيات وقبل أن يحسن أخلاقه ويهذب نفسه، بالكشف عن الأمور الجزئية الخفية المشكلة على الحذاق من العلماء والفلاسفة فضلا عن غيرهم، نحو معرفة ألم الأطفال، وطلب معرفة مصائب الأخيار، والبحث عن الأنباء وتيسير أمور الأشرار، ولم زيد الحازم فقير وعمرو العاجز غني؟ ولم جعفر الغبي أمير وعبد الله الحكيم فقير؟ ولم هذا الرجل ضعيف والآخر قوي صحيح؟ ... ولماذا يصلح البق والذباب والقردان والبراغيث؟ ... وأي حكمة في خلق العقارب والحيات، وما شاكل ذلك من المسائل التي لا يحصي عددها إلا الله ولا يعلم سواه عللها ... فيبتدئ أولا بطلب الأمور المشكلة التي تقدم ذكرها فلا يدركها ولا يعقلها، فيرجع عند ذلك خاسرا متفكرا متحيرا غافلا بنفسه، وسواسا في قلبه، فينظر عند ذلك إلى أمر العالم مهملا، والكائنات باتفاق لا بعناية حكيم ولا صنع صانع عليم، أو نظر إلى أن رب العالمين غافل عن أمر عالمه حتى يجري فيه ما لا يليق بالحكمة، أو يظن أنه لا يعلم ما يجري فيه ... وما شاكل هذه من الظنون والشكوك والحيرة والضلال الذي قد تاهت في طلب معرفته عقول كثير من العقلاء المتقدمين المرتاضين بالعلوم الحكمية، فكيف غيرهم ممن ليست له رياضة ولا معرفة بحقائق الأسرار» (42: 3، 504-507).
فالارتقاء يحصل بالناموس، أي الشريعة، وبالعلوم الحكمية: «اعلم أن الإنسان العاقل إذا سمع أوامر الناموس ونواهيه، ووعيده وزواجره، ثم لم يأتمر بحدوده ولم ينقد لأحكامه، أو سمع العلوم الحكمية فلم يقم بواجبها ... [إلخ]» (30: 3، 79). ولكن الناموس لا يختصر إلى شكليات الصيام والصلاة وما إليها من أحكام وحدود، بل هو أن تحيا بروح المعارف العقلية فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وهذا طريق الخاصة من الناس إلى النجاة: «فقد بينا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر [هي] وضع الناموس الإلهي، وقد ذكرنا كيفيتها وشرائطها في رسالة الناموس الإلهي. فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف العقلية فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وتنال نعيم عالم الروحانيين ... فإن لم يستو لك ذلك فكن خادما في الناموس يحفظ أحكامه والقيام بحدوده، فلعلك تنجو بشفاعة أهله من بحر الهيولى وأسر الطبيعة» (8: 1، 295).
وقد أسهب الإخوان في تعداد أنواع العلوم، ودخلوا في تفاصيل كل علم مما لم نجد ضرورة للخوض في معظمها. ولكننا سوف نتوقف هنا عند تعدادهم لأجناس العلوم لإعطاء فكرة عن الموضوعات التي تطرقوا إليها في مواضع متفرقة من رسائلهم: «واعلم يا أخي بأن العلم إنما هو صورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهو عدم تلك الصورة من النفس. واعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئا سوى إخراج ما في القوة، يعني الإمكان، إلى الفعل، يعني الوجود. فإذا نسب ذلك إلى العالم سمي تعليما، وإن نسب إلى المتعلم سمي تعلما» (7: 1، 262). «فاعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس: فمنها الرياضية ومنها الشرعية الوضعية ومنها الفلسفية الحقيقية. فالرياضية هي علم الآداب التي وضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا. وهي تسعة أنواع، أولها علم الكتابة والقراءة، ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات، ومنها علم الشعر والعروض، ومنها ... علم الحرف والصنائع، ومنها علم البيع والشراء والتجارات ...
فأما أنواع العلوم الشرعية التي وضعت لطب النفوس وطلب الآخرة فهي ستة أنواع: أولها علم التنزيل، وثانيها علم التأويل، والثالث علم الروايات والأخبار، والرابع علم الفقه والسنن والأحكام، والخامس علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف، والسادس علم تأويل المنامات ...
وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع: منها الرياضيات، ومنها المنطقيات، ومنها الطبيعيات ومنها الإلهيات. فالرياضيات أربعة أنواع: أولها الأرتماطيقي [= الحساب] ... والثاني الجومطريا وهو الهندسة ... والثالث الأسطرنوميا وهي النجوم ... والرابع الموسيقى. والعلوم المنطقيات خمسة أنواع: أولها أنولوطيقا وهي معرفة صناعة الشعر، والثاني ريطوريقا وهي معرفة صناعة الخطب، والثالث طوبيقا وهي معرفة صناعة الجدل، والرابع بولوطيقا وهي معرفة صناعة البرهان، والخامس سوفسطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل. وقد تكلم الحكماء الأولون والمتأخرون في هذه الصنائع والعلوم وصنفوا فيها كتبا كثيرة، وهي موجودة في أيدي الناس. وقد عمل أرسطاطاليس ثلاثة كتب أخر ، وجعلها مقدمة لكتاب البرهان، أولها قاطيغورياس [= كتاب المقولات]، والثاني باريمنياس [= كتاب العبارة]، والثالث أنولوطيقا الأولى [= كتاب القياس]. وإنما جعل عنايته أكثرها بكتاب البرهان؛ لأن البرهان ميزان الحكماء يعرفون به الصدق من الكذب في الأقوال، والصواب من الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والخير من الشر في الأفعال ... وقد عمل فرفوريوس الصوري كتابا وسماه إيساغوجي، وهو المدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي. ولكن من أجل أنهم طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن عارفا بها وبمعانيها، انغلق على الناظرين في هذه الكتب فهم معانيها وعسر على المتعلمين أخذها. وقد عملنا في كل واحدة من هذه الصنائع رسالة ذكرنا فيها نكت ما يحتاج إليه وتركنا التطويل ...
وأما العلوم الطبيعية فهي سبعة أنواع: أولها علم المبادئ الجسمانية، وهي معرفة خمسة أشياء: الهيولى والصورة، الزمان والمكان والحركة ... والثاني علم السماء والعالم، وهو معرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلة دورانها ... والثالث علم الكون والفساد، وهو معرفة ماهية جواهر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكيف يستحيل بعضها إلى بعض بتأثيرات الأشخاص العالية، ويكون منها الحوادث والكائنات من المعادن والنبات والحيوان ... والرابع علم حوادث الجو، وهو معرفة كيفية تغييرات الهواء ... وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبروق والرعود والشهب والصواعق ... وما شاكلها مما يحدث فوق رءوسنا من التغييرات والحوادث. والخامس علم المعادن ... والسادس علم النبات ... والسابع علم الحيوان ...
والعلوم الإلهية خمسة أنواع: أولها معرفة الباري، جل جلاله وعم نواله، وصفة وحدانيته، وكيف هو علة الموجودات ... والثاني علم الروحانيات، وهو معرفة الجواهر البسيطة العقلية العلامة الفعالة، التي هي ملائكة الله وخالص عباده، وهي الصور المجردة من الهيولى، المستعملة للأجسام المدبرة لها ... والثالث علم النفسانيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية، من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ومعرفة كيفية إدارتها للأفلاك وتحريكها للكواكب، وتربيتها للحيوان والنبات، وحلولها في جثث الحيوانات، وكيفية انبعاثها بعد الممات. والرابع علم السياسة وهي خمسة أنواع ... والخامس علم المعاد ، وهو معرفة ماهية النشأة الأخرى وكيفية انبعاث الأرواح من ظلمة الأجساد، وانتباه النفوس من طول الرقاد ...» (7: 1، 266-274).
Shafi da ba'a sani ba