ازدرد ريقه بصعوبة، ثم قال بصوت متهدج: كيف أقابلك؟ أي مكان تحدده؟ - ولكن لماذا تريدني؟ - فلنؤجل ذلك للمقابلة. - أفضل أن تعطيني فكرة قبل المقابلة. - لكن ذلك متعذر بالتليفون ولا ضرر من المقابلة البتة! - هل يمكن أن أعرف من أنت؟ - اسمي منشور في الإعلان. - أعني مهنتك أو عملك؟ - من الأعيان! - ولم تريدني؟ - ستعرف ذلك في الوقت الذي تحدده، وكله خير.
وسكت الصوت قليلا، ثم قال: تعال الآن .. إليك العنوان: فيلا 15 شارع التلبانة بشبرا.
سأل عم خليل وعم محمد عن العنوان، ولكنهما لم يعرفاه، وقال له الساوي: أسماء الشوارع تتغير كل ساعة، اذهب إلى شبرا أولا ثم اسأل هناك عن الشارع.
وذهب إلى شبرا، وحرق ساعات النهار في البحث والسؤال مندفعا بإصرار محموم، ولكنه لم يجد أحدا قد سمع عن الشارع. ولما أعياه التخبط ذهب إلى قسم شبرا، وهناك تأكد من عدم وجود شارع بهذا الاسم. تدعى إلى فراغ اليأس. هل أخطأ السمع؟ هل عبث به عابث؟
ورجع إلى الفندق وصوت الشحاذ يعلو بالمديح فكره كل شيء إلى حد المرض. ولما رأى المرأة في مجلسها المألوف امتزجت كراهيته برغبة عنيفة دموية. وأخبره الساوي أن شخصا سأل عنه في التليفون أكثر من مرة، ورجح أنه نفس الشخص الذي طلبه أول النهار، فعاوده الأمل، وقال إنه أخطأ السمع بلا شك، وإن الرجل استبطأه فكرر السؤال عنه. وتمتم عم خليل: وفقت إن شاء الله؟
فأجاب متظاهرا بالمرح: في الطريق ...
وخطف من المرأة نظرة ثم مضى إلى مجلسه بالاستراحة منهوك القوى. وتسللت إلى المكان كآبة مساء الخريف فأضيئت الأنوار. واختفت المرأة فازدادت الكآبة كثافة. لا شك أن الرجل سيعيد المكالمة. وإذا بالساوي يلوح له بالسماعة فهرع إليه: آلو ... - صابر؟ فات النهار ولم تأت؟ - لكني لم أجد الشارع! - هل بحثت عنه حقا؟ - طول النهار تقريبا .. التلبانة رقم 15 بشبرا! - حقيقة إنك حمار!
وضحك ضحكة طويلة قبل أن يغلق السكة. أعاد السماعة وغادر الفندق. انتفض طوال الوقت من الغضب. عابث كلب وغد! هكذا يرد إلى نقطة البدء ودون بادرة أمل. وذهب إلى بقالة الحرية بكلوت بك، فاشترى زجاجة كونياك، وأعد له الرجل عشاء سمك. يوم عبث ويأس فلا أقل من أن يختم بسهرة مستهترة. وشرب بسرعة ودون أدنى اهتمام بالنقود التي تنفق، كأيام النبي دانيال، عندما قالت له: الدنيا جميلة وأنت زهرتها. وهواء الإسكندرية المعربد المليء بالفتن. أما هذه المدينة فلا يلقى فيها إلا العناء، وكل ساعة تمر تقربه من النهاية المخيفة. وماذا بعد الانتظار والجري وراء المجهول في الظلام؟ وإذا خطر له أن يمتهن مهنة أمه فسيكون هزأة رجال الليل بالإسكندرية. واللكمة التي كانت تؤدبهم تنقلب راحة مبسوطة لخدمتهم. الجريمة دون ذلك يا أوغاد. لعل عابث التليفون واحد منكم فالويل لكم. وامرأة الفندق متعة يرغب فيها منذ عهد الأنفوشي، وإلهام عبير طيب، ولكن ما قيمة أي شيء قبل العثور على الأب؟ وتبسم بالنشوة رغم رائحة السمك، ومضى يسير تحت البواكي المقطبة. وحن إلى الرقص في الكنار الليلي، والشوارع السنجابية المغسولة بماء المطر، والهواء المنبعث من الهدير الذي يغطي الأجساد بغلالة سمراء؛ ومس دمه جنون حيواني كليلة المطاردة. وأمه كانت تدخن النارجيلة وتحكم الرجال، وعندما تجلس لمناقشته تجلس كملكة. وقالت له افعل ما تشاء، ولكن لا تسرف، فلا عدو لنا إلا الفقر. وقالت له اعشق كل يوم امرأة، ولكن لا تجعل لإحداهن من سلطان عليك. وهام على وجهه في الليل كالثور. وفي ملهى الكنار تعبث الأيدي تحت الموائد عبثا فاضحا. ولكن أين سيد سيد الرحيمي؟ وهتف بصوته المليء «يا رحيمي»، ثم راح يدندن بالأغنية الإسكندرانية: «ما تبطل الشقاوة وتعال عندنا». وبحكم الكونياك والسمك والهم جرد الزوجة من ثيابها وعبث بها بوحشية. ورجع إلى الفندق عند منتصف الليل فوجده غارقا في النوم. ودخن سيجارة في حجرته الأثرية ثم نام. واستيقظ. انتبه إلى أنه استيقظ على صوت وفتح عينيه. ثمة ظلمة عميقة والنافذة لم تنضح بأي نور. ثم سمع نقرا خفيفا متقطعا على الباب. جلس وهو يرهف السمع، فعاوده النقر الخفيف الحذر. مد يده إلى مفتاح الكهرباء فأضاء المصباح العاري، ثم مضى إلى الباب وفتحه بخفة. وما إن تحركت الضلفة عن فرجة حتى مرق منها شخص، ثم رد الباب وراءه بسرعة. اشتعل يقظة وهو يحملق فيها، ثم غمغم بذهول نشوان: أنت؟
نظرت فيما حولها بحركة تمثيلية مازحة كأنما فوجئت بخطأ لم يجر على البال وتمتمت: أين أنا؟ أخطأت المكان؟
وحبكت الروب حول صدرها نصف العاري، وعضت على شفتيها لتئد ابتسامة، فجذبها إلى صدره، إلى بيجامته المبعثرة، وشعره المنكوش، وضمها إليه بقوة تعادل الصبر المعذب الطويل. - أما أنا فإني أنتظر مائة عام.
Shafi da ba'a sani ba