فتورد وجهه وأحنى رأسه بالإيجاب. - وكيف فقدته؟ - فقدته كما فقدني، وها أنا قد قدمت للبحث عنه. - لا شك أنها قصة عجيبة!
وتضايق من الأسئلة المطوقة، فقال: بل عادية جدا فأرجو استدعائي عند الطلب.
الشاب الذي يبحث عن أبيه، هكذا سيطلقون عليه، وسيقولون ويتقولون. وهز كتفيه استهانة. ولزم الاستراحة أكثر الوقت، وكلما رن التليفون تعلق به بصره. ووقعت مكالمات غير مجدية، فاتصل به سيد سيد الرحيمي الحلاق ببولاق، وثان مدرس لغة عربية، وثالث سائق ترام، وقابلهم واحدا فواحدا، كما قابل الدكتور من قبل، ولكن لم يكن لأحد منهم علاقة بمن يبحث عنه. أين من يبحث عنه إذن؟ ولم لم يتصل به كما فعل الآخرون؟ وإذا كان قد مات أفلم يترك ابنا أو قريبا؟ وتذكر نقوده التي تتناقص باستمرار بجزع شديد. ومن حوله جلس كثير من النزلاء، وتطايرت رائحة القهوة والسجائر، ولكن أحدا لم يلق إليه بالا، وكأن الإعلان لم يقرأه أحد وهو ما حمد الله عليه. ولكن ما عسى أن يصنع إذا تتابعت الأيام بلا نتيجة؟ ماذا لو نفد المال ولم يظهر الأب؟ أنت قواد أو بلطجي؟ وعهد النبي دانيال الذي مضى كعبير طيب بددته الريح. عرف حب الأم وإغداقها المال بلا حساب، وعرف مسرات الحياة بلا خوف أو ندم. وقالت الحياة جميلة وأنت زهرتها. وحتى عند الوعي بحقيقة الأمر خضعت لها باعتبارها مصدر كل شيء. وأنت ترقص في ملهى الكنار الليلي صاح مخمور أكل الغيظ قلبه: يا ابن بسيمة!
فكانت معركة دامية وتناثر الزجاج، ولا شيء يحمي السمعة السيئة إلا القبضة الحديدية. وما دامت بسيمة قد دفنت فلا أمل إلا إذا جاء الأب. وقال أحد القاعدين في الاستراحة: القطن! كل شيء يتوقف على القطن!
لم؟ أهو رحيمي آخر؟ وهو لولا الإعلان ما تصفح جريدة. حتى أنباء الذرة وغزو الفضاء جاءته عن طريق السكارى بملهى الكنار. وتساءل رجل آخر: وهذه الحرب التي تهدد العالم ألا تضمن لنا القطن؟ - لن تكون كالحروب الماضية. - أجل إنها لن تبقي على شيء. - القطن، والفول، والبهائم، والخلق.
فتساءل الصوت الأول: وأين الله خالق كل شيء وحافظه؟
أين الله حقا؟ هو عرف اسم الله ولكنه لم يشغل باله قط. ولم تشده إلى الدين علاقة تذكر. ولا شهد النبي دانيال ممارسة عادة دينية واحدة؛ فهو يعيش في عصر ما قبل الدين. وقضي عليه بأن يمضي أجمل أوقات النهار بين ثرثارين أغلبهم من الريف، ورائحة السجائر تختلط دائما برائحة البصل الأخضر، وإذا اشتدت مرارة الصبر تسلى بتخيل إلهام أو زوجة عم خليل أبو النجا. والهواء ضروري جدا، والنار لا غنى عنها. وسوف يصمت إلى الأبد دون أن ينبس لسانه بجواب يخرجه من حيرته. وإذا لم يلب أبوه النداء أفليس من الخير أن تنفجر الذرة لتهلك كل شيء؟ الخوف، والجوع، والماضي الملوث؟ ومرة حانت منه التفاتة إلى التليفون فرأى زوجة عم خليل بمجلسها الذي رآها به أول مرة. إذن عادت! ودق قلبه باعثا حرارة جنونية في كافة المراكز المتلهفة؛ الجسم الصارخ، والنظرة المتآمرة مع الغرائز. ونسي التليفون والرحيمي وإلهام، وصعد إلى حجرته في الدور الثالث وانتظر وراء الباب. ثم سمع وقع أقدام صاعدة فخرج إلى الطرقة فالتقيا في منتصفها. وتظاهر بالمفاجأة، وقال: حمدا لله على سلامتك.
فشكرته بابتسامة، فقال: تركت خلفك وحشة حقيقية.
فجادت بهزة شكر من شعرها الأسود، وسارت في طريقها المفضي إلى سلم الدور الرابع، غير أنه همس بجرأة: الإسكندرية.
تباطأت حتى وقفت تقريبا على بعد ياردة منه متسائلة: الإسكندرية؟ - عطفة القرشي!
Shafi da ba'a sani ba