الطريق
الطريق
الطريق
الطريق
تأليف
نجيب محفوظ
الطريق
1
اغرورقت عيناه. رغم ضبطه لمشاعره وكراهيته أن يبكي أمام هؤلاء الرجال اغرورقت عيناه. وببصر مائع نظر إلى الجثمان وهو يحمل من النعش إلى فوهة القبر، بدا في كفنه نحيلا كأن لا وزن له، شد ما هزلت يا أماه! وتوارت عن ناظريه تماما فلم يعد يرى إلا ظلمة. وسطعته رائحة التراب، ومن حوله احتشد الرجال؛ ففاحت أنفاس كريهة وعرق، وفي الحوش خارج الحجرة ارتفع لغط النساء، وانفعل برائحة التراب حتى عافت نفسه كل شيء. وهم بالانحناء فوق القبر، ولكن يدا شدت على ذراعه وصوتا قال: تذكر ربك.
تقزز من ملمسه ولعنه من الأعماق. هذا خنزير كسائر من حوله من الخنازير. ولكن لحظة الوداع استردته بوخزة كالندم، وقال إن معاشرة ربع قرن من الزمان لا تعني في هذه اللحظة شيئا، ولا تساوي شيئا. وتردد من بعيد صوت كالعواء، ثم دخل الحجرة طابور من العميان فطوقوا القبر في نصف دائرة ثم جلسوا القرفصاء. وشعر بأعين كثيرة تحدق فيه أو تسترق إليه النظرات، إنه يعرف ما تعنيه هذه النظرات. وشد قامته الفارعة الرشيقة في عناد. يقولون لم يقف هكذا غريبا في منظره وملبسه كأنه ليس واحدا منا؟ لم نحته أمه عن بيئته ثم تركته وحيدا؟ إنهم لا يعزونك ولكنهم يدارون شماتتهم بك. ومذاق الحياة أمسى كالتراب. وبرز من الفوهة التربي ومساعده فوقفا فوق سطح الأرض مرة أخرى، وأقبلا يسدان القبر، ثم يسويان الأرض في نشاط وحيوية. ونادى السقاء على الماء. ورتل العميان. ثم ردد رئيسهم التلقين. وتساءل عما ستجيب به أمه! وقال إنها ستكون وحيدة حقا. وماذا يقول في ذلك الخنازير؟ ها هو الخشوع يغشى جباههم كسحابة صيف. وأدركه الضجر؛ فتاق إلى الوحدة في بيته، وألحت عليه رغبة في أن يعيد النظر في كل شيء. ستحدق الأسئلة المحرجة بأمه في ظلام القبر. ولن يساعدها أحد من هؤلاء الشياطين، ولكن يومكم سيجيء. وانخفضت الأصوات في نغمة حزينة موحية بالختام، ووقف الطابور في حال انتظار وتقدم التربي منه خطوات. عند ذاك قال الواقف إلى يمينه: دعه لي فلا تحاسبه، إني أدرى بهؤلاء الناس.
Shafi da ba'a sani ba