الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة .
ولم يكن المسكين هو الذي يختار تلك الآيات، بل كانت الوزارة هي التي تختارها، وهنا أعدت السؤال على الطالبات، فعلمت أن الكلمة التي قالت الطالبات إنه قالها هي المذكورة في الآية؛ أي إنه قرأ الآية.
أدهشني تفنن الطالبات في الاتهام إلى ذلك الحد، وسررت جدا من أن فراستي لم تخب في ذلك الأستاذ الفاضل فأرسلت إليه، وقلت له: «هل صحيح أن حضرتك قلت أمام الطالبات كلمة فواحش؟» فثار الرجل وقال: «إني لم أصل إلى هذا الحد من الانحطاط، ولقد قال لي فلان باشا قبل نقلي إلى هنا إني مقدم على جهنم، ولقد صدق، وأنا أطلب نقلي اليوم.» فضحكت في شيء من الهدوء، وقلت له: دعنا مما قاله فلان، وأرجوك أن تجيب على سؤالي فقط: «هل قلت تلك الكلمة أم لم تقل؟» قال: «بالطبع لم أقلها، ولن أبقى في مدرسة أسأل فيها عن ذلك.» قلت: «إنك واهم يا سيدي، فالمدرسة لم تظلمك، ولم تنكر عليك فضلك واستقامتك، وما أردت بسؤالي هذا إلا لألفتك إلى الوسط الذي تعيش فيه لتحترس منه، أما الكلمة يا سيدي فإنك قد قلتها وكتبتها أيضا على السبورة، وأمرت الطالبات بحفظها، وها هي كراسة الدين التي أمليتها أنت على الطالبات.» وأظهرت له الكراسة فدهش الرجل، وأسف لما بدر منه. قلت: لا بأس إنك لم تسئ إلي بما قلت، بل أحسنت فقد عرفتني بماذا يوصون المعلم عند نقله إلي، وأظن يا أستاذ أني انتصرت عليهم في كل أدواري، وسأنتصر إن شاء الله، ولست أنا ممن يتهمون الناس جذافا، أو يسمعون فيهم كذب القول، بل إني قد تحريت الوصول إلى الحقيقة في مسألتك هذه حتى وصلت إليها قبل أن أعرض الأمر عليك، وما عرضته عليك لأتهمك بشيء، بل لأوجه نظرك إلى الخطر الذي يحدق بمدرس البنات، خصوصا إذا كان مستقيما متمسكا بأصول دينه بعيدا عن ملاينة الطالبات، فأنت في نظري اليوم أفضل مما كنت بالأمس.
وبقي الرجل عندي إلى أن خرجت من المدرسة، ونحن على أحسن حال من التفاهم، وحسن المعاشرة .
مناورات
ظلت المناورات بيني وبين ذلك المفتش الإنجليزي طول مدة توظفي بالوزارة، وكنت أعلم شدة كراهيته لي، ولم أكن أعمل على إزالة تلك الكراهية؛ لأني كنت أعتقد أن ذلك فوق طاقتي، وكنت أقول: لا معنى لاستجلاب رضاه ما دام هذا غير ميسور، وما دمت أنا هدف سخطه، وتعنته، فيجب على الأقل أن أعطي له كما أخذت منه، والشر بالشر والبادئ أظلم، وكنت إذا تذكرت حالتي وحالته، وضعفي وقوته أقول: «أنا الغريق فما خوفي من البلل.» وكان قليل الأدب مع المعلمين؛ فكنت أدفع شره عنهم بقدر الإمكان، وكنت كعادتي لا أتبع قانون الوزارة حرفيا، بل أتصرف فيه سعيا وراء نفع الطالبات، وكان مقرر الحساب لمدارس المعلمات في ذلك الحين يحتم إعطاء الكسور الاعتيادية قبل العشرية، ولما كنت أعلم أن هذا خطأ؛ لأن الكسور العشرية في عملياتها تسير على نفس الطريقة التي تسير عليها الأعداد الصحيحة؛ فكل عدد من جهة اليمين يقل عن نظيره من جهة الشمال عشر مرات، حتى إذا انتهت الأعداد الصحيحة جاء بعدها الكسر العشري والرقم في الخانة الأولى منه يقل عن نظيره في العدد الصحيح عشر مرات، وهكذا، فكنت أرى أن إعطاء عمليات الكسور العشرية إعادة لعمليات الأعداد الصحيحة، لا فرق بينها وبين الأعداد الصحيحة إلا تحديد موضع العلامة العشرية؛ ولهذا كنت أطلب من معلم الحساب أن يعطي الكسور العشرية قبل الاعتيادية.
وجاء ذلك المفتش، كان له أن يفتش على كل مادة في العالم حتى القرآن، فلما رأى أن المعلم يعطي الكسور العشرية قبل أن يعطي الاعتيادية أحضر له المنهج، وقال له باللغة العربية لا أقول الفصيحة بل اللكناء: «هل أنت أعمى؟» مشيرا إلى ما كتب في المنهج، وكان ذلك أمام التلميذات، وتصادف أني كنت في تلك اللحظة أمر أمام الفصل، فسمعت قوله هذا؛ لأنه كان يلقيه بلهجة غضب وصوت عال، فدخلت مسرعة، وأردت أن أدافع عن كرامة المعلم أمام تلميذاته، فقلت للمفتش باللغة الإنجليزية: «لا يا سيدي ليس هو بالأعمى، ولكني أنا العمياء ؛ لأني أنا التي أمرته بذلك.» فخجل المفتش، وكان يخشى أن يتصادم معي، فقال لي في لهجة وادعة: «لا بأس، فإن هذا اختلاف في الآراء.»
وهكذا ظل الرجل يكرهني ويخشاني، وينتظر لي أقل كبوة ليهاجمني من جرائها، وكان بالطبع كثير الأنصار يخشاه كل الناس ويتملقونه؛ فكان يبتكر لي المنغصات ابتكارا، وكان مما فعله أنه لم يسمح لمدرسة المعلمات بالورديان بتعيين طبيبة فيها كما هي العادة في جميع المدارس، وكنت إذ ذاك قوية كثيرة النشاط فلم أعبأ بذلك، وكنت أقوم بعمل الضابطة الفرنسوية التي لا تصلح لمركزها كما مر بنا، كما كنت أقوم بعمل الطبيبة، ومن حسن المصادفات أني يوم خرجت من تلك المدرسة أسرع هذا المفتش فعين لها طبيبة في يوم خروجي، فلم تحضر الناظرة التي خلفتني إلا وفي المدرسة طبيبة، وذلك حتى لا تظهر قوتي بضعف من كانت ستحل محلي، وشاء القدر أن تهمل الطبيبة، وأن تهمل الناظرة نظافة التلميذات، فينتشر في المدرسة الجرب بحالة مفزعة، وكانت المدرسة بعد خروجي منها بأربعة أشهر محل قيل وقال لما منيت به من ذلك الداء العضال، خرجت الضابطة الفرنسية، وحلت محلها ضابطة مصرية، فكان بدلي ثلاث موظفات؛ الناظرة والضابطة والطبيبة، ومع ذلك لم تكن المدرسة في نظافتها على ما كانت عليه في مدتي، وعرف الرجل في قرارة نفسه قيمة عملي فزادته تلك المعرفة حنقا علي، وسيأتي فيما بعد مجهوده العظيم المنتج في تعكير صفوي أينما كنت، وكان يقول في لهجته القاسية: «إنها - أي نبوية - قوة شديدة خطرة.»
لقد خرجت بذلك عن الزمن الذي أكتب فيه، وهو زمن وجودي بمدرسة الورديان لهذا أعود فأكمله.
قامت الحركة الوطنية في سنة 1919، وكان صاحبي المفتش المذكور على استعداد تام للقضاء علي إذا قامت مدرستي بحركة مهما تفهت، وكنت محبوبة من المعلمين والمعلمات والطالبات أيضا، وكنت نافذة الكلمة في الجميع، فاجتمعت بالمعلمين والمعلمات، وقلت لهم: لست ممن يعتقدون أن الإضراب في المدارس مما يفيد البلاد، بل أنا أعلم أن البلاد على حاجة شديدة إلى التعليم، وأن المعلمين يجب أن يكونوا بعيدين عن الحركة الوطنية؛ لأنهم يقومون بعمل وطني مجيد يجب أن لا ينصرفوا عنه إلى عمل آخر مهما جل، وذلك العمل تثقيف أمة أمية قد انتشر فيها الجهل إلى أقصى حدوده؛ فنحن في كفاحنا ذلك الجهل الشديد يجب أن نتفرغ له، وأن لا ننظر إلى عمل غيره، هذا، ويهمني أن لا نكون قدوة سيئة للطلبة فنظهر أمام طالباتنا بمظهر الجبن والغش والكذب؛ لأني أعلم أن المعلمين هم الذين يحرضون الطلبة، ثم يعاقب الطلبة وحدهم، وهذا جبن من المعلم، وكذب ورياء يجب أن لا يعلمه عنه تلاميذه.
Shafi da ba'a sani ba