ومن الغريب أن تمزج الفرائض الدينية أو بالحري المظاهر التقشفية بروح الغزو والنهب، وحب القتال والحرب، فكان الأسقف الذي قام صباحئذ في خدمة ذلك القداس لابسا عدة الحرب تحت حلته الكهنوتية، والشماس القائم بجانبه عند تقديم الصلاة مشرعا في يده حربة فولاذية على أهبة المسير إلى ساحة الوغى حين انتهاء الخدمة، وعندها خلع الأسقف حلة الكهانة، واعتقل آلة الجلاد، وامتطى جواده الذي كان مسرجا بجانبه، واستلم قيادة فرقة من الفرسان، وتأهب للحرب والطعان، ثم علا وليم جوادا كريما إسبانيا يدعى بايارد كان قد أهدي إليه من أحد أمرائه، وكان معلقا بعنق وليم بعض العظام المقدسة التي حلف عليه هارلود يمينه الكاذبة، معتقدا أنها تكون له عوذة تقي حياته، وتحقق قضاء الله العادل القادر على هارلود الخائن والغادر، ورفعت بجانبه الراية المقدسة التي أهداه إياها البابا بواسطة جندي شاب، وكان قد عهد حملها إلى جندي آخر أكبر منه سنا فاعتذر بقوله: إنه يود استبدال هذه الخدمة في مثل هذا اليوم بالسيف والرمح.
وفي أثناء هذه الاستعدادات للخروج إلى القتال وقف وليم محاطا بحاميته على هضبة وسط المعسكر، وعلى مرأى من جميع الجيوش، فأخذوا كلهم ببديع هيئته وضخامة جثته، وسعة صدره المصفح بالفولاذ، وهيبة جواده الذي كان كراكبه معتزا بمظاهر الهيبة والوقار، مختالا بباهر المباهاة والافتخار، ومتشوقا لخوض مضمار الوغى بفروغ الاصطبار، ولما انقضت ساعة التأهب والاستعداد سالت تلك الأرجاء بجيوش النورماندية الزاحفة بمجلى الأبهة والمجد نحو الصفوف الإنكليزية، على أن تلك المجالي العظيمة ما لبثت أن توارت تحت أطباق الجماهير المقذفة للهيجاء، والتي استفحلت فيها يد الحتوف مدة عشر ساعات، صرفت بتسليم نفوس أولئك الألوف لأحكام القضاء، واندفاعها لساحة قامت فيها الحرب على قدم وساق، وراجت سوق القتل والإعدام، فأصابت بضاعة الأرواح أي نفاد ونفاق، وانتزعت الرحمة من الأفئدة، وامحت رسوم الرفق والتوءدة، وهجرت الدماء مرابع الشرايين والأوردة.
وظل ذلك النهار مسدودة فيه منافس الأقطار حتى أمسى المساء وإذا بالنورمانديين ظافرون منتصرون، والإنكليز مغلوبون مقهورون، فاستظهرت عساكر وليم وجالت في ساحة القتال ذهابا وإيابا بالطول والعرض، وخيولها تدوس الذين انطرحوا من رجال هارلود قتلى، وقد غشيت جثثهم وجه كل تلك الأرض، والذين نجوا من حد السيف نكصوا على أعقابهم متسابقين نحو الشمال، وقد امتلأت الطرق على طولها بالذين سقطوا فيها صرعى، إما من فرط الإعياء أو من كثرة ما نزفته جراحهم من الدماء.
وفي الصباح جمع وليم عساكره، وتفقد قواده وضباطه وجنوده بأسمائهم؛ ليرى من ذهب منهم فقيدا، وعندها قدم عليه راهبان مرسلان من قبل الباقين من جيش هارلود يقولان له: إن الملك هارلود مفقود، وقد شاع الخبر بأنه قتل، فإن صح ذلك فلا بد أن تكون جثته مطروحة في ساحة القتال؛ ولذا قد أتيا لكي يلتمسا منه إجازة التفتيش عليها، فأجاب وليم طلبهما، وانطلقا يفتشان عليها ويبحثان عنها بمساعدة بعض العساكر.
وقد تراءى للمفتشين مدة أن البحث عن هارلود بين القتلى لا يجديهم نفعا، ولا يأتيهم بفائدة من قبيل أن وجوه جميع الموتى هنالك كانت قد تغيرت هيئاتها، واستحالت كلها إلى مظاهر متشابهة يعسر التمييز بينها، أخيرا عثرت على جثة هارلود امرأة عاشت في بيته زمانا طويلا، وعرفته أكثر من غيرها، فدلت المفتشين عليها، وهؤلاء حملوها وانصرفوا، وهكذا انتهت معركة هستن، وبانتهائها انفرجت الأزمة المتعلقة بالعرش الإنكليزي، فإنه وإن يكن عقبها مظاهرات عدوانية من قبل بعض أصحاب هارلود وأتباع إدغرث الذين حاولوا تخليص العرش، فقد ذهبت جميعها قبض الريح، ومن ثم زحف وليم على لندن وتحصن فيها، ثم حمل منها على سائر الجهات التي استروح فيها الثورة والعصيان حتى دوخ كل أطراف البلاد، وأدرك من إخضاع سائر أطراف الجزيرة المراد، وجرى الاحتفال بتتويجه في دير وستمنستر بغاية الإجلال والاحتفاء.
ثم أرسل ودعا متيلدا ولقبها ملكة إنكلترا، واغتصب جميع من وقف في طريقه من أشراف إنكلترا أموالهم وأملاكهم، وقسمها بين القواد النورمانديين الذين ظافروه في هذه الحملة بكل اعتناء، وأبلوا في ساحات الحرب أحسن الإبلاء، وبعدها صفت له الأيام، وبسم له الدهر عن ثغر السعد والتوفيق، فعلت مكانته وعظمته في عيون جميع أهل نورماندي وإنكلترا، وظل على سنين معتبرا ومعدودا أعظم ملوك الأرض في ذلك العهد وأغناها، وأما سعادته العائلية وراحته الشخصية فسوف يأتي البحث عنهما في الفصل الآتي.
الفصل الحادي عشر
عصيان البرنس روبرت
إن أهل الطمع والحرص على الشهرة العالمية الذين يقفون حياتهم ويصرفون عنايتهم في ربيع العمر نحو تحصيل المطامع الشخصية ونيل الأماني الذاتية، قلما يبالون بسياسة أولادهم وتهذيبهم؛ ولذلك كثيرا ما تقضى سنوهم الأخيرة بمرارة وعذاب منشؤهما تطوح بنيهم في الرذائل، وانبعاثهم في التبذير والإسراف واتباعهم الشهوات، وسيرهم وراء كل مفسدات الأخلاق، وهكذا حدث لوليم، فإنه ما تنفس من إخضاع أعدائه وتسنمه عرش السيادة المطلقة على كلتا مملكته في إنكلترا وإمارته في نورماندي حتى شاب كأس سلامه وسعادته وتشوش نظام ملكه بكدر خصام عائلي.
فإنه كان اسم ابنه الأكبر روبرت، وعمره حين حمل أبوه على إنكلترا أربع عشرة سنة، وكان إذ ذاك غاية في الرعونة والطياشة؛ لأن أمه أحبته وأعزته إلى درجة لم تبق فيها على تفنيق أو تدليه إلا بذلته له، ويذكر القارئ أن وليم قبلما أقلع بعمارته إلى إنكلترا قلد متيلدا نيابة الحكم، وخولها السلطة على إمارة نورماندي مدة غيابه، فأشرك هذا الصبي في النيابة مع والدته، وصار يعتبر نفسه أنه بلا شك أهم منها في المركز والوظيفة.
Shafi da ba'a sani ba