أما جيشه فرغما عما ناله من الظفر والانتصار كان قد أصبح ضعيفا خائر القوى فاقد الجلد والاصطبار، وقد أنضته الأسفار الطوال، وأنهكته مكابدة الأخطار وملاقاة الأهوال، وحط من عالي بسالته ما تخلف منه بين قتلى وجرحى في ساحة القتال؛ حتى إن الملك هارلود نفسه كان قد أصيب بجرح وإن يكن ليس بليغا إلى حد يمنعه عن مداومة القيادة، فجرد من ضعفه قوة، وجدد من خواره عزما ومروة، وسار قاصدا الجنود بملء الجد والاجتهاد، ناشرا في طريقه العيون والأرصاد، مشددا الإلحاح بالإيعاز إلى جميع قواده في سائر الأنحاء والأصقاع أن يوافوه متأهبين بغاية ما يكون من الإسراع، وكان من قصده هذا أن يخف بعدده وعدده، ويفاجئ وليم على التخوم الجنوبية قبلما يضرب فيها الحصون والقلاع، وترسخ له هنالك قدم النضال والدفاع، أما وليم فلكي يأمن طوارئ المباغتة، ويسلم من بوائق المفاجأة، سير رقباء من فرسانه يجوسون خلال الطرق، ويتجسسون معابر السبل يتنسمون أنباء العدو، ويستروحون حركات قدومه، ويرجعون إلى وليم بالخبر.
فحدث أن سعاة هارلود المتقدمين أمامه لقوا رقباء وليم وأبصروهم حالما أمعنوا في الجري راجعين إلى المعسكر مخطرين منذرين، فأخفق سعي هارلود في مباغتة وليم، وزاد بلة يأسه طينة أن وجد في اقترابه أن قوات وليم تعادل ضعفي قواته، وكان من الخرق أن يخاطر في مهاجمة عدو كهذا متمنع في حصونه، متقو بكثرة عدده ووفرة ذخائره وقواته، فلم يبق لديه سوى واحد من اثنين، أي إما أن يتقهقر راجعا، أو يتخذ له مركزا حصينا لعله يقوى على صد المهاجمين ورد جماح الثائرين وإن كان على مفاتحتهم ليس من القادرين.
فنصح له بعض مستشاريه أن لا يعرض نفسه لأخطار القتال، بل يقفل راجعا إلى لندن جارفا بطريقه أو مدمرا كل ما يراه يمد جيش وليم بأقل مساعدة، وبذلك يضيق على الأعداء ويشدد حاجتهم إلى الزاد، على حين يستحيل عليهم سدها وتناولها من عبر البوغاز، فضلا عن أنه يضطر وليم إلى غزو كل هاتيك الأطراف، فيستاء الأهلون مما يسومهم إياه وليم من الخسف والحيف والهون، ويندفعون للقيام عليه، ويتحدون يدا واحدة وقلبا واحدا عضد هارلود والانضمام إليه، أما هارلود فبعدما أصغى مليا إلى هذه المشورة وتدبرها قال: إنه لا يقدر أن يعقد نيته على العمل بموجبها؛ إذ لا يسعه مخالفة واجباته في خراب بلاد من أكبر فروضه صيانتها ووقايتها، ولا يرى له حقا في رغم رعاياه على شد أزره بواسطة تعريضهم للرزايا والنكبات من عدو جائر قاس، فيعدل على الوقوف في وجه وليم ليس كمهاجم مزاحم بل كمدافع ممانع، وعلى هذا انتقى بقعة تبعد ستة أو سبعة أميال عن معسكر وليم وخيم فيها متحصنا متمنعا.
ومعلوم أن كلا الجيشين لم يكن مطلا على الآخر، ولا كان واحد منهما واقفا على عدد أو مقاصد أو حركات الآخر، وكانت المسافة بينهما بعيدة، والسكان هنالك عرضة الرعب وإيجاس الخوف الشديد، ولم يكن أحد يعلم عند أية نقطة تلتقي سحابتا ذلك الخطر والهول اللتين كانتا على وشك الاصطدام، وعلى أية مقاطعة سوف تخيم عاصفة الخراب والدمار عند اقتراب ساعة اصطدام تينك السحابتين؛ ولهذا كنت ترى الأهلين مركنين إلى الفرار من كل صوب، محمولين برياح الهلع والرعب اللذين لا مزيد عليهما، وحاملين معهم الطاعنين في السن والعاجزين عن الهرب جهد الاستطاعة، وناقلين أيضا ما وسعتهم المقدرة من الكنوز والحلي، ومخفين في الكهوف والمغاير ما لم يستطيعوا إلى أخذه سبيلا، وهكذا كان شأن سكان الأرض بين ذينك المعسكرين، حتى لم تمض مدة وجيرة إلا نفروا متشتتين «وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم» خالية خاوية، وكان لهارلود بين قواد جيشه أخوان؛ أحدهما يدعى غرث والآخر ليوفن، هذان كانا أشد حبا وإخلاصا لأخيهما الملك من توستغ الذي سبق معنا إيراد ما كان عليه من الحقد والبغض له، فالتصقا به وعملا على مودته، وأظهرا نهاية الحرص والاعتناء بسائر شئونه حين دنت منه ساعة الخطر، وشددت ضغطة الهول وطأتها على حياته، وهما هما اللذان أشارا عليه بالانسحاب إلى لندن وعدم تعريض حياته ومملكته لأخطار حرب لا تحمد عواقبها، ولا يرجى له فيها فوز واستظهار.
فلما أتم هارلود تحصين مركزه أعلن لأخيه غرث رغبته في الركوب معه نحو معسكر وليم رائدا مستكشفا، وقد كان استكشاف كهذا في تلك الأيام أقل خطرا منه في وقتنا الحاضر؛ لأن تجسسا كهذا لا يصعب على العدو في هذه الأيام أن يرقبه بواسطة المراقب (النظارات) من مسافة بعيدة، ويطلق على المتجسسين قنابل مدافع تنهال عليهم انهيال المطر، وتنفجر بينهم بكرات نار لا تبقي ولا تذر، فكان الخطر حينئذ محصورا بافتراض مطاردتهم من المعسكر بطليعة من الفرسان، أو إحاطتهم بكمين لم تكن مفاجأته في الحسبان.
وتفاديا من هذا الخطر امتطى هارلود وغرث أكرم الجياد وأشدها صبرا على الجري السريع ، واختارا نخبة من الرجال الأشداء الأقوياء لحراستهما، وسارا حتى وصلا خيام وليم، وهناك تسنى لهما بواسطة ذروة صعدا إليها أن يستطلعا طلع كل المعسكر، ويسبرا غور ما لدى وليم من القوات والتجهيزات، ولم تفتهما رؤية شيء من السرادقات والخيام والحصون والعساكر والقواد والضباط والفرسان، وأبصرا الفسطاط العظيم المضروب لوليم وعليه راية الصليب المقدسة تخفق بملء اليمن والبركة، وترف بأجنحة النصر والظفر، حتى استولى على هارلود الانذهال من عظمة ما رأى ونظر.
وبعدما صرفا برهة من الزمان غارقين في بحر التأمل والإمعان وهما صامتان لا يفوهان ببنت شفة قال هارلود لغرث: إنه يرى من الحكمة بعدما نظرا هذه القوات التي لا تقاوم أن يعدل عن القتال، ويتبع مشورة القائلين بالرجوع إلى لندن في الحال؛ ذلك خير وأبقى، فأجابه غرث أن: «في الصيف ضيعت اللبن» وأما الآن فلم تعد تلك المشورة تفيد من وجه أنها تقضي بتقويض الخيام وهدم المعاقل، وهذا قد يفسر عند جميع الذين يسمعون به أننا متقهقرون خوفا وعجزا واسترخاء، لا رواغا واحتيالا ودهاء، وبعدما فرغا من المداولة بهذا الشأن رجعا وحاميتهما إلى الخيام ونية هارلود معقودة على الثبات في وجه العدو ما استطاع إلى الثبات سبيلا، حتى يتمكن من دحر وليم ورده على الأعقاب، أو يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وعليه عاد وأنفذ بعض السعاة للتجسس والمراقبة، وكانوا نورمانديي المولد يحسنون التكلم بالفرنسية وقد جاءوا إنكلترا مع كثيرين غيرهم من النورمانديين على أيام الملك إدوارد، ومن ثم استطاعوا بكل سهولة أن يخفوا أمرهم ويمتزجوا بقوم وليم بدون خوف وقوع شبهة عليهم، أو حصول أدنى اشتباه بهم، وتمكنوا من فحص كل شيء بتدقيق، ثم قفلوا راجعين إلى هارلود بأنباء ما رأوا وسمعوا، فقرروا عن شدة هول مصادمة جيوش وليم بحرارة، ومرارة الصبر على الثبات أمام أبطاله الكرارة.
وكان في جيش وليم فرقة كبيرة من رماة السهام الذين اصطلحوا على قص الشعور وحلق الرءوس والخروج بهيئة بعثت أولئك السعاة على أن يظنوهم كهنة، وعليه أبلغوا هارلود في رجوعهم أنهم رأوا في معسكر وليم الكهنة والأراخنة أكثر من رجال الحرب وعساكر القتال، وحدث أيضا في نفس ذلك اليوم أن وليم بعث بعدد من الفرسان إلى معسكر هارلود، وليس كجواسيس بل كسفراء للمباحثة بشأن الصلح؛ لأنه لم يكن يشأ إصلاء نار الحرب إذا أمكنه الحصول على ما كان يعتقد أنه ملكه الحقيقي بطريقة ساعية، فعول على تجربة الوسيلة الأخيرة في حمل هارلود على الرضى والتسليم قبل الوصول إلى حد يقضي بإشهار السلاح، وشهود ساحات الطعن والكفاح.
وبناء عليه أرسل سفراءه يطرحون أمام الملك ثلاث قضايا، وقد وكلت قيادة هذه السفارة إلى راهب يدعى ميفورت، فتقدم هذا محفوفا بالحرس نحو خيام هارلود رافعا بيده راية الهدنة، وعارضا القضايا الثلاث الآتية التي يتوقف تجنب القتال على قبول هارلود بواحدة منهن:
Shafi da ba'a sani ba