وعلى هذا المنوال كان وليم يعصم لذاته علو المكان ونفوذ السلطان، وينكل بأهل البغي والعدوان، ويدوس شوكة التمرد والعصيان، حتى دانت له المصاعب وذلت رقاب المتاعب، فقام يدير شئون إمارته ويدبر أحوالها بيد الحكمة والدراية على طريق الحق والسداد، ثم وجه نظره نحو التدويخ والافتتاح، وضاقت عليه نورماندي فنزع إلى التوسع بغيرها، وفي غضون ذلك تزوج، ولما كانت حوادث زيجته لا تخلو من الغرابة آثرنا أن نجعلها موضوعا للفصل القادم.
الفصل الخامس
الزيجة
من جملة المسائل الهامة التي تعرض لمتسلط عظيم في قيامه بمهام سلطته الإرثية مسألة زواجه، فإن منازعيه وهم لا يرون بعد له ولدا لا يفتئون يخفون له المكائد، وينصبون الأشراك مترصدين لاغتصابه حق تلك السلطة فرصة تعيقه عن صدهم من نحو مرض أو حرب وغيرهما، واعتبار هذا الخطر كان أقرب توقعا وأشد هولا في عيني وليم الذي كان مزاحموه يحتجون سرا وعلنا أن حقهم في التربع على دست الإمارة أعظم من حقه حيا، فكم بالأحرى ميتا! وذلك كان باعثا كبيرا على جعل الأفكار تهجر مضاجع الراحة والسكون، والخواطر تحمل برياح القلق والتشويش في سائر أنحاء نورماندي، فالواسطة الفعالة إذا في تسكين جأش الأفكار أن يكون لوليم ولد؛ ولذا أصبحت زيجته قضية عظيمة الأهمية، وفي الحقيقة إن المقربين إليه من أمراء وقواد كانوا يلحون عليه غاية الإلحاح في قضاء هذه المسألة، من وجه أن إتمامها يكون زينا يطفو على وجه تلك الهواجس والبلابل، ويبيت دونها ودون أهواء الخواطر أعظم حائل، وعليه أخذ وليم يفتش على زوجة.
وظهر أخيرا أنه ليست مصلحة السياسة التي كانت تدعوه إلى ذلك فقط، بل الحب أيضا وجد عاملا في قلبه، وحداه على تحري البحث والاستقصاء، وبالواقع أن تلك التي أطلق نحوها ناظر الطلب كانت جديرة بالحب، ألا وهي أميرة من أجمل وأفضل أميرات أوربا في ذلك الزمان، ابنة أمير عظيم كان متسلطا على بلاد فلندرس شرقي نورماندي على شواطئ الأوقيانوس الجرماني الجنوبية، وكان أبوها الملقب بأمير فلندرس حاكما مطلق السلطان، وقائدا لقوة حربية عظيمة، وكان لعائلته من باذخ الشرف وعلو المكانة وعظمة الاعتبار ما لأعظم عائلة بين أمراء أوربا وأسيادها، وكانت تتصل برابط الزيجة بعائلة إنكلترا الملوكية، حتى إن متيلدا ابنة هذا الأمير التي اختارها وليم زوجة له كانت بموجب جداول أنساب ذلك العصر متسلسلة على خط مستقيم من ذات الملك ألفرد العظيم، ذلك ما عظم شأنها على الخصوص في عيني وليم وكبر لديه فائدة الاقتران بها، على أنه كان في المسألة نسبة عصبية أقامت عائقا في طريق إتمامها، وهي أن أبا متيلدا كان ينتسب أيضا إلى النورماند كما إلى سلالة الإنكليز بنوع يجعل متيلدا ووليم ابني عم، وإن كان عن كلالة وليس لحا، وهذا وجه الصعوبة والاضطراب في هذه القضية.
أما متيلدا فكانت أصغر من وليم بسبع سنين، وقد نشأت في قصر أبيها واتسع نطاق شهرتها وحلق طائر صيتها في الجمال والفضل، ولا سيما في صناعة التطريز التي كان لها شأن عظيم في تلك الأيام التي صنعت فيها المنسوجات الملونة بغية تعليقها على حيطان الغرف المزخرفة في قلاع العظماء وقصور الملوك لتستر عري حجارتها، وكانت في أول عهدها بسيطة، ثم ترقت حتى صارت حواشيها تطرز بأنواع مختلفة، واتخذتها النساء أخيرا شغلا لهن في ساعات الفراغ، بل وسيلة ينفس بها لبعضهن كرب النفس من طول الحصر والتحجب داخل القلاع والحصون، فكن يطرزن كثيرا من الملاء «جمع ملاءة» لأغراض تختلف بين التعليق في الغرف والإهداء إلى الصديقات، أما شهرة متيلدا في هذا النوع من الشغل فكانت واسعة وشاسعة، وقد قيل: إنه كثيرا ما كانت هذه الأعمال الباعث تحصيلها على النساء أيام الصبوة بالتعب والمشقة تترك بعد زواجهن نسيا منسيا؛ وذلك كان ليس لأنهن لا يعدن يجدن من لذة في مزاولتها، لكن تراكم الأشغال المنزلية من جهة، وحفظ أشغال الحياة الزوجية وما يخالطها من الحزن والكدر غالب الأحيان من جهة أخرى كانت تحول دون تفرغ قلوبهن للتسلية واللهو بأعمال العزوبة، على أنه لم يكن الحال كذلك مع متيلدا.
وربما عدنا إلى الكلام على هذا التطريز عند ذكر الوقائع التي صنع لكي يدل عليها ويشير إليها، أما الآن فنرجع إلى قصة الزيجة ونقول: إن المخابرات بشأن الزواج كانت تجري بين الأمراء والأميرات على طريقة رسمية بواسطة مبعوثين وسفراء ونواب كثيري العدد، وكان من صالحهم الخصوصي أن تلقى العراقيل في طريق إتمامها تذرعا إلى نيلهم بذلك منافع ذاتية، وفضلا عن هذا كله تبين حالا أن في المسألة موانع أخر صعبة تتهدد نجاح مساعي وليم المتعددة؛ منها كراهة الأميرة وعدم ميلها بالكلية لإتمام ذلك، ولقائل يقول: كيف استطاعت أن تبغض وليم وهو رجل طويل النجاد، دامي المناصل، جميل الطلعة، نبيه الشأن، طائر الصيت في الشجاعة والإقدام والظفر في معامع الحروب، ومستجمع جميع الصفات التي من شأنها أن تجذب نحوه أميال أميرة في ذلك العهد؟
نعم، ولكن متيلدا رفضت الاقتران به بناء على أسباب تتعلق بولادته، فلم تقدر بوجه من الوجوه أن تعتبره خليفة شرعيا له حق وراثة دوكية نورماندي، إذ إنه مع استوائه على عرش إمارتها كان معدودا لدى قسم كبير من الأمراء والسادة مغتصبا ليس إلا، وإذ ذاك فهو عرضة في كل حين للقلب والجلاء عن بلاده عند أدنى طارئ يطرأ عليه، وبكلمة نقول: إن مركزه وإن كان رفيعا فهو متقلقل وغير ثابت، وحقه في طلب الارتقاء إلى ذروة المجد والشرف مبهم، بحيث لا يسوغ لمتيلدا تسليم أمرها إليه، وعليه كان جوابها على التماسه رفضا مطلقا، على أن هذه الأسباب الظاهرة التي بنت عليها متيلدا عدم قبولها ورفضها الاقتران به لم تكن الأسباب الحقيقية الجوهرية، وإنما الباعث السري كان ميلها إلى شخص آخر، وهو شاب سكسوني كان ملك إنكلترا قد أرسله إلى بلاط أبيها سفيرا، واسمه برترك هذا بقي في قصر أمير فلندرس مدة تمكنت متيلدا فيها بواسطة محافل الطرب ونوادي الأنس التي أقيمت لأجل إكرامه من الاجتماع به، والوقوع على محبته، وكان جميل الطلعة فائق الملاحة، ومن بيت عريق في الشرف والوجاهة في إنكلترا وإن كان دون بيت متيلدا في فلندرس، على أنها إذ شعرت أنه يوجس خوف التقرب منها بداعي ما يتصوره فيها من رفعة الشأن والسمو على رتبته ومكانته، رأت من الواجب عليها أن تتذرع إلى تنشيطه وإنهاضه بكشف مكنونات قلبها، وهتك سرائر حبها، فطارحته حديث الوجد والغرام، وعرضت بذكر تباريح الصبابة والهيام، فوجدته لنكد الطالع خليا لم يكن بهواها مشغولا، وصاحيا لم تستطع إليه راح الوجد وصولا، حتى إنه بعد أن قضى الفرض الذي أرسل لأجله استأذنها في الانصراف بمزيد البرودة، وغادرها من حيث لا يدري مسلوبة القلب مفئودة.
وكما أن أحلى خمرة قد تتحول إلى أحمض خل هكذا أحر محبة تصير حين حئولها الكلي إلى أمر بغض، فالبغض حال في قلب متيلدا إلى غيظ، واحتدام الغيظ إلى تعطش تتلظى ناره بحب الانتقام، لم يعد في قلبها أدنى أثر للحادث الأول، ولكنها ما كانت قط لتنسى أو تصفح عن سقوطها في يد نفسها يأسا وفشلا، وتعفو عن ثقل الهون الذي تحملته، وقد أتاح لها الزمان بعد ذلك أن انتقمت من برترك في إنكلترا انتقاما شديدا، وسامته أمر العقوبة والقسوة التي عرته من رفعته ومكانته وعزة نفسه، وهبطت به أخيرا إلى ثرى رمسه.
وفي أثناء ذلك وهي مشغولة بهذا الشاغل لم تجد لها ولا ريب قلبا يصغي إلى ملتمس وليم، ولم ير من يلوذ بها أدنى أهمية لمعرفة السبب الحقيقي الذي حال دون قبولها، لكنهم شعروا بقوة الموانع التي تقف ضد وليم من حيث دنو عائلة أمه، وكونه مغتصبا لعرش الإمارة اغتصابا، ثم إن صلة القرابة بين متيلدا وبينه كانت مانعة أيضا، وباعثة على الحيرة والارتباك، فإن نسبة أحدهما للآخر كانت تمنع اقترانهما بموجب قوانين الكنيسة الكاثوليكية، وعليه أنفذ وليم وفدا إلى رومية لأجل حل هذه الصعوبة، وذلك فتح بابا جديدا للارتباك والتأخر؛ فإن السلطة الباباوية كانت تغتنم الفرص في مثل هذه الحادثة للحصول على ما يعود على الكنيسة بالخير والنفع، فلا ترخص بالاقتران قبل قيام الزوجين بأداء (التحليلة) من مثل بناء دير أو معبد أو متصدق أو غير ذلك مما تنتفع بريعه بدون التفات إلى سواه، وإذ لم يكن لذلك الوفد من داع خصوصي يبعثه على تعجيل إتمام المسألة وجد لنفسه مندوحة للتمتع بمشاهدة مناظر رومية البديعة، ورأى أنه يطيب له المكث فيها بصفة وفد ملوكي على مزيد الاحتفاء والتكريم، ووليم ذاته كان يعاق من وقت إلى آخر عن الإلحاح عليهم بداعي ما كان يعرض له من الأشغال بالحروب الخارجية، أو الانهماك بتسكين الثورات الداخلية، وهكذا لأسباب عديدة ظهر أن القضية غاية في الإشكال، وربما لا يهتدى إلى طريقة حلها.
Shafi da ba'a sani ba