Zamanin Tashi: Tarihin Al'ummar Larabawa (Sashi na Biyu)
عصر الانطلاق: تاريخ الأمة العربية (الجزء الثاني)
Nau'ikan
الباب الأول
1 - القسم الأول من العهد المكي
2 - القسم الثاني من العهد المكي
3 - في القرآن المكي
4 - في العبادات والمعاملات والواجبات التي شرعت في العهد المكي
الباب الثاني
1 - في خروج النبي من مكة واستقراره بالمدينة
2 - في الأحداث العسكرية لسنوات الهجرة الخمس الأولى
3 - في الأحداث السياسية والعسكرية منذ السنة السادسة للهجرة إلى وفاة النبي
4 - في شعائر الإسلام وأحكامه
Shafi da ba'a sani ba
الباب الثالث
1 - اليهود
2 - النصارى
3 - المنافقون
الباب الرابع
1 - في مبادئ الإسلام
2 - في أحكام الإسلام
الباب الخامس
1 - الوثيقة المدنية وتحليلها
2 - في التراتيب الإدارية
Shafi da ba'a sani ba
الباب السادس
1 - في أحوال النبي الخاصة
2 - في زوجاته وأولاده
الباب الأول
1 - القسم الأول من العهد المكي
2 - القسم الثاني من العهد المكي
3 - في القرآن المكي
4 - في العبادات والمعاملات والواجبات التي شرعت في العهد المكي
الباب الثاني
1 - في خروج النبي من مكة واستقراره بالمدينة
Shafi da ba'a sani ba
2 - في الأحداث العسكرية لسنوات الهجرة الخمس الأولى
3 - في الأحداث السياسية والعسكرية منذ السنة السادسة للهجرة إلى وفاة النبي
4 - في شعائر الإسلام وأحكامه
الباب الثالث
1 - اليهود
2 - النصارى
3 - المنافقون
الباب الرابع
1 - في مبادئ الإسلام
2 - في أحكام الإسلام
Shafi da ba'a sani ba
الباب الخامس
1 - الوثيقة المدنية وتحليلها
2 - في التراتيب الإدارية
الباب السادس
1 - في أحوال النبي الخاصة
2 - في زوجاته وأولاده
عصر الانطلاق
عصر الانطلاق
تاريخ الأمة العربية (الجزء الثاني)
تأليف
Shafi da ba'a sani ba
محمد أسعد طلس
يشتمل على سيرة النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم .
الباب الأول
البعثة النبوية
ينقسم عهد النبوة إلى قسمين، يتميز كل قسم منها بطابع خاص؛ فالأول منذ البعثة إلى إسلام حمزة وعمر، والثاني منذ إسلام حمزة وعمر إلى الهجرة. ويتميز كل من القسمين بطابع خاص، ونبدأ كلامنا عن القسم الأول فنقول ...
الفصل الأول
القسم الأول من العهد المكي
كانت البعثة النبوية المحمدية وأول نزول الوحي في رمضان من السنة الثالثة عشرة قبل الهجرة، الموافقة لسنة 570م، وكان له
صلى الله عليه وسلم
Shafi da ba'a sani ba
من العمر أربعون سنة؛ قال محمد بن إسحق:
1
لما بلغ محمد رسول الله أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا، وأول ما بدئ به الرؤيا الصادقة، وحبب إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده ... وكان يجاور في غار حراء في كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية ... وكان رسول الله يجاور ذلك الشهر في كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره أن يأتي الكعبة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك بشهر رمضان، خرج رسول الله إلى حراء كما كان يخرج لجواره، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها، جاءه جبريل بأمر الله تعالى.
قال رسول الله: «فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟ قال: فغتني به حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي. فقال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم . فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عني، وهببت من نومي فكأنها كتبت في قلبي كتابا، فخرجت حتى إذا كنت وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فرفعت رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل. قال: فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف مكاني، ثم انصرف عني، فانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة، فجلست إلى فخذها مصغيا إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فوالله ، لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به الرسول أنه رأى وسمع، فقال: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة فلقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له أن يثبت.»
فرجعت خديجة إلى رسول الله فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله جواره وانصرف صنع كما كان يصنع؛ بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة ابن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أختي، أخبرني بما رأيت. فأخبره، فقال: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم فلأنصرن الله نصرا يعلمه.
2
وشرع رسول الله في تبليغ رسالته إلى من يثق به من أهله وخاصته؛ فأول من أسلم به السيدة خديجة وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة مولى محمد، وأول ما فرض الله على المسلمين الوضوء والصلاة، وكانت في اليوم صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل الغروب، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين، ولم تجعل أربعة إلا بعد الإسراء. ثم أسلم أبو بكر الصديق وكان رجلا محببا في قومه فاضلا ناسبا خيرا تاجرا، وكان الرجال يقصدونه، فجعل أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام، فأسلم بدعائه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء الثمانية الذين سبقوا بالإسلام، فصلوا وصدقوا رسول الله.
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن الجراح، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبو مسلمة عبد الله بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون وأخواه قدامة وعبد الله، ثم تتابع الناس يدخلون في دين الله، حتى فشا الإسلام في مكة بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية. ولم يتعرض أهل مكة للمسلمين أول الأمر إلى أن جهر محمد بالدعوة تلبية لقوله تعالى:
فاصدع بما تؤمر ، فأخذ يصدع بدعوته، ثم لما نزلت الآية:
Shafi da ba'a sani ba
وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، فدعا الرسول بني عبد المطلب إلى طعام صنعه علي بن أبي طالب، وتكلم الرسول فقال: «يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة.»
3
ثم دعا بطون قريش من فوق جبل الصفا بظاهر مكة، فلما اجتمعت إليه قال: «لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم تصدقونني؟» قالوا: نعم. فقال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.» فقال أبو لهب: تبا لك! ألهذا جمعتنا؟
ثم تفرقوا، فأخذ الرسول يسفه أحلامهم وينتقد أصنامهم وينكر آلهتهم فيعيبها، فناكروه وأجمعوا أمرهم على خلافه وعداوته، فمضى محمد على أمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن الرسول لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من عيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب حدب عليه وقام دونه، جاء رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب؛ وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، وأبو جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا أو أن تخلي بيننا وبينه، فأنت على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه. فقال لهم قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، ثم إنهم عادوا إليه ثانية فقالوا له: إن لك شرفا وسنا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. ثم انصرفوا، فعظم ذلك على أبي طالب، وكره فراق قومه وعداوتهم، فبعث إلى محمد وقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا وكذا، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن الرسول أنه قد بدا فيه بدو، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» ثم بكى وقام، فناداه أبو طالب فقال: يا ابن أخي. فأقبل عليه فقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا.
وعلمت قريش بذلك فمشت إليه بعمارة بن الوليد، فقالت: هذا أنهد فتى في قريش وأجمله، فاتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك فنقتله. فقال: لبئسما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون. ثم حميت الفتنة بين الجانبين، وطلبت قريش من قبائل الرجال الذين أسلموا أن يعذبوا أولئك الرجال ويفتنوهم عن دينهم، واتفقت كلمة قريش والقبائل على بني هاشم وبني المطلب، إلا أبا لهب؛ فإنه خرج عن قومه، وتحملت بنو هاشم وبنو المطلب كثيرا في سبيل نصرتهم.
ثم إن نفرا من قريش اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة، وكان ذا سن ومكانة فيهم، فقالوا له: قد حضر موسم الحج، وإن وفود العرب ستقدم إليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فأجمعوا على رأي ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا؛ فماذا تقول يا وليد؟ فقال: قولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد الشمس. قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا هو ساحر. فجعلوا لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. وشاع أمر رسول الله يومئذ بعد رجوع الناس من الموسم؛ ولا سيما في «يثرب».
ثم إن قريشا ضاقت ذرعا بمحمد وأصحابه، فأخذت تؤذيه بالقول وتسلط عليه سفهاءها يغمزونه ببذيء القول ويسخرون منه، وهو صامد في دعوته مؤمن برسالته يستغفر لقبيلته، ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.» ثم إن قريشا أخذت تقسو في مجابهتها للنبي وجماعته، فأخذوا يعذبون فقراء المسلمين ويضربون مستضعفيهم ويجيعونهم ويعطشونهم، وممن عذبوهم آل عمار بن ياسر هو وأبوه وأمه؛ فكانوا يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء، فيمر بهم الرسول فيقول: «صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة.»
4
وكان أبو جهل إذا سمع بإسلام رجل من ذوي الشرف أنبه وأهانه في المجالس العامة، أما الفقراء والمستضعفون فقد لقوا منه ومن أمثاله عناء كبيرا، ولكن المسلمين لم يكونوا يحفلون بهذا الأذى، بل ظلوا يتابعون القيام بصلواتهم علنا في فناء الكعبة
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب (سورة العلق: 6-19). فنحن نرى من هذه الآيات الكريمات عتابا شديدا وتهديدا مقذعا لمن يمنعون المسلمين من الصلاة في حمى الله، واستهانة بمن يظنون أنفسهم قادرين على منع المسلمين من الوقوف بين يدي الله في بيت الله، ولو كانوا وجهاء أو أشرافا أو أغنياء أو زعماء.
Shafi da ba'a sani ba
وقد لقي النبي نفسه من سفهاء مكة مزعجات كثيرة؛ منها أن سفهاءهم حثوا التراب على رأسه، ومنها أنهم كانوا ينضدون الفرث والأرواث والدماء على ثيابه، ومنها بصق أمية بن خلف في وجهه، ومنها وطء عقبة بن أبي معيط على رقبته وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان، ومنها أخذ بعض سفهائهم برقبته وخنقه خنقا شديدا حتى أنقذه أبو بكر فجذبوا رأسه ولحيته وسقط أكثر شعره. أما السب والشتم والهجو الذي كان يسمعه إياه سفهاؤهم، فشيء كثير جدا.
5
وكان شر هؤلاء السفهاء عليه أبو جهل (أبو الحكم) بن هشام، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط. ومن شر ما قام به أبو جهل أنه مر مرة برسول الله وهو عند الصفا يدعو إلى دين الله ويبتهل إليه أن يهدي قومه، فآذاه وشتمه ونال منه بما يكره، وشتم دينه، فلم يكلمه رسول الله وانصرف لطيته، وشهد الأمر مولاة لعبد الله بن جدعان، فحزنت لما أصاب محمدا من أبي جهل، ولم تمض فترة حتى جاء حمزة بن عبد المطلب متوشحا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة، فلما مر بالمرأة قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده هنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل، فلما دخل المسجد نظر إليه فوجده جالسا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه به فشجه شجا منكرا، ثم قال: أوتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد ذلك علي إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة ينصرون أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. ثم أقبل إلى حمزة يلاطفه، فتركه وانصرف. قال حمزة: ولما قلت لأبي جهل ما قلت أدركني الندم على مفارقتي دين آبائي وقومي، وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم، ثم أتيت الكعبة وتضرعت إلى الله سبحانه أن يشرح صدري للحق ويذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زاح عني الباطل وامتلأ قلبي إسلاما، فغدوت إلى رسول الله فأخبرته بما كان من أمري، فدعا لي بأن يثبتني الله.
6
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن محمدا قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. ثم إن أكابر قريش أجمعوا أمرهم بعد أن رأوا من إسلام حمزة ما أرغمهم على أن يفاوضوا محمدا، فقال عتبة بن ربيعة، وكان من عقلائهم ووجوههم: ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل فنعطيه ما يشاء ويكف عنا؟ ثم إنه أتى رسول الله فقال له: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسط في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا انظر فيها لعلك ترضى ببعضها. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «قل يا أبا الوليد أسمع.» فقال: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك، وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا ورئيسا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. فقال رسول الله: «قد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: «استمع مني: بسم الله الرحمن الرحيم.
حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ...» ثم مضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقرؤها، وعتبة قد أنصت وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، ثم انتهى رسول الله إلى السجدة فسجد، وقال: «لقد سمعت يا أبا الوليد، فأنت وذاك.» فقام عتبة ولم يتكلم، ثم قصد قومه حتى إذا رأوه قالوا لبعضهم: نحلف بأنه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قال: لقد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، والله ليكونن لقوله الذي سمعته نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم به أسعد الناس. فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد. فقال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم.
Shafi da ba'a sani ba
7
ثم إن الإسلام أخذ يفشو وعظماء قريش يتميزون من الغيظ، ثم إن قريشا اجتمعت وتشاورت في أمر محمد وعزمت على التخلص منه، فقال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني. فقالوا: والله لا نسلمك أبدا، فامض لما تريد. فلما أصبح أخذ حجرا وقصد الكعبة، وكان الرسول يصلي بين الركنين البراني والأسود ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فلما سجد محمد احتمل أبو جهل الحجر وهجم نحو محمد، فلما دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا، وقد يبست يداه حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه قريش فسألته عما به، فقال: لما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا أنيابه، فهم بي أن يأكلني فتراجعت.
ثم إن قريشا فكرت تفكيرا آخر، فطلبت إلى النضر بن الحارث - وكان من شياطين قريش كان قدم الجبرة وتعلم أحاديث ملوك الفرس وقصص إسفنديار، وكان إذا سمع القرآن قام فقال: يا معشر قريش، هلم إلي أحدثكم حديثا أحسن من حديثه - فطلبت إليه قريش أن يتوجه إلى أحبار يهود المدينة ومعه عقبة بن أبي معيط، فلما وصلا المدينة ووصفا محمدا للأحبار وأسمعاهم بعض قوله، قال لهم الأحبار : سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح. ثم جاءوا رسول الله فسألوه عن الأسئلة الثلاثة، فقال
صلى الله عليه وسلم : «أجيبكم غدا.» ثم إنه مكث خمس عشرة ليلة لا يأتيه الوحي، فأخذت قريش تتقول الأقاويل، فحزن رسول الله حتى جاءه جبريل بسورة الكهف، وفيها معاتبة من الله على حزنه وتفصيل جواب ما سألوه عنه. ولكن سفهاء قريش وزعماءها وأحلافهم استمروا في خصومتهم العنيفة، وأخذت كل قبيلة تنابذ من أسلم من أبنائها وتؤذيهم بعنف وقسوة؛ وبخاصة المستضعفون؛ فإنهم كانوا يلبسونهم أدراع الحديد حتى ينطقوا بكلمة الكفر وقلبهم مفعم بالإيمان، إلا نفرا تحملوا الأذى الشديد ولم ينطقوا بكلمة الكفر؛ ومنهم بلال مولى أبي بكر الذي قبض عليه أمية بن خلف وأخذ يعذبه بقسوة ووحشية يريده أن يكفر بالله ويعبد اللات والعزى، فيرفض وهو متحمل لأشد العذاب. وممن لقي أشد البلاء أيضا عمار بن ياسر وأمه وأبوه، وأم عميس، وعامر بن فهيرة، وزنيرة وأعتق النهدية وابنتها. (1) الهجرة إلى الحبشة
لما رأى الرسول تعذيب هؤلاء المستضعفين وأنه لا يقدر على نصرتهم، قال للمسلمين: «من أراد أن يخرج بنفسه مهاجرا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، حتى يجعل الله لنا فرجا.» فخرج نفر من المسلمين إلى الحبشة مهاجرين، وكان ذلك في السنة السادسة للبعثة، وهي أول هجرة في الإسلام، وكان فيها من الوجوه عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت الرسول، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو مسلمة بن عبد الأسد المخزومي، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وسهيل بن بيضاء، وجعفر بن أبي طالب، وزوجه أسماء بنت عميس، وغيرهم. فودعهم الرسول وجعل عليهم عثمان بن مظعون،
8
وبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلا، فرحب بهم النجاشي وأمنهم وأحسن إليهم ، فاستقروا هناك واطمأنوا. ولكن هذا الأمر أقض مضاجع قريش، فبعثت وفدا إلى النجاشي وبطارقته، فذهب، وكان قوامه عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، وحملا هدايا كثيرة إلى النجاشي وبطارقته، فلما وصلا إليه قالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا فيهم إليك أشراف قومهم لتردهم عليهم؛ فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوه عليهم وعاتبوهم. فقالت البطارقة: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم. فلما سمع النجاشي كلامهم غضب، ثم قال: لا والله لا أسلمهم حتى أدعوهم وأسألهم. ثم أرسل إليهم فجاءوا، فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟ فكلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرفه ونعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالصدق والأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه، فعدا علينا قومنا فخرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك. فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ فقال جعفر: نعم. ثم قرأ صدرا من «سورة كهيعص»، وترجمت للنجاشي، فبكى حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفه، وقال: إن هذا الذي جاء به عيسى. ثم التفت إلى الرسولين وقال: انطلقا، فلا والله لا أسلمهم. فرجعا أخيب ما يكون الرجوع. ولما قدما مكة ودخلاها وعلما بإسلام عمر سقط في يديهما، وتتابع فشل المشركين منذ يومئذ.
9 (2) إسلام عمر بن الخطاب
كان عمر أشد الفتيان في قريش على الإسلام وأهله، وكان رجلا ذا شكيمة، وكان يكره محمدا ودعوته الجديدة، ويناوئ أصحابه، ولكنه لما رأى خروج المسلمين من ديارهم إلى الحبشة تأثر بذلك؛ فقد روى ابن إسحق عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت حثمة، قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر حتى وقف علي وهو على شركه، وكنا نلقى منه البلاء، فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله. فقلت: نعم، والله لنخرجن في أرض الله؛ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله مخرجا. فقال: صحبكم الله. ورأيت له رقة لم أكن أراها، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا.
10
Shafi da ba'a sani ba
ثم إن عمر خرج يوما وقد آلمه ما جاء به محمد، ففرق جمع قريش وشتت أبناءها، وعلم أنه وصحابته في دار عند الصفا، فذهب إليه متوشحا سيفه ليؤذيه على ما فعل بقريش، فلقيه في الطريق نعيم بن عبد الله، فقال له: إلى أين يا ابن الخطاب؟ فقال: أريد محمدا هذا الصبائي الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها فأقتله. فقال نعيم: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم. قال: فأي أهل بيتي صبأ؟ قال: ختنك وابن عمك وأختك، فقد والله أسلما. فرجع عمر إلى بيت أخته وزوجها وعندها خباب بن الأرت ومعه صحيفة يقرأ فيها القرآن، ولما وصل سمع هيمنة فقال: ما هذه الهيمنة؟ فقالا له: لا شيء. فقال: بلى والله لقد سمعت أنكما تابعتما محمدا. وبطش بختنه فأدماه، فقالت أخته: أسلمنا فاصنع ما بدا لك. ولما رأى الدم بختنه وأخته ندم على ما فعل، وقال: أعطني الصحيفة التي سمعتكم تقرءون فيها. فقالت أخته: يا أخي، إنك نجس على شركك ولا يمسها إلا الطاهر. فاغتسل وأعطته الصحيفة وفيها سورة طه، فقرأها وقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب كلامه خرج وقال له: والله إني سمعت رسول الله يقول أمس: اللهم أيدني وأيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب؛ فالله الله يا عمر. فقال له : دلني على موضعه أذهب إليه. فدله فأتى رسول الله وهو وأصحابه في البيت عند الصفا، ثم طرق الباب، فرآه القوم متوشحا سيفه، ففتح له الباب ولقيه رسول الله، فأخذ بحجرته وجبذه جبذة شديدة وقال له: «ما بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة.» فقال عمر: جئتك لأومن بالله ورسوله. فكبر رسول الله وكبر القوم مبتهجين بذلك. ثم تفرق أصحاب رسول الله من مكانهم وقد عز ما في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ينتصفون بهما من عدوهم،
11
وكان إسلام عمر في السنة الخامسة للبعثة.
الفصل الثاني
القسم الثاني من العهد المكي
لما أسلم حمزة وعمر تنفس المسلمون الصعداء، فقويت نفوسهم واطمأنوا على إخوانهم في الحبشة وأن النجاشي لن يسلمهم، فأخذوا يعلنون شعائرهم، وقريش تتميز من الحنق، فأجمعت رؤساؤهم وائتمرت في أمر النبي وأصحابه، فاتفق رأي أهل العقد والحل منهم على مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب، وعلى ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا كتبوا ذلك في صحيفة، ثم علقوا تلك الصحيفة في الكعبة توكيدا منهم على أنفسهم. وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر، ويقال النضر بن الحارث، فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى شعب أبي طالب، سوى أبي لهب فإنه انفصل عنهم، وأقاموا على ذلك سنتين، أو ثلاثا، حتى جهدوا، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا، وقد كان أبو جهل من أشد من ضيق عليهم الخناق، حتى إنه لقي مرة حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، فقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا ترجع أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فجاء أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله؟ فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم! فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت إليه تطلبه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟! خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحي بعير فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك الرسول فيشمتوا بهم، ورسول الله يدعو قومه ليلا ونهارا، سرا وجهرا، وقريش مستمرة في عنادها، والقرآن الكريم ينزل في هجاء قريش، ويهاجم معتقداتها الفاسدة، ويدعو إلى الإسلام وتوحيد الله.
ومما هو جدير بالذكر أن القرآن نزل في هذه الفترة بتهديد نفر من وجوه قريش؛ منهم أبو لهب وزوجه، وأمية بن خلف الجمحي، والعاص بن وائل السهمي، والنضر بن الحارث، وعبد الله بن الزبعرى، والأخنس بن شريق، والوليد بن المغيرة. وفي هذه الفترة رجع مهاجرو الحبشة إلى مكة، فقد بلغتهم قوة الإسلام ودخول أكثر أهل مكة فيه، فلما وصلوا مكة علموا أن الأمر على العكس، فلم يستطيعوا أن يدخلوها إلا مستخفين أو داخلين في جوار بعض زعمائها. ثم إن بعض زعماء قريش - وعلى رأسهم هاشم بن عمر بن ربيعة، وزمعة بن الأسود، والبختري بن هشام، والمطعم بن عدي، وزهير بن أبي أمية - رأوا أن ما فعلوه مع إخوانهم وأبناء عمومتهم بني هاشم وعبد المطلب هو عمل شائن لا يليق، فعزموا على نقض الصحيفة، ثم إن هؤلاء الخمسة من زعماء قريش ذهبوا إلى الكعبة فطافوا بالبيت سبعا، ثم قام زهير بن أبي أمية فقال: يا أهل مكة، نأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. فقال أبو جهل: كذبت، والله لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت والله الأكذب، ما رضينا كتابها. فقام أبو البختري فقال مثل قولهما، فقام الباقون فقالوا مثل ذلك، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم فمزق الصحيفة وصرف الله ذلك البلاء عن بني هاشم وبني عبد المطلب.
ثم أخذت وفود كثيرة من القبائل تقدم على مكة، فيعرض النبي عليها الإسلام، فكان بعضها يدخل فيه وبعضها يعرض عنه، وكان ممن قدم على النبي في تلك الفترة وفد أهل الحبشة، وهم عشرون رجلا، فجلسوا إلى النبي وسألوه عن بعض المسائل، فقرأ عليهم بعض القرآن، فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم مبشرين بالإسلام داعين إليه ذاكرين فضائل محمد وحسن طريقته.
Shafi da ba'a sani ba
1 (1) وفاة أبي طالب وخديجة، وخروج النبي إلى الطائف
استمر الرسول في دعوته لا يحجزه عن العمل لنشر الإسلام حاجز، فكان يعرض نفسه على القبائل، ويلقاهم في المواسم فيعرض عليهم ما أوحى إليه ربه، وينفرهم من عبادة الأوثان، فكان منهم من يجيب، ومنهم من يكفر، وقريش لا تفتر تخاصمه وتصد عن سبيل الله، وهو صامد مجاهد، إلى أن حلت السنة العاشرة للبعثة، وقد انتشر الإسلام في أكثر القبائل، والرسول قرير العين مشروح الصدر، إلى أن فوجئ بوفاة عمه أبي طالب ثم بوفاة خديجة، فحزن لفقدهما أشد الحزن، وتتابعت عليه المصائب؛ فقد كان أبو طالب خير عون وعضد، وكانت خديجة خير ناصر وركن يلجأ إليه ويسكن عنده، فلما هلك أبو طالب نالت قريش منه بعد أن فاوضوه في المهادنة، وأن يتركهم وعبادتهم وآلهتهم فأبى، فأخذت تهينه وتؤذيه، فاضطر إلى أن يخرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف.
فلما وصلها قصد أبناء عمرو بن عمير، وهم وجوه الطائف، فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا وأغروا به سفهاءهم يسبونه، فلجأ إلى بستان لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة بن ربيعة، وجلس تحت ظل كرمة وأبناء ربيعة ينظران إليه ويسمعان قوله وهو يخاطب ربه قائلا: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب العالمين، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.» فلما سمعا ذلك ورأيا سوء حاله تحركت رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا اسمه عداس فقالا له: خذ قطفا من العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس ثم أقبل بين يدي رسول الله فقدم إليه الطبق، فقال: «باسم الله.» ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله: «ومن أهل أي بلاد أنت؟» فقال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال رسول الله: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى.» فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي.» فأكب عداس على الرسول يقبل رأسه ويديه وقدميه. ثم إن رسول الله لما رأى سوء وضع أهل الطائف رجع إلى مكة ودأب على الدعوة إلى الله، وعرض نفسه على القبائل كلما قدمت إلى الحج. (2) إسلام الأوس والخزرج
في سنة 11 للبعثة قدم من يثرب أنس بن رافع وإياس بن معاذ الخزرجيان في نفر من قومهما، على قريش في مكة يلتمسون الحلف مع قريش على قومهم من الخزرج، فسمع بهم الرسول، وجلس إليهم، فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، ورجعوا إلى يثرب، فجرت بينهم وبين الأوس وقعة «يوم بعاث». ثم إن قوما من الخزرج قدموا إلى مكة، فلقيهم الرسول ودعاهم إلى الإسلام، وقرأ عليهم القرآن فأسلموا، ووعدوه أن يدعوا قومهم إلى دينه إذا رجعوا إلى يثرب، وأنهم سيقدمون عليه، فلما فارقوا المدينة دأبوا على الدعوة إلى الإسلام، فدخل كثير من الأوس والخزرج، ولم تبق دار في يثرب إلا دخلها الإسلام. فلما كان العام المقبل وافى من مسلمي يثرب اثنا عشر رجلا منهم من لقيهم النبي بالعقبة - وهي المعروفة بالعقبة الأولى - فبايعوه ببيعة النساء - وذلك قبل أن يفترض الحرب - على ألا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه من بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصون الله والرسول في معروف.
ثم إنهم لما انصرفوا إلى قومهم بعث معهم الرسول مصعب بن عمير المقرئ ليعلمهم القرآن، فكان يصلي بهم ويقرئهم، فلما كان الموسم القادم في السنة الثانية خرج في نفر منهم إلى مكة، فقدم على رسول الله ومعه وجوه أهل يثرب، فبايعوا رسول الله بيعة العقبة الثانية، وهي بيعة الحرب بعد أن كانت الأولى بيعة النساء، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، وقال لهم الرسول: «أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم.» فأخرجوا أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو، وسعد بن عبادة، وعبادة بن الصامت، والمنذر بن عمرو من الخزرج، وأسيد بن خضير، وسعد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر من الأوس، وبعضهم يعد أبا الهيثم بن التيهان ولا يعد رفاعة. ثم إن الرسول قال لهم: «أنتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي.» ثم إن القوم قدموا إلى المدينة وأظهروا الإسلام بها.
قال ابن إسحق: فلما أذن الله له
صلى الله عليه وسلم
في الحرب، وتابعه هذا الحي من الأنصار - الأوس والخزرج - على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه، أمر رسول الله أصحابه من أهل مكة بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: «إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها.» فخرجوا أرسالا، وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج، ولم يتخلف معه إلا علي وأبو بكر وبعض من لم يخف على نفسه من إيذاء قريش التي رأت ما تم من أمر الهجرة، فائتمرت يوما في دار الندوة واتفق رأي زعمائها على قتل محمد، وعرف الرسول بذلك، فطلب إلى علي أن ينام في منزله وعلى فراشه، وعزم هو
صلى الله عليه وسلم
على أن يهاجر تلك الليلة من المدينة إلى مكة.
Shafi da ba'a sani ba
الفصل الثالث
في القرآن المكي
لقد كان للهجرة النبوية إلى المدينة تأثير في سيرة الإسلام وفي أسلوب القرآن ومضامينه، وقد انطبع النمط القرآني في كل من المدينتين بأسلوب خاص تبعا للظروف الزمانية والمكانية؛ ففي مكة كان الرسول يدعو قريشا إلى نبذ ما هي عليه من عبادات وتقاليد يأباها العقل السليم والإيمان الصحيح، ويناقشها في مزاعمها، وينكر عليها قولها بتعدد الآلهة، وإفسادها جو الكعبة والحرم الأقدس بهذه التماثيل والنصب، ويخوفها عذاب يوم شديد، ويرهبها من نتائج أعمالها وأقوالها، وينذرها بعاقبة وخيمة وبيوم حساب لم تحسب له حسابا، ويطالبها بإنصاف المرأة والرقيق، والإحسان إلى العبد والصديق، والمساواة بين الغني والفقير في أمور الدنيا والدين.
وكان أسلوبه في هذا الحين أسلوبا خطابيا ذا فقرات قصيرة، مقفاة، ذات فواصل، ومقاطع قوية. أما القرآن المدني - بعدئذ - فهو ذو أسلوب تفصيلي طويل الآيات، قليل الفقرات، القصيرة، خال من الأسلوب الخطابي، طويل النفس في الشرح والتحليل والتعليل. ولا غرو؛ فإن الوحي قد أخذ في المدينة يفصل ما أجمل في مكة من أمور العبادات والمعاملات ومبادئ الحكمة والأخلاق بما أحله الله وما حرمه. وقد كان القرآن في حجاجه مع العرب والكتابيين من يهود ونصارى مختلف الأسلوب والفكرة، يخاطب كلا حسب منطقه وعقله وعلمه، ويناقشه بما يدرك ويتسع له فهمه.
ويمتاز القرآن المكي - كما قلت - بأنه أسلوب خطابي، مسجوع، شديد في نطقه، وأحكامه، وتهديده، ووعيده، وهو أسلوب حث واستثارة ووعد وترهيب ومناقشة ومحادثة، أكثر منه أسلوب مداراة وملاطفة وتشريع وتطويل وتفصيل، كما هي الحال في القرآن المدني. وكان القرآن المكي مليئا بحكاية أقوال المشركين ومناقشتهم في آرائهم واعتقاداتهم في الجن والملائكة والآلهة المتعددة وأحوال الأنبياء ومجادلات أممهم له. أما القرآن المدني فقد نحا فيه منحى آخر في مناقشة الناس من موالين وكفار، ومتقين وفجار، ومناقشتهم ومجادلتهم. ومن يدقق في السور الأولى التي نزلت في مكة يجدها تنظم أمورا تتعلق بالدعوة إلى الدين والوعد والوعيد اللطيف، ولكن هذا الوعيد ما لبث أن اشتد حين قويت خصومات النبي، واشتدت معاكسة المشركين - ولا سيما زعماء قريش وأغنياؤها - لدعوته كما في سورة العلق (6-19):
كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى * إن إلى ربك الرجعى * أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى * كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية * كلا لا تطعه واسجد واقترب .
وفي سورة القلم (7-16):
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم * أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين * سنسمه على الخرطوم .
وفي سورة المدثر (11-25):
ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر ... فقد احتوت هذه الآيات وأمثالها بأسلوبها الخطابي وفقرها القصيرة، صورا للمكذبين الذين لم تعجبهم حركة النبي فأخذوا يناوئونه، فلم يقف أمامهم مكتوف اليدين، وإنما خاطبهم في هذا الأسلوب القوي العنيف، كما أنه في الوقت نفسه خاطب المؤمنين بألفاظ كلها رحمة وحنان؛ كقوله تعالى:
Shafi da ba'a sani ba
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى * إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى * فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى * وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى (سورة الليل: 5-21).
وفي القرآن المكي إيراد لكثير من تقاليد الجاهلية الدينية، ومن شبه زعماء قريش في الدين وسخرهم به وتهجمهم على النبي وتسفيههم والرد على ذلك؛ ففي سورة الفرقان:
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا * وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما * وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (سورة الفرقان: آية 3-9).
كما نجد في القرآن المكي صدى واضحا لما كان يلقاه أكثر المسلمين من أذى المشركين، منذ ابتداء الدعوة إلى وقت الهجرة؛ أمثال آيات سورة البروج (10-14)، ومنها قوله تعالى:
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير * إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود ، وقال تعالى في سورة النحل (41-42):
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون . وقال تعالى:
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (سورة النحل: آية 110). وفي سورة الأنفال (آية 30):
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . وفي سورة الفرقان (آية 41-42):
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا . وفي القرآن المكي كثير من الصور التي تصور حزن النبي وتأثره من عنف هؤلاء المشركين؛ وبخاصة أهله وأقرباؤه، كقوله تعالى:
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل (سورة هود آية 12)، وقال تعالى:
Shafi da ba'a sani ba
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون .
ومما تجدر بنا ملاحظته في القرآن المكي أن ذكر اليهود والنصارى وكتبهم المقدسة كان دوما مشفوعا بالإجلال لإيمانهم ولتصديق كتابهم، وقد سرد النبي في كثير من السور المكية شواهد على توافق الدين الإسلامي والنصراني، وأن القرآن ما جاء إلا تصديقا لما سبقه من الكتب السماوية من صحف إبراهيم، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وتفصيلا لها لا ريب فيه من رب العالمين؛ «سورة يونس» (37) و«سورة الأنعام» (92) و«سورة فاطر» (31-32)، وغيرها كثير مثل قوله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه (سورة الشورى: آية 13)، وقال تعالى:
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا (سورة القصص: آية 52-54).
الفصل الرابع
في العبادات والمعاملات والواجبات التي شرعت في العهد
المكي
شرع الله الإسلام أركانا خمسة؛ هي: الشهادة بتوحيده والإقرار بنبيه، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج.
أما الصلاة فشرعت في مكة، ولكن كيفية إقامتها وتنظيم عدد ركعاتها وما إلى ذلك من الطقوس، فقد شرع في المدينة، وما شرعت الصلاة إلا للاتجاه إلى الله تعالى ورجائه والانصراف إليه، وشكره على ما أنعم. هذا ولم يرد في القرآن مكيه ومدنيه تحديد كيفية الصلاة وأوقاتها، وإنما جاءت السنة بذلك، وفي روايات جعلها خمس مرات في ليلة الإسراء في أواسط العهد المكي. وقد اشترط للصلاة وجوب التطهير بالوضوء والخلو من الجنابة وطهارة الثوب وصفاء النية وخلوص القلب. ويظهر أن صلاة يوم الجمعة كانت مشروعة منذ فجر الإسلام، وأن الأنصار كانوا يجمعون قبل هجرة النبي.
وأما الصوم فقد شرع في السنة الثانية للهجرة، والروايات متواترة على أن النبي كان يصوم في الجاهلية والإسلام يوم عاشوراء، وأما صوم رمضان وتحديده بشهر وشرائط معلومة، فقد شرع في السنوات الأولى من العهد المدني.
Shafi da ba'a sani ba
وأما الزكاة فقد شرعت فرضيتها في مكة حين نزل قوله تعالى:
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم ، ولكن بيان مقاديرها وحقها ومصاريفها فلم يشرع إلا في المدينة، وقد حدد النبي في مكة مقادير معينة على أموال القادرين على إعطاء الفقراء، ولكن تلك المقادير لم تكسب شكلها النهائي إلا بعد الهجرة.
وأما الحج فقد شرع في السنة السادسة للهجرة، بعد صلح الحديبية، وعلى الرغم من أن هذه الشعيرة كانت معروفة في الجاهلية، فإن الإسلام لم يفرضها على متابعيه إلا بعد قوتهم في العهد المدني، ولم يحتو القرآن المكي إلا على إشارات إلى الحرم وأمنه، وذكر البيت وقدسيته، وعلاقة إبراهيم به، وما إلى ذلك. على أن آية في سورة الكوثر، وهي
فصل لربك وانحر ، جعلت بعض الباحثين يقولون إن النبي كان يقوم ببعض المناسك الحجية قبل الهجرة. ومما شرعه الله للمسلمين في مكة: الإيمان بالبعث والنشور، وتقبيح الزنا والنهي عنه، وعن القتل والفساد في الأرض، والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، والنهي عن الظلم والفساد، والحض على التخلق بالفضائل النبيلة، والقيام بكل ما فيه إصلاح البيئة الإسلامية.
ومما شرعه الله أيضا في مكة: وجوب طاعة النبي وأولي الأمر، والإخلاص والأمانة للدعوة الإسلامية، والتضامن والاتحاد بين أفراد المسلمين، والإحسان إلى الفقراء، والعطف على الرقيق، وعدم التبذير والإسراف والتقتير، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم أكل مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والتعاطف بين الناس والإحسان إلى الوالدين، وما إلى ذلك من نبيل الأخلاق وفاضلها.
الباب الثاني
في حياة النبي الكريم من الهجرة إلى الوفاة
الفصل الأول
في خروج النبي من مكة واستقراره بالمدينة
قلنا في [البعثة النبوية: إسلام الأوس والخزرج]: إن المسلمين بعد أن دخل الأنصار في الإسلام فعز بهم، أخذوا يهاجرون إلى المدينة، ولم يبق فيها إلا نفر قليل جدا على رأسهم الرسول وأبو بكر، وإن جماعة كفار قريش قد ائتمرت بالنبي وعزمت على قتله ذات ليلة والتخلص منه، وأنها قد اتفق رأيها أن تبعث من كل قبيلة شابا جلدا، فيضربوا النبي ضربة واحدة يقتلونه بها، فيتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على العرب جميعا. ولكن الله أطلع نبيه على أمر قريش، فلما كانت العتمة من ذلك الليل اجتمعوا على بابه فترصدوه، فلما رأى ذلك قال لعلي: «نم يا علي على فراشي، واتشح ببردي الحضرمي الأخضر فنم فيه؛ فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وإن أتاك ابن أبي قحافة فقل له إني توجهت إلى ثور فليلحق بي، وأرسل إلي بطعام، واستأجر لي دليلا يدلني على الطريق، واشتر لي راحلة.»
Shafi da ba'a sani ba
ثم مضى رسول الله، وأعمى الله أبصار القوم عنه،
1
ثم جاء أبو بكر فلحق برسول الله، وأدركه في الطريق، حتى انتهيا إلى الغار مع الصبح فدخلاه، وأصبح الرهط الذين كانوا يرصدون النبي، فدخلوا الدار، وقام إليهم علي، فقالوا له: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري. فجن جنونهم، وذهبوا إلى الملأ من قريش فأخبروهم، فقال أبو جهل: لقد هرب، فاذهبوا وترقبوا أبا بكر. فوقفوا على بابه، فخرجت إليهم أسماء ابنته، فساءلوها عن أبيها، فقالت: لا أدري. فرفع أبو جهل يده ولطمها لطمة طرح منها قرطها.
وكان أبو بكر أمر ابنه عبد الله أن يسمع ما يقوله الناس في مكة ويأتيهما في الغار، وكانت أسماء تأتيهما بالطعام، فأقاما في الغار ثلاثة أيام. ثم إن قريشا حلت مائة ناقة تامة لمن يدلهم عليهما. وكان عامر مولى أبي بكر يرعى غنما لأبي بكر مع رعيان مكة، فإذا جن الليل أتاه وأخبره بخبر القوم، فلما مضت ثلاثة أيام وسكنت قريش، ارتحل الرسول وصاحبه، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة خلفه يخدمهما في الطريق، وكان دليلهما عبد الله بن أرقد، فمر بهم على عسفان، ثم على إمج، ثم على قديد، ثم على الخرار، ثم على الجداجد، ثم على العرج، ثم على قباء،
2
ولم يكن هذا الطريق المسلوك، وإنما هو طريق آخر أطول ولكنه آمن. ولما بلغوا قباء ظلوا بها أربعة أيام، فأسس الرسول مسجده هناك في بني عمرو بن عوف، ثم دخل المدينة في 16 ربيع الأول المصادف ل 20 أيلول 622م، ونزل في دار أبي أيوب خالد بن زيد إلى أن بنى مسجده ومساكنه، وباشر البناء بنفسه في نفر من أصحابه المهاجرين والأنصار. ثم إن عليا لم يلبث أن لحق بالرسول بعدما رد ودائع النبي التي كانت لأصحابها من أهل مكة، ولم يبق بمكة إلا مفتون أو محبوس بأمر قريش، وغلقت كثير من الدور، وعدا أبو سفيان وغيره من زعماء قريش على بعض دور المهاجرين فاغتصبوها وباعوها. وقد بلغت أنباء هذه الأعمال إلى المهاجرين، فشكوا ذلك إلى الرسول فقال: «احتسبوها عند الله.» ثم بعد أن أتم الرسول بناء مسجده، شرع في تنظيم أمور المسلمين وتأسيس إدارة المدينة، وأول عمل عمله أن نشر الدين في المدينة، فلم يبق بيت إلا دخله الإسلام، وأصلح ذات بينهم على كثرة العداوات التي بينهم في الجاهلية، وعقد حلفا بين المهاجرين وبين أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم من المشركين. وقد أورد لنا ابن هشام صورة ذلك الحلف، وإليك بعض فقراته:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرين من قريش على ربعتهم - أي جميعهم - يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون على معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ... ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو انتقى وسيعة (أي طبيعة) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينتصر كافر على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأن من يتبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. وإن سلم المؤمنين واحد، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا تعقب بعضها بعضا، وأن المؤمنين يبيء (يرجع) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه مؤمن، وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولي المقتول، وأن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ... وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم ... وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد ... وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر الحسن ...
3
وإن من يدقق في هذه المعاهدة يجدها تدور حول النقاط الآتية: (1)
Shafi da ba'a sani ba
أن الرسول يريد أن يوحد بين جميع سكان المدينة فيجعلهم أمة واحدة، وهذا أمر لم يكونوا يقرون به في الجاهلية. (2)
أن الرابطة القوية التي تربط سكان المدينة هي الدين الحنيف. (3)
أن لليهود من سكان المدينة وأهل ذمتها كافة الحقوق التي للمسلمين ما داموا محافظين على حقوق الذمية. (4)
أن المسلمين أضحوا كيانا واحدا ذا شخصية موحدة في شئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا مظهر من مظاهر الوحدة لم تعرفه العرب من قبل. (5)
أن المعاهدة تتضمن كثيرا من مبادئ العدل والإنصاف والمصلحة العامة، وهذه أمور لم يعرفها العرب من قبل.
بعد عقد هذه المعاهدة عمد الرسول إلى شيء آخر وثق به بين قلوب المسلمين؛ وهو المؤاخاة بين الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقال: «تآخوا في الله أخوين أخوين.» ثم إنه أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «هذا أخي.» وتآخى حمزة وزيد بن حارثة مولى رسول الله، وتآخى جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، وتآخى أبو بكر وخارجة بن زهير. وفي كتب السيرة تفصيل هذه المؤاخات،
4
ولكن على الرغم من ذلك فقد تآخى نفر من اليهود وزعماء الأوس والخزرج ممن لم يسلموا أو ممن أسلموا ونافقوا ضد النبي، وأخذوا يكيدون للإسلام ويحرجون النبي بالدسائس والأسئلة، فيكشف النبي دسائسهم، ويجيب على أسئلتهم. وكان من زعماء هؤلاء المجرمين حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر، وسلام بن مشكم، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، وغيرهم من زعماء اليهود، فآذوه
صلى الله عليه وسلم
بأسئلتهم، وأرادوا إحراجه وتخجيله، ولكن الله خذلهم وكسفهم ... ثم إن أحد زعمائهم؛ وهو لبيد بن الأعصم، أراد أن يؤذي النبي، فسحره وجعل يتخيل أنه فعل الأمر وهو لم يفعله.
Shafi da ba'a sani ba
5
الفصل الثاني
في الأحداث العسكرية لسنوات الهجرة الخمس الأولى
(1) في السنة الأولى
كان أجل الأحداث: بناء الرسول بالسيدة عائشة، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة. زيادة صلاة الحضر ركعتين أخريين، فصارت أربعا، وبقيت صلاة السفر ركعتين. إرسال أول سرية بقيادة عبيد بن الحارث في ستين راكبا من المهاجرين، وليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقي جمعا عظيما من قريش، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ بسهم؛ فهو أول سهم رمي به في الإسلام، وكان على المشركين عكرمة بن أبي جهل، وانصرف القوم عن القوم. سرية حمزة بن عبد المطلب بعثها الرسول إلى سيف البحر في ثلاثين راكبا من المهاجرين، فلقوا أبا جهل بذلك الساحل في 300 راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهيني، وكان موادعا للفريقين، فانصرف القوم عن بعضهم. (2) وفي السنة الثانية
غزا الرسول ودان؛ وهي أول غزوة قام بها، واستخلف على المدينة سعد بن عبادة، وكان صاحب لوائه حمزة، وكان لواؤه أبيض، فأقام بها خمس عشرة ليلة، ووادع بني ضمرة على ألا يغزوهم ولا يغزونه ولا يعينون عليه، وكتب بذلك كتابا.
1
ثم غزا بواط في مائتين من الصحابة، يعترض عيرا لقريش فيها أمية بن خلف، ثم رجع ولم يلق كيدا، وكان يحمل لواءه سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ، ثم غزا غزوة العشيرة، قال البخاري: هي أول غزواته
صلى الله عليه وسلم ، وقد علم بقدوم عير لقريش متوجهة إلى الشام، يقال إن قريشا جمعت جميع أموالها في تلك العير، فيقال إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير، وكان قائدها أبا سفيان، وكانت هذه الغزاة سبب غزوة بدر الكبرى، وقد استخلف النبي
صلى الله عليه وسلم
Shafi da ba'a sani ba
على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان عمه حمزة يحمل اللواء، وكان أبيض، فلما وصلوا إلى العشيرة وجدوا العير قد مضت، فرجع النبي وأصحابه ووادع بني مدلج. (2-1) غزوة بدر الأولى، ويقال لها غزوة سفوان
وسببها أن النبي حين قدم من العشيرة لم يقم بالمدينة إلا ليالي حتى خرج غازيا كرز بن جابر الفهري الذي أغار على سرح المدينة، فخرج إليه النبي يطلبه حتى بلغ وادي سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز، وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء علي. (2-2) سرية عبد الله بن جحش
ولما رجع الرسول من طلب كرز إلى المدينة بعث عبد الله بن جحش ومعه ثمانية رهط من المهاجرين، ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ثم يمضي إلى ما أمره، ولا يستكره أحدا من أصحابه، فلما سار وفتح الكتاب وقرأه قال: سمعا وطاعة. ثم أخبر أصحابه بما أمره به الرسول من المسير إلى العير، فساروا جميعهم وأسروا من في العير وقدموا بهم إليه
صلى الله عليه وسلم . (2-3) غزوة بدر الكبرى
لما رجعت عير قريش التي كان الرسول خرج للقائها في العشيرة ولم يظفر بها ، انتظر عودتها من الشام، فلما سمع بقفولها ندب المسلمين وقال: «هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها.» ثم خرج إلى بدر، فلما دنا أبو سفيان بالعير بلغه أن رسول الله قد استنفر أصحابه للعير، فبعث إلى أهل مكة يستنفرهم، فخرج منهم جمع عظيم، وغير أبو سفيان طريقه وتوجه إلى البحر، وسار بحذائه لئلا يمر بموضع المسلمين، واستطاع أن يصل إلى مكة دون أن تمس تجارة قريش بسوء، والتقى جمع المسلمين بجمع قريش عند بدر، فنصر الله المسلمين وقتل من وجوه قريش سبعون رجلا ومن المسلمين أربعة عشر. وقد كان لهذه الغزاة أثر عميق في تاريخ الإسلام؛ فقد كانت الحرب الحقيقية الأولى بين النبي وخصومه، وكان انتصار النبي وتماسك المسلمين على الرغم من قلتهم وكثرة عدوهم دليلا على تمسكهم بعقيدتهم وتفانيهم في الإخلاص لها. وكان لرجال بدر اسم مخلد في تاريخ الإسلام، كما أن قريشا لما عرفت قوة المسلمين آلت أن ترصد أموال هذه العير كلها لقتال المسلمين. واشتدت المعارك بين المسلمين والكفار منذ ذلك اليوم إلى أن كتب الله للإسلام النصر المؤزر، ولم تنكس بعدها راية للإسلام، إذا ما استثنينا غزوة أحد كما سنرى. (2-4) غزوة بني سليم
لم يلبث الرسول بعد عوده من بدر إلا تسع ليال حتى غزا بني سليم، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري - وقيل بل ابن أم مكتوم، وقيل بل جعله على الصلاة فقط لأنه كان أعمى - فلما بلغ مياه بني سليم أقام ثلاثة أيام ثم رجع. (2-5) غزوة بني القينقاع
هم أشجع اليهود وأعزهم بأسا، وكأنهم لما رأوا فوز المسلمين ببدر نبذوا العهد الذي عاهدوا المسلمين عليه - لأن النبي كان عاهدهم وبني قريظة وبني النضير على ألا يظاهروا عليه - وحدث مرة أن جاءت امرأة بعض الأنصار إلى صائغ يهودي من بني القينقاع فتعدى عليها وأهانها، فصاحت، فقام إليه أنصاري فقتله، وشد اليهود على الأنصاري فقتلوه. وبلغ ذلك الرسول فدعا إلى غزوهم، وسار إليهم، واستخلف على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، ولما اشتد عليهم الحصار سألوا الرسول أن يخليهم على أن يجلوا من المدينة وله أموالهم وسلاحهم. (2-6) غزوة السويق
لما أصاب قريشا ما أصابها في بدر، نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، إلى أن خرج في مائتي محارب من قريش، ونزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد، ثم أتى بني النضير من يهود خيبر فعاهدهم، ثم عمد هو وقومه إلى نخل المدينة، فخربوا بعضه وقتلوا بعض الأنصار وهربوا، فخرج الرسول في طلبهم، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر، فوجدهم قد غابوا وتركوا سويقهم وأزوادهم، فغنمها المسلمون ورجعوا. (3) وفي السنة الثالثة
غزا النبي بني غطفان عند ذي أمر لما بلغه أن زعيمهم دعثور بن الحارث جمع جموعه يريد الإغارة على المدينة. واستخلف النبي على المدينة عثمان بن عفان، وكان عدد المسلمين 450 رجلا، فلما سمع الغطفانيون بقدومهم تفرقوا في جبالهم بنجد، فلحق بهم الرسول، وتغلب عليهم، فأسلم زعيمهم دعثور وجماعته. (3-1) غزوة بحران
خرج النبي إلى بني سليم للمرة الثانية، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم حتى بلغ بني سليم ببحران، فتفرقت بنو سليم ورجع الرسول. (3-2) سرية محمد بن مسلمة الأشهلي
Shafi da ba'a sani ba