عصر الانحلال الأول
الدولة العباسية في دوري انحلالها وسقوطها
1 - في عصر الانحلال الأول، وعرض شئون الخلافة
2 - في بيان مظاهر الضعف والانحلال في الدولة ونتائج ذلك
3 - مجالي الانحلال في جسم الدولة
4 - في نتائج الانحلال
5 - الوضع الإداري والوزاري
6 - وضع الجيش ومشاهير القادة في هذا العصر
7 - الوضع العلمي والثقافي في تلك الفترة من عهد الانحلال
8 - الوضع الاجتماعي في هذا العصر
عصر الانحلال الثاني
1 - عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء منذ عهد المقتدر إلى نهاية عهد الطائع
2 - مظاهر الضعف ومجالي الانحلال في الدولة ونتائج ذلك
3 - ظهور دويلات جديدة
4 - الوضع الوزاري والإداري في عصر الانحلال الثاني
5 - وضع الجيش في هذا العهد
6 - الوضع العلمي والثقافي في هذا العهد
7 - في الوضع الاجتماعي
عصر السقوط
1 - عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء من عهد القادر إلى عهد المستنصر آخر الخلفاء
2 - مظاهر الانحلال وأسباب السقوط في الدولة
3 - في نتائج الانحلال وظهور دول جديدة
4 - أحوال البلاد الداخلية
5 - في الأحوال الخارجية
6 - الوضع العلمي والثقافي
7 - في الوضع الاجتماعي
عصر الانحلال الأول
الدولة العباسية في دوري انحلالها وسقوطها
1 - في عصر الانحلال الأول، وعرض شئون الخلافة
2 - في بيان مظاهر الضعف والانحلال في الدولة ونتائج ذلك
3 - مجالي الانحلال في جسم الدولة
4 - في نتائج الانحلال
5 - الوضع الإداري والوزاري
6 - وضع الجيش ومشاهير القادة في هذا العصر
7 - الوضع العلمي والثقافي في تلك الفترة من عهد الانحلال
8 - الوضع الاجتماعي في هذا العصر
عصر الانحلال الثاني
1 - عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء منذ عهد المقتدر إلى نهاية عهد الطائع
2 - مظاهر الضعف ومجالي الانحلال في الدولة ونتائج ذلك
3 - ظهور دويلات جديدة
4 - الوضع الوزاري والإداري في عصر الانحلال الثاني
5 - وضع الجيش في هذا العهد
6 - الوضع العلمي والثقافي في هذا العهد
7 - في الوضع الاجتماعي
عصر السقوط
1 - عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء من عهد القادر إلى عهد المستنصر آخر الخلفاء
2 - مظاهر الانحلال وأسباب السقوط في الدولة
3 - في نتائج الانحلال وظهور دول جديدة
4 - أحوال البلاد الداخلية
5 - في الأحوال الخارجية
6 - الوضع العلمي والثقافي
7 - في الوضع الاجتماعي
عصر الانحلال
عصر الانحلال
تاريخ الأمة العربية (الجزء السادس)
تأليف
محمد أسعد طلس
عصر الانحلال الأول
من سنة 232ه إلى سنة 320ه
الدولة العباسية في دوري انحلالها
وسقوطها
الكتاب الأول
عصر الانحلال من سنة 232ه إلى سنة 320ه.
عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء من عهد المتوكل إلى نهاية عهد المقتدر.
الفصل الأول
في عصر الانحلال الأول، وعرض شئون
الخلافة
يعتبر عهد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم (232-247ه/847-861م) بداية دور الانحلال في الدولة العباسية؛ فقد كان ضعيف الإرادة، محدود الفكر، يكره البحث والمناظرة، ويميل إلى التقليد والتسييب، وحب اللعب واللهو، والحياة اللينة والمضاحك، هذا إلى ما كان عليه من سذاجة وتسييب لأمور الدولة، والاعتماد في إدارتها على كبار القادة الأتراك، الذين قوي سلطانهم في عهده، وامتد نفوذهم إلى كل مرافق الدولة، حتى بلغ بهم أن تآمروا عليه مع ولي عهده محمد المنتصر، فقتلوه شر قتلة، وقد تولى كبر ذلك بغا الصغير المعروف بالشرابي ووصيف وباغر ففتكوا به، وولوا ابنه محمدا المنتصر صبيحة مقتل أبيه، وقد أراد الخليفة الجديد أن يحافظ على عرشه، ولكن جهوده ذهبت سدى، ولم يطل عهده أكثر من ستة أشهر، سمه المتغلبون الأتراك بعدها، ثم أجمع أمر قادتهم على ألا يولوا أحدا من أولاد المتوكل لئلا يطالبهم بدم أبيه، فولوا المستعين أحمد بن المعتصم (سنة 248)، ثم لم يلبث الأتراك أن استولوا على أمر المستعين كله وتولى وزارته أتامش أحد القواد، فكان هو صاحب الحل والعقد، حتى إذا حكم أربع سنوات، مل القواد حكمه، واضطروه على أن يخلع نفسه ثم قتلوه سنة 252، وولوا بعده المعتز بالله محمد بن المتوكل، وكان عاقلا حازما، أراد أن يستعيد للسلطان أبهته، فلم يمكنه القادة الأتراك، ومن أطرف ما يروى في هذا المقام ما حكاه ابن طباطبا في الفخري قال: «لم يكن بسيرته ورأيه وعقله بأس، إلا أن الأتراك كانوا قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء؛ فكان الخليفة في يدهم كالأسير، إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه. ولما جلس المعتز على سرير الخلافة، قعد خواصه وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة؟ وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته. فقالوا له: فكم تقول إنه يعيش وكم يملك؟ قال: مهما أراد الأتراك. فلم يبق في المجلس إلا من ضحك.»
وقد حاول المعتز بالله أن يتخذ حرسا من عنصر جديد غير الأتراك، لعلهم يقفون في وجههم، فاتخذ حرسا من المغاربة، وأمر بإسقاط اسمي وصيف وبغا من قوائم القادة، وكتب بذلك إلى الأقاليم، ولكنهم استطاعوا أن يتغلبوا عليه وتآمروا مع الجنود المغاربة على خلعه، فدخلوا عليه باب حجرته وهو مريض، قد أخذ الدواء، فجروه برجله ثم خرقوا جسم المريض بالدبابيس وأقاموه في الشمس حتى مات عطشا بسر من رأى 255ه/869م، ثم ولوا بعده المهتدي بالله محمد بن الواثق، وكان متدينا ناهجا على منهج الخلفاء الراشدين، ورووا عنه أنه قال (كما في تاريخي النبراس، والفخري): إني أستحيي من الله ألا يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية، وقد أراد أن يسير بالناس سيرة حسنة، ويعيد للخلافة مجدها، ويقضي على نفوذ الأتراك، فأمر بقتل زعيمهم «بايكباك» التركي فلما قتل هاجت الأتراك، ووقعت الحرب بينهم وبين المغاربة، وقتل من الفريقين عدد كبير، واشتدت الفتنة حتى خرج المهتدي فيها والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته والقضاء على الأتراك المتغلبين، وقد أبلى الجنود المغاربة والفراغنة في ذلك بلاء حسنا، ولكن القائد «طببغا» أخا «بايكباك» استطاع أن يتغلب عليهم، وانهزم الخليفة والسيف في يده وجراحه تسيل دما، فلحق به بعض الأتراك وقتلوه شر قتلة وولوا مكانه المعتمد بن المتوكل سنة 256 وكان ضعيفا.
وفي تلك الأيام طمع أصحاب المطامع بالاستقلال بالأقاليم لما رأوا ما في العاصمة من الفوضى والاضطراب، فقويت في نفوسهم فكرة القيام بالثورات؛ ففي سنة 249 ثار عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي في الكوفة، واجتمعت إليه الزيدية ودعا إلى «الرضا من آل محمد». وفي سنة 250 ثار الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن علي في طبرستان ، فتملكها، كما تملك جرجان إلى سنة 270، ثم قام أخوه محمد بن زيد من بعده فضم إليه مملكة الديلم أيضا، وبقي يحكمها إلى أن قضى عليه السامانيون سنة 287. وفي سنة 255 كانت ثورة صاحب الزنج التي أقلقت بال الخليفة، وقلقلت أركان الدولة وكاد الثوار أن يفوزوا على جيش الخليفة، ولكن أخا الخليفة الموفق طلحة استطاع سنة 270ه/883م أن يقضي على تلك الثورة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة، وتركت وراءها ويلات وآثارا مخيفة من التدمير والفساد.
1
ولما مات المعتمد بالله سنة 279ه تولى الأمر المعتضد أحمد بن الموفق بن المتوكل، وكان فتى شجاعا نبيلا عاقلا حازما، ولكنه ولي الأمر والدنيا خراب والثغور مهملة، فقام قياما مرضيا، حتى عمرت مملكته، وكثرت الأموال وضبطت الثغور، وكان قوي السياسة، شديدا على أهل الفساد، حاسما لمراد أطماع عساكره عن أذى الرعية ... وكانت أيامه أيام فتوق وخوارج كثيرين، منهم: عمرو بن الليث الصفار الذي كان قد عظم شأنه واستولى على أكثر بلاد العجم
2
كما سنرى تفصيل ذلك بعد.
ولما مات المعتضد سنة 289 تولى الأمر ابنه المكتفي بالله، وكان من أفاضل الخلفاء، وقد أراد أن يعيد للخلافة عزها، ولكنه لم يفلح؛ ففي أيامه خرج القرامطة، وكانت فتنتهم عظيمة، لقي الإسلام بها بلاء جسيما. وفي أيامه استقر الأمر للدولة الساسانية في بلاد خراسان، فاقتطع جزء كبير من أملاك الخلافة، ولما مات المكتفي سنة 295 تولى الأمر بعده المقتدر بن المعتضد، وكان فتى لم يتجاوز الثالثة عشرة، وقد أثار توليه الخلافة - وهو غير بالغ - بعض الاضطراب بين أهل الرأي، وانقسم الفقهاء والمحدثون في جواز ذلك أو عدمه،
3
ولم ينته هذا الاضطراب إلا بعزله وتولية عبد الله بن المعتز، ولكنه لم يلبث إلا يوما وليلة، ثم استطاع أنصار المقتدر، وعلى رأسهم القائد «مؤنس» المظفر أن يعيدوه إلى دست الخلافة، وفي أيام المقتدر قوي شأن القرامطة وضعف شأن الخلافة ضعفا لا مزيد عليه؛ فقد كان شابا غرا لا يعرف شيئا من الكياسة ولا السياسة، وكانت تدير الأمر أمه السيدة «شغب» وقهرمانة (ثمل)، فهما اللتان كانتا تقومان بشئون الدولة، وتأخذان الرشى، وهو لاه ساه كما كان مواليه من الأتراك، كمؤنس ومحمد بن ياقوت هم الذين يدبرون الدولة، والحق أن أيامه كانت أسوأ عهد مرت به الدولة العباسية منذ تأسيسها؛ لأن النساء والخدم والأشرار كانوا هم المسيطرين، وقد استمرأ هؤلاء الأشرار لذة الحكم في عهد هذا الصبي الذي انصرف - حتى بعد أن بلغ سن الرشد - إلى اللهو والإسراف والانغماس في الشهوات، ومن سوء حظ الأمة أن عهده قد دام طويلا، فاستشرى الفساد، وأخذ الوزراء والكتاب والقادة يتناطحون ويتآمرون، حتى عم البلاء وانتشر الشر ووقعت الفتنة في البلاد داخلها وخارجها، وكان خاتمة ذلك كله مقتل الخليفة سنة 320ه/932م، وبقتله عمت الفوضى، وطغت على الدولة العباسية موجة فتن وجراح لم تلتئم إلا بعد فترة طويلة.
الفصل الثاني
في بيان مظاهر الضعف والانحلال في
الدولة ونتائج ذلك
الواقع أن التعمق في دراسة التاريخ العباسي في هذه الفترة ما بين سنة 232 و320ه له شأن كبير في تفهم تاريخ هذه الدولة بصورة خاصة، وتفهم التاريخ الإسلامي بصورة عامة؛ فإن الهزات التي حلت بالعالم الإسلامي في ذلك القرن كانت هزات عميقة الأثر، قوية النتائج، وما يزال العرب والمسلمون حتى الآن يتحملون نتائج تلك الهزات، وإن الأحداث السياسية والاجتماعية والدينية والعقائدية التي وقعت في هذه الفترة هي أحداث خطيرة، غيرت كثيرا من مجرى التاريخ الإسلامي وطورته بشكل خاص، ويتجلى لنا ذلك في النقاط الخمس الآتية: (1)
إن استكثار الخلفاء من العنصر التركي في الدولة، قد كان عاملا أساسيا في زعزعة أركانها، وقلقلة دست الخلافة، وقد كان عمل الواثق بالله، الذي استكثرهم وقربهم وسلطهم، عملا أحمق، كان من نتائجه تسلط هذا العنصر الهدام الغريب على مرافق الدولة والتطويح بالمبادئ السامية التي قامت الدعوة العباسية من أجلها، من سياسية، وإدارية، وثقافية، ودينية. (2)
برز في هذا العصر عنصر جديد، كان له أثر كبير في تهديم أركان الدولة، ألا وهو عنصر النساء الجاهلات، من أمهات الخلفاء وقهرماناتهم، وجواري قصورهم، أمثال: أم المستعين، وأم المعتز، وأم المقتدر، وقهرمانته «ثمل» وغيرهن من النساء الغريبات عن البيئة العربية، واللواتي ما كان يهمهن سوى أغراضهن الخاصة وحب السلطان والحكم والمال. (3)
كان من نتائج هذا الضعف في الإدارة والاستكثار من الأتراك وسيطرة النساء والانحلال في مقر الخلافة أن قويت مطامع الطامعين في الأمصار والأقاليم النائية والقريبة، واشتدت رغبات الطامحين إلى الحكم والاستقلال ببلادهم، وفصلها عن جسم الدولة العباسية، وقوي تذمر المتذمرين فانسلخ عن جسم الدولة كثير من الأقاليم، كانسلاخ اليمن على يد يعفر بن عبد الرحيم، وانسلاخ سجستان على يد الأسرة الصفارية، واستقلال خراسان وما وراء النهر بزعامة الطاهريين والسامانيين، وانفصال مصر أيام بني طولون والإخشيد، وتقلص الموصل وشمالي الشام وديار بكر وما إليها بزعامة بني حمدان، أو كسيطرة نفر على مركز الخلافة نفسه، كما فعل فيما بعد البويهيون والسلاجقة ثم المغول. (4)
رأى العلويون على اختلاف فرقهم من جعفرية، وزيدية، وإسماعيلية، ضعف الدولة، فقاموا يطالبون بحقهم السليب بقوة وعلنية، وكان من نتائج ذلك أن قام الإمام الحسن بن زيد الأطروش بحركته الزيدية في جرجان وطبرستان، تلك الحركة التي قوي نشاطها حتى امتدت إلى بغداد، وقام صاحب الزنج بحركته في البصرة وما إليها، وثار الإسماعيلية والقرامطة على مغتصبي حقوقهم، وكان من أمرهم ما هو معروف. (5)
حين قوي الانقسام بين القادة من الأجناد الأتراك، وضعف أمرهم بعض الشيء وأراد الخلفاء إيجاد عنصر قوي في مجال السياسة، برز عنصر جديد هو عنصر الكتاب والوزراء، وقد كان لهذا العنصر القوي من رجال العلم أثر واضح في إدارة البلاد، أمثال بني خاقان، وبني الفرات، وبني وهب، وبني مقلة، وبني مخلد، وقد كان هؤلاء الكتاب الوزراء يختصمون فيما بينهم، ففسدت أمور الدولة من جديد فسادا لا يقل عن فسادها بالقادة الأتراك؛ لأن طمعهم بجمع الأموال والسيطرة على مرافق الدولة قد أفسد الأمر، وسار بالدولة نحو الخراب والإفلاس.
هذه هي بعض مظاهر الضعف الخطيرة التي حلت بالدولة العباسية في الفترة التي نؤرخها، وهي كما نرى مظاهر ذات أثر واضح في السير بالدولة في طريق الانحلال فالانهيار، ولو لم يسبغ العباسيون على خلافتهم ذلك الثوب الإلهي والرداء الديني المحمدي لاضمحل أمرها سريعا، ولم تستطع البقاء ولو بذلك المظهر الصوري إلى أن قضى عليها هولاكو.
الفصل الثالث
مجالي الانحلال في جسم الدولة
لم تتبدل أكثر الأوضاع العامة من إدارية واجتماعية وفكرية وسياسية في هذا العصر، عما كانت عليه في العصر العباسي الأول تبدلا ذا معالم بارزة، ولكن هناك مجالي جديدة ظهرت في تلك الحقبة، ولا بد لنا من وقفة أمام بعض الأوضاع التي تبدلت لتبين حقيقة ما كانت عليه وما طرأ عليها من تطور، أو ما حدث ولم يكن من قبل، وإن من أبرز ما يلحظ المرء في هذه الفترة من مجالي انحلال الدولة وتبدلها عما كانت عليه، يمكن إجماله في النقاط السبع الآتية: (1) ضعة شأن الخلافة وانحطاط مركز الخليفة انحطاطا ملموسا
لقد كان لتدخل القواد الأتراك، ثم الوزراء والكتاب، ثم النساء أثر واضح في إيجاد تلك الضعة؛ فكثير من الخلفاء قتل وأهين، وكثير منهم سملت عيناه وعذب، وكثير منهم خلع، حتى أصبح الخليفة شبحا يؤمر فيطيع، ويطلب إليه أن يولي من يريده القادة أو الوزراء، فيوليه دون أية مناقشة، ويأمرونه أن يعزل من لا يرضون عنه فيعزله، وقد يكون كارها لذلك. ويحفظ لنا التاريخ كلمة للخليفة الراضي تبين سوء حال مركز الخليفة، قال: وكأني بالناس تقول: «رضي هذا الخليفة بأن يدبر أمره عبد تركي حتى يتحكم في المال، وينفرد بالتدبير، ولا يدرون أن هذا الأمر قد فسد قبلي، وأدخلني فيه قوم بغير شهوتي، فسلمت إلى ساجية وحجرية،
1
يتسحبون علي، ويجلسون في اليوم مرات، ويقصدونني ليلا، ويريد كل واحد منهم أن أضعه دون صاحبه وأن يكون له بيت المال، وكنت أتوقى الدماء في تركي الحبل عليهم إلى أن كفاني الله أمرهم، ثم دبره ابن رائق فدبره أشد تسحبا في باب المال وانفرد بشربه ولهوه.»
فإننا نرى أن الراضي كان ضاق ذرعا مما صارت إليه منزلة الخلافة، وأنه يتبرأ أن يكون هو الذي تساهل فأوصل منزلة الخلافة إلى ذلك الدرك، فيقول: إن هذا أمر كان منذ القديم، فهو لا يستطيع أن ينجي الخلافة منه. (2) ظهور منصب «إمارة الأمراء»
وهي وظيفة استخلصها لنفسه «زعيم القادة الأتراك»، وصار بموجبها أكبر رئيس في الدولة الإسلامية، يتولى أمورها فعلا، ويترك المظاهر الشكلية للخليفة، وأول من تولى هذا المنصب هو ابن رائق آمر الجيش وقائده الأعلى؛ فقد اتفق هو والقواد الكبار سنة 304ه، على أن يتولى هو بنفسه إدارة الدولة ورئاسة الجيش، ويدير المملكة فكان له ذلك، وخطب له مع الخليفة على جميع منابر الممالك التابعة للدولة، واستطاع أن يسيطر على أموال الدولة، بينما صار الخليفة شبه موظف يتسلم راتبه آخر الشهر، وينقش اسمه على السكة مع اسم أمير الأمراء، وقد استمر هذا الأمر حتى دخول بني بويه إلى بغداد سنة 334ه، كما سنرى تفصيل ذلك. (3) اضطراب شأن «ولاية العهد»
لم يبق لولاية العهد إلا شكلها الظاهري بعد أن استقر الأمر نهائيا على أن يكون الترشيح لمنصب الخلافة بيد المتنفذين من قادة الجيش وكبار الوزراء، يولون الأمر من يشاءون ويخلعون من يشاءون، ويسمون لولاية العهد من يشاءون، ثم يبدلونه حين يريدون، فهم أصحاب السلطة الحقيقية، وهم الذين يبدءون بمبايعة الخليفة (البيعة الخاصة)، فإذا انتهوا من ذلك، أذنوا للناس أن تبايعه (البيعة العامة). (4) على الرغم من ضعة شأن الخلافة بقيت بعض المزايا للخليفة
يلاحظ أنه على الرغم من ضعة شأن الخلافة وظهور أمير الأمراء قد بقيت بعض المزايا الخاصة بالخليفة، مثل تمتعه باحترام جمهور المسلمين، وولائهم له، والنظر إليه على أنه مرجعهم الديني الأعلى، يلجئون إليه في الملمات ويتوسلون به إلى الله؛ ولذلك حرص أمير الأمراء، الذي استحوذ على السلطة الفعلية، على أن يحفظ للخليفة من المظاهر الشكلية بما لا يجرح شعور العامة أو يطعن عواطفهم تجاه هذا المنصب الديني الرفيع؛ ولهذا ظلت المراسيم والقوانين والمشاريع كلها تصدر باسم الخليفة. بينما كانت يداه مغلولتين، وهو مغلوب على أمره، وقد كان لهذا الأمر أثره في بقاء نوع من التماسك في كيان الدولة الإسلامية على تفكك أوصالها، كما أشرنا إليه فيما مضى؛ فقد ظل كل المسلمين في كافة أجزاء الدولة المتفككة، المستغلة أجزاؤها، ينظرون إلى الخليفة كأنه هو القوة الجامعة لهم جميعا، الموحدة لآمالهم، وشعورهم الديني؛ لأنه إمامهم الديني وحامي حمى عقيدتهم. (5) قوة نفوذ منصب الوزارة
فقد كان الوزير في السابق كاتبا، يتلقى أوامر الخليفة فيبلغها من يريد أو يستكتبه فيكتب له، أو يستشيره فيشير عليه، وحيثما كان يحس الخليفة بتعاظم نفوذ وزيره أو يشعر بأية ريبة منه يقصيه عن منصبه أو يصادره ويقتله، أما في هذه الفترة فقد صارت الوزارة إلى مكانة سامية، وربما نافست صاحب السلطة العسكرية نفسه، أمير الأمراء، وخصص لصاحبها دار ومقر إلى جانب دار الخلافة، إن لم يكن في دار الخلافة نفسها، يتصرف بما يريد، ويحكم بما يشاء، ووجدت فترة أصبحت الوزارة فيها وراثية في بعض البيوتات أو كالوراثية، يتناقلها آل بيت واحد، كابرا عن كابر، كآل الفرات، وبني وهب، وبني متلة، وغيرهم ممن سبق ذكرهم، وقد أضفي على الوزارة في هذه الفترة كثير من ألقاب التضخيم والإطناب، ومنح صاحبها أسمى الرتب، وأعلى الامتيازات والشارات، التي كان بعضها قبلئذ من خصائص الخليفة. (6) ظهور نوع من الدواوين الجديدة
ظهر نوع من الدواوين الجديدة التي اقتضتها تطورات الحالة العامة في البلاد مثل «ديوان الاستخراج»، شقيق «ديوان المصادرات» وهو الديوان الذي كان يتولى صاحبه التحقيق عن الأموال المصادرة للكتاب والوزراء والقادة، الذين يفصلون عن أعمالهم، وقد عظم شأن هذا الديوان في أخريات هذا العصر لكثرة المصادرات، واضطراب الأمور، وحاجة الدولة إلى الأموال لقلة الوارد وكثرة النفقات، وسوء الإدارة وكثرة ارتشاء العمال والقادة والوزراء ومن إليهم، ومثل «ديوان ضريبة الإرث» التي أحدثت في خلافة المعتمد فيما يظهر. (7) قوة شأن أصحاب العقائد والأفكار الدينية والاجتماعية والفلسفية
كانت الدولة في العصر الماضي تحمل على هذه الأفكار بقوة كالزنادقة والقرامطة والخوارج؛ فقد تنفس هؤلاء القوم الصعداء، لضعف شأن الخلافة وانصراف أهل الحل والعقد فيها عن الاهتمام بالأمور العقائدية والفكرية والدينية والاجتماعية ، إلى مصالحهم الشخصية، وجمع الأموال وبناء القصور، وتقوية النفوذ والسلطان، فإذا تعرض أصحاب العقائد والحركات إلى شيء من مصالح أولي الحل والربط، قاموا عليهم وفتكوا بهم، وإلا ألقوا حبلهم على غاربهم.
الفصل الرابع
في نتائج الانحلال
نتج من انحلال الدولة العباسية في هذا الحين أمران خطيران رئيسيان؛ الأول: انقسام الدولة إلى دويلات. والثاني: قوة أمر أصحاب العقائد والمذاهب المخالفة لمذهب الخلافة.
وإليك تفصيل هذين الأمرين: (1) ظهور الدويلات الجديدة وهي (1) الدولة الطاهرية. (2) الدولة الزيادية. (3) الدولة الزيدية. (4) الدولة الصفارية. (5) الدولة السامانية. (6) الدولة الساجية. (7) دولة الأدارسة. (8) دولة الأغالبة. (9) دولة الطولونيين. (10) دولة الإخشيديين.
فقد كان طبيعيا، بعد هذا الانحلال الذي رأينا مظاهره ومجاليه، أن تتجزأ الدولة الكبرى وتنفصل عنها دويلات ترتبط بها اسما، وما هي في الحقيقة إلا دولة مستقلة، استقل أصحابها ببلادهم، وتمتعوا بخيراتها وأبقوا للخليفة الاسم الوهمي الذي لا طائل تحته، ولم يبقوا له إلا النفوذ الروحي والأثر الديني، والحق أن أولى هذه الدويلات التي استقلت في المشرق استقلالا حقيقيا عن دولة الخلافة، هي الدولة الصفارية، أما الدولة الطاهرية، التي يرجع عهدها إلى ما قبل العصر الذي نؤرخه، فقد أبقت بعض العلائق القوية بينها وبين المركز في بغداد، وإنما نذكرها ها هنا؛ لأنها هي أولى الدول التي ابتدعت بدعة الانفصال، وقد أشرنا إلى بعضها في «عصر الازدهار». (1-1) الدولة الطاهرية (205-259ه/820-872م)
أول من أسس هذه الدولة هو الأمير طاهر بن الحسين بن مصعب الخراساني، وهو من بيت عريق في إيران، ولد ببوشنج من أعمال مرو سنة 159ه، وكان جده مصعب بن زريق بن ماهان، واليا عليها وعلى هراة، وكان قبل ذلك كاتبا وصاحب سر سليمان بن كثير الخزاعي أحد دعاة الدولة العباسية.
نشأ طاهر ببوشنج كما ينشأ أبناء الوجوه، وكان شجاعا أديبا، وهو أحد قواد المأمون، لعب دورا هاما في الفتنة بين الأمين والمأمون، وكانت له يد كبيرة في فوز المأمون على أخيه، فكافأه المأمون على بلائه الحسن لما تم له النصر على الأمين، وذاعت شهرته وسمت مكانته، فولاه الجزيرة وجانبي بغداد ، وأحسن القيام بأعماله هذه. وفي سنة 205ه ولاه أمر خراسان، وما إليها إلى أقصى المشرق فسار بالناس أحسن سيرة، وحمد له المأمون والأهلون دهاءه وعقله وأمانته، قال ابن طيفور في تاريخ بغداد، نقلا عن يحيى بن أكثم إن المأمون قال: «ما حابى طاهر في جميع ما كان فيه أحدا، ولا مالأ أحدا، ولا داهن ولا وهن ولا وني ولا قصر في شيء، وفعل في جميع ما ركن إليه ووثق به أكثر مما ظن له وأمله، وأنه لا يعرف أحدا من نصحاء الخلفاء وكفاتهم فيمن سلف عصره ومن بقي في دولته، على مثل طريقته ومناصحته وغنائه وإجزائه.» ويظهر أن الثقة التي وثقها المأمون بعامله، جعلت طاهرا يغتر بنفسه بعد أن أقام فترة في خراسان؛ فقد طمحت نفسه إلى الانفصال عن الدولة، وأعلن عصيانه على الخليفة سنة 207ه، ولما كتب إليه الخليفة بغضه على بعض ما بلغه عنه، أجابه طاهر بن الحسين جوابا أغلظ فيه، ثم تطور الأمر بين الخليفة وطاهر، فقطع طاهر في الخطبة للخليفة، وساءت الأمور. روى صاحب بريد المأمون في مرو قال: حضرت مرة صلاة الجمعة فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له وقال: اللهم أصلح أمة محمد
صلى الله عليه وسلم
بما أصلحت به أولياءك،
1
ولما وصل صاحب البريد إلى المأمون وأخبره بخبر طاهر غضب، وأراد أن يفتك به، ولكنه أدرك قوة سلطانه في إقليمه، فأحجم عن ذلك، ثم إن طاهرا لقي حتفه فجأة، وعلى الرغم من اضطراب أقوال المؤرخين في سبب وفاته، فيظهر أن المأمون قد سلط عليه من دس له السم فهلك.
قال صاحب الفخري، ص199: «كان المأمون، لما ولى طاهر بن الحسين خراسان استشار فيه أحمد بن أبي خالد الأحول وزيره، فضرب أحمد الرأي في توليته طاهر، فقال المأمون لأحمد: إني أخاف أن يغدر ويخلع ويفارق الطاعة. فقال أحمد: الدرك في ذلك علي. فولاه المأمون. فلما كان بعد مدة أنكر المأمون عليه أمورا، وكتب إليه كتابا يتهدده، فكتب طاهر جوابا أغلظ فيه للمأمون، ثم قطع اسمه من الخطبة ثلاث جمع، فبلغ ذلك المأمون، فقال لأحمد: أنت الذي أشار بتولية طاهر، وضمنت ما يصدر منه، وقد ترى ما صدر منه من قطع الخطبة ومفارقة الطاعة، فوالله لئن لم تتلطف لهذا الأمر وتصلحه كما أفسدته، وإلا ضربت عنقك. فقال أحمد: يا أمير المؤمنين طب نفسا، فبعد أيام يأتيك البريد بهلاكه، ثم إن أحمد أهدى لطاهر هدايا فيها كوامخ
2
مسمومة، وكان طاهر يحب الكامخ فأكل منها فمات من ساعته.»
وقد رأى المأمون ألا يقصي آل طاهر عن الحكم لما رآه من قوة سيطرتهم على تلك البلاد، فولى طلحة بن طاهر موضع أبيه، وقد احتفظ أبناء طاهر بسلطانهم على تلك الديار فترة غير قصيرة، وكان هذا أول حدث في تجزئة الإمبراطورية الإسلامية.
وأبرز أمراء آل طاهر هو عبد الله بن طاهر، وكان عمره حين لمع اسم أبيه في حوادث الأمين نحو ست عشرة سنة، وتربى في كنف المأمون، وكان يحبه ويحسن إليه، فلما كبر ولاه محاربة شيث بن ربعي، ثم ولاه شرطة بغداد، ثم بعث به إلى مصر لما ثار أميرها عبيد الله بن السري، فوضع الأمن في نصابه، لما كان عليه من الدهاء والسياسة والإدارة. وفي سنة 213ه ولاه خراسان وما إليها من بلاد المشرق، فثبت أركان الدولة كما وطد دعائم حكم الأسرة الطاهرية فيها. ثم تتابع على الحكم جماعة من آل طاهر، كانوا يدينون للخلافة اسما وهم مستقلون بالبلاد فعلا، يستغلونها لأنفسهم، ويوسعون حدودها، حتى بلغت تخومهم الهند، ونقلوا عاصمتهم من مرو إلى نيسابور وظلوا في الحكم إلى أن أجلاهم الصفارون واستولوا على بلادهم.
3
وهكذا انتهت أيام هذه الدولة، التي هي أولى الدول الفارسية المنفصلة عن جسم الإمبراطورية الإسلامية، والتي شجعت أصحاب المطامع من الفرس وغيرهم عن الانفصال، واستطاع الطاهريون بمواهبهم وذكائهم أن يستمروا في الحكم عهدا طويلا، لما كانوا يتمتعون به من مواهب وكفايات وحب للعلم وأهله، ولما لهم من مكانة محلية بين أهل تلك الديار، ولما عزم المعتصم، الذي كان يكره عبد الله بن طاهر، على أن ينقله من خراسان إلى ولاية أخرى لم يستطع تنفيذ إرادته، بل عمل على قتله في الخفاء، وحين هلك عبد الله وأراد الواثق أن يولي إسحق بن إبراهيم المصعبي لم ينفذ فكرته لخشيته من ألا تتم. ولو لم يكن آخر الطاهريين - وهو محمد بن طاهر - ضعيف الإرادة، ميالا إلى اللهو، لما استطاع يعقوب بن الليث الصفار أن يقصيه عن إمارته ويقضي على دولته.
ويجب أن نعلم أن عهد الطاهريين في خراسان كان على العموم عهدا طيبا؛ فقد كانوا - وخصوصا عبد الله - على جانب عظيم من الثقافة وحسن الإدارة، وحب الخير، فنشروا العلم وقربوا العلماء، وأحيوا الأرض الموات، ونظموا الري والسقاية، وجمع عبد الله جماعة من أئمة الفقهاء وأهل الرأي وطلب إليهم دراسة أوضاع الري ومشاكله من الناحية الفقهية والقضائية، فألفوا له كتاب «القني» ولكن فقد مع الأسف.
ولم تكن صلات الطاهريين بالخليفة في بغداد - على الغالب - صلات جفاء، بل كانوا حسني الصلة مع المركز، يقدمون ما عليهم لبيت المال، ويذكر قدامة بن جعفر أن مقدار الخراج الذي كان يدفعه الطاهريون بلغ «48 ألف ألف درهم»، وكان الطاهريون على استقلالهم بإمارتهم لا يقطعون صلتهم ببغداد وأهلها، وهذا ما جعلهم يحرصون على استبقاء ولاية الشرطة في بغداد بأيديهم، حتى بعد أن أجلاهم الصفارون عن ولايتهم في خراسان والري وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان، كما سنرى تفصيل ذلك بعد. (1-2) الدولة الزيادية (203-253ه)
كان أهل اليمن منذ نشأة دولة بني العباس لا يقرون بدولتهم؛ لأنهم يميلون إلى «آل علي» ويرون أن «آل العباس» قد ظلموا العلويين وفتكوا بهم؛ فلذلك لم يخضعوا لحكمهم خضوعا تاما، وكانوا يتحينون الفرص لخلع طاعتهم وتأسيس دولة علوية مستقلة، فكانت الثورات في اليمن لا تهدأ؛ ولذلك بعث إليهم المأمون بقائد عربي قوي هو محمد بن إبراهيم الزيادي، أحد أبناء زياد بن أبي سفيان، فولاه اليمن في سنة 203ه، وكان إنسانا قويا فاتكا، فتوجه إلى مكة للحج، ثم قصد اليمن ففتح تهامة، واختط مدينة زبيد، ثم شرع في تتمة فتح بلاد اليمن حتى أخضعها جميعها، وقضى على روح الثورة، وأرجع الخطبة للعباسيين، وما زال أمر الزيادي هذا في نمو، وسلطانه في قوة، حتى صار كالملك المستقل، إلا أنه استمر في ولائه للعباسيين، وفي حمل الهدايا والخراج إليهم.
وقد طال ملكه إلى سنة 245ه، ثم انتقل الأمر إلى أبنائه وأحفاده فمواليهم إلى سنة 253ه، وهذه الدولة هي أولى الدول التي انفصلت عن بغداد في الجزيرة العربية، ولم يعد للخلفاء العباسيين ومن بعدهم من حكام العراق وغيره، سيطرة على اليمن منذ ذلك الحين؛ فقد قامت بعد الدولة الزيادية دول علوية الهوى زيدية المذهب، استمرت في السيطرة على اليمن إلى أيام الفتح العثماني. (1-3) الدولة الزيدية (250-355ه)
كان العلويون ينتهزون كل فرصة للقيام بحركات طلبا لحقهم في الخلافة؛ ففي أيام الفتنة بين «الأمين والمأمون»، قاموا يطالبون بحقوقهم، ويعلنونها ثورة على العباسيين، وكانت لهم حركات أخرى، منها حركة أبي السرايا السري بن منصور، الذي ثار بالكوفة ومعه ابن طباطبا سنة 199ه وهو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن، وامتد نفوذه حتى بلغ واسطا والحجاز، ولولا موت ابن طباطبا، ثم موت أبي السرايا نفسه سنة 201ه، لكان لهذه الحركة العلوية شأن آخر. وفي أيام المعتصم ثار منهم محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي في الكوفة، وعظم أمره إلى الطالقان في خراسان، وهو يدعو إلى «الرضا من آل محمد» فاجتمع إليه خلق كثير، ووقعت بينه وبين عبد الله بن طاهر أمير خراسان وقعات، ثم أسر محمد، وسيق إلى المعتصم، فحبسه بسامراء سنة 219ه، ثم تمكن من الهرب ولم يعرف له خبر، ويعتقدون أنه حي غائبا، وأنه يعود ويملأ الأرض عدلا.
وفي أيام المتوكل، الذي كان يعلن عداءه لآل علي وشدة كراهيته لهم، وهدم قبر الحسين وما حوله، ثار يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، فتمكن المتوكل منه وحبسه في سجن المطبق ببغداد، ثم تمكن من الفرار، فتجمع حوله نفر كبير من الزيدية والأعراب، ولكنه لم يوفق إلى الوصول لهدفه وقضى على حركته سهل بن هارون. وفي أيام المستعين خرج ثانية وتمكن من الاستيلاء على الكوفة، وبلغت دعوته بغداد، فانضم إليه كثير من أهلها وقوي سلطانه إلى أن كانت سنة 250ه فخرج وبعث إليه الخليفة بالحسين بن إبراهيم المصعبي، والتقى جمعاهما ظاهر الكوفة، ودارت الدائرة على يحيى فقتل ومثل به، فلما بلغت أخباره الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن ثار بطبرستان واستولى على عاصمتها آمل، ثم على سارية وسائر بلاد طبرستان والديلم، واستطاع بما أوتي من قوة وعلم أن يؤسس دولة قوية دامت نحو قرن، تولى فيها الحسن بن زيد 250-270ه، ومحمد بن زيد القائم بالحق 270-278ه، وحكم فترة طويلة استطاع فيها أن يقوي نفسه، ويرتب بعوثه ودعاته لنشر دعوته الزيدية حتى تغلب السامانيون عليها، كما سنرى. وفي سنة 301ه تمكن الحسن الأطروش بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن زين العابدين أن يعيد سلطان الزيدية من جديد على بلاد طبرستان والديلم وظل إلى سنة 304ه، ثم خلفه الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن، ومعه أولاد الأطروش من سنة 304 إلى سنة 355 وفي هذه السنة انتهى أمر الدولة الزيدية. (1-4) الدولة الصفارية (247-289ه)
كان الخوارج قد استقروا في سجستان وثبتوا أقدامهم فيها منذ زمن بعيد، ويظهر أنهم منذ أوائل القرن الثالث قد انقلبوا إلى عصابات تفتك بالناس، وتقطع السبيل، حتى لقي الأهلون منهم عناء كبيرا، فألفوا فرقا متطوعة للدفاع عن أنفسهم، ومحاربة هؤلاء الخوارج القساة، الذين لم تتمكن الدولة من إخضاعهم، وقد استطاع صالح بن النضر الكناني، أحد قادة هذه الفرق المتطوعة، أن يستولي على العاصمة، ويطرد عامل آل طاهر عنها، وكان بين أجناد صالح أخوان كانا يشتغلان في حداثتهما بعمل الصفر، وهما يعقوب بن الليث وأخوه عمرو بن الليث، وقد استطاع يعقوب بذكائه ودهائه أن يتقرب من صالح وتسمو مكانته بين الجند، لما كان له من بلاء حسن في قتال الخوارج وقطع دابر المفسدين. وحدث في سنة 247ه أن مات صالح، وتولى إمرة المتطوعة رجل ضعيف اسمه درهم بن الحسين، وكان درهم هذا لا يساوي شيئا ولا يصلح للإمرة، فرأى المتطوعة أن يعزلوه ويولوا يعقوب بن الليث مكانه، فلما أن تولى قيادتهم، وكان ذلك في 6 محرم سنة 247، أبلى أحسن البلاء في قتال الخوارج والشراة، واستولى على هراة وبوشنج وما إليهما سنة 253ه، ثم وجه همته إلى قتال أمراء الترك والديالم بتخوم سجستان فانتصر على كثير من ديارهم، وأذعن له أمراء الملتان وذابلستان والسند ومكران، وفي سنة 256ه استولى على كرمان، وكان الخليفة المعتز بالله قد أعطاها له، ولوالي فارس علي بن الحسين، وقد حاول علي أن يسبق يعقوب إلى احتلال كرمان، ولكن يعقوب سبقه فتغلب عليها وهزم جنده، وما زال يطارده حتى ألجأه إلى شيراز عاصمة إقليم فارس، وانتهز يعقوب مناسبة نصره هذا فبعث بحلائل الهدايا إلى الخليفة يؤكد له ولاءه، ويرجوه أن يوليه على بلاد فارس، وأن يعزل عنها علي بن الحسين، على أن يقرر عليه خمسة عشر ألف درهم، ثم شخص على أثر كتابته بذلك للخليفة متوجها إلى كرمان فاستولى عليها، ثم توجه إلى شيراز فحاصر الحسين بن علي واستولى عليها في جمادى الأولى سنة 255ه، وضم إقليم فارس إلى دولته فارتفع ذكره، وسما قدره، وفي سنة 259ه قصد نيسابور عاصمة آل طاهر فاستسلم له محمد بن طاهر، وهكذا انتهت الدولة الطاهرية، فانتهز يعقوب هذه الفرصة لإرسال وفد إلى الخليفة المعتمد في سامراء مع كتاب إلى الخليفة يذكر فيه ما تناهى إليه من حال أهل خراسان، وأن الخوارج والشراة المخالفين قد استولوا عليها، وأن محمد بن طاهر قد غلب على أمره، وأن أهل خراسان قد سألوه القدوم عليهم، وأنه سار إليهم وأقر نصاب العدل والأمن فيها؛ ولذلك جاء يطلب من الخليفة تأميره عليها، وكان المدبر لشئون الخلافة وقتئذ الموفق طلحة أبو أحمد، فقال لرئيس وفد يعقوب: إن الخليفة لا يقر يعقوب على ما فعل، وأنه يأمره بالانصراف إلى عمله الذي ولاه إياه - وهو إقليم فارس فقط - فلما بلغت هذه الرسالة يعقوب لم يأبه لها، واستمر في عمله وتوطيد سلطانه في إقليم فارس وخراسان كلها. وفي سنة 260ه سار يعقوب بجنده إلى طبرستان جنوبي بحر قزوين يريد طرد الحسن بن زيد منها، فافتتح مدينتي ساري وآمل، وهرب الحسن أمامه فلحقه إلى جبال طبرستان، ولكن قسوة الإقليم وبرده الشديد منعاه من الاستمرار في وقوفه أمام يعقوب، فرجع إلى خراسان، ولكنه فوجئ بعمل أزعجه، وهو أن رجال الخلافة، وعلى رأسهم الموفق طلحة في سامراء، أصبحوا يتخوفون من حركة يعقوب ونفوذه، فأمر الموفق عبيد الله بن طاهر أن يجمع في بغداد حجاج خراسان والري وطبرستان وجرجان، ويقرأ عليهم كتابا للخليفة، يذكر فيه أنه لم يول يعقوب على ما استولى عليه ظلما، ويأمرهم بالبراءة منه والثورة عليه، ولما بلغت هذه الأخبار يعقوب لم يأبه لها، أول الأمر، ثم خاف على نفسه، فأخذ يعمل على تقوية جيشه استعدادا للطوارئ، وبلغ ذلك الخليفة، فاضطر أن يعترف بالأمر الواقع، ويبعث إلى يعقوب بتوليه خراسان وما إليها من بلاد المشرق، ولكن يعقوب كان قد غضب مما عومل به سابقا، فعزم على الثورة، وأنه لا بد له من الاستيلاء على العراق أيضا، وعلى بغداد نفسها، ولم يتأخر عن تنفيذ عزمه، فجمع جيوشه واتجه نحو العراق، فلما رأى الخليفة المعتمد ذلك، خرج إليه بنفسه وعليه بردة الرسول وفي يده القضيب، والتقى الجيشان بالقرب من دير العاقول، وكانت الغلبة أول الأمر لجيش يعقوب، ثم تغلب الجيش العباسي، واستطاع محمد بن طاهر أن ينجو من أسر يعقوب فأحضره الخليفة مجلسه وخلع عليه، وثبته في ولايته، وقرئ على الناس في يوم 11 رجب سنة 262ه كتاب من أمير المؤمنين فيه مثالب يعقوب، وخبر مشاققته لله ورسوله وخليفته وعزله.
أما يعقوب فقد قفل منهزما إلى خراسان وأخذ يرتب أموره ويقوي جنده، وجرت له وقائع مع رجال صاحب الزنج إلى أن مات في 15 شوال سنة 265ه بالأهواز بعد أن ثبت أركان مملكته في خراسان وجنوبي إيران. ومهما يكن من أمر فإن يعقوب، كان عصاميا تطلع إلى معالي الأمور فبلغها، ولكن منشأه الدنيء، وتفكيره الساذج، وعدم معرفته بالسياسة لم تمكنه من توسيع دولته؛ فقد كان جنديا قويا بارعا، وحسب، ولو أنه جمع إلى القوة عقلا وحزما لاستطاع أن يصل بدولته إلى منزلة سامية.
ولما هلك يعقوب بايع الجند أخاه عمرا (265-287) لما كان عليه من القوة فكان أول عمل عمله أن طلب رضاء الخليفة والاعتذار إليه عما قام به أخوه، فرضي عنه الخليفة وولاه على خراسان وفارس وأصفهان وسجستان وكرمان والسند، وسماه حاكما عسكريا لبغداد، وسامراء، تشريفا له، ولكن ما عتمت الأمور أن فسدت بينه وبين بغداد من جديد، حينما أراد طلحة الموفق منه أن يتنازل عن خراسان سنة 272، فرفض وأعلن عصيانه، فجمع الموفق بأمر المعتمد حجاج خراسان وقرأ عليهم كتابا من الخليفة بإقالة عمرو، وبلغه على المنابر، وجهز الموفق طلحة جيشا فتح به بلاد فارس وهزم عمرا، ولكن عمرا استطاع أن يسترد ولايته بحد حسامه، وظل إلى أن توفي المعتمد.
ولما تولى المعتضد في سنة 279 أقر عمرا في ولايته، واستقرت بلاد المشرق لعمرو فطمع في بلاد ما وراء النهر، وطلب من الخليفة أن يوليه إياها، فكانت تلك الولاية سبب القضاء عليه. روى الطبري أن عمرا طلب إلى الخليفة أن يوليه ما وراء النهر، فولاه ذلك، وقرئ في بغداد كتاب من الخليفة بعزل إسماعيل بن أحمد الساماني عن ما وراء النهر وتولية عمرو مكانه، وأرسل رسولا إلى عمرو في نيسابور يحمل إليه الخلع والعهد، فلما وضع العهد بين يدي عمرو قال: ما هذا؟ فقال الرسول: هذا الذي سألت. فقال عمرو: وما أصنع به؟ فإن إسماعيل بن أحمد لا يسلم إلي ذلك إلا بمائة ألف سيف! فقال الرسول: أنت سألته، فشمر الآن لتتولى العمل في ناحيته. وفي ربيع سنة 287ه حطم السامانيون جند عمرو قرب مدينة بلخ، ووقع عمرو أسيرا، ثم أرسله السامانيون إلى بغداد فقتل، وبذلك انتهى عهد هذه الأسرة العسكرية التي حكمت، وهي لا تستند على شيء سوى السيف والقوة، على أن عمرا كان خيرا من أخيه؛ فقد وصفوه بأنه كان على جانب من الدهاء والإدارة، ورووا أنه كان شديد الاهتمام بضبط موارد دولته، وأنه كانت له ثلاثة بيوت للمال؛ أولها بيت المال الوارد من الخراج والضرائب الأخرى، ومنه كان ينفق على الجيش، وثانيها بيت المال الوارد من الضياع والأملاك الخاصة، ومنه تصرف نفقات البلاطات والحاشية، وثالثهما بيت المال الوارد من المكوس والصادرات، ومنه كانت تصرف المنح والهدايا. ورووا عنه أيضا أنه كان عادلا في حكومته، عاملا على المساواة بين رعيته.
وصفوة القول أن هذه الدولة التي ظلت قرابة نصف قرن كانت دولة قوية لم يحاول أمراؤها قطع كل الصلات بالخليفة، وإن كانوا قد استمتعوا باستقلال مملكتهم، وتلقبوا بألقاب الملك، وخطب لهم على المنابر مقرونا اسمهم مع اسم الخليفة، وسكت الدراهم والدنانير باسمهم، ولولا فترات الجفاء التي وقعت بين يعقوب وأخيه، وبين رجالات العاصمة بغداد، لكانت هذه الدولة على أحسن حال. (1-5) الدولة السامانية (261-389ه/874-999م)
كان سامان خداه جد هذه الأسرة، أميرا ينتسب إلى بهرام جور، صاحب كسرى هرمز، أسلم على يد أسد بن عبد الله القسري الأمير الأموي ووالي بلخ، واتصل به وسمى ابنه الأكبر باسمه، وكان لأسد بن سامان أربعة بنين وهم: نوح وأحمد ويحيى وإلياس، وقد ارتفعت أقدارهم في دولة المأمون، فولاهم والي خراسان غسان بن عباد تلبية لأمر الخليفة على بعض المقاطعات، فكان نوح أميرا على سمرقند، وأحمد أميرا على الشاش وأسروشنة، وإلياس أميرا على هراة. وعمر أحمد أكثر من إخوته فصار إليه حكم سمرقند وهراة والشاش وأسروشنة إضافة إلى بلاد فرغانة، وأخذ سلطانه يتسع حتى امتد إلى بلاد الصفد. وفي 261ه/864م مات أحمد فخلفه ابنه نصر وهو أول من حكم استقلالا من رجال هذه الدولة، وكان مقره في سمرقند، واضطر الخليفة المعتمد أن يبعث إليه تقليدا بولايته على كافة بلاد ما وراء النهر.
وفي سنة 271ه اضطربت بخارى، وعاث المفسدون فيها فطلب أهلها من نصر أن ينقذهم من تلك الفوضى، فبعث إليهم أخاه إسماعيل فوطد الأمن فيها، وحكمها بالنيابة عن أخيه. وفي سنة 272ه عهد الخليفة المعتمد بولاية كافة بلاد بخارى والمشرق إلى نصر. وقد استطاع إسماعيل أن يقضي على الثورات المحلية، وينقذ الفلاحين من ظلم أصحاب الأراضي واستبدادهم، فأحبه الناس وقويت مكانته في البلاد، فطمع إلى الاستقلال بها، ووقعت بينه وبين أخيه نصر خطوب وفتن وحروب دامت مدة طويلة. وفي سنة 275 تغلب جيش إسماعيل على جيش نصر، فأخذ أسيرا، ولما التقى الأخوان تصافيا، ورجع نصر حاكما إلى سمرقند إلى أن مات سنة 279، فأوصى لأخيه من بعده بالملك، وقد كان إسماعيل على جانب عظيم من حسن السياسة والدهاء والإدارة، فتوطدت أركان الدولة في عهده، واتسع نطاقها حتى بلغت أقصى حدود المشرق، وقضى على عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان، كما قضى على محمد بن يزيد العلوي صاحب طبرستان، وإسماعيل هذا هو أعظم أمراء هذه الدولة، وهو الذي أسس قواعدها ووسع رقعتها، وقضى على خصومها، ولما هلك في سنة 295ه تعاقب الأمراء عليها إلى سنة 389 حين انتهى أمرها على يد دولة آل سبكتكين الغزنوية والأتراك الخاقانية، كما سنرى بعد.
ويجب أن نلاحظ أنه لم يظهر أمير كفء من هذه الأسرة بعد إسماعيل، ولكن متانة الحكم الساماني وحسن الإدارة التي وطدها إسماعيل مكنت أولاده وأحفاده من الاستمرار في الحكم طول تلك المدة. وعلى يد السامانيين هؤلاء، تم للإسلام إخضاع بلاد ما وراء النهر نهائيا، وكادت بخارى عاصمتهم وسمرقند سيدة حواضرهم أن تسبقا بغداد في ميادين العلم والعرفان والحضارة والتأليف، ولم تخلص هذه الدولة من عناصر التخريب وإشاعة الفوضى على الرغم من عناية أمرائها لتوطيد ملكهم على قواعد العدل والعلم والإصلاح، وقد كان السامانيون مسلمين متعصبين لإسلامهم ولسنيتهم، وحدث أن اتهم أحدهم، وهو نصر الثاني بن أحمد (295-301) بأن هواه مع الإسماعيلية، فاضطر إلى أن يتنازل عن الملك لابنه نوح، وكان نوح فتى حدثا لم يستطع أن يضبط الدولة، وكان للمماليك الأتراك، الذين سيطروا على البلاط، نفوذ كبير عليه، ولم يكن الأمراء الذين خلفوه خيرا منه، فتعاظم نفوذ الحرس التركي في البلاد، وأصبح قادته أصحاب الحل والربط، يتداخلون في السياسة، ويسقطون هيبة الوزارة والإمارة، وقد حدثت عوامل أخرى أضعفت شأن الدولة، وهي ظهور آل بويه في الغرب والأتراك القرخانيين في الشرق، وهم الذين نراهم لأول مرة في التاريخ الإسلامي، يبرزون إلى ميدان السياسة بقبائلهم الطورانية الجرارة القادمة من آسيا الوسطى للسيطرة على مقدرات العالم الإسلامي.
وفي سنة 351ه/962م تمكن ألب تكين التركي، أحد قواد السامانيين أن ينفصل عن جسم الدولة السامانية، ويؤسس دويلة مستقلة في غزنة، ثم خلفه في سنة 366ه/977م مولاه سبكتكين فأعلن ولاءه للسامانيين، وفي سنة 384ه/994م استطاع ابنه محمود أن يخمد بعض الفتن التي قامت على السامانيين فكافئوه بتسميته أميرا على خراسان، وكان ذلك مبدأ دولة محمود بن سبكتكين.
وفي سنة 386ه/996م أراد الأتراك (الإيلاق خاينون) (القرخانيون) الانسيال على الأراضي السامانية، فاستنجد السامانيون بسبكتكين وابنه، واستطاعا أن يوقفا سيل القرخانيين، وعقد صلح بين الطرفين على أن تكون منطقة سهول قطوان، منطقة فاصلة بين الحدودين، وتسلط سبكتكين على كافة الأراضي الواقعة جنوب نهر جيحون، وأخذت دولته تنمو. ولما مات سبكتكين 387ه/997م وانشغل ابنه محمود بتوطيد أركان دولته في غزنة، أراد السامانيون إعادة الجزء الذي سلبهم إياه سبكتكين وابنه، ولكنهم فشلوا في محاولتهم، ثم تراجعوا وجيشهم مشتت، فتمكن محمود من الاستيلاء على خراسان كلها سنة 389ه، وقد انتهز الأتراك القرخانيون تضعضع الدولة السامانية، فهاجموا بخارى عاصمتهم، واستطاعوا السيطرة عليها في سنة 389ه، وهكذا قضي على الدولة السامانية.
وصفوة القول في هذه الدولة، أنها كانت دولة سنية متعصبة، انفصلت عن جسم الإمبراطورية الإسلامية، ولكنها ظلت روحيا متصلة بخلافة بغداد، وكانت حملات أمرائها على الإسماعيلية حملات قوية، أقرت عين الخليفة، وقد رأينا أنه لما دخل الأتراك بلاد ما وراء النهر سنة 291ه واستطاع إسماعيل أن يطردهم وبعث إلى الخليفة كتابا يبشره بالقضاء على فتنة الأتراك، فسر بذلك ولقي كتابه أحسن القبول لدى الخليفة.
وعلى الرغم من أن الدولة السامانية كانت دولة سنية متعصبة، إلا أنها أحيت الآداب والثقافة الفارسية، وجعلت اللغة الفارسية اللغة الرسمية للدولة، وشجع أفرادها الشعراء والكتاب، فألفوا بالفارسية، ويعتبر عصر السامانيين هو العصر الذي نشأ فيه الأدب الفارسي الحديث؛ ففيه نظم الفردوسي «الشاهنامة»، وفيه نقل الوزير العالم البلعمي «كتاب تاريخ الطبري» إلى اللغة الفارسية، وهذان الكتابان هما اليوم من أقدم نصوص النثر الفارسي.
يقول بروكلمان: «... وفي هذا الوقت تفتح الوعي القومي عند الفرس من جديد، بعد أن استعبدتهم سيادة العرب السياسية والدينية زمنا طويلا، ومع أن الفرس تفوقوا على العرب في إدارة الدولة وفي النواحي الثقافية تفوقا كبيرا، منذ ابتداء الدولة العباسية؛ فقد كانت خدماتهم ذات فائدة للعرب فيما بعد؛ إذ لم يعد من الممكن إقصاء لغة التنزيل عن الشئون العامة وعن الأدب جميعا، بيد أن الفرس تذكروا - هنا في الشرق لأول مرة - شرف لسانهم القومي وعظمته، وعلى الرغم من أن أشراف الفرس من أصحاب الأراضي لم ينقطعوا يوما عن العناية بمضافرهم القومية في سير ملوكهم وأبطالهم، وعلى الرغم من أن الشعب لم ينس - غير شك - فن إنشاد الشعر، فالحق أن تلقيح هذا الإرث الروحي من جديد لم يتم إلا في بلاط السامانيين، وعلى أيديهم؛ ففي ظل نصر الثاني لمع «رودكي» أول شاعر غنائي فارسي، وصلتنا عنه أخبار على شيء من التفصيل، وعلى الرغم من أن شعره لم يخل من الكلمات العربية، وعلى الرغم من أن الأوزان التي اصطنعها كانت كأوزان جميع شعراء الفرس من بعده مفرغة في القوالب العربية، فقد دعا في منظومته إلى فلسفة في الحياة بعيدة عن الهم والغم ناضجة بالحبور مستوحاة، على الرغم من وصايا الإسلام، لا من حيث النساء والغناء فحسب، بل من حيث الخمر أيضا، وكان رودكي إلى ذلك مؤسس الملحمة التعليمية، وهي أخصب فروع الأدب الفارسي على الإطلاق ... وفي بلاط السامانيين بلغت الجغرافية العربية أوجها العلمي أيضا ... وفي بلاط إسماعيل ألف الوزير الجيهاني كتابا لم يصلنا، استطرد فيه من بحث الضرائب إلى وصف البلدان المجاورة، ثم إن أبا زيد البلخي، وكان في خدمة إسماعيل ببلخ، وضع مصورا جغرافيا وجعله ذيلا لأطلس إسلامي قديم موضوع على أساس اقتبسه كتاب الخوارزمي قبل سنة 846 عن جغرافية بطليموس.»
لقد اعتنوا بالعلوم الإسلامية عامة، وشجعوا العلماء على الكتابة، فوصف عهدهم بأنه من أزهر العصور العلمية. وقد عرف حبهم للعلم وعنايتهم بأهله فقصدهم العلماء من الأرجاء وأفادوا منهم، وقدموا إليهم كتبهم. ومن كبار علماء دولتهم الطبيب الفيلسوف الرازي الأشهر الذي ألف كتابه الطبي المعروف بالمنصوري نسبة للأمير أبي صالح منصور الساماني، ومنهم الفيلسوف ابن سينا الذي زار نوح الثاني فكرمه وفتح له أبواب خزانته الملكية، فأفاد من كنوزها. (1-6) الدولة الساجية
من تلك الدول الدولة الساجية التي حكمت من سنة 266 إلى سنة 318ه، ورأس هذه الدولة هو يوسف بن أبي الساج عامل أرمينية وأذربيجان في عهد المقتدر، وكان يوسف داهية حازما تولى أرمينية وأذربيجان سنة 266ه، وقوي مركزه في عماله فثار على بغداد وأعلن انفصاله عنها، فاضطر علي بن الفرات وزير الخليفة أن ينفق كثيرا من موارد الدولة في سبيل القضاء على ثورة ابن أبي الساج، فلم يفلح، ووقعت الدولة في أزمة مالية كبرى، وتمكن ابن أبي الساج من القضاء على جيش مؤنس التركي، واتهم ابن الفرات بممالأة ابن أبي الساج، فغضب عليه المقتدر، وحاول تبرئة نفسه من ذلك، فأرسل جيشا جديدا للقضاء على ثورة أذربيجان فلم يفلح، واضطرب الخليفة وعزل ابن الفرات ثم سجنه، ولكن ذلك لم يمنع من انفصال ابن أبي الساج ومصادرة أموال الدولة، وقوي نفوذ الساجية في أرمينية وأذربيجان والري، وجرت بينهم وبين أعدائهم المجرية معارك وحروب لاقت البلاد من ويلاتها كثيرا، وقد استمر الحكم في يد الساجية على بلاد أذربيجان إلى سنة 318 حين قضي عليهم نهائيا.
ومن الدول التي ظهرت في هذه الفترة وانسلخت عن جسم الإمبراطورية العباسية: (1-7) دولة الأدارسة في المغرب العربي
وتنسب إلى الأمير العلوي إدريس بن عبد الله من أحفاد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فقد أسس ملكا دام قرابة قرنين (172-364ه/788-974م)، وكانت مدينة فاس عاصمتهم وهي أول دولة شيعية قوية في التاريخ. (1-8) دولة الأغالبة
وتنسب إلى الأمير إبراهيم بن الأغلب الذي ولاه هارون الرشيد على إفريقية (أي بلاد تونس)، ولكنه ما لبث أن استقل وأسس دولة عاصمتها القيروان دامت طوال قرن (184-297ه/800-909م)، وقد كانت لهم حملات في إيطالية وفرنسة وقورشيقة وسردينية ومالطة. (1-9) دولة الطولونيين
وتنسب إلى الأمير أحمد بن طولون التركي الذي ولاه المأمون على مصر، فاستقل بها وأسس دولة دامت من 254-292ه/868-905م بعد أن خلفت حضارة رائعة وآثارا جليلة. (1-10) دولة الإخشيديين
وتنسب إلى الأمير محمد بن طغج الإخشيد الذي ولاه الخليفة الراضي على مصر فأسس فيها دولة مستقلة دامت من 324-359ه/935-969م. (2) قوة أمر أصحاب العقائد المخالفة لمذهب الخلافة (1) الحركات العقائدية. (2) الإسماعيلية. (3) القرامطة. (2-1) الحركات العقائدية
كان الخلفاء الأمويون من حيث العقيدة «مسلمين سنيين» يميلون إلى البساطة في اعتقادهم، ولا غرو في ذلك؛ فإنهم عرب تغلب عليهم الفطرة العربية الساذجة، وفي أيامهم نجمت بعض الفرق التي أرادت تعقيد العقيدة التي جاء بها الإسلام كالمعتزلة مثلا، والجبرية فحاربوها، ووقفوا ضد أربابها وحاربوهم بشدة وعنف. يقول ديمومبين: «وقف المعتزلة ضد الأمويين على طول الخط، واعترفوا بأحقية علي في خلافة محمد بعد وفاته، لكنهم مع هذا اعترفوا بشرعية الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول وأجلوهم لما قاموا به من أعمال، وهذا ما قلدهم فيه معتدلة الشيعة
4
وبعض الخوارج.» إن هذا الاتجاه الوسط والأموي معا هو الذي أدى إلى توحيد قوى المفكرين، بحسب رأي نيبرج، في النصف الأول من القرن الثاني للهجرة لإسقاط الدولة الأموية، والعمل على إحلال ذرية علي محلهم، تلك الذرية التي اعتقد المتطرفون من المفكرين بأن النور الإلهي قد حل في آل الرسول، بل لإحلال العباسيين الذين يتميزون بالإضافة إلى حذقهم السياسي، بالحكمة الصائبة، والحكم الصحيح، ومهما يكن من أمرها فإن مذهب المعتزلة قد تبنته الخلافة العباسية منذ البداية حتى مجيء المتوكل
5
وهذا حق؛ فإن بساطة العقيدة لدى الخليفة الأموي من جهة، وكرهه للمذاهب المعقدة، وللمواقف العنيفة التي وقفها المعتزلة من القرآن وخلافة الرسول، وصفات الله من جهة أخرى، جعله يحارب أصحاب هذه الفكرة ومن إليهم.
أما الخلفاء العباسيون فقد كان الوضع عندهم غير ذلك؛ فإنهم أيدوا فكرة المعتزلة تأييدا صارخا، وأجبروا الناس على الاعتقاد بها، ولاحقوا أصحاب الأفكار المناوئة، منذ أيام المهتدي (198-218ه) الذي ضيق على كل أصحاب الميول المنحرفة عن مذهب أهل السنة وسمى عمر الكلواذي سنة 167 موظفا مخصصا لتعقيب الزنادقة والمتزندقة من راوندية وخرمية وبابكية للفتك بهم.
6
أما الراوندية:
ففرقة ظهرت في «راوند» بالقرب من «أصبهان» في عهد المنصور كانت تهدف إلى إحياء التقاليد الفارسية من دينية ودنيوية، وخلاصة مذهبهم أنهم يقدسون الملوك ويرفعونهم إلى مرتبة الآلهة، ويعملون على إباحة المحرمات، وقد زعموا أن المنصور هو إلههم، فلما بلغه ذلك تتبعهم وفتك بهم.
وأما المقنعة:
فهي حركة أخرى تشابه الراوندية، سميت بذلك نسبة لصاحب دعوتها «المقنع الخراساني» الذي اتخذ لوجهه قناعا من ذهب، وادعى الألوهية، وأسقط الصوم والزكاة والحج، وأباح أموال الآخرين ونساءهم، ودعا إلى تعاليم «مزدك» الإباحية، وقد فشا أمرهم في عهد المهدي مما اضطره إلى أن يشدد عليهم ويبيدهم.
وأما الخرمية:
فهي طائفة ترجع مبادئها إلى «مزدك» الإباحي أيضا، واسمهم مأخوذ من كلمة «خرم دينان» الفارسية، ومعناها الدين الفرح، وقد مزجوا بين تعاليم الإسلام والمزدكية، من تناسخ، واشتراكية في المال والنساء، والحلول، ومن زعمائهم خداشي الخرمي.
وأما البابكية:
فنسبتهم إلى بابك، وقد كانت حركة من أخطر حركات العقائدية التي قامت في إيران أيام العباسيين، وهي استمرار للحركة الخرمية،
7
والحق أن هذه الحركات كان لها غرضان رئيسان هما: هدم الإسلام أولا، وإرجاع الملك إلى الفرس ثانيا كما فصلناه في تاريخ العصر العباسي الأول من كتابنا هذا، وقد كانت حركتا الإسماعيلية والقرامطة في هذا العصر حركتين لهما تأثير كبير؛ فلذلك خصصناهما بالبحث. (2-2) الإسماعيلية
كان من نتائج الانحلال الذي منيت به الدولة في هذا العصر ظهور حركة الشيعة الإسماعيلية التي ابتدأت بالظهور منذ أوائل القرن الثاني للهجرة وقويت في القرنين الثالث والرابع واستمرت إلى ما بعد، حتى أيامنا هذه.
ولعل الأسباب التي مكنت تلك الحركة من الظهور يمكن إجمالها في النقاط العشرة التالية: (1)
ضعف سلطان الخلافة العباسية وتقلص نفوذها الزمني والديني تقلصا واضحا عن كثير من أجزاء المملكة. (2)
فشل «آل علي» في الوصول إلى الخلافة التي كانوا يأملون في الوصول إليها بعد انقضاء عهد آل أمية، ويبينهم خداع «العباسيين» لهم وعدم إعطائهم حقهم. (3)
فشل العناصر غير العربية في الوصول إلى أهدافهم التي أملوا الوصول إليها في عهد الدولة الجديدة، بعد أن عملوا على هدم الدولة الأموية أملا في أن يعيدوا نفوذهم القديم. (4)
خيبة آمال تلك العناصر غير العربية في الحكم العربي الذي لم يمكنهم، في العهد الأموي ثم في أوائل العهد العباسي، من استعادة تقاليدهم وسلطاتهم التي كانت لهم قبل الإسلام. (5)
انتشار الترجمة والتدوين وإحياء ذكر الحضارات والعقائد القديمة التي أحيت الغرور القومي عند الأمم المفتوحة غير العربية. (6)
انتشار الفلسفات القديمة، وبخاصة الفلسفتان اليونانية والسريانية، انتشارا جعل الناس يفتحون عيونهم وقلوبهم لمناقشة ما جاء به الإسلام والتطلع إلى آفاق جديدة بعيدة عن بساطة الإسلام. (7)
البعد عن روح الإسلام الحقيقية السمحة بانتشار الإسرائيليات والخرافات الفارسية وغير الفارسية، مما جعل العامة تتقبل بسهولة كل فكرة روحية غريبة. (8)
تدخل الخلافة تدخلا عمليا في عقائد الناس ومحاسبتهم عليها، والتضييق على من يعلن زندقة أو هرطقة أو انحرافا عن المذهب الرسمي للدولة وهو الإسلام وطريقة أهل السنة والجماعة، وخاصة حين أخذ المهدي والهادي يضيقان على الناس في محاسبتهم على عقائدهم، أو حين أخذ المأمون يحاسب الناس على عدم اعتناق مذهب المعتزلي القائل بخلق القرآن وغير ذلك، وبإنشاء «ديوان المحنة» لامتحان من أنكر تلك العقيدة. (9)
تبدل المجتمع الإسلامي من مجتمع زراعي وتجاري ساذج إلى مجتمع زراعي وتجاري معقد، ووجود طبقة أرستقراطية مالية، سواء أكان أهلها عربا أو موالي، وقد أحست الطبقات الفقيرة العاملة، من موالي وعرب، بالبؤس المحيط بها من جهة، كما أحس الأغنياء، من موالي وعرب بوجوب اتحادهم حماية لمصالحهم؛ فلذلك حصلت التكتلات من الجانبين، وكان لهذه التكتلات أثرها الواضح في الحركات العقلية والاجتماعية التي ترمي إلى توحيد أهداف المتذمرين على اختلاف نحلهم وعقائدهم وعناصرهم. (10)
تعقد الحياة، وظهور المغالاة في كل شيء من نواحيها؛ فبعد أن كانت في العصر الأموي عربية ساذجة، تعقدت في العصر العباسي جدا وبدا الغلو في كل شيء.
ولقد كان من نتائج هذه الأسباب أن نشأت في البيئة الإسلامية فئة من الرجال اتخذت ذلك ذريعة للقيام بحركة سترتها بفكرة «الانتصار لحق آل علي» واتخذتها وسيلة للدعاية لفكرتها، وقد اتخذ هؤلاء الرجال مدينة الكوفة مقرا لبذر فكرتهم؛ لأنها كانت مركزا فكريا وسياسيا تجمعت فيه الثقافات القديمة من كل صوب، وكل نوع، ولأنها كانت مقر نفر من الأئمة العلويين الذين أحيطت أسماؤهم بكثير من الروايات المتعلقة بمثل هذه الحركات في القديم، ويظهر أنه يمكن تقسيم العلويين الذين قامت حولهم هذه الحركات إلى فريقين: (1) فريق الحنفية. (2) فريق الحسنية والحسينية.
أما الحنفية:
فنسبتها إلى الإمام محمد بن الإمام علي (عليه السلام) المعروف بابن الحنفية، ويذكر المؤرخون وأرباب الفرق أن المختار الثقفي حين قام بحركته الثورية في الكوفة سنة 66ه/685م ادعى أن ابن الحنفية هو «المهدي المنتظر»، وعلى الرغم من القضاء على المختار وموت ابن الحنفية؛ فإن الحركة الشيعية المهدية الحنفية انتشرت بسرعة بعدهما وانقسم أربابها بعدها فرقا ثلاثا، قالت «أولاها» إن الإمام لم يمت بل اختفى، وإنه سيعود ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وقالت «الثانية»: إنه عهد إلى ابنه أبي هاشم للأمر من بعده، ثم انقسموا إلى فرق؛ «فرقة» قالت إن أبا هاشم أوصى إلى أخيه علي بن محمد، وإن عليا هذا أوصى بالإمامة إلى بني العباس. و«فرقة» قالت إنه أوصى إلى عبد الله بن معاوية من آل علي. وقد اختفت الحركة الحنفية وأربابها بعد أن سيطر العباسيون على الحكم لأنهم ضيقوا عليهم وخنقوا أصواتهم.
وأما الحسنية، الحسينية:
فنسبتها إلى الإمامين «الحسن» و«الحسين» ابني علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد ثار من ذريتهما جماعات على الخلافة منهم: زيد بن علي المعروف بزين العابدين، وولداه يحيى وعيسى من أئمة الفرقة الزيدية التي ما تزال في اليمن، ومنهم محمد بن علي بن زين العابدين، الذي نادى بنفسه إماما وتبعته جماعات، منهم أبو منصور العجلي زعيم الفرقة المنصورية التي لاحقها يوسف بن عمر الثقفي، وقتل زعيمها أبا منصور سنة 125ه، ولما مات الباقر افترق أتباعه إلى فرق لا مجال لتعدادها، ومنهم محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي المعروف بذي النفس الزكية الذي أعلن أنه هو المهدي، ولم تكن سنه يومئذ تجاوز التاسعة عشرة، وقد حبذ له هذه الدعوة المغيرة بن سعيد العجلي ، ولما مات محمد ادعى المغيرة أنه قد غاب وأنه سيرجع، وقد كذبه الإمام جعفر الصادق ورفض هو وأتباعه مؤازرة الداعين إلى هذه الفكرة وقالوا إن الإمامة لجعفر، وكان من أبرز أتباعه رجل اسمه أبو الخطاب أو محمد بن أبي الخطاب، مؤسس الفرقة الخطابية، والتي تعتبر أول حركة باطنية قوية، وقد كان أبي الخطاب داعية لمحمد الباقر ثم لجعفر الصادق، وقد غلا في دعوته لهما، وزعم أن جعفرا قد جعله وصيه من بعده، ثم زعم أنه (أي جعفر) إله ونبي، فأحل المحارم، وقال بالتقية وأول آيات القرآن، فقال: إن الجنة والنار والصلاة والصوم ما هي إلا أسماء رجال بعينهم، وقال بنظرية «النور» و«التناسخ»، ولما قتل ابن أبي الخطاب سنة 138 تحول أصحابه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، حتى تبرأ جعفر الصادق من ابنه إسماعيل ومن أبي الخطاب
8
ولما مات جعفر الصادق سنة 148 انقسم أصحابه إلى ثلاث فرق: (1)
فرقة الناووسية التي زعمت أنه لم يمت وأنه سيرجع. (2)
الاثنا عشرية، وهم أتباع ابنه موسى الكاظم، وهم المعتدلون منهم. (3)
الإسماعيلية: وهم القائلون بإمامة ابنه إسماعيل ثم ابنه محمد بن إسماعيل.
وقد نظرت المصادر السنية والاثنا عشرية إلى إسماعيل نظرة استخفاف؛ لأنه لم يكن في نظرهم على جانب من الاستقامة والأمانة والنبل،
9
أما المصادر الباطنية والإسماعيلية فإنها رفعته إلى مرتبة الألوهية، وقالت: إن خليفته من بعده هو ميمون القداح، وقد اختلفت المصادر السنية والشيعية والباطنية أيضا في أمر خليفته ميمون هذا وابنه عبد الله؛ فالمصادر السنية تقول: إن ميمونا القداح هو ابن رجل ثنوي ديصاني، وأنه من أصحاب العقائد الغالية التي تكيد الإسلام، وأنه لما مات خلفه ابنه عبد الله الذي كان شرا من أبيه لسعة اطلاعه على الأديان وقوة مكره، وبراعته في الدس، وقد ادعى النبوة واستعمل الشعوذات وأباح المحرمات، وأنه اتخذ سلمية آخر مقر له، وأنه كان يدعو في الظاهر إلى مذهب محمد بن إسماعيل وهو في الباطن يدعو إلى هدم الإسلام.
10
وأما المصادر الشيعية فتقول: إن ميمونا كان راوية جعفر وتلميذه الروحي، وأن ابنه عبد الله كان من المحدثين الثقات والمجتهدين، وأنهما لم يكونا ديصانيين ولا ثنويين أو ما شابه ذلك كما يقول أهل السنة.
11
وأما المصادر الإسماعيلية المعروفة إلى الآن، فلا تعطينا صورة واضحة عنهما لفقدان المصادر الإسماعيلية الكافية، وإنما يعثر الباحث على معلومات عنهما في بعض الكتب السنية أو الكتب الدرزية التي استطاع الباحثون اكتشافها في الآونة الأخيرة، وهي تقول: إن محمد بن إسماعيل هو الناطق السابع، وأن ميمونا القداح هو أساسه،
12
والحق أن القداح قد غمض أمره، واختلفت الروايات فيه اختلافا يصعب تفهم وضعه معه على الرغم من المعلومات المفيدة التي نجدها في مخطوطة «الفرق الإسلامية» المخطوطة في خزانة الأوقاف ببغداد.
13
أما العقيدة الإسماعيلية فمستورة مخفية؛ ولذلك قل العارفون بخفاياها من الباحثين، سواء في ذلك المتقدمون أو المتأخرون، إلا أنه يمكن إجمال المعلومات المعروفة عنها بالنقاط الست الآتية: (1)
إن المذهب الإسماعيلي هو مذهب شمولي في العقيدة
Inter Confessionalism
وهو مذهب متسامح لا يحارب العقائد مزدكية أو مانوية أو صابئية أو نصرانية أو يهودية، أو إسلامية مخالفة لهم. (2)
إن المذهب الإسماعيلي هو مذهب اشتراكي في الأموال، وقد ذكر لنا الكاتب الفارسي الإسماعيلي ناصر خسرو
14
الذي زار البحرين في القرن الخامس للهجرة بعض أحوال الإسماعيلية الذين زار عاصمتهم الأحساء، فرأى عندهم نظاما يشبه النظام الاشتراكي. (3)
إن المذهب الإسماعيلي - على اختلاف فرقه - من قرامطة وسبعية وتعليمية وغيرها، مذهب باطني، أي إن لكل ظاهر عندهم باطنا مستورا، ولكل تنزيل تأويلا، وأن جميع ما استعبد الله به عباده مما ظهر في الكتاب والسنة، إنما هو أمثال مضروبة تحتوي معاني باطنية، عليها العمل
15
وأن هذا الباطن لا يعرفه إلا عدد قليل هم الأئمة المعصومون ومن يعلمونهم بذلك. (4)
إنهم يقسمون تاريخ البشرية إلى حلقات نبوة عددها سبعة، وإن العقل الكلي يتجسد بين حين وآخر في شخص بعينه يعرف ب «الناطق» يخلف هذا النبي الناطق سبعة أئمة يعرف كل واحد منهم ب «الصامت»، وكل نبي يعلم الناس الحقائق الروحية اللازمية لسيادتهم وهدايتهم بشكل أكمل مما كان عليه سلفه، كما يقضي بذلك نظام التطور الكوني، وإن آخر حلقة نبوة هي حلقة محمد بن إسماعيل، وهو خاتم الأنبياء.
16 (5)
إن الأئمة لا يكونون ظاهرين أبدا، بل منهم من يظهر ومنهم من يستتر؛ ولهذا نجد سلسلة من الأئمة المستورين بين «محمد بن إسماعيل» وبين «ظهور الأئمة الفاطمية»، ولكنه لا بد من وجود دعاة ظاهرين يبشرون بدعوة الإمام المستور، أما الأئمة المستورون فهم صنفان: صنف من أبناء علي جسمانيا، وصنف من أبنائه روحانيا وهم القداحون وإليك رسم شجرتي النسب نقلا عن الأستاذ المستشرق برنارد لويس:
17
وفكرة تقسيم المستورين إلى مستقرين ومستودعين نجدها عند لويس، ولكن مستشرقا آخر هو الأستاذ إيفانوف ينقدها ويفسدها إفسادا لا مجال لذكره هنا،
18
وقد ناقش رأيهما الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه «دراسات عن العصور العباسية المتأخرة»
19
مناقشة قيمة فارجع إليها إذا شئت. (6)
يذهب مؤرخو الفرق الإسلامية القدماء إلى أن المذهب الإسماعيلي مذهب ثنوي، فيقول البغدادي: «وذكر علماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس، فالإله هو الأول والنفس هي الثاني، وهما مدبرا هذا العالم، وسموها «الأول» و«الثاني»، وربما سموها العقل والنفس، وقولهم إن «الأول» و«الثاني» يدبران العالم هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث إلى صانعين أحدهما قديم، والآخر محدث، إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين ب «الأول» و«الثاني» وعبر المجوس عنهما ب «يزدان» و«أهرمن».»
قلت: وتتجلى هذه الآراء لمن قرأ رسائل إخوان الصفا.
وأهم ما يجب أن يلحظه دارس الحركة الإسماعيلية هو حسن تنظيمها من جهة، ثم ترتيب الدعاية لها من جهة ثانية؛ فقد كان «الداعي» يتظاهر بإحدى المهن من تجارة أو طب، أو كحالة أو نجارة، فإذا ما أحس ممن يدعون سكونا إليه وانصياعا، أظهر له زهده في الدنيا وتقواه، فإذا اطمأن إليه أكثر أمامه من حب الخير والإحسان إلى الفقراء، فإذا ازداد الاطمئنان إليه أخذ يحدثه عن آل الرسول والمظالم التي حاقت بهم، ولا ينسى بهذه المناسبة أن يستغل عواطفه وعقائده فيخاطبه بما يلائم ذلك
20
فإذا كان المدعو مسلما عظم له الإسلام، وأبان له ظلم آل علي، وإن كان نصرانيا أو صابئا أو يهوديا استدرجه بعقائده إلى أن يجعله يعتنق فكرته.
وقد جعل الدعاة دعوتهم وكتبهم درجات على حسب المدعوين وقواهم العقلية؛ «فكتاب البلاغ الأول للعامة، وكتاب البلاغ الثاني لنفر أفضل من هؤلاء قليلا، والبلاغ الثالث لمن دخل المذهب سنة، والرابع لمن دخل المذهب سنتين، والخامس لمن دخله ثلاث سنين، والسادس لمن دخله أربع سنين، والسابع فيه نتيجة المذهب والكشف الأكبر.»
21
ويظهر أنه بمرور الزمن اضطروا إلى جعل الطبقات تسعا بدلا من سبع
22
تسهيلا للدعوة وتقريبا للأذهان، وإليك خلاصة أحوال هذه الطبقات التسع: (1)
يبدأ الداعي دعوته ويحذر في عرض آرائه على المدعو لئلا يشوش، ويحاول إثارة روح السؤال، وطلب الإجابة بشكل يجعله يقتصر فيه (أي في الداعي) سعة التفكير ورحابة الصدر وسمو العقل، وأول ما يبدأه، هو تأويل الآيات، ومعاني القرآن ومسائل الشرع مبينا له أن لظواهر الشرع باطنا، وأن من تمسك بالظواهر هلك، ومن كان على الباطنيين نجا، وأن الناس لن يضلوا ما تقبلوا علم الباطن من الأئمة الذين بعث بهم الله لهداية البشر، وأن «إمام الزمان» وصاحبه هو ممثل الله وصاحب علمه، وأن على المدعو أن يقسم أغلظ الأيمان على ولائه التام لصاحب الزمان، وعدم إفشاء أسرار الدعوة، والإخلاص للإسماعيلية، ومقاومة خصومها، ودفع الضريبة المطلوبة، وتسمى هذه الطبقة «طبقة الأزرق»، أو «التفرس» أي التفرس في تعرف شخصية المدعو وقوة استعداده لتقبل الدعوة وأسرارها. (2)
يعلم المدعو أن رضا الله ودخول جنته لا يكونان بمجرد اتباع ظواهر أحكام الإسلام، بل لا بد له من معرفة علم الباطن من الأئمة المنصورين بحفظ الشريعة، وتسمى هذه الطبقة «طبقة التأنيس»؛ أي إن المدعو يعلم ما يأنس به إلى الدعوة. (3)
يجب أن يؤمن بأن الأئمة سبعة، وأن خاتمهم هو محمد بن إسماعيل الذي أحاط بعلم الله وسره، وتسمى هذه الطبقة «طبقة التشكيك»؛ إذ فيها يبدأ بغرس فكرة الشك في قلب المدعو وزعزعة عقائده السابقة. (4)
يعلم المدعو أدوار النبوات السبعة، وطبيعة النبي الناطق، والأئمة الستة الصامتين الذين خلفوه، وأن محمد بن إسماعيل خاتم الأنبياء، وتسمى هذه الطبقة «طبقة التعليق»؛ أي أخذ القسم. (5)
يجب على المدعو أن يعلم أسرار العددين «7» و«12»، والحجج الاثني عشر الذين يسيرون دعوة كل إمام، وأن هؤلاء الحجج منتشرون في جزر الأرض الاثني عشر، وتسمى هذه الطبقة «طبقة الربط»، وأظن أن القوم قد أخذوا فكرة تقديس «العدد سبعة» أيضا من الفيثاغورثية التي قدست هذا العدد، وهم يجعلون التجليات سبعة: (1) الله. (2) العقل. (3) النفس. (4) المادة الأساسية. (5) القضاء. (6) الزمن. (7) عالم الأرض والبشر. وربما أطلق اسم السبعية على الإسماعيلية نفسها، ويمكننا أن نلاحظ أنها قد استقت بعض أفكارها الفلسفية من الفلسفة الغنوصية القائمة إلى حد كبير على الفلسفة الأفلاطونية الحديثة. (6)
يعلم المدعو تفسير معاني الشريعة الإسلامية والمقصود من كلمات: صيام وصلاة وزكاة وحج وطهارة وغير ذلك، ويفهم معاني: الجنة والنار والعذاب، وأن الاكتفاء بظواهر هذه هو للعوام والجهلة، أما الخواص فإنهم يعلمون علم الباطن المراد منها، وهو علم لا يؤتاه إلا من اطلع على كتب الحكمة والفلسفة، وهنا يحثه الداعي على قراءة كتب الفلسفة القديمة والحكمة الصحيحة، وتسمى هذه الطبقة «طبقة التدليس». (7)
لا يبلغ الدرجة السابعة إلا الدعاة الذين أوتوا علم المذهب وأسراره، وفي هذه الدرجة معلومات تشبه المبدأ الثنوي، وهدم عقيدة التوحيد، وتسمى هذه الطبقة «طبقة التأسيس». (8)
يطلع فيها على تأويل بعض الكلمات كالقيامة والحشر أو الثواب والعقاب، والمعجزات، وتسمى هذه الطبقة «طبقة الخلع» ... (9)
هذه مرتبة الكمال، فإذا ما وصلها الإنسان أبيح له أن يفكر كما يشاء فيما يشاء، وأن يتبع أي مذهب بعينه، أو يخترع لنفسه مذهبا يرتئيه، وتسمى هذه الطبقة طبقة «المسخ» أو السلخ.
23 «وبعد»، فهذه معلومات عن هذه الطائفة الإسماعيلية استخلصناها لكم من المصادر السنية والشيعية والإسماعيلية والأوروبية القديمة والحديثة، ولكنها لم تبلغ بعد درجة التمام، وفيها كثير من النقاط التي تحتاج إلى المناقشة والشرح، ولكن ما العمل، والمصادر تعوزنا والمعلومات جد عزيزة، وأظن أن تفهم حقيقة هذه الحركة وأسرارها محتاج إلى زمن أطول يتمكن فيه من العثور على مخطوطات جديدة، تكشف المجهولات عن هذه الحركة وأسرارها. (2-3) القرامطة
الحق أن منشأ هذه الفرقة غامض، وأن المعلومات التي عندنا ناقصة جدا، وأن العلاقة بينها وبين الإسماعيلية مضطربة، وسنحاول استخلاص بعض الحقائق من المعلومات المعروفة إلى الآن.
24
يرى كثير من المؤرخين المسلمين القدماء ومؤرخي الفرق، وعلى رأسهم أبو عبد الله بن رزام (أو زرام) وهو مؤلف سني عاش في أوائل القرن الرابع للهجرة، ألف في العقائد الإسلامية كتابا قيما ضاع، ولكن نقلت لنا عنه بعض المصادر الباقية في كتب الفرق الإسلامية، أن حركة القرامطة والإسماعيلية من معدن واحد، وأن ميمونا القداح وابنه عبد الله اللذين رأينا أثرهما في الحركة الإسماعيلية هما اللذان لعبا دورا هاما في خلق مذهب القرامطة أيضا، وأن عبد الله لما صار إلى البصرة من الأهواز، أخذ يدعو لمحمد بن إسماعيل، وكان بصحبته رجل يدعى حسين الأهوازي، ولما طارده جنود العباسيين فر إلى «سلمية» واتخذها له مقرا، وأخذ يبعث دعاته منها إلى العراق، فأجابه رجل من أهل «الطالقان» في سنة 261ه اسمه حمدان بن الأشعث، ويلقب بقرمط، وأن قرمط هذا قد قوي أمره، وذاعت نحلته، فأجابه كثير، ومنهم رجل اسمه أبو سعيد الحسن بن بهرام الخبابي بالبحرين، هو الذي قام المذهب على يديه، حتى صارت البحرين مقر الدعوة ومركز الحركة.
أما كلمة «قرمط» التي نسب إليها القرامطة، فقد اختلفت الأقوال فيها؛ فالكتاب العرب يقولون إنها عربية من قولك: قرمط الرجل في مشيته، إذا قارب الخطوات
25
كما ذكر البغدادي (ص171)، وابن النديم (ص117 )، والسمعاني (ص448)، ويقول الباحثون من المستشرقين إن كلمة القرامطة غير عربية ويختلفون في مصدرها؛ فيرى إيفانوف أنها كلمة عراقية جنوبية وأنها مأخوذة من «كرامته أو كرموته»، وأنها عربت، فقيل: قرمط، ومعناها الفلاح أو القروي،
26
ويقول آخرون: إنها آرامية ومعناها «معلم» سري
27
ويقول آخرون: إن اللفظة نبطية، وأن «كرميته» معناها الأحمر العينين؛
28
لأن حمدان قرمط كان نبطيا من أهل السواد.
أما منشأ هذه الحركة وتطورها فخلاصة ما قيل فيه روايتان: (1)
أنه بعد وفاة عبد الله بن ميمون قام بالأمر بعده ابنه أحمد، وأن أحمد هذا بعث الداعي الحسين الأهوازي إلى الكوفة، وأنه لقي في طريقه، في منطقة النهرين من سواد الكوفة، حمدان قرمط ودعاه للمذهب فاستجاب، وأنزل الحسين في داره، فأقام هذا يدعو الناس فاستجاب له أهل المنطقة، وكان يعيش من الحياكة وحراسة البساتين، ولما حضرته الوفاة عهد بالأمر بعده إلى حمدان. (2)
أن رجلا متعبدا من أهل الأهواز قدم الكوفة، فأخذ يدعو لآل علي فأجابه كثيرون، وأنه كان يأخذ من كل منهم دينارا للإمام، ورتب للدعوة اثني عشر نقيبا من الأهلين، وفرض على أتباعه خمسين صلاة بدل الخمس، ثم أنه رحل إلى الشام ونزل في «سلمية» واستخلف حمدان قرمط.
ونخلص من هاتين الروايتين إلى أن الأهوازي قد استطاع أن ينشر دعوته في الكوفة وسوادها، وأنه عند وفاته أو سفره عهد بالأمر إلى حمدان الملقب بقرمط.
ويصف دي ساسي حمدان هذا بأنه كان رجلا ذا طموح وقريحة خصبة، وأنه قام بالدعوة بهمة وحماسة شديدة، وأنه كان لحركة الزنج من التخريب والفوضى والبؤس أثر كبير في نجاح دعوة قرمط، ويذكر الطبري (في التاريخ 1: 338) أن حمدان قد أراد التحالف مع صاحب الزنج حين قام بحركته، ولكن ذلك لم يتم بينهما، وقد اتخذ حمدان منطقة «كلواذي» مقرا لدعوته لتكون بين العاصمة بغداد من جهة، وبين إيران من جهة ثانية. وقد دخل في دعوة حمدان كثير من الأنباط السواديين، كما دخلها بعض الأعراب الذين خدعوا بالدعوة وظنوها دعوة علوية خالصة، وقد وفق حمدان إلى معاونين نشطاء أذكياء ساعدوه كثيرا على نشر دعوته، ومن أجلهم خطرا قريبه «الفقيه عبدان»
29
الذي ألف كتبا فقهية للحركة، وأبو سعيد الجنابي، الذي عهد إليه بالإشراف على الحركة في إيران، وقد نجح أبو سعيد في نشر فكرته وخصوصا حين ضرب على وتر أن الله قد كسر العرب؛ لأنهم قتلوا الحسين، وأحب الأكاسرة لأنهم طالبوا بحقوق الحسين، ولما وفق في نشر الدعوة في إيران وجهه عبدان إلى منطقة أخرى لنشر الدعوة، فذهب إلى البحرين ونجح نجاحا كبيرا كما سنرى ذلك.
وقد كان حمدان عاقلا حصيفا منظما، فوضع الأسس المنظمة للدعوة، وبخاصة التراتيب المالية، وقد ابتدأ سنة 277ه بأخذ ضريبة قليلة أول الأمر، سماها «ضريبة الفطر» على الرجال والنساء والأطفال، ثم ثنى بوضع ضريبة سماها ضريبة «الهجرة» وهي دينار على كل بالغ لإنشاء «دار الهجرة» التي ابتناها بجوار الكوفة،
30
ثم ثلث بوضع ضريبة سماها ضريبة «البلغة» وقدرها سبعة دنانير يدفعها كل من أراد الاشتراك في عشاء المحبة.
وقد عظم عدد أتباعه، وكان أكثرهم من الأنباط، الفلاحين والصناع والبدو الأعراب، ولما قوي سلطانهم أخذ يبث فيهم روح الثورة على مخالفيهم في العقيدة وقتل من لا يقبلها، وقد أباح المحرمات لأتباعه وأسقط عنهم الفروض الشرعية، ودفع بهم إلى الانطلاق والثورة، واستطاع بالمبادئ الاشتراكية في المال أن يسيطر على قلوبهم. ولم تكن تلك الحركة حركة سلمية، بل كانت تدعو إلى الثورة وحمل السلاح في وجه الدولة، ويظهر أن أول حملة مسلحة قاموا بها كانت في سنة 284ه وقد أحست بغداد بخطورة الحركة وقوتها، فبعث الخليفة إليها من يقف في وجهها ولكنه لم ينجح؛ لأن بغداد نفسها كانت تحتوي عددا كبيرا من أنصار الحركة ومؤيديها.
31
وفي سنة 287 قاموا بحركة قوية مسلحة في جنبلا بين واسط والكوفة، ويذكر الطبري أنهم: قتلوا من المسلمين جمعا فيهم النساء والصبيان وأحرقوا المنازل،
32
وفي السنة نفسها هاجم الحنابي البصرة، فأرسل الخليفة المعتضد جيشا بقيادة العباس بن عمرو الغنوي فتغلب عليه الجنابي وأسره وفتك بجنده، ثم سار إلى هجر، وفي سنة 288ه ثاروا في الكوفة، وتمكن جيش الخليفة من أسر أحد رؤسائهم وهو المدعو بأبي الفوارس وقتله، وقد حفظ لنا ابن الأثير محاورة جرت بين أبي الفوارس هذا وبين الخليفة المعتضد، قال له المعتضد: هل تزعمون أن روح الله تعالى وأرواح أنبيائه تحل في أجسادكم، فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل؟ فقال للخليفة: يا هذا، إن حلت روح الله فينا فما يضرك، وإن حلت روح إبليس فما ينفعك، فلا تسأل عما لا يعنيك وسل عما يخصك. فقال له الخليفة: ما تقول فيما يخصني؟ قال: أقول إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مات، وأبوكم العباس حي، فهل طالب بالخلافة أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك؟ ثم مات أبو بكر فاستخلف عمر وهو يرى موضع العباس ولم يوص إليه، ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة أنفس، ولم يوص إليه، ولا أدخله فيهم، فبماذا تستحقون أنتم الخلافة؟ وقد اتفق الصحابة على دفع جدك عنها ... فأمر الخليفة به أن يقتل فورا فقتل،
33
ويذكر المسعودي: أن أبا الفوارس وعد أصحابه بالرجوع بعد أربعين يوما، وأن العامة كانت تتجمهر لتشهد ذلك اليوم، وأن رجال الشرطة ببغداد كانوا يفرقونهم.
وفي سنة 316ه سار أبو طاهر سلمان بن أبي سعيد الجنابي إلى جهة البصرة فوصلها وفتك بأهلها ونهب المدينة، ثم خرج متوجها إلى طريق الحج ففتك بالحجاج وأسر عددا كبيرا من وجوههم وساقهم إلى هجر، وكتب إليه الخليفة المقتدر يطلب إليه أن يطلق الأسرى، فأطلقهم، وطلب ولاية البصرة، فلم يجبه الخليفة، فتوجه إلى الكوفة وفتك بأهلها، ووقعت وقائع بينه وبين جيش بغداد فقهره، وبلغت أخباره بغداد فخاف أهلها من فظائع القرامطة وقسوتهم، ثم سار أبو طاهر إلى الأنبار فدخلها وسيطر على الجزيرة، ودخل قسم كبير من أهلها في نحلته.
وفي سنة 317ه سار أبو طاهر بجنده إلى مكة فوافاها يوم التروية، فنهب الحجاج واقتلع «الحجر الأسود» وأنفذه إلى هجر، وأخذ الكسوة وحليها وملأ المسجد الحرام بالقتلى، فضج العالم الإسلامي لذلك، حتى إن المهدي عبيد الله العلوي كتب إليه ينكر عليه ذلك ويلومه ويقول له: «قد حققت على شيعتنا ودولتنا اسم الكفر، وإن لم ترد على أهل مكة ما أخذت منهم، وإن لم ترد الحجر الأسود فأنا بريء منك.» وفي سنة 322ه أرسل محمد بن ياقوت رسولا إلى أبي طاهر يدعوه إلى طاعة الخليفة ليقره على ما بيده من البلاد على شريطة أن يرد الحجر الأسود، فلم يأبه لذلك، ومنع الحجاج من الذهاب إلى مكة وظل على فساده إلى أن هلك ودفن بالكوفة، وقد ظل الحجر الأسود بعيدا عن مكة قرابة ثلاثين سنة في عاصمتهم بالأحساء.
وفي سنة 291ه نسمع لأول مرة عن القرامطة في الشام؛ فالمؤرخون يذكرون أن أحد دعاة قرمط واسمه زكرويه بن مهدويه (زكريا بن المهدي الكوفي)، استطاع إغواء بني كلب فأجابه بعض بطونها إلى اعتناق المذهب وبايعوا يحيى بن زكرويه الذي زعم لهم أنه محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فسار بهم حتى بلغ الرصافة، ففتكوا بها وأحرقوا مسجدها، ثم دخلوا الشام وكانت إذ ذاك تابعة لخمارويه بن أحمد بن طولون وكان نائبه فيها طغج بن جف، فاشتبك معهم، ولكنهم استطاعوا أن يقهروا جيشه ويحاصروا دمشق وابتدأ أمرهم يشتد في الشام.
34
وفي الوقت الذي أخذ أمر القرامطة يشتد في الشام، نجده قد أخذ يضعف في العراق؛ فإن زعيمهم في العراق، وهو حمدان قرمط، قد أعلن انفصاله عن حركة القداحي في سلمية؛ لأنه أخذ يلاحظ لديه تعابير غير مألوفة في رسائله، فساوره الشك في أمره، وأرسل عبدان ليتحرى له الأمر، فلما وصل عبدان إلى سلمية وجد أن أحمد بن عبد الله القداحي قد مات، وأن ابنه حسين قد حل محله، وأن حسينا لا يدعو لمحمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان، وإنما يدعو لأبيه عبد الله القداح، فأدرك عبدان أن القداحين إنما هم قوم خداعون اتخذوا اسم الإمام محمد بن إسماعيل ذريعة للدعوة إلى أنفسهم، ولما علم حمدان قرمط بالأمر، جمع الدعاة وأخبرهم الخبر فقطعوا صلتهم بسلمية.
يروي المستشرق المحقق دي خويه «أن انفصال حمدان وعبدان كان نتيجة للاختلاف بين عبيد الله المهدي الفاطمي وداعيته أبي عبد الله الشيعي، وأن المهدي لما علم أن الداعية عبد الله الشيعي قد شك في شخصية المهدي وأخذ يتآمر ضده أمر بقتله، وكتب إلى أتباعه في المشرق أن عبد الله الشيعي قد ضل فطهره بالسيف، وأن حمدان وعبدان قد فهما من هذه الحادثة، أن المهدي ليس إلا رئيس أصحاب الدعوة المعروف بسعيد عبيد الله الذي هرب من سلمية ... وأن قصة الإمام المستور قصة قد خدعا بها؛ فلذلك انفصلا عن الدعوة، وتلا ذلك اختفاء حمدان الغريب، ومقتل عبدان، وأن مقتل عبدان واختفاء حمدان ربما كانا من تدبير عبيد الله المهدي.»
35
ولا شك في أن الحركة القرمطية قد فقدت كثيرا من نشاطها وحيويتها بعد انفصال حمدان عنها؛ فقد انتقلت الحركة إلى الشام بزعامة زكرويه الذي كان ذا مواهب عديدة وذكاء وهيبة، ولكنه مات عاجلا، فخلفه أبناؤه: يحيى، وأبو القاسم محمد، وأبو العباس الحسين، وأبو الفضل محمد الأصغر، وكانت الزعامة لأكبرهم، وهو يحيى، الذي ادعى أنه من نسل الإمام محمد بن إسماعيل وأنه صاحب معجزات، وإن له لآيات، وذكر أنه كان إذا أشار بيده إلى ناحية من النواحي التي فيها محاربوه انهزم أهل تلك الناحية فاستغوى بذلك الأعراب.
36
وقد قوي أمر القرامطة في عهده، ولما مات خلفه أخوه الحسين المشهور بصاحب الشامة، لشامة كانت في وجهه ادعى أنها آيته، وادعى أنه أحمد بن عبيد الله بن محمد بن إسماعيل، وأنه المهدي المنتظر، وقد اشتدت سيطرته في بلاد الشام، فبعث إليه الخليفة المكتفي سنة 290ه بجيش قائده أبو الأغر ففتك بجيش الحسين في وادي بطنان قرب حلب، ثم توجه الحسين إلى دمشق فصالحه أهلها على خراج يدفعونه إليه، ثم افتتح حمص وحماة والمعرة وسلمية التي كانت مقر القداحين وفتك بكافة أهلها حتى الأطفال، وضاق أهل الشام به، فاستنجدوا ببغداد، فبعث إليهم المكتفي القائد محمد بن سليمان الكاتب، على رأس جيش كبير، التقى بالقرامطة بين حماة وسلمية، فتفرق القرامطة وهرب أبو الشامة أول الأمر، ثم أسر وجيء به إلى بغداد، فقتل شر قتلة.
37
ثم خلفه أخوه أبو الفضل محمد الأصغر، فجمع جماعته وأخذ يغير على مدن الشام، وعاث في فلسطين فسادا، ثم دخل الصحراء بعد أن اضمحل أمره في الشام، وهكذا أخذت الحركة القرمطية تضمحل في الشام شيئا فشيئا.
ويمكننا أن نجمل ما عثرنا عليه فيما بقي من الآثار القرمطية أن عقيدتهم تدور حول النقاط الأربع الآتية: (1)
تنظيم أحوال الفلاحين وأرباب الصناعات الصغيرة ورفع مستواهم وتنظيم أمورهم المالية وتعاون بعضهم مع البعض الآخر، وإيجاد نقابات لهم. (2)
الانعتاق من قيود الدين الإسلامي وتقاليده . (3)
الانعتاق من فكرة النبوات على العموم. (4)
نشر الفلسفة المانوية واليونانية وما إليها، والاكتفاء بفكرة الإمام المستتر مما نجده واضحا في «رسائل إخوان الصفا» و«الرسالة الجامعة» للمجريطي.
38
وصفوة القول أن حركة القرامطة، حركة قامت في بيئة معينة لأسباب اقتصادية واجتماعية وعقلية، واتخذت المبادئ الاشتراكية سببا لتعميم نشاطها، ولكن لم يكتب لها الفوز لأن عمدتها كانوا بدوا مخربين.
الفصل الخامس
الوضع الإداري والوزاري
كان الوضع الإداري والوزاري في عصر الانحلال هذا متقلقلا مضطربا تبعا للاضطراب العام في الدولة؛ فالخلافة ضعيفة، والناس في فوضى، وأصحاب الأغراض والمطامع يعملون في الخفاء على زعزعة أركان الدولة وتجزئتها، والقواد والوزراء وأصحاب الدواوين يتنازعون الأمر فيما بينهم، وقد تقدم الكلام في الفقرة الخامسة من الفصل الثالث، وفي الفقرتين الخامسة والسادسة من الفصل الرابع في الكتاب الأول من هذا الجزء عن شيء من هذه الفوضى الإدارية والوزارية، ونريد هنا أن نبين نبذة عن الوزراء وأعمالهم الإدارية وأحوالهم في خلال تلك الفترة؛ أي منذ عهد المتوكل إلى آخر زمن المقتدر. (1) عهد المتوكل
ابتدأ التصادم بين سلطة الخليفة ووزيره منذ عهد المعتصم؛ فقد ولى المعتصم وزارته لكاتبه قبل الخلافة، الفضل بن مروان، فتسلط هذا على الخليفة وعلى أموره كثيرا، قال صاحب كتاب «العيون والحدائق بأخبار الحقائق»، ص17: «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم صار الفضل هذا صاحب الخلافة والأمر والنهي والدواوين بحكمه.» ولم يكن الفضل سوى عامي لا علم عنده ولا معرفة، وكان رديء السيرة جهولا بالأمور،
1
ولما غضب عليه الخليفة وزر له أحمد بن عمار، وكان طحانا غنيا جاهلا بآداب الوزارة، قال عنه ابن طباطبا: «مكث مدة في وزارة المعتصم حتى ورد كتاب من بعض العمال يذكر فيه «خصب الناحية وكثرة الكلأ» فسأل المعتصم أحمد بن عمار عن «الكلأ»، فلم يدر ما يقول، فدعا محمد بن عبد الملك الزيات، وكان أحد خواصه وأتباعه، فسأله عن «الكلأ» فقال: أول النبات، يسمى بقلا، فإذا طال قليلا فهو الكلأ، فإذا يبس وجف فهو الحشيش. فقال المعتصم لأحمد: انظر أنت في الدواوين، وهذا يعرض علي الكتب. ثم استوزره، وصرف ابن عمار صرفا جميلا. وقد أعاد الزيات للوزارة عهدها الزاهر لفضله وعقله، ولكنه كان جبارا فظا مبغضا إلى الناس، وزر للواثق والمتوكل بعد المعتصم، وكانت خاتمته من أفجع الخواتم، وخلفه في الوزارة محمد بن الفضل الجرجرائي، وكان شيخا ظريفا منصرفا إلى الأدب والغناء مشهورا بهما، ولما ضاق الناس به وبلهوه عزله الخليفة وقال: ضجرت من المشايخ فأريد حدثا. فاستوزر عبيد الله بن خاقان، وكان كاتبا حاسبا، إلا أنه كان مخلطا كثير العيوب، ولكن كرمه غطى على ذلك، وفي عهده حسنت الصلات بينه وبين القادة، للتركية التي تجمع بينهما، ولما قتل الخليفة اجتمع الجند الأتراك على بابه، وحرسوه من أن يصيبه أي أذى.»
2 (2) عهد المنتصر
كان عهده قصيرا كثير الاضطرابات، ومنذ عصر هذا الخليفة ضاعت هيبة الخلافة، واضطرب حال الوزارة بين الخليفة الضعيف والقائد المتسلط، وكانت الوزارة في الغالب إلى جانب الخلافة ضد القيادة، وكانت الخصومة قوية بينها وبين القيادة حتى كادت - أي الوزارة - أن تزول بعد زمن المتوكل إلى زمن المعتمد، أما في عهد إمرة الأمراء، فقد أصبحت كالخلافة، لا سلطان لها ولا شأن.
وزر للمنتصر كاتبه قبل الخلافة أحمد بن الخصيب، وكان أحمد هذا سخيفا مطعونا في عقله، طائشا أحمق، إلا أنه كان ذا مروءة ولم يكن بالرجل الصالح لتولي هذا المنصب. (3) عهد المستعين
ظل ابن الخصيب وزيرا له ثم عزله ، وولى أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وكان أديبا عاقلا فاضلا، وكانت أجوبته وتوقيعاته من أحسن التوقيعات، فانضبطت الأمور بعض الشيء بعد فسادها، وحسنت أحوال البلاد، ولكن القادة الأتراك ضاقوا به ذرعا، فتهددوه بالقتل فهرب. ثم اضطربت الأحوال وخلا منصب الوزارة فترة لا يجرؤ واحد على توليه، كان المستعين يستكتب خلالها تارة محمد بن الفضل الجرجرائي، وتارة شجاع بن القاسم، ولكن أحدا لم يتسم باسم الوزارة. (4) عهد المعتز
كان عهده عهد فوضى وفتن، استولى الجنود الأتراك فيه على كل شيء، وخلا منصب الوزارة، ممن يحتله أول الأمر، ثم عهد إلى أبي الفضل جعفر بن محمود الإسكافي بالوزارة، وكان هذا عاميا جاهلا ولكنه كان يستميل الناس والأجناد بالعطايا والأموال، ثم إن المعتز عزله وولى عيسى بن فرخان شاه، ولم تكن له ميزة سوى الكرم، وظل في الوزارة حتى غضب عليه الأتراك، فعزله الخليفة، وولى أبا جعفر أحمد بن إسرائيل الأنباري، وكان ذكيا فاضلا حاذقا مدبرا، أحسن تصريف الأمور، فلم يعجب الأتراك، فأخذوه واستصفوا أمواله، فشفع فيه المعتز وأمه إلى متقدم الأتراك صالح بن وصيف، فلم يلتفت إليهما وحبسه وضربه، وظل مسجونا أيام المهتدي. ولما فعل بأحمد بن إسرائيل ما فعل عاد المعتز فولى الإسكافي من جديد. (5) عهد المهتدي
أبقى المهتدي أبا الفضل الإسكافي في وزارته ثم استبدله بسليمان بن وهب وهو من أسرة نصرانية نبيلة، حذقت في الدواوين، وكان أديبا نابغا في الكتابة والأدب وحسن الحظ، قال ابن طباطبا (في الفخري، ص218): «كان أبو أيوب سليمان بن وهب، أحد كتاب الدنيا ورؤسائها فضلا وأدبا وكتابة في الدرج والدستور، وأحد عقلاء العلم وذوي الرأي، وكان بنو وهب من رؤساء الناس وحذاقهم وفضلائهم وكرمائهم، وكانت دولتهم ناضرة، والأدب في زمانهم قائم المواسم واضح المعالم.» وخلع المهتدي وهو وزيره. (6) عهد المعتمد على الله
كان أخو الخليفة أبو أحمد الموفق هو على المتولي الخلافة والوزارة، فكان يعزل من يريد من الوزراء، ويولي من يريد، ولما تولى المعتمد اتفقت الآراء على استيزار عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فضبط الأحوال وأحسن الإدارة إلى أن مات، فاستوزر المعتمد الحسن بن مخلد كاتب الموفق، فاجتمعت له وزارة المعتمد وكتابة الموفق، وكان الحسن أحد الكتاب الكبار قالوا: كان له دفتر صغير يحمله بيده فيه أصول الممالك ومحمولاتها بتواريخها، فلا ينام كل ليلة حتى يقرأه، ويتحقق ما فيه بحيث لو سئل في الغد عن أي شيء كان فيه، أجاب من خاطره بغير توقف، ولا مراجعة دستور، ثم إن المعتمد عزله وولى سليمان بن وهب، وكان عالما فاضلا، وفي عهده ذاع صيت آل وهب وسمت مكانتهم، ولكن لم يلبث أن عزل وولي أبو الصقر إسماعيل بن بلبل مكانه، وكان فاضلا جمع بين السيف والقلم، وحمد عهده حتى سمي الوزير المشكور، مدحه البحتري وابن الرومي، وسمت مكانته وذاع فضله، إلا أن المعتمد عزله واستصفى أمواله، ثم قتله، بإشارة أخيه الموفق، ثم طلب إليه تولية أحمد بن صالح بن شيرازد القطري بلي، مولاه، وكان أحمد أديبا فاضلا عارفا بصناعته، ولم يلبث في وزارته أكثر من شهر ثم مات سنة 266، فولي عبيد الله بن سليمان بن وهب، وكان فاضلا بارعا حاذقا استمر في وزارته إلى عهد المعتضد إلى أن مات سنة 288. (7) عهد المعتضد
وزر له عبيد الله بن سليمان، ولما مات عزم المعتضد على أن يستصفي أمواله، ويقتل أولاده، فجاء ابنه القاسم واستعان بالقائد بدر المعتضدي، وكتب على نفسه صكا بمليوني دينار، فاستوزره المعتضد، وكان القاسم من الدهاة الأفاضل الأذكياء الفضلاء، ولكنه كان جبارا سفاحا وهو الذي سم ابن الرومي، ومات المعتضد وهو وزيره. (8) عهد المكتفي بالله
لما مات المعتضد كان المكتفي بالرقة، فقام الوزير القاسم بأخذ البيعة للمكتفي بالله وكتب إليه كتابا أرسله مع البردة والقضيب، فحضر المكتفي وأقره على الوزارة ولقبه ألقابا فخمة، وظل في الوزارة على عهد المكتفي إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى الخليفة باستيزار العباس بن الحسن، فاستوزره، وكان أديبا داهيا ولكنه كان ضعيفا في الحساب، منصرفا إلى اللهو والملذات، وكان يقول لنوابه في الأعمال: أنا أوقع إليكم ، وأنتم افعلوا ما فيه المصلحة. وقد اضطربت الأمور في عهده، وساءت أحوال البلاد حتى قتل الخليفة. (9) عهد المقتدر
أقر المقتدر بالله العباس بن الحسن على الوزارة، ولكن الأجناد كانوا غير راضين عنه، فقتلوه، وساءت إدارة الدولة في هذا العهد جدا، من جراء السياسة الخرقاء التي اتبعها الخليفة في تعيين وزراء وعزلهم، فقد ولي الوزارة في عهده نحو اثني عشر وزيرا، وعزل بعضهم مرارا وأعيد.
وبعد، فنحن نرى من هذه النظرة الخاطفة إلى الوزارة أن الصفة الغالبة على أكثر هؤلاء الوزراء هي العسف والظلم والجهل وسياسة الدولة بالمكر والحيل، وأن من كان فيهم قويا نبيلا مخلصا في عمله، محبا لخليفته، مدبرا لدولته، حريصا على مصالح الأمة، قتلوه أو عزلوه، ومن كان منهم ضعيفا أو سخيفا أو ظالما متهتكا تركوه وساموا الرعية به.
وهكذا ساءت إدارة الدولة وفشت الرشوة والفوضى فيها، وعمت أسباب الانحلال، ولا أدل على ذلك من كلمة العباس بن الحسن لنوابه ورؤساء أعماله: «أنا أوقع وأنتم اعملوا ما فيه المصلحة.» وليست تلك المصلحة طبعا مصلحة الشعب ولا مصلحة الدولة، ولكنها مصلحة الوزير ومصلحة نوابه ومصلحة جيوبهم.
الفصل السادس
وضع الجيش ومشاهير القادة في هذا
العصر
كان المعتصم شجاعا محبا للجندية والأجناد، فأراد تقوية الجيش الذي أخذ يضعف بعد فتنة الأمين والمأمون، ورأى أن الأجناد من الأبناء الخراسانيين قد فسدوا وترفوا ولم يعد يثق بهم، وأن أفضل من يحل محلهم هم الأتراك الذين يسكنون المناطق الواقعة بين بلاد التبت والصين شرقا، وسيبريا شمالا، وبلاد الشعوب الفنلاندية الأوغرية غربا، وهم من الرجال الممتازين بحبهم للحرب والشجاعة، فعمد إلى تكوين جيش كبير منهم استعان به على القضاء على نفوذ الأبناء الخراسانيين، واستغنى به عن الجنود العرب إلا نفرا قليلا أبقاه خارج العراق في مصر واليمن، وانتخب كثيرا من الفراغنة والأشروسينية، فكثر بهم جيشه حتى أخذ يضايق أهل العاصمة، فعزم على اختطاط «سامراء» لتكون مقرا لهؤلاء الأتراك، والفراغنة والأشروسينية وهكذا كان، فكان المعتصم يسخو على هؤلاء الأجناد في العطاء والكساء، فيلبسهم الحرير والمناطق المذهبة ويرفع من أقدارهم، ثم تتابع الخلفاء من بعده، يتتبعون خطته، حتى قوي سلطان هؤلاء الأجناد، وكان منهم ما عرفنا ومن أشهرهم ذكرا: (1) الإفشين
حيدر بن كاوس، وهو تركي من أسرة أشروسنية عريقة تولى مصر والشام نيابة عن المعتصم وهو أمير، فلما استخلف عظمت مكانة الإفشين، وكان لنجاحه في القضاء على ثورة بابك الخرمي أثر محمود، كان سبب شهرته وإعطائه مكافأة عظيمة، وكان له ذكر في حملات المعتصم على عمورية حتى ملأ الغرور نفسه، وطمع بالملك والاستقلال في أشروسنة، ولما تحقق المعتصم ذلك منه حبسه، ثم صلبه وأحرقه، وقيل بل إنه مات صبرا. (2) إيتاخ
هو من أهل الخزر اشتراه المعتصم سنة 199ه وعظمت مكانته عنده حتى جعله جلاده، وأولاه إحدى الفرق التي حاربت في بلاد الروم مع الإفشين، وسمت مكانته في عهد الواثق حتى تولى الجيش والبريد والحجابة ودار الخلافة، وأخذ خطره يظهر في عهد المتوكل فقتله سنة 235ه. (3) أشناس
تركي، اشتراه المعتصم وقربه لشجاعته وولاه في غزوة عمورية لقيادة إحدى الفرق، فبرزت مواهبه العسكرية، ثم سماه أميرا على سامراء حين غادرها، وفي سنة 255ه، رفع قدره، وزاده سلطانا حتى أجلسه في حضرته على كرسي، كما يجلس أمراء آل العباس، وتوجه ووشحه، وأشرف على زواج ابنته «أترنجة» للحسن بن الإفشين، ودعا إلى عرسه أهل سامراء، وكان الخليفة يباشر بنفسه تفقد الحاضرين إلى العرس، وفي عهد الواثق زادت مكانته سموا حتى أنه توجه سنة 228 ووشحه وشاحي جوهر وضلع عليه لقب سلطان إلى أن مات سنة 230ه. (4) وصيف
هو غلام تركي اشتراه المعتصم وعظمت مكانته جدا، في أيامه، فلما مات أشناس خلفه وصيف، وقد كان بمقدور هذا الغلام أن يولي من يشاء الخلافة ويعزله، ولعب دورا هاما في استخلاف جماعته من العباسيين، ولما عظم خطره أراد المتوكل تقليم أظافره ومصادرة أمواله، فتآمر وصيف مع ابن المنتصر وقتله، وكانت له في فتنة المستعين والمعتز يد طولى أيضا. (5) بغا
هو من علماء المعتصم كان له ضلع كبير في مؤامرة قتل المتوكل.
هؤلاء نفر من أولئك الأتراك الذين سيطروا على البلاد ومواردها وأصبحوا كل شيء في الدولة، بينما ظل الخلفاء أشباحا لا رأي لهم، ولا يسمع لهم رأي إن أبدوه.
الفصل السابع
الوضع العلمي والثقافي في تلك الفترة
من عهد الانحلال
نشأت الحركة العقلية والعلمية القوية في العصر العباسي الأول، ونبغ في الإسلام طبقة من العلماء الأعلام، وضعوا أسس العلم الإسلامي، وصنفوا فيه التصانيف الرئيسية في كل فن من فنون العلم المعروفة وقتئذ من دين وأدب ولغة وعربية وفلسفية وحكمة وتاريخ، وكان من أعلام تلك الحركة وقادتها جماعة نذكر في مقدمتهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي والكسائي وسيبويه وأبا حنيفة النعمان ومالكا والأوزاعي، والحسن البصري، وأبا محنف لوط بن يحيى، وسيف بن عمر، ومحمد بن إسحاق، والحجاج بن مطر، وثابت بن قرة، وحنين، وأبا نواس، ومسلم بن الوليد، وبشارا وإبراهيم الموصلي وغيرهم، ممن تشهد آثارهم بفضلهم ومقدار جهدهم في وضع أسس البناء العقلي والعلمي والأدبي الإسلامي، ولؤلؤة هذه الفترة عصر المأمون، كما فصلناه في تاريخ «عصر الازدهار».
أما في الفترة الانحلالية التي نؤرخها فقد ظل النشاط العلمي والأدبي استمراريا مزدهرا، ولم يتأثر قط بالانحلال السياسي، وعلى الرغم من انفصال بعض أجزاء الإمبراطورية واستقلالها عن البلد الأم، كانفصال شمال الشام والموصل في عهد بني حمدان؛ فإن الحركة العلمية كانت قوية بل اعتبرت تلك الفترة من تاريخ الشام أزهر عصر علمي ثقافي رفيع، وصلت إليه، فكان بلاط أمير الحمدانيين سيف الدولة مألفا لأكابر علماء المسلمين وأدبائهم وشعرائهم وفلاسفتهم على ما فصلناه، وكذلك نقول في مصر أيام الطولونيين، وفي المشرق أيام السامانيين، وقد نبغ في العالم الإسلامي في تلك الحقبة من عصر الانحلال العباسي السياسي طبقة من المؤلفين في كافة فروع العلم لا تقل مكانة آثارها عن مكانة الطبقة التي وجدت في العصر العباسي الأول (عصر الازدهار) من حيث الثقة العلمية، وجودة التأليف، بل ربما فاقتها من حيث الإتقان التأليفي، وحسن جمع المعلومات وتبويبها، تبعا لنصوص التطور الزمني.
ففي علوم الحديث: نبغ الأئمة الستة: البخاري (256ه/892م)، ومسلم (261ه /875م)، وأبو داود (275ه/888م)، والترمذي (279ه/892م)، والنسائي (303ه/915م)، وابن ماجه (273ه/886م)، وغيرهم من الأئمة الذين وطدوا أركان الحديث النبوي وعلومه، وما تزال كتبهم إلى يومنا هذا هي المراجع الصحيحة الموثوقة الحافظة للإسلام ودينه وآدابه.
وفي الفقه والتشريع: نبغ أحمد بن حنبل (241ه/855م)، وداود الظاهري (815م)، وطبقة جليلة من تلاميذ أبي حنيفة النعمان، ومحمد بن إدريس الشافعي ومالك بن أنس والأوزاعي، فرعوا الفروع التي جاء بها شيوخهم، وصنفوا في ذلك تصانيف ما تزال إلى أيامنا هذه، المرجع الأسمى لمباحث التشريع والفقه الإسلامي.
أما في علوم الطب والحكمة والفلسفة، فقد ظهرت في هذه الفترة ثمرات الغرسة الطيبة التي بذرها المأمون، وخطا العرب في هذه الفترة خطوات في علوم النبات والحيوان والفيزياء، والكيمياء، والعقاقير، والأقرباذين، والعناية بأحوال الأطباء، والكحالين، والصحة العامة عناية مدهشة، على الرغم من ذلك الانحطاط السياسي، وهو أمر لم تبلغه أمة من الأمم السابقة فيما نعلم، يقول الأستاذ فيليب حتي، في كتابه: «تاريخ العرب المطول»، ص446 نقلا عن ابن أبي أصيبعة: «أوعز علي بن عيسى وزير المقتدر إلى سنان بن ثابت بن قرة الطبيب العالم، بأن ينفذ جماعة من الأطباء يطوفون البلاد ومعهم خزانة للأدوية والأشربة ويعالجون من يرونهم من المرضى، وأن ينفذ آخرين لزيارة المرضى في السجون، وتظهر لنا هذه المعلومات اهتمام أولياء الأمر بالصحة العامة، وهو أمر لم يكن معروفا في سائر العالم آنذاك.»
ولا بد لنا أن نذكر بعض من قاموا بتلك الحركة، فمن أئمة النهضة العلمية والحكمة في هذه الفترة: علي بن ربن (ربان) الطبري، صاحب كتاب «فردوس الحكمة»،
1
ومحمد بن زكريا الرازي (320ه/925م) الذي ألف للساماني منصور الكتاب المنصوري، ويعقوب بن إسحاق الكندي الكوفي فيلسوف العرب،
2
والفارابي محمد بن محمد بن طرخان (340ه/950م)، وأبو عبد الله محمد بن جابر البتاني الحراني (949م) وكان أعظم فلكيي العصر، ومحمد بن موسى الخوارزمي (237ه/850م) إمام رياضيي العرب وصاحب الآثار الجليلة.
وأما الجغرافيا ودراسة الشعوب وعلوم الطبوغرافية وما إليها فقد اهتم الخلفاء والأمراء بها، وحرضوا العلماء على إتقان هذا الصنف من العلم المفيد في تخطيط البلاد ودراساتها وطبوغرافيتها، ومن النابغين في هذه الفترة من أهل هذا العلم: ابن خرداذبة (232ه/846م) صاحب كتاب «المسالك والممالك»، وكتابه من خير ما ذخرت به الخزانة العربية إلى اليوم، وقد استعان كثيرا بأبحاث بطليموس، وفي الكتاب معلومات طبوغرافية وتاريخية مهمة جدا، ومما يدلنا على عناية الخلفاء بتقويم البلدان، أن الخليفة الواثق أرسل بين سنة 227 و232ه (سنة 841-846م) بعثة إلى بلاد يأجوج ومأجوج (الصين) لدراسة أحوالها.
وفي سنة 309ه سار الرحالة الجغرافي أحمد بن فضلان
3
إلى بلاد البلغار ودرس أحوالهم، وكتب عنهم بيانا مفصلا، تلبية لرغبة الخليفة المذكور، وقد حفظ لنا ياقوت في «معجم البلدان» هذا البيان الذي يعتبر أقدم بيان جغرافي موثوق عن البلاد الروسية. ومن نابغي الجغرافيين أبو زيد البلخي (322ه/924م) الذي كان من علماء البلاط الساماني.
وأما في السيرة والتاريخ، وعلم الرجال والأنساب فقد نبغ أئمة من كبار العلماء الموثوق بهم أمثال ابن هشام (218ه/823م) صاحب مختصر سيرة النبي
صلى الله عليه وسلم
لمحمد بن إسحاق (151ه)، والواقدي (207ه/823م) وتلميذه ابن سعد كاتب الواقدي (230ه/845م) وتلميذه البلاذري (279ه/892م) صاحب فتوح البلدان وأنساب الأشراف، ومحمد بن جرير الطبري (310ه/923م)، والمدائني (225-839)، وقد ذكر له ابن النديم في الفهرست مائتين وأربعين كتابا ضاعت، ولم يبق سوى ما اقتبس منها، وهشام بن الكلبي (204ه/819م) وله مائة وأربعون كتابا ضاعت ولم يبق منها سوى كتابي «الأصنام» و«المثالب».
وأما ما في الأدب فقد تقدم فنا الكتابة والشعر، ولمع اسم كتاب كبار على رأسهم الجاحظ (255ه)، وابن قتيبة (276ه)، وابن دريد (321ه)، ومما تجب ملاحظته، ظهور بحوث أدبية سياسية كالبحوث التي قامت حول فكرة الشعوبية التي كان من مناهضيها الجاحظ، وابن دريد، وابن قتيبة، ومن مؤيديها حمزة الأصفهاني (350ه)، والبيروني (430ه)، وقد خلف كل من هؤلاء بحوثا ومقالات ورسائل أدبية رائعة في تأييد وجهة نظره.
أما الشعر فكان من أئمة أصحابه في هذه الفترة أبو تمام الطائي الشاعر الحكيم العالم (231ه)، والبحتري الشاعر العالم الأديب (284ه)، وابن المعتز الخليفة المؤلف العالم (269ه)، والمتنبي الحكيم (354ه)، وأبو فراس (357ه)، وغيرهم وهم من نعرفهم مكانة وسموا وآثارا وشهرة.
وأما الخطابة فقد انحطت عما كانت عليه في السابق في العصر الأموي والعصر العباسي الأول الذي نبغ فيه كثير من الخلفاء، كالمنصور، والمهدي، والرشيد، والأمين، ومن غيرهم كداود بن علي بن عبد الله بن العباس، وخالد بن صفوان، أما في هذا العصر، فلم ينبغ من خطيب بارز المكانة من الخلفاء، أما غيرهم فكانوا من الخطباء المتوسطي المكانة.
وأما العربية وعلومها فقد نبغ فيها جمهرة كبيرة كأبي عبيدة (209ه/824م)، والأصمعي (213ه/828م)، وأبي زيد الأنصاري (214ه/829م)، والفراء (207ه/822م)، وغيرهم من كبار أئمة اللغة والنحو والعروض.
الفصل الثامن
الوضع الاجتماعي في هذا العصر
تطور الوضع الاجتماعي في العصر العباسي عما كان عليه في العصر الأموي، كما عرفنا ذلك؛ فقد كانت البيئة الاجتماعية للدولة الأموية بيئة عربية متحضرة تأخذ من مظاهر حضارة البلاد المفتوحة ما يلائم طبعها، ويوافق مزاجها العربي، أما في العصر العباسي وخصوصا العصر الذي نبحث فيه، فقد تبدلت تلك الأوضاع تبدلا ظاهرا، وإليك مجالي ذلك التبدل: (1) الأسرة
كانت نظم الأسرة في العصر العباسي نظما عربية خالصة، أو كالخالصة، وكان القوم يقيمون وزنا كبيرا للدم العربي، أما في العصر العباسي، وهذا العصر الذي نبحث فيه بصورة خاصة، فقد تبدلت الأحوال، وغزت النساء الأعجميات من رقيقات وغيرهن بيوت الطبقة العليا والطبقة الوسطى؛ فأمهات الخلفاء العباسيين كلهن غير عربيات، حاشا أم السفاح، والمهدي، والأمين، والبلاط العباسي ودور الأمراء وكبار الوزراء والقادة كانت تعج بالجواري من روميات، وأرمنيات، وفارسيات، وحبشيات، وتركيات، وبذلك ضاع الدم العربي النقي، وضاعت تلك الطبقة العربية، التي تعتز بدمها العربي في العصر الأموي، وحلت محلها طبقة من الهجناء الذين لا تهمهم عراقة الأنساب ولا نقاوة الدماء، وخصوصا في عصر الانحلال؛ فقد انحطت الأسرة العربية انحطاطا مريعا، وسقط مستوى الأخلاق، وضاعت تقاليد عربية وإسلامية كثيرة لكثرة انغماس الناس في الشهوات والموبقات التي جاءتهم بها فارس وغيرها. وهكذا تدنت المرأة إلى درك بعيد، فتبعها المجتمع. (2) المسكن
ليست عندنا معلومات دقيقة عن وضعية البيت العربي في هندسته ومفروشاته وآنيته في العصر الأموي، ولا العصر العباسي الأول، وإنما هي معلومات متفرقة ليست ذات غناء كبير، ويظهر أن البيت أو الدار الإسلامية في العصر العباسي، ظلت كما كانت عليه في العهد الإسلامي وما قبل الإسلامي؛ لأن العرب ليسوا أصحاب بناء ولا لهم في ذلك قدم راسخة، وإن كانت الأبنية العالية ذات الطبقات الكثيرة قد عرفت في الحجاز واليمن منذ الجاهلية، كما عرفت السراديب التي تقي من الحر، وأغلب الظن أنهم لما دخلوا البلاد المفتوحة أعجبهم نمط البيوت التي كانت في الشام والعراق ومصر، فاستساغوها بعد أن غيروا فيها بعض التغيير الذي اقتضته البيئة الإسلامية من جعل محلات خاصة بالنساء بعيدة عن أمكنة الرجال، وما زال هذا الأمر يتطور حتى وجد فيما بعد نظام «الحرملك» و«السلاملك».
وقد وصف المستشرق «ديمومبين» البيت العربي وصفا نظن أنه جاء مطابقا للواقع، حيث يقول: «عرفت بلاد العرب منذ الجاهلية بيوتا ذات عدة طبقات، وقلاعا من السهل أن تقاوم ضد أسلحة البدو البسيطة، وتكون الغرف المشيدة تحت الأرض ملجأ في حالات تطرف درجات الحرارة، وبين النماذج المتعددة للبيوت التي يسكنها المسلم الوسط، نجد أن بيوت البحر الأبيض المتوسط، ذات الطابق الواحد هي الشائعة: صالة صغيرة تفتح على المدخل حيث يجد الزائر دكة يستريح عليها منتظرا أحد أفراد المنزل، أو تقوده خادم عجوز خلال ممر إلى فناء المنزل المستطيل الذي يحوي في وسطه بركة ماء وتزينه بضع شجيرات، ويحيط بالمنزل ممرات تتدلى فيها الكروم، وعليها تفتح الأبواب والشبابيك الضيقة للغرف، وأحدها أوسع من الآخر، وتمتد وتتسع في بيوت الأغنياء مكونة من الإيوان على هيئة حرف
T ، وفي كل مكان فجوات في الجدران وهي الرواشن التي تكون كخزائن أو تصنع عليها رفوف، وفي إحدى الزوايا سلم يؤدي إلى السطح حيث توجد غالبا غرفة عليا، والسطح هو مجال النساء وملجأهن في ليالي الصيف، أما الجدران من الخارج فعارية، فيها على الغالب بضع نوافذ لا تفتح، وأما الداخل فمحجوب تماما عن أعين المارة ومحمي ضد حوادث السطو، والأثاث قليل بضعة صناديق غطاها النجار والرسام برسوم بسيطة، وبعض المغارس والحصر والسجاجيد، وعدد من المعلقات على الجدران والأبواب، وأدوات شتى وأوان معدنية وأخرى فخارية، وكلها سواء كانت متقنة أو عادية اكتسبت شكلا قديما نبيلا.
1
هذا ما يقول أستاذنا المستشرق العلامة ديمومبين، ولكنه قد أهمل ذكر ديوان الجلوس الذي يوضع في الدواوين، وغرف الجلوس التي تحيط بها من ثلاث جهات وقد فرشت عليها المراتب، ومن ورائها النمارق والوسائد والطراريح، كما أهمل ذكر نظام الإضاءة، وهو في الغالب الشموع، أو قناديل الزيت التي توضع في المشاكي، وربما استعمل النفط في البلاد التي كان معروفا فيها.
هذه هي حال دور الطبقة الوسطى، أما الطبقة الدنيا فكانت أقرب إلى دور البداوة، ساحة صغيرة قد جزئت أربعة أو ثلاثة أجزاء، رفع في كل جزء منها حيطان من طين، سقفت بالخوص أو أوراق الشجر، بلا شبابيك ولا كوى غالبا، وفي هذه «الغرف» يسكن الإنسان وإلى جانبه ماشيته وحيواناته في الغالب. أما الطبقة العليا فكانت تسكن في قصور فخمة في الداخل حصينة في الخارج، منها ذو الطبقة الواحدة، ومنها ذو الطبقتين، أو الثلاث، وهي في الغالب صورة طبق الأصل عن القصور الساسانية أو البيزنطية، لها ساحة ضخمة فيها بركة ماء، ولها إيوان أو إيوانان أو أربعة، أحاطت بها الغرف من جهاتها الأربع، وإلى جانب الغرف مستتبعات القصر وحمامه، وربما جعل فيه فرن وطاحون وأحواض وما إلى ذلك من متممات الرفاهية وأسباب النعيم. (3) الطعام والشراب والطيب
لا نعرف كثيرا عن الأطعمة في العصر العباسي، ولا شك في أن انتقال العاصمة الإسلامية إلى العراق، القريب من فارس، قد أدخل كثيرا من الأطعمة الفارسية في المطبخ العربي، وقد كتب بعض كتاب هذه الفترة رسائل وكتبا في وصف الأطعمة والأشربة والطيوب، ومن أجلها كتاب «أبي الحسن علي بن هارون بن المنجم » وإبراهيم بن المهدي، وجخطة البرمكي، وقد ضاعت كلها، وإنما وصلنا كتب ألفت بعد هذا العهد.
وقد جعلوا للطعام آدابا وآينا،
2
وأخذوا أكثره من التقاليد الفارسية، وقد حفظ لنا الأديب الكاتب الوشاء في كتابه الثمين «الموشى»، طرفا ذات قيمة عن آداب الطعام وصفات الظرفاء والمؤدبين (الجنتلمان)، كما نجد في بعض الكتب الأدبية والتاريخية والدينية نتفا ومعلومات تبين طرفا من آداب الطعام والشراب ومجالسهما؛ ففي «كتاب الوزراء للجهشياري» أن «الوزير ابن الفرات كان يدعو إلى طعامه في كل يوم تسعة من الكتاب من آداب الطعام والشراب ومجالسهما، ففي «كتاب الوزراء للحر شياري، ص241» أن «الوزير ابن الفرات كان يدعو إلى طعامه في كل يوم تسعة من الكتاب الذين اختص بهم، وكان منهم أربعة نصارى كانوا يقعدون إلى جانبه وبين يديه، ويقدم إلى كل واحد منهم طبقا فيه أصناف الفاكهة الموجودة في الوقت من خير شيء، ثم يجعل في الوسط طبقا كبيرا يشتمل على جميع الأصناف، وكل طبق فيه سكين يقطع بها صاحبها ما يحتاج إلى قطعه ... ومعه طست زجاج يرمي فيه التفل ، فإذا بلغوا من ذلك حاجتهم واستوفوا كفايتهم، شيلت الأطباق وقدمت الطسوت والأباريق فغسلوا أيديهم وأحضرت المائدة مغشاة بدبيقي تحتها سفرة أدم، وحواليها مناديل الغمر ... فلا تزال الألوان توضع وترفع أكثر من ساعتين.»
وأما الشراب فقد عظم تعاطيه في هذا العصر، وصار كثير من الخلفاء يشربون الخمر، وعرف ذلك عنهم، فلم يأنفوا منه، وجدد العباسيون نظم مجالس الشراب الساسانية وآداب الندمان على الطريقة الفارسية، وصرنا نجد في بيوت الكبراء إلى جانب الطباخين والخدمة، رجالا يسمون الشرابيين، عملهم العناية بالشراب وآلته وفاكهته وريحانه، وكان الساقون في الغالب من أهل الذمة، ولم يتورع عن الشراب كثير من كبار الدولة على الرغم من تحريمه، حتى القضاة! فقد روى الثعالبي أن جماعة من الكبراء «كانوا ينادمون الوزير المهلبي في مجالس لهوه وشرابه ومن بينهم القضاة: ابن قريعة، والتنوخي، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكانوا يحضرون وعليهم المصبغات، فإذا أصبحوا عادوا إلى عادتهم من التزمت والتوقر والتحفظ بأبهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء.» وكان شرب الخمر مقللا لانتشار المخدرات الأخرى من حشيش، وأفيون، على الرغم من أن الحنفية قد أباحوها كما يفهم من كلام العاملي
3
ولم تصر بعد لهذين المخدرين المكانة التي كانت لهما في أواخر القرن الرابع والقرن الخامس.
عصر الانحلال الثاني
من سنة 320ه إلى سنة 422ه
الفصل الأول
عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء منذ عهد المقتدر
إلى نهاية عهد الطائع
وقف بنا الكلام في عرضنا لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء في الكتاب الأول عند مقتل الخليفة المقتدر، وقلنا إن مقتله كان بداية عهد الفوضى التي طغت على الدولة، وإن موجة الفتن والجراح التي طغت على جسم الأمة لم يلتئم جرحها بعدئذ.
والحق أن مقتل المقتدر كان فاجعة ضعضعت شأن الخلافة وزلزلت أركانها، ولما قتل المقتدر أخرج أخوه أبو منصور محمد القاهر بالله من السجن واستخلف، فوجد الخزائن خاوية والخلافة مزعزعة الأركان، وكان مهيبا مقداما على سفك الدماء، فأراد أن يجمع الأموال فصادر جماعة من رجال الدولة، وأمهات أولاد المقتدر وأم المقتدر، وعذبها عذابا مؤلما حتى استخرج منها أموالها، وساءت سيرته في الناس حتى كرهوه، وولى وزارته إلى اثنين عرفا بالبخل - مثله - وفساد السياسة وضعف الرأي، وقلة الخير، وحض الخليفة على سفك الدماء، وهما أبو جعفر الكرخي، وأبو علي بن مقلة، فساءت أحوال الدولة، وعم فساد الأجناد، وعمت الفوضى حتى حرض ابن مقلة الأتراك على خلع الخليفة فخلعوه سنة 322 وسملوا عيونه، ثم حبس وأفرج عنه، ثم أعيد إلى الحبس إلى أن مات في سنة 337ه.
ولما خلع القاهر سنة 322 استخلف أبو العباس محمد الراضي بالله بن المقتدر، وكان عالما أديبا شاعرا وسياسيا قادرا وحازما، فأراد إعادة عز الخلافة، وأحسن انتقاء رجاله، ووصل العلماء والعقلاء، وهو آخر خليفة عباسي كان للخلافة في عهده شيء من السلطان، قال ابن طباطبا في تاريخ الفخري (ص246): «ختم الخلفاء في أشياء، منها أنه آخر خليفة دون له شعر، وآخر خليفة انفرد بتدبير الملك، وآخر خليفة خطب على منبر يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس الندماء، ووصل إليه العلماء، وآخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين.» وهذه كلها أعراض لا طائل تحتها، أما الجواهر فكانت بيد القادة والوزراء وهم الذين يديرون الأمور دونه «ولا يقدر هو لضعفه أن يغيره، فتقسمت البلاد، وظهر الفساد، واسترجع الروم عامة الثغور، ووزر له كل فجور، وهم وزراء القاهر، فأفسدوا دولته وفرقوا كلمته.»
1
والحق أن أمور الدولة قد فسدت في عهده إلى حد بعيد، ويتجلى هذا الفساد في أمور، منها: أن ابن مقلة وزيره كتب إلى بجكم التركي يطمعه في الاستيلاء على بغداد، ولما علم الراضي بذلك قطع يده، ثم قطع لسانه حتى قرب بجكم من بغداد، ومنها أنه في سنة 322ه عظم أمر مرداويج صاحب أصفهان فعزم على إزالة الدولة العباسية، وقد اضطرب الراضي لهذا، ولكن الله كفاه إياه بعد أن تآمر عليه غلمان له وقتلوه، ومنها أن أمراء الأقاليم قد قطعوا كل صلة لهم بالعاصمة، فبلاد فارس في يد علي بن بويه، وأخوه الحسن بن بويه يسيطر على بلاد الري وأصفهان والجبل، والموصل وديار بكر وديار ربيعة ومضر في أيدي الحمدانيين، ومصر والشام تحت سلطان ابن طغج، وبلاد خراسان والمشرق بيد نصر بن أحمد الساماني.
ولما مات الراضي سنة 328ه استخلف أخوه أبو إسحاق إبراهيم المتقي بالله، وكان عابدا زاهدا كثير الصوم والصلاة منزها عن النقائص حسن الخلق، إلا أنه لم يكن عارفا بأساليب السياسة وإدارة الملك، فازدادت البلاد اضطرابا في عهده، وقوي نفوذ الأتراك والديالمة والوزراء، واضطربت الأمور في العاصمة واستولى عليها توزون الديلمي، فهرب الخليفة إلى الموصل بأهله وأمواله، ونهبت دار الخلافة، ثم كتب توزون إلى الخليفة يحلف له أغلظ الأيمان ويؤمنه على نفسه، وكان الأمير محمد بن طغج قدم إليه من حلب يقدم إليه الهدايا والأموال الجليلة، ويسأله أن يترك العراق إلى الشام ومصر، فأبى الخليفة ذلك، ثم قفل راجعا إلى بغداد، فتلقاه توزون وأعلن خضوعه ظاهرا، ثم إنه أوعز إلى طائفة من الديالمة أن يقبضوا عليه ويسملوا عينيه، ثم خلعه توزون سنة 333، ومات المتقي سنة 350ه، وفي عهد المتقي سيطر الحمدانيون على الجزيرة والشام كله.
ولما خلع المتقي استخلف أبو القاسم عبد الله المستكفي بن المكتفي سنة 333ه، وكان الديالمة هم المسيطرون على الدولة، ولم يكد يستقر في دست الخلافة حتى وردت إليه الأخبار بأن ابن بويه قادم على بغداد، فاضطرب الخليفة جدا، وانهلعت قلوب البغداديين، ولما دخل أحمد بن بويه استقبله الخليفة وخلع عليه وسلمه الطوق والسوار وآلة السلطة وعقد له اللواء، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاه عماد الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم على السكة، ونزل الديالمة البويهيون في دور الناس، ولقي البغداديون منهم أشد العنت والإرهاق، قال ابن دحية (في كتابه: النبراس في تاريخ بني العباس، ص121): «صارت الخلافة بعد خلعه (أي المتقي) إلى ابن عمه المستكفي في الوقت الذي سملت فيه عينا المتقي فاستولت الديلم على البلاد، وسملت عيناه ... وذلك على يد معز الدولة، بل مذلها ابن بويه الديلمي.» ولما أن تملك البويهيون دخل رجلان منهم على الخليفة فجذباه من السرير، ووضعا عمته في عنقه وسحباه على الأرض، ثم حمل إلى دار معز الدولة فاعتقل فيها وسملت عيناه، وخلع في سنة 334، ومات في سنة 338.
ولما خلع استخلف معز الدولة ابن عمه المطيع، ولم يكن له من الخلافة إلا الاسم، والأمر كله لبني بويه، وقد أقام معز الدولة لنفقة الخليفة كل يوم مائتي دينار، وكان المطيع يسير في ركاب معز الدولة أينما سافر، ذهب معه إلى البصرة ثم الأهواز، ثم إلى الموصل.
وقد انحصر عمل المطيع على الطاعة والعبادة والإحسان إلى أهل بيته الفقراء، وفي أيامه رد القرامطة الحجر الأسود إلى الكعبة، ففرح بذلك، وكان ينفذ إلى الكعبة كل سنة قناديل ذهب وفضة، كما كان ينفذ إلى الحجرة النبوية طيبا كثيرا وخداما.
وفي أيامه استقل كافور الإخشيدي بمصر والشام، ومنع عن الخليفة ما كان أنوجور الإخشيدي يقدمه إليه من الأموال، وظل المطيع لله في خلافته هذه إلى أن فلج، فخلع نفسه وعهد لابنه الطائع في سنة 363ه، ولم يلبث طويلا حتى مات.
بويع أبو بكر عبد الكريم الطائع لله سنة 363ه بعد أن استخلفه أبوه، وكان مثل أبيه خليفة صوريا، طال عهده في الخلافة، وزاد امتهان البويهيين للخليفة، فكان لا يحرك ساكنا، ودخل عليه بهاء الدولة البويهي سنة 381ه وجذبه عن السرير، ثم خلعه، وأقام معتقلا فقيرا إلى أن مات سنة 393ه، ورثاه الشريف الرضي بقصيدة من عيون شعره.
ولما خلع سنة 381ه استخلف البويهيون أبا العباس أحمد القادر بالله، وكان من أفاضل الخلفاء وعقلائهم، رأى أن الأمر بيد آل بويه، وأن من الحزم أن يصهر إليهم، فتزوج بنت بهاء الدولة بن عضد الدولة على صداق قدره مائة ألف دينار، وبذلك رجع للخلافة العباسية شيء من رونقها وحاول أن يعيد قوتها، فتوصل إلى شيء من ذلك، وظهر شأن العرب بعض الشيء، وأعيدت الجزيرة والشام إلى الحظيرة العباسية، وفي عهده ارتفع قدر العلم وأهله، واطمأن الناس على أموالهم وأولادهم، قال ابن دحية (في النبراس، ص127): «هو الخليفة الزاهد العابد القادر بالله، آخر خليفة من بني العباس، حكم وأسجل على نفسه وأشهد الشهود، وكان يجلس اثنين وخميس للناس، وصحب العلماء ورفض الدنيا ولم ينازع فيها، ولم يدخر دينارا ولا درهما، ولم يرد سائلا، وأكرم الحديث وأهله، ومنحهم عطاءه وبذله، وظهرت العرب، وقام الإسلام، وملكت الجزيرة والشام، وبيعت مصنفات الحديث بأغلى الأثمان، وملأ الدنا بالعدل والأمان.»
وفي أيامه فتحت السند والهند - على يد آل سبكتكين - وقال ابن طباطبا (في الفخري، ص254): «من أفاضل خلفائهم، حسن الطريقة والسمت، كثير الخير والدين والمعروف ... وفي أيامه تراجع وقار الدولة العباسية ونما رونقها.» ومكث القادر في الخلافة إلى أن مات سنة 42.
وقد كانت تلك الصحوة التي منحتها الدولة العباسية في عهد القادر، هي صحوة النزاع إلى أن تغلب السلجوقيون على الخلافة، كما سنرى تفصيل ذلك بعد.
الفصل الثاني
مظاهر الضعف ومجالي الانحلال في
الدولة ونتائج ذلك
استمرت في هذا الدور مظاهر الضعف ومجالي الانحلال التي رأيناها في الدور الماضي؛ فسرير الخلافة متزعزع الأرجل، والخليفة ظل لا حقيقة له، وانحلال الإدارة باد في كل دواوين الدولة، والوزراء والقادة هم المسيطرون، وأصحاب النحل والمبادئ الهدامة يسرحون ويمرحون ويفعلون بالدولة وأقاليمها ما يشاءون، ولكن يجدر بنا أن نلاحظ أن هناك بعض المظاهر الجديدة التي يمكن إجمالها في النقاط السبع التالية: (1)
انهارت الخلافة انهيارا مزريا في هذا الدور، أكثر مما كانت عليه في السابق؛ فقد رأينا في الدور السابق أنها قد استعادت بعض هيبتها في زمني المعتضد والمكتفي، أما في هذا الدور، وخاصة في أيام البويهيين، فقد أصبح الخليفة موظفا لدى السلطان البويهي يخصص له راتبا مسمى، ويحمله معه في رحلاته وجولاته، ويمكننا اعتبار فترة البويهيين استمرارا لفترة عهد إمارة الأمراء، ونلاحظ في هذه الفترة أن ظاهرة سمل عيون الخلفاء وتكحيلهم بميل قد أصبحت شبه مطردة، والسر في ذلك هو أن من شرائط الخلافة عدم النقص البدني، والعمى نقص بدني، فمتى سمل الخليفة أصبح غير صالح لخلافة المسلمين، فلذلك يجب أن يخلع نفسه وإلا يخلع، وقد كان لدخول البويهيين بغداد فاتحين، ضعضعة واضحة لأركان الخلافة؛ لأن البويهيين كانوا شيعة زيدية لا يعترفون بحكم العباسيين الغاصبين، ولم يبق البويهيون شبح الخلافة العباسي إلا لضرورات سياسية قدروها، ولقد أراد معز الدولة البويهي نقل الخلافة إلى الإمام أبي الحسن محمد بن يحيى الزيدي فحذره كبار قومه من ثورة الناس عليه، يقول البيروني: «لأن زعماء الأمصار قد اعتادوا الدولة العباسية، ودانوا بدولتهم وأطاعوهم طاعة الله ورسوله، ورأوهم أولي الأمر.»
1
ويظهر أن هذا لم يكن السبب الحقيقي، وإنما السبب هو ما يذكره ابن الأثير (في تاريخه 7: 149)
2
من أن معز الدولة لما عزم على ذلك قال له أصحابه: «إنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه ...» (2)
كان للخليفة وزير حتى في الفترات التي انحطت الخلافة إلى أدنى الدرجات فيها، فلما جاء البويهيون ألغوا منصب الوزارة، واكتفوا بتسمية «كاتب» للخليفة واختصوا هم بلقب الوزارة لأنفسهم، وتدخلوا في تعيين هذا الكاتب. (3)
كان الخليفة في العهد السابق هو المشرف على بيت المال كما جاء بذلك الشرع والعرف المتوارث منذ العهد الإسلامي، أما في أيام بني بويه فقد صار الحل والربط ببيت المال للسلطان البويهي، والخليفة هو أحد المستحقين من بيت المال ليس غير، ويذكر ابن الأثير «في التاريخ، ص7-148» أن «معز الدولة قد خصص للمستكفي خمسة آلاف درهم في اليوم»، ثم خفض هذا المبلغ للمطيع إلى ألفي درهم في اليوم (كما في تاريخ مسكويه، ص2-87)، ولما افتتح معز الدولة البويهي البصرة سنة 360ه قطع الراتب وأقطع الخليفة ضياعا تدر مائتي ألف دينار في السنة.
3 (4)
لم يكتف البويهيون بأخذ سلطات الخلافة موضوعا، بل أخذوها شكلا أيضا، وذلك بأن طلبوا من الخليفة أن يفوض إليهم سلطات الخلافة؛ فقد ذكر مسكويه، في تاريخه أن الخليفة الطائع قال في سنة 369 لعضد الدولة: «قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل الله تعالى إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي، فتول ذلك مستخيرا بالله.»
4 (5)
لم يكتف البويهيون بأخذ سلطات الخلافة موضوعا وشكلا، بل أخذوا تقاليدها ورسومها وشاراتها أيضا، فقد كان من حق الخليفة وحده أن تقرع له على أبواب دار الخلافة الطبول في أوقات الصلوات الخمس، فأراد معز الدولة أن يكون له مثل هذا الحق فلم يقبل الخليفة، ولكن عضد الدولة أجبر الطائع سنة 368ه على أن يكون له ذلك، فكان له ذلك ثلاث مرات يوميا في أوقات «الغداء والمغرب والعشاء».
5 (6)
طمع البويهيون في الخلافة نفسها؛ فقد ذكر مسكويه (في تاريخه 2: 412) ما نصه: «دبر عضد الدولة سنة 369 أن يقع بينه وبين الطائع لله بابنته الكبرى، ففعل ذلك، وعقد العقد بحضرة الطائع لله وبمشهد من أعيان الدولة والقضاة على صداق مائة ألف دينار، وبني الأمر فيه على أن يرزق ولدا ذكرا منها فيولى العهد وتصير الخلافة في بيت بني بويه، ويصير الملك والخلافة مشتملين على الدولة البويهية.» (7)
أشرنا قبل إلى أن منصب الوزارة قد ألغي من دار الخلافة، وقام «الكاتب» مقام وزير الخليفة واختص السلطان البويهي «بالوزير»، ويجب أن نضيف هنا إلى ذلك أن الصفة الحربية قد أصبحت للوزير، مع أنه كان من طبقة الكتاب، وقد استتبع هذا أن أصبح للوزراء ألقاب تفخيم كسعد الدولة، وشرف الملك، وما إلى ذلك مما لم يكن معروفا من قبل، ومما يجب أن نشير إليه هنا أن عضد الدولة اتخذ وزيرين أحدهما نصراني، وهذا أمر لم يحدث قبلئذ.
الفصل الثالث
ظهور دويلات جديدة
ظهرت في هذه الحقبة دويلات جديدة هي: (1) دولة آل بويه. (2) دولة الحمدانيين. (3) دولة الغزنويين. *** (1) دولة آل بويه (من 334 إلى 447ه/945-1055م) (1-1) أوليتها
كان أبو شجاع بويه تركيا مغمورا يصيد السمك ببلاد الديلم
1
وكان له ثلاثة أولاد هم أبو الحسن علي، وأبو علي الحسن، وأبو الحسين أحمد، وقد انخرطوا ثلاثتهم جنودا في خدمة «مرداويج بن زيار»، صاحب الدولة الزيارية، وبرزت مواهبهم العسكرية الفائقة فاعتمد عليهم مرداويج، فولى عليا على مدينة «كرج» (بين أصفهان وهمدان)، وكان حازما عاقلا حسن التصرف، فأحبه أهل الكرج، وأخذ قدره ينبل حتى خاف منه مرداويج على نفسه فاستدعاه إليه، ولكن عليا رفض المثول بين يديه، وأعلن عصيانه عليه، وسار إلى «أصفهان» فاستولى عليها، واشتد قلق «مرداويج»، فكتب إليه يعاتبه ويستميله ويطلب إليه أن يعود إلى طاعته حتى يمده بالجند والمال ليوسع ملكه، ولا يطلب منه مقابل ذلك إلا الخطبة له في تلك البلاد، وفي الوقت الذي كتب إلى علي، كتب إلى أخيه «وشميكر بن زيار» أن ينقض على علي ويفتك به، فأحس علي بذلك، ورحل عن أصفهان قاصدا بلاد «أرجان» فاستولى عليها سنة 321ه/933م، ثم استولى على بلاد «النوبندجان»، ثم سار إلى «أصطخر» فامتلكها، ثم سار إلى «شيراز» فهرب أميرها ياقوت واستولى على أمواله، ولما رأى سعة ملكه وقوة سلطانه، كتب إلى الخليفة الراضي بالله، وإلى وزيره ابن مقلة، يطلب أن يعهد إليه بما في يده من البلاد، وبعث إليه بألف ألف درهم ، فأجيب إلى طلبه وبعث إليه الخليفة بالخلعة واللواء.
ولما بلغت هذه الأخبار «مرداويج» ثار ثائره، وسار إلى «أصبهان» وبها أخوه «وشميكر»، فاتفقا على أن يسير بعسكر كثيف إلى «أصطخر» للاستيلاء عليها، وقطع الطريق بين علي بن بويه وبين الخليفة، ولما تم لهما النصر في «الأهواز» رأى ابن بويه أن يصالح «مرداويج»، وتم الصلح بينهما في سنة 322ه. ولما فتح «مرداويج» بلاد الأهواز، فكر في السير إلى بغداد والقضاء على الدولة العباسية وإنشاء مملكة فارسية ساسانية مركزها «طيسفون»، وهي عاصمة الدولة الكسروية قبل الفتح العربي، وكان يقول: أنا أرد دولة العجم وأبطل ملك العرب.
2
ولكن عهد «مرداويج» لم يطل بعدئذ، فقتله مماليكه لسوء إدارته في «عيد السذق» سنة 323ه، وانهار بموته مشروعه، وقوي أمر آل بويه، فسيطروا على الري وأصفهان سنة 326ه، وما زال أمرهم يسمو حتى إن عليا فكر في احتلال بغداد، ولم يفعل ذلك آئنذ، ولكنه أخذ يعد عدته، فلما أنس ضعف الخلافة، ومات أمير الأمراء توزون، عظم طمعه بالاستيلاء على المملكة العباسية، وهو يومئذ أمير فارس وأخوه الحسن أمير على الجبال وأخوهما الصغير أحمد لا عمل له، فسيره علي إلى الأهواز فتملكها بعد حروب بينه وبين بجكم الرائقي، الذي انهزم إلى واسط، فرأى أحمد بن بويه أن يتآمر مع عامل واسط على احتلال العاصمة، وكان له ما أراد في 11 جمادى الأولى سنة 334ه/17 كانون الثاني سنة 946.
3 (1-2) معز الدولة
لما دخل أحمد بغداد استقبله المستكفي بالله وخلع عليه، وحلف كل منهما لصاحبه هذا بالخلافة وذاك بالسلطة، ولقبه الخليفة أحمد بصاحب العراق معز الدولة، كما لقب أخويه عليا بعماد الدولة، والحسن بركن الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على النقود. وهكذا سقط السلطان العباسي سقوطا رسميا، وأصبح الخليفة رئيسا دينيا لا غير، ولم يعد له وزن ولا هيبة، وإنما سمح له معز الدولة البويهي بتسمية كاتب يدير إقطاعاته وإخراجاته كما رأينا.
وقد حاول معز الدولة أن يخلع الخلافة عن العباسيين ويوليها بعض آل علي، وكان شيعيا زيديا متعصبا، ولكن بعض خواصه حذروه من ذلك فعدل، كما تقدم، ولم يمكث المستكفي في الخلافة بعدئذ أكثر من نصف شهر، خلعه بعدها معز الدولة سنة 334ه متهما إياه بالتآمر عليه، مع قواده والاستنجاد بالحمدانيين.
وقد أراد معز الدولة أن ينقل الخلافة إلى العلويين الزيديين، وعدل عن ذلك للأسباب التي قدمناها، ولكنه أظهر المذهب الشيعي وتعصب له، وأعلن الاحتفال بالمواسم الشيعية، واستهان بالخليفة العباسي. يقول ابن الأثير (في تاريخه 7: 149): «وكان من أعظم الأسباب في ذلك أن الديلم كانوا يتشيعون، ويغالون في التشيع، ويعتقدون أن العباسيين قد غصبوا الخلافة، وأخذوها من مستحقيها، فلم يكن عندهم باعث ديني يحثهم على الطاعة، ولما نزل «المستكفي» عن الخلافة ولى معز الدولة «المطيع لله».»
وفي سنة 335ه قدم جيش ناصر الدولة بن حمدان للانتقام للمستكفي، ولكنه أخفق في حملته، فسجن معز الدولة المستكفي ثم قتله.
ولم يكن حال «المطيع» مع البويهيين خيرا من «المستكفي»، فقد استخلفه معز الدولة على ألا يبغيه سوءا، ولا يمالئ عليه عدوا، فقبل «المطيع» بذلك، ولكن ذلك لم يمنع بهاء الدولة سنة 381ه/991م من أن يصادر الخليفة ويستصفي أمواله، ويهينه في مجلس الخلافة ويضربه ويخلعه على ما قدمنا سابقا.
ومعز الدولة هو الذي وطد ملك البويهيين في العراق، ولم يكن بارعا في الإدارة براعته في الجندية ، ففسدت البلاد في عهده، وساءت الإدارة المالية وعم الفقر، وكثرت نوائب الناس في زمنه، فصادر الأموال، واستخلص الأراضي فوزعها على الجند إقطاعا، ولم يكونوا أصحاب زراعة، فأهملوا مشارب القرى وطرق الري؛ لأن غرضهم كان الاستثمار ليس غير، وتسلطوا على الفلاحين فاستعمروهم وعمت الفوضى، ووقعت المجاعات حتى أكل الناس الميتة والسنانير والكلاب، وكانت ثالثة الأثافي، أن جنده اختلفوا فيما بينهم ووقعت حروب أهلية بين عنصريهم «الديلم» و«الأتراك»، ولقي الناس من ذلك عنتا كبيرا، وقد كادت هذه الفتنة أن تؤدي إلى خلع المعز سنة 335ه بيد الديالمة لما رأوه يميل إلى الأتراك، ولكن الأتراك تمكنوا من القضاء على تلك الفتنة، فأقطعهم بلاد واسط والبصرة، وساروا إليها وأخربوا البلاد ونهبوا الأموال ولقي الناس منهم شرا مستطيرا
4
حتى اضطر معز الدولة أن يعيد نظره في الأمر ليخفف وطأة الخراب، فاهتم بالري وسد بثوق الأنهار، وعني بالأقنية ونظم أحوالها؛ ففي سنة 334ه سد بثق نهر الرفيل، وخرج بنفسه لسد البثوق في نهر بادوريا النهروانان، واهتم بإصلاح شئون الزراعة في السواد، وعهد إلى أبي الفرج بن أبي هشام بذلك، وكان فاضلا في هذه الصناعة، عارفا بشئونها فانصلحت الأحوال وأخذت البلاد تنتعش قليلا قليلا.
وفي سنة 337ه أراد معز الدولة توسيع رقعة ملكه، وتوجه إلى الموصل فدخلها وهرب ناصر الدولة الحمداني منه إلى نصيبين، وأراد اللحاق به، ولكن أخاه ركن الدولة كتب إليه يخبره بأن جيوش الدولة السامانية خرجت باتجاه جرجان والري، فاضطر إلى أن يصالح ناصر الدولة الحمداني ليمد جيش أخيه، وكان الصلاح بين معز الدولة وناصر الدولة على أن يؤدي الحمداني للمعز كل سنة ثمانية آلاف درهم عن بلاد الموصل والجزيرة كلها والشام، ويخطب لآل بويه الثلاثة، ولم يستمر هذا الاتفاق طويلا، فهاجم معز الدولة الموصل واحتلها ثانية، وهرب ناصر الدولة الحمداني إلى «نصيبين» ثم إلى «ميتا فارقين» فلحق به معز الدولة، واضطر ناصر الدولة أن يلحق بأخيه سيف الدولة الحمداني بحلب، ثم عقد صلح جديد في محرم سنة 348 بين معز الدولة البويهي وسيف الدولة الحمداني، وضمن سيف الدولة أن يدفع ألفي ألف وتسعمائة ألف درهم لناصر الدولة، وعاد ناصر الدولة إلى الموصل، ولم يكد معز الدولة ينتهي من مشكلة بني حمدان، حتى وقعت بالعراق فتنتان عظيمتان:
أولاهما:
أن عامله في البصرة أبا القاسم البريدي أعلن استقلاله سنة 339، وامتنع عن تأدية الخراج لمعز الدولة ووقعت حروب وفتن كثيرة بين الجانبين انتهت بالقضاء على البريدي، وقد انتهز قرامطة «البحرين» و«هجر» هذه الفتن فجددوا عزمهم على مهاجمة البصرة واستطاعوا في سنة 341ه أن يحاصروا البصرة، ولكن الوزير المهلبي وزير معز الدولة قاومهم وردهم على أعقابهم بعد أن أفسدوا البلاد إفسادا عظيما.
وثانيتهما:
أن عمران بن شاهين استقل بأرض «البطيحة»، في العراق، وعمران هذا كان جابيا للخراج، جمع أموال الخراج وهرب إلى البطيحة في سنة 329ه فأقام بين أهلها بين القصب والآجام متحصنا بها، مقتصرا على ما يصيدون من الأسماك والطيور والأوز، ثم أخذ يقطع الطريق على من يسلك البطيحة، ولما قام أبو القاسم البريدي بثورته تعاون معه، واتفقا معا على معز الدولة، فبعث إليه معز الدولة وزيره أبا جعفر الصيمري على رأس جيش كثيف، كاد أن يتغلب به على عمران، ولكنه فشل واستمر عمران وأولاده ووزراؤه يستقلون بالبطيحة من سنة 329ه إلى سنة 408ه.
ودولة عمران بن شاهين: هي إحدى الدويلات التي انفصلت عن جسم الدولة العباسية، وظلت كذلك إلى أيام السلاجقة، وكان سبب فشل معز الدولة بالقضاء على هذه الدولة أنه انشغل كذلك بعد وفاة أخيه الأكبر عماد الدولة بالثورة في شيراز، فطلب إلى وزيره الصيمري أن يترك البطيحة ويتوجه إلى شيراز، فتنفس عمران الصعداء، وأخذ يجمع قواه ويعيث فسادا في تلك المناطق، فاضطر معز الدولة أن ينفذ إليه جيشا ثانيا فالتقى به عمران وفرق شمله وغنم منه سلاحا وجندا، ثم قطع الطريق بين بغداد والبصرة فلم يستطع أحد العبور من منطقته إلا إذا دفع إليه مالا، فضاق الناس به واضطر معز الدولة أن يأمر وزيره المهلبي فسار إلى البطيحة ولم يكن نصيبه خيرا من القواد الذين سبقوه، واضطر المهلبي إلى النجوة بنفسه، واضطر معز الدولة إلى مصالحة عمران وتقليده إمارة البطيحة، واستمر ملك عمران ومن بعده في البطيحة إلى سنة 408ه حين صارت البطيحة كلها بؤرة فساد وسلب وإجرام، إلى انقضاء عهد الدولة السلجوقية، ثم عادت إلى حوزة خلفاء بغداد. (1-3) عز الدولة بن معز الدولة (256-367ه)
هو عز الدولة بختيار بن معز الدولة أحمد، ولي العراق بعد أبيه في 13 ربيع الآخر سنة 356ه إلى أن خلعه عمه عضد الدولة سنة 367ه، فكانت سلطنته إحدى عشرة سنة قضى سبعا منها في عهد الخليفة المطيع، والباقي في عهد الطائع، وكانت البلاد في عهده على شر حال؛ فقد انصرف هو إلى اللهو واللعب، وأساء معاملة وزرائه وقواده، وسلط الجند وكبار الديلم على أصحاب الأرضين، قال مسكويه (في تاريخه، ص302-307): «وكان لا ينظر في دخل ولا خرج، وإنما يلزم وزيره تمشية الأمور؛ حيث لا يعنيه ولا ينصره، ولا يمنع أحدا من جنده شيئا، فإذا وقفت أموره على وزيره واستبدل به، فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان.» وصار كل طامح إلى الوزارة يتعهد لبختيار بسد نفقاته وجمع الأموال له ينال وزارته. وفي عهده لقي المسلمون وأهل الذمة أسوأ المعاملة وصودرت أموالهم، حتى بطلت الأسواق وانقطعت المعايش (كما في تاريخ مسكويه، ص302-308) إلى أن فرج الله الغمة عن البلاد حين خلعه ابن عمه عضد الدولة ثم قتله في سنة 367ه. (1-4) عضد الدولة (366-372ه)
هو عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة الحسن بن بويه، كان أبوه ركن الدولة أميرا على الري وطبرستان وجرجان والجبل وفارس والأهواز، فلما مات سنة 366ه خلفه ابنه عضد الدولة، وكان قويا حازما سيطر على مملكة أبيه، وعزم على السيطرة على بغداد فسار إليها، وخلع ابن عمه بختيار في سنة 367ه، ثم سار نحو الموصل فطرد أبا تغلب الحمداني منها، واستولى على ملك الحمدانيين، وبث سراياه في طلب أبي تغلب، فهرب أبو تغلب إلى بلاد الروم، وسيطر عضد الدولة على ديار ربيعة، وديار بكر، وديار مصر، وبذلك سيطر عضد الدولة على إيران والعراق والجزيرة والجبال والري والحجاز وما إليها من البلاد، وأضحى سيد المشرق، ولا غرو فإن ما امتاز به من حزم وجرأة وإدارة وعقل قد وطد ملكه.
هذا مع علم غزير وأدب وفير وحكمة وفضل. ولعضد الدولة محاسن وأعمال جليلة، منها: أنه بنى على مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
سورا قويا لحمايتها من الغارات والأعداء، ومنها أنه أظهر منبر الإمام علي (عليه السلام) بالكوفة وبنى على المشهد، وهو الذي صنف له أبو علي الفارسي كتابي «الإيضاح» و«التكملة» في النحو، وفي عهده تحسنت أحوال البلاد الزراعية من تنظيم للري، وعدل في الجباية، وهو الذي أمر ببناء القناطر، وبحفر كثير من الأنهر والأقنية المندرسة، وإعادة بنائها وإصلاحها.
5
وهو الذي أخر ابتداء أخذ الخراج إلى وقت النيروز المعتضدي الذي تنضج فيه الغلال، وكان الخراج يؤخذ سلفا قبل إدراك الغلال، وشجع الزراع على عرض مظالمهم من الإقطاعيين والعسكريين.
6
وهو الذي شرع في سنة 369ه بعمارة بغداد وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها، فعمر مساجدها وأسواقها وأدر الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد، وألزم أصحاب الأملاك الخربة بعمارتها وجدد ما دثر منها، وأطلق مكوس الحجاج، وأصلح الطريق من العراق إلى مكة، وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهد «علي» و«الحسين» (عليهما السلام)، وأجرى الجرايات على الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين، وأذن لوزيره نصر بن هارون النصراني في عمارة البيع والأديرة وإطلاق الأموال على فقرائهم.
7
وهو الذي بنى البيمارستان العضدي ببغداد في سنة 367ه/978م ووقف عليه مبلغ مائة ألف دينار، وكان يشرف على الطبابة فيه 24 طبيبا وكحالا، يعلمون الطب ويداوون الناس ويدرسون الفلسفة.
8
كما كانت له مساوئ، منها: أنه أحدث في أواخر أيامه رسوما ظالمة، منها رسوم بيع الدواب والأمتعة، وأنه منع من عمل الثلج والقز وجعل ذلك تجارة خاصة به، ومات عضد الدولة في شوال سنة 372ه ببغداد، وحمل إلى مشهد الإمام علي فدفن عنده. (1-5) صمصام الدولة وعقبه إلى انقراض الدولة
صمصام الدولة هو أبو كاليجار المرزبان ابن عضد الدولة، تولى الأمر بعد أبيه بإجماع القواد، وكان إخوته وبنو أعمامه متفرقين في الولايات، وهو في العراق، ولكنه لم يكن حازما مثل أبيه، فوقعت الفتنة بينه وبين إخوته وأبناء عمومته، فانتهز الأكراد، بقيادة شجاع دوستك، هذه الفرصة فاستولوا على الموصل، وحاولوا الاستيلاء على بغداد ولكنهم فشلوا، وتم الصلح بينهم وبين البويهيين، واستمر أمر صمصام الدولة في اضطراب حتى استطاع أخوه شرف الدولة أن يدخل بغداد ويقضي عليه في رمضان سنة 376ه.
استولى شرف الدولة على بغداد سنة 376ه فلم يطل عهده فيها؛ لأن جنوده من ترك وديلم، كانوا لا ينفكون متحاربين إلى أن مات في سنة 379.
ويجب ألا ننسى أن عهد شرف الدولة على الرغم من اضطرابه السياسي كان عهد علم؛ فقد رعى شرف الدولة ما كان ابتدأ به أبوه من تعضيد العلم وحب أهله والإحسان إليهم،
9
وقد اقتدى شرف الدولة بالمأمون في مساعدة العلماء على الترجمة والتأليف وإنشاء المرصد الكبير.
ولما مات سنة 379 خلفه أخوه بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة، ولم يكن عهده من الناحية السياسية خيرا من عهد أخيه؛ فإن الأتراك والديلم عادوا من جديد إلى التصادم، ثم نشبت فتن كثيرة بينه وبين أهل بيته، وفي سنة 381ه قبض بهاء الدولة أبو نصر فيروز بن عضد الدولة، على الخليفة الطائع طمعا في أمواله وخلعه، وولى القادر الخلافة، وكان عهده عهدا مضطربا كثرت فيه الحروب بينه وبين أهل بيته إلى أن مات سنة 403ه، وكان سلطانه على العراق والأهواز وفارس وكرمان.
وفي عهد بهاء الدولة استمرت الحركة العلمية التي أسس نواتها أبوه، ورعاها أخوه، وقد كان وزيره سابور بن أردشير العالم الفاضل يرعى العلم وأهله، وهو الذي بنى «دار الحكمة» في بغداد وجعل فيها خزانة كتب ضخمة، يذكر ابن الأثير،
10
أن عدد كتبها نحو عشرة آلاف مخطوطة نفيسة، وإلى هذه الدار تردد أبو العلاء المعري أيام زيارته بغداد وذكرها في شعره.
ولما مات خلفه ابنه سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة، ولم يكن عهده خيرا من عهد أبيه، وكان جنوده لا يطيعونه، فأفسدوا البلاد، وثار عليه أخوه شرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة، فانتزع منه الملك في المحرم سنة 412ه ونفاه عن العراق، ثم تصالح الأخوان على أن يكون لشرف الدولة العراق، ولسلطان الدولة فارس وكرمان، إلى أن مات سلطان الدولة سنة 415 بشيراز فخلفه ابنه أبو كاليجار بن سلطان الدولة. وفي سنة 416ه مات شرف الدولة فخلت سدة السلطنة من وجود سلطان، وسيطر الأجناد، وخطبوا أول الأمر لجلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة، صاحب البصرة ثم قطعوا خطبته، وخطبوا لابن أخيه أبي كاليجار صاحب الأهواز وطلبوه إلى بغداد فوعدهم أن يجيء، ولكنه تأخر لما كان بينه وبين عمه أبي الفوارس صاحب كرمان من الحروب، فازدادت الفتن ببغداد لعدم وجود سلطان فيها، وكثر شر الجند الأتراك فكتب عقلاء البلاد إلى جلال الدولة بن بهاء الدولة يستدعونه إلى بغداد وخطبوا له في سنة 418ه، ولكنه لم يستطع ضبط الأمر طويلا، وكثر شغب الجند عليه. وفي سنة 426ه فسد أمر الخلافة والسلطة البويهية معا في بغداد، وسيطر الأجناد والأكراد على البلاد، إلى سنة 435ه حين مات جلال الدولة بعد أن ملك 17 سنة إلا شهرا، ولما مات خلفه ابن أخيه أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة ولقبه الخليفة بمحيي الدولة، ولم يكن عهده حسنا، ولما مات سنة 440، خلفه ابنه أبو نصر فيروز الملقب بالملك الرحيم، وأقام ملكا إلى سنة 447ه حين قدم السلطان طغرل بك السلجوقي مستوليا على بغداد.
وهكذا انقرضت الدولة البويهية، التي حكمت قرابة قرن وسيطرت على العراق وفارس واتخذت شيراز عاصمة لها، وبغداد مقرا لأمرائها، فقد كان لهم فيها قصور تسمى دار المملكة.
11
وبلغ أوج هذه الدولة في عهد عضد الدولة الذي سيطر على أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، واستطاع أن يتزوج ابنة الخليفة الطائع، ويزوجه ابنته مؤملا أن تصل الخلافة إليه، وهو أول من لقب بشاهنشاه، أي ملك الملوك. وفي عهد هذه الدولة ازدهرت المعرفة والحكمة، كما نبغ إخوان الصفا في عهده. (2) الحمدانيون (293-402ه)
ينتسب الحمدانيون إلى حمدان بن حمدون بن الحارث التغلبي الوائلي العدوي، حوالي «؟-300» ومؤسس هذه الدولة، وهو أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، وكان من القادة المقدمين في الدولة العباسية، ولاه المكتفي بالله إمرة الموصل وأعمالها سنة 293 فأقام فيها وتوسط سلطانه هو وإخوته على هاتيك الديار.
وفي سنة 303 أمر المقتدر بالقبض على أبي الهيجاء وإخوته وحبسهم
12
ثم عفا عنهم. وأقام أبو الهيجاء في بغداد، وولى ابنه ناصر الدولة الحسن أميرا على الموصل، وكانت له عدة وقعات مع الأكراد الجلالية الذين اشتدت شوكتهم فأخضعهم وانقادوا لدولته سنة 314ه.
وفي سنة 318ه عزل ناصر الدولة عن الموصل، ووليها عماه سعيد ونصر ابنا حمدان، وولي ناصر الدولة ديار ربيعة ونصيبين وسنجار والخابور ورأس عين، وميافارقين، وارزن.
13
وفي سنة 322ه أعيد ناصر الدولة إلى الموصل فعظم سلطانه. وفي سنة 323ه عزل الخليفة الراضي ناصر الدولة عن الموصل، وولاها أبا العلاء بن حمدان، فلما ذهب إليها مظهرا أنه إنما جاء ليطلب مال الخليفة، وكان ناصر الدولة يعلم بأمره، فبعث إليه من قتله، ولما بلغ ذلك الخليفة بعث وزيره ابن مقلة في جيش كبير فهرب ناصر الدولة، وأقام الوزير بالموصل مدة ثم لما قفل عنها رجع ناصر الدولة وكتب إلى الخليفة الراضي يعتذر منه فعفا عنه.
ولما مات الخليفة الراضي، وتولى المتقي، ووقعت الفتنة بين أبي عبد الله البريدي وابن رائق كما ذكرنا، واضطر الخليفة على السفر إلى الموصل، بعد استيلاء البريدي على بغداد، كان المتقي قد أنفذ إلى ناصر الدولة يستمده على البريديين، فأرسل أخاه سيف الدولة نجدة له في جيش كثيف، فلقي الخليفة المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما من بغداد، وخدم سيف الدولة الخليفة خدمة عظيمة، وسار في ركابه إلى الموصل، ثم إن الخليفة المتقي خلع على ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء في شعبان سنة 330ه وبعث أخاه سيف الدولة في ملاحقة البريديين الذين تسلطوا على واسط، فأخرجهم منها، وكان يريد الانحدار إلى البصرة لأخذها من البريديين، ولكنه لم يتمكن من ذلك لقلة المال عنده، فكتب إلى الخليفة يستمده، ولما تأخر المال أخذ سيف الدولة يستميل القادة الأتراك أن يسيروا معه للاستيلاء على الشام ومصر، فلم يتفقوا معه على ذلك، واضطر إلى الرجوع إلى بغداد، ثم انحدر إلى الموصل.
وفي سنة 330ه اتفق توزون وناصر الدولة بن حمدان أن يقتسما المملكة، فيكون للأول أعمال البصرة وما إليها، وللثاني الموصل وما إليها شمال الشام والعواصم وحمص، وبعث ناصر الدولة أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل أميرا على قنسرين وحلب، ثم استبدله بابن عمه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فقدم حلب وطرد أميرها يأنس المؤنس المولى عليها من قبل الإخشيد أبي بكر محمد بن طغج، وحين علم الإخشيد بذلك، قدم على حلب بجيش لجب، فهرب الحسين الحمداني إلى الرقة، ولما وصلها كان فيها الخليفة المتقي، فلم يأذن له بدخولها، واستدعى الخليفة الإخشيد، فجاءه وأكرمه، وثبت ملكه على الشام ومصر، ورجع الإخشيد إلى مصر بعدما ولى حلب أبا الفتح عثمان بن سعيد الكلابي، فحسده إخوته الكلابيون واستدعوا سيف الدولة فقدمها بموافقة أخيه ناصر الدولة واستولى عليها سنة 333ه وهو الاستيلاء الأول، واستمر أمر الدولة الحمدانية يقوى حتى سيطرت على الموصل وحلب ودمشق.
وبقي ناصر الدولة في إمارته على الموصل والجزيرة والشام، على أن يؤدي عنها الأموال للبويهيين ويخطب لهم، وعلى الرغم من أنه أراد أن يقطع صلته بالبويهيين مرات؛ فإنهم استطاعوا أن يفسدوا عليه خططه باتفاقهم مع ابنه أبي تغلب فضل الله الذي حجر على أبيه وسجنه واستولى هو على الموصل وأطرافها سنة 356ه، وجرت له مع عضد الدولة البويهي حوادث انتهت بزحف عضد الدولة على الموصل، فغزا أبو تغلب ونزل بظاهر دمشق وانتقل منها إلى الرملة وقتل بظاهرها سنة 369ه.
أما سيف الدولة فإنه ما لبث أن استقر بحلب منذ سنة 333ه حتى وافاه الإخشيد وخادمه كافور، فالتقى بهما عند الرستن، وفرق جمعهما، ثم سار إلى دمشق، فلم يوفق إلى فتحها، ورجع إلى حلب، فلحق به الإخشيد واسترد حلب، فهرب سيف الدولة إلى الرقة. وفي سنة 334ه عاد فاستولى عليها، وتم الاتفاق بينه وبين الإخشيد على أن تكون حلب وحمص وأنطاكية لسيف الدولة، ودمشق للإخشيد، ولكن سيف الدولة لم يلبث أن استولى على دمشق، ثم اضطر إلى مغادرتها بعد أن قدم عليه كافور الإخشيدي، فاكتفى سيف الدولة بسورية الشمالية، واتخذها له مقرا وملكا، وكان سيف الدولة لا يفتأ يغزو الروم ويفتك ببلادهم وجيشهم، وكانت غزواته لبلاد الروم على الشكل الآتي:
في سنة 333ه غزا سيف الدولة بلدة الصفصاف وعرسوس فغنم وعاد.
وفي سنة 335ه كان الفداء بين المسلمين والروم على يد عامل سيف الدولة في الثغور، وكان عدد الأسرى 2480 أسيرا، وفضل للروم على المسلمين 230 فوفاهم سيف الدولة من ماله.
وفي سنة 337ه غزا الروم فانكسر وأخذ الروم مرعش وأوقعوا بأهل طرسوس، ثم غزاهم سيف الدولة فملك حصن برزية، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
وفي سنة 339ه غزاهم وأوغل وفتح حصونا كثيرة وغنم وسبى، ثم ضيقوا على جيشه، فلم ينج إلا هو وقليل، وفي سنة 431 غزا الروم سروج فخربوا مساجدها وانصرفوا، فتبعهم سيف الدولة وفتك وعمر ما خربوا وأعاد بناء مرعش، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا
وفي سنة 342ه خرج سيف الدولة إلى ديار مصر وأوقع بالدمستق وأسر ابنه قسطنطين، وفي ذلك يقول المتنبي قصيدته:
ليالي بعد الظاعنين شكول
وفي سنة 343ه سار إلى الحدث وأوقع بالدمستق الذي جاءه بجموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب والخزرية، فهزمهم وأسر صهر الدمستق نوذس البطريق، وأقام في الحدث حتى بناها ووضع بيده آخر شرافة، فقال أبو الطيب قصيدته:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وقد غلط ابن الأثير فذكر أسر ابن الدمستق في هذه الوقعة، كما غلط بعض المؤرخين في هاتين الوقعتين (هذه الوقعة والتي قبلها) فتوهموا أنها وقعة واحدة مع أنهما اثنتان.
وفي سنة 344ه ورد عليه رسول الروم مع فرسان طرطوس وأذنة والمصيصة في طلب الهدنة والفداء، فقال أبو الطيب قصيدته:
أراع كذا كل الأنام همام
وفي سنة 345ه سار سيف الدولة ومعه المتنبي لغزو الروم إلى تل بطريق فأحرقه، وفتك بالروم ووصل آمد وأنشده فيها المتنبي قصيدته:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
وفي سنة 349ه بلغ خرشنة ولكن الروم ردوه، واستردوا جميع ما أخذه وفرقوا جنده، واستطاع هو أن يهرب منهم، وفيها يقول المتنبي قصيدته:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
وفي سنة 351ه غزا دمستق الروم الديار، واستولى على عين زربة، ففتك بأهلها ثم دخل حلب، وانهزم سيف الدولة، فأخذ الدمستق كنوز سيف الدولة وأحرقوا الجامع ومكتبته ، وفي هذه المعركة أسر أبو فراس الحمداني في معركة منبج، وكان متقلدا لها، ثم رجع الدمستق إلى بلاده فعاد سيف الدولة إلى حلب.
وفي سنة 354ه هاجم نقفور الرومي المصيصة وفتحها، وأسر من أهلها عددا عظيما.
وفي سنة 355ه تم الفداء بين الروم وسيف الدولة، فسار سيف الدولة بالبطارقة الذين هم في أسره إلى الفداء، ففدى أبا فراس وجماعة من أكابر الحلبيين.
وفي سنة 356ه مات سيف الدولة بحلب ونقل إلى ميافارقين، فخلفه ابنه سعد الدولة أبو المعالي شريف، ولم يقم بعمل إلى أن مات سنة 381ه/991م، فتولى بعده ابنه أبو الفضائل سعيد الدولة، وكان سعيد صغيرا فتولى الأمر مولاه لؤلؤ، فطمع الخليفة العزيز الفاطمي، بتملك حلب، فجهز جيشا بقيادة منجوتكين، فاستنجد لؤلؤ بملك الروم فأنجده بجيش كبير ولكنه انخذل أمام الجيش المصري، وصالح لؤلؤ منجوتكين فقبل، ولكن الخليفة الفاطمي لم يرض بالصلح، وأمر منجوتكين أن يعود إلى حلب فاستنجد لؤلؤ بالروم ثانية فقدموا بجيش عظيم، وهزموا الجيش المصري، وجاء ملك الروم إلى حلب، فاستقبله أبو الفضائل بالإكرام.
وفي سنة 339ه مات لؤلؤ فخلفه ابنه مرتضى الدولة ابن لؤلؤ، وكان ظالما عسوفا أفسد البلاد، فتمنى أهلها زواله.
وفي سنة 402ه أغار صالح بن مرداس في 500 فارس على حلب واستولى عليها وقضى على دولة الحمدانيين، وطرد ابن لؤلؤ القائم بأمر ولدي سعيد الدولة، وهما أبو الحسن علي وأبو المعالي شريف، وبذلك انتهت دولتهم وسيطرت الدولة المرداسية. (2-1) العلم والأدب في عهد البويهيين والحمدانيين
كان القرن الذي نبغت فيه دولة الحمدانيين من أزهر عصور الإسلام، إن لم يكن أزهرها في العلم والأدب؛ ففي هذا العصر، وجدت دور التعليم في المشرق: العراق والشام ومصر والمغرب ، وفيه أسست دور الحكمة؛ فقد ذكر ياقوت الحموي أن أبا القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي (323) أسس دارا للعلم في بلده، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، وقفا على كل طالب علم، لا يمنع أحدا من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسرا أعطاه ورقا وورقا، وكان ابن حمدان يجلس فيها ويجتمع إليه الناس، فيملي عليهم من شعره وشعر غيره، ثم يملي حكايات مستطابة، وطرفا من الفقه وما يتعلق به. ويذكر ابن النديم (في الفهرست، ص139)، أن أبا علي بن سواد الكاتب ومن رجال عضد الدولة أنشأ داري كتب؛ «إحداهما» بالقصر و«الأخرى» برامهرمز، وجعل فيهما إجراء (راتبا) على كل من قصدهما، ولزم القراءة والنسخ، وكان في الثانية أستاذ يدرس الكلام على مذهب المعتزلة. وفي سنة 383ه أسس الوزير أبو نصر سابور بن أردشير، وزير بني بويه، «دار العلم» في الكرخ ببغداد، ونقل إليها آلاف الكتب والمجلدات ومعظمها بخط أصحابها، وجعل النظر فيها لاثنين من العلويين، وقد احترقت هذه الدار عام 450ه/1058م.
14
وفي حلب جعل سيف الدولة من جامعها ومن قصره داري علم يجتمع فيهما أئمة الأدب والدين في عصره، ويجري عليهم أمواله ويرفع شأنهم. يذكر أبو الفداء (في تاريخه 2: 458) أن سيف الدولة أجرى على أبي نصر الفارابي الفيلسوف المشهور (339ه) أربعة دراهم كل يوم، كما كان سيف الدولة يحضر مجالس العلماء ويتنافس وإياهم، وربما تطور النقاش العلمي إلى وثب وضرب؛ فقد روى ابن خلكان (في الوفيات 1: 65)، أن ابن خالويه النحوي كان خشنا، فوقع بينه وبين المتنبي كلام في مجلس سيف الدولة، فوثب ابن خالويه على أبي الطيب وضرب وجهه بمفتاح كان معه، فخرج من المجلس ودمه يسيل على وجهه. وقد ضمت حلقات سيف الدولة في قصره ومسجد حلب أئمة فحولا في كل فنون العلم، نذكر منهم سيد شعراء العربية أبا الطيب المتنبي الذي جل عن أن يعرف لقدره وفضله وأدبه وعلمه وشعره، ومنهم أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، الكتاب الأدبي الأشهر، ومنهم ابن نباتة الخطيب اللسن. ومن الأئمة الذين كانوا يحضرون مجلس سيف الدولة، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (؟-392ه) مخترع مباحث الاشتقاق الأكبر، ومؤلف سر الصناعة والخصائص.
ومنهم العالم الشاعر الفحل أبو بكر محمد بن أحمد الصنوبري الأنطاكي (؟-334ه)
15
أمين خزانة كتب سيف الدولة الذي يصفه كشاجم بأنه «بحر ما له شط»، ويقول عنه ميتز:
16 «إنه أول شاعر للطبيعة في الأدب العربي ...» وقد ترك آثارا قوية في الأدب العربي، وكان الوزير المهلبي يحب شعره فنشره ببغداد.
17
ومنهم كشاجم الملقب بريحانة أهل الأدب في الموصل وحلب، ومنهم أبو فراس الحمداني ...
والحق أن سيف الدولة مدين في شهرته في التاريخ العربي أولا لمناصرته للعلم والأدب، ثم لجهاده في مناضلة الروم بعد أن أعيا قواد الإسلام أمرهم، وإن حلقة الأدب التي رعاها الأمير الحمداني الشاعر لتعيد إلى الذهن ذكرى الرشيد والمأمون. (3) الدولة الغزنوية (351-582ه/862-1186م)
ينسب تأسيس هذه الدولة إلى «ألب تكين» التركي أحد موالي السامانيين، الذين ارتفع شأنهم في الدولة السامانية، حتى صار أحد أفراد الحرس الملكي، ثم رئيسا لهذا الحرس، ثم نال إمرة خراسان سنة 350، ولكنه لم يلبث فيها طويلا لأن السلطان الساماني عزله عن ولاية خراسان، فصار إلى أطراف المملكة في الشرق، واستطاع أن يجمع جموعا من أفراد جيشه ويستولي على غزنة من حكامها الأصليين وجعلها سنة 351 نواة مملكته التي سنراها تسيطر على إقليمي أفغانستان وفارس والبنجاب حتى بشاور.
ولما مات آل تكين خلفه مولاه وصهره سبكتكين جد ملوك هذه الأسرة السادسة عشرة الذين حكموها بعده.
وقد أوجزنا في كلامنا على الدولة السامانية ذكر الدور الذي لعبه سبكتكين، وابنه محمود في وقف سيل الأتراك القرخانيين لما أرادوا الانسيال على الدولة السامانية.
وكيف أنهم استطاعوا منذ ذلك الحين أن يوطدوا أقدامهم في منطقة «جيحون» حتى «خراسان»، وإليك تفصيل ما أوجزناه هناك.
في سنة 366ه لمع اسم سبكتكين
18
ناصر الدولة (صاحب غزنة) لعقله ودينه ومروءته وإدارته وجهاده، فالتف الغزنويون والأتراك حوله، حتى استطاع أن يكون جيشا عظيما، غزا به بلاد الهند، فنشر فيها الإسلام بعد معارك وحروب كثيرة، وصفها ابن الأثير بقوله (في التاريخ 8: 227): «جرى بينه وبين الهنود حروب يشيب لها الوليد، وكشف بلادهم.» ثم سيطر على قصدار وبست في سجستان، وتوغل في فتوحاته في البنجاب، واضطر ملكها جيبال أن يتخلى له عن إقليم كابل المؤدية إلى سهول الهند، فتوغل فيها حتى لقب ببطل الإسلام وهازم الكفرة، إلى أن مات ابنه إسماعيل سنة 387ه ولم يكن حازما مدبرا كأبيه، فنازعه أخوه محمود وطلب إليه التخلي عن الرس فلم يقبل، ثم اضطره إلى التخلي فتم ذلك سنة 388ه، وتولى محمود عرش الدولة الغزنوية، وفي هذه السنة مات السلطان نوح الساماني وخلفه ابنه منصور فأصدر محمود إليه أمرا بلزوم التخلي له عن خراسان، ولكن منصورا خلع قبل أن يتم ذلك، وتولى أخوه عبد الملك، فانتحل محمود صفة الدفاع عن منصور، وتمكن من طرد عبد الملك الذي لجأ إلى بخارى، فقوي نفوذ محمود وكاتب الخليفة فاعترف بسلطانه ولقبه بيمين الدولة، وأذن له بنقش اسمه على السكة، وتوسعت مملكة يمين الدولة فشملت إقليم البنجاب ولاهور وملتان والعراق العجمي وخراسان وطخارستان وبلخ وما وراء النهر وسجستان، واتخذ محمود مدينة «غزنة» مقرا لمملكته، وغزا محمود بلاد الهند نحوا من سبع عشرة غزوة كان في أكثرها موفقا ناجحا، وسيطر محمود على ذخائر بلاد الهند وهياكل الهندوس، وحطم أصنامها وكان استيلاؤه على صنم سومنات سنة 416 في كجرات، وهو أعظم أصنام الهند. قال ابن الأثير (في تاريخه 9: 118-119): «وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند وهم يحجون إليه ... ويعطون سدنته كل مال جزيل، وله من الوقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية، وقد اجتمع في البيت الذي هو فيه من نفيس الجوهر ما لا تحصى قيمته، وأما البيت الذي فيه «سومنات» فهو مبني على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وكان بيت الصنم مظلما، وإنما الضوء الذي عنده من قناديل الجوهر الفائق، وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس وزنتها مائتا من.» وظل محمود يغزو ويتوغل في بلاد الهند حتى سنة 420ه، وفيها مرض وأقعده المرض عن الغزو إلى أن مات سنة 421ه. كان محمود عاقلا حازما فاضلا محبا للعلم وأهله، ألف له كثير من الكتب في فنون العلم، وقصده العلماء من أنحاء الممالك، ولم يكن له في سيرته شيء يعاب عليه سوى أخذه الأموال بكل طريق، وهو الذي جدد عمارة مشهد طوس، وكان أبوه خربه، ولما أدركته الوفاة أوصى بالملك بعده لابنه محمد جلال الدولة مع أنه أصغر من ابنه مسعود، وكان محمد ببلخ فكتب إليه أعيان الدولة يستدعونه إلى «غزنة» فقدمها، وأما أخوه مسعود فقد كان في أصفهان فلما بلغه خبر موت أبيه سار إلى خراسان، ولم تلبث الأمور أن فسدت بين الأخوين فتحاربا، وكان الفوز لمسعود، فاستولى على غزنة في سنة 422ه واجتمع له ملك «غزنة» و«خراسان» وبلاد «الهند» و«السند» و«سجستان» و«كرمان» و«الري» و«أصبهان» و«بلاد الجبل».
وفي سنة 432ه اختلف مسعود وأخوه محمد فاقتتلا وخلع مسعود واستولى محمد، ثم إن مودود بن مسعود ثار وقتل عمه محمدا، واستمر أمراء هذه الأسرة يتنازعون الملك بينهم حتى انقسمت دولتهم إلى إمارات وضاعت هيبة الغزنوية التي أوجدها سبكتكين وابنه محمود، فتسلط عليهم الأجانب، مثل خانات التركستان، وسلاجقة فارس، واستطاع الفوريون أصحاب أفغانستان أن يصوبوا للدولة ضربة مسددة، أتت عليها في سنة 582ه/1186م، ومات آخر الغزنويين، في لاهور.
ومما يجب أن نذكره، أن ظهور هذه الدولة كان أول نصر للعنصر التركي على العنصر الإيراني في ميدان زعامة العالم الإسلامي.
والحق أن هذه الدولة لا تختلف عن الدولتين؛ السامانية والصفارية من حيث أساليب الحكم التي لا تعتمد إلا على القوة، حتى إذا ما زالت القوة دب الضعف في جسم الدولة، وهذا ما جرى على الدولة الغزنوية؛ فإنها حين ضعفت أمام السلاجقة أخذت تنهار حتى سقطت. (3-1) العلم في عهد الغزنويين
كان محمود بن سبكتكين وأبوه يحبان العلم وأهله، حتى عدت «غزنة» في أيام محمود كعبة طلاب العلم والحكمة في العالم الإسلامي، وقد أسس محمود فيها معهدا علميا راقيا، وقف عليه جليل الأوقاف، كما جعل بلاطه موئل العلماء والحكماء والفلاسفة والشعراء، نذكر منهم المؤرخ العربي «العتبي» الذي ألف لمحمود تاريخا جليلا امتدح به محمودا، وسجل عهده.
ومن رجال محمود، المؤرخ الفيلسوف العالم الجليل أبو الريحان محمد البيروني الذي قام بعدة رحلات علمية في الديار الهندية، وكان يعرف السنسكريتية ، فاستطاع أن يعرف كثيرا من مغاليق الثقافة الهندية، التي سجلها لنا في كتابيه القيمين؛ «تحقيق ما للهند من مقولة» و«الآثار الباقية عن القرون الخالية».
وكان محمود تركيا سنيا؛ فلذلك رعى الأدب العربي وعني به أكثر من عنايته بالأدب الفارسي، كما أنه وقف وقفة قوية أمام حركات الإسماعيلية والباطنية على العموم.
ومن الرجال الذين رعاهم السلطان محمود، الشاعر الفردوسي الطوسي، الذي نظم له ملحمة الشاهنامة الكبرى، وقدمها إلى سلطان البلاد محمود بعد أن مجده كثيرا في مواطن عديدة منها.
الفصل الرابع
الوضع الوزاري والإداري في عصر
الانحلال الثاني
ساء الوضع الإداري والوزاري في المملكة الإسلامية إبان هذا العهد سوءا ظاهرا فاضحا؛ فقد كان الخلفاء ضعافا كما رأينا، وكان السلاطين والمتغلبون يتحكمون بأهوائهم، وقلما نجد سلطانا عاقلا عادلا، سواء في الأسر التي حكمت استقلالا عن العاصمة أو في العاصمة نفسها، وبذلك لقي الناس عنتا ما بعده عنت، ففسدت الأمور وساءت أحوال البلاد. ونريد ها هنا أن نعرض للوزراء البارزين في هذه الفترة؛ أي منذ زمن الخليفة القاهر إلى زمن الخليفة القائم. (1) عهد القاهر
استوزر القاهر أول الأمر محمد بن علي بن مقلة الكاتب الخطاط المشهور، وكان عالما مدبرا إلا أنه كان طماعا استغل نفوذه كثيرا، وتدخل في شئون الدولة تدخلا معيبا طمعا في المال، ولكن على الرغم من ذلك، فإنه كان من الوزراء الأكفاء؛ فقد اضطربت أحوال الوزارة بعده في عهد القاهر، فقد كان أحمق سخيفا، محبا للمال. ولما عزل ابن مقلة، استوزر محمد بن القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب، ولم يبقه إلا قليلا، ثم قبض عليه ونكبه، ولم يطل عهده بعده كثيرا. (2) عهد الراضي
أعيد ابن مقلة إلى الوزارة للمرة الثالثة، وقد بذل خمسمائة ألف دينار حتى استوزره طمعا في أن يجمع ضعفها، ولكنه لم يلبث أن شغب عليه الجند فعزله، واستوزر عبد الرحمن بن عيسى بن داود الحراج، واختلت الأمور في أيامه فاستعفى من الوزارة، فقبض عليه، ثم استوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، وفي عهده ازداد الأمر فسادا واضطربت الأحوال، فاختفى، ثم اكتشف أمره، وصودر، وخلفه في الوزارة سليمان بن الحسن بن مخلد، فلم يستطع أن يفعل شيئا لتغلب الجند، واضطر الخليفة أن يستميل ابن رائق أكبر الأمراء فسماه أمير الأمراء وكلفه تدبير المملكة وإدارتها، فكان يجلس فوق الوزير يولي ويعزل ويتصرف، وليس للوزير إلا الاسم، قال ابن طباطبا (في الفخري، ص248): «لم يبق للوزير - في ذلك العهد - سوى الاسم من غير حكم ولا تدبير، ومن تلك الأيام اضطهدت الخلافة العباسية وخرجت الأمور منها، واستولى الأعاجم والأمراء وأرباب السيوف على الدولة، وجبوا الأموال وكفوا يد الخليفة، وقرروا له شيئا يسيرا وبلغة قاصرة.» وقد أشار ابن رائق أن يعزل سلمان بن الحسن ويوليه أبا الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات ظنا منه أن يجتذب له الأموال، وكان ابن الفرات رجلا متهورا كما يقول ابن طباطبا (ص249) ثم عزله الراضي وولاها سلمان بن الحسن مرة ثانية إلى آخر عهده. (3) عهد المتقي
تولى أمور الخلافة في عهده توزون الديلمي، وتولى الوزارة سلمان بن الحسن مدة أربعة أشهر، ثم عزله وولاها أحمد بن محمد بن ميمون، وكان ضعيفا ليس له من الأمر شيء، ولم يطل عهده حتى قبض عليه واستوزر أبا عبد الله البريدي، وكان بعده أبو إسحاق محمد إبراهيم الإسكافي القراريطي، فلم يبق أكثر من أربعين يوما، صرفه توزون بعدها، ثم أعاد البريدي ثانية، فلم يطل عهده لفساد سيرته، وفيه يقول أبو الفرج الأصبهاني قصيدته ومنها:
يا سماء اسقطي ويا أرض ميدي
قد تولى الوزارة ابن البريدي
ولما خلع تولاها أحمد بن عبيد الله الأصفهاني، ولم يمكث أكثر من خمسين يوما، وكان ضعيفا أحمق جاهلا، فعزل وتولاها علي بن أبي علي بن مقلة، ولم يطل عهده حتى عزل. (4) عهد المستكفي
أول وزرائه السامري أبو الفرج محمد بن علي، لم تطل أيامه حتى قبض عليه، وفي أيامه اضطربت أمور الخلافة كثيرا، وملك البويهيون، وصارت الوزارة لهم، وحل محل الوزير «كاتب» عينه الخليفة الذي لم يبق له من الأمر شيء، على ما بينا سابقا. (5) عهد المطيع
الطائع، والقادر، والمقتدر، والقائم «لم يستوزروا أحدا».
الفصل الخامس
وضع الجيش في هذا العهد
سيطر الجيش في هذا العهد سيطرة بارزة؛ فبعد قتل المقتدر كان في الجيش قائدان، هما مؤنس المظفر القائد العام، ومحمد بن ياقوت صاحب الشرطة والحسبة، وكان بين الرجلين تنافس، فاضطربت أمور الدولة وأعلن مؤنس عصيانه واستولى على الموصل واستقل بها، وأراد الانقضاض على بغداد، فرده محمد بن ياقوت، ثم عظم أمر مؤنس وكان شريرا، فأفسد البلاد، ودامت الفتن بينه وبين محمد بن ياقوت مدة طويلة.
وبرز اسم قائد ثالث هو محمد بن رائق، وكان داهية بارعا، فاستطاع أن يسير دفة السياسة في البلاد، ويصرف الأمور حتى تولى إمرة الأمراء، إلى أن استولى معز الدولة البويهي على بغداد في عهد المستكفي فانحل أمر الجيش العباسي، ومنحه الخليفة آلات السلطنة، ورد إليه إمارة الأمراء، ولم يبق منذ ذلك الحين شأن يذكر للجيش العباسي؛ فقد سيطرت الدولة البويهية، وتسلط جيشها، وانحل الجيش العباسي ما عدا الحرس القليل الذي أبقي إلى جانب الخليفة، أما من كانوا فيه من العرب فقد رجعوا إلى قبائلهم في ديار الشام والعراق، وأما غير العرب فقد تفرقوا في البلاد يعيثون فيها فسادا، ويعملون على الاستقلال ببعض المناطق.
الفصل السادس
الوضع العلمي والثقافي في هذا
العهد
توزع النشاط العلمي الذي كان متحضرا في بغداد إلى العواصم التي اتخذتها الدول المستقلة مستقرا لها؛ ففي عهد البويهيين قوي النشاط العلمي في إيران ولم تحرم بغداد من عناية عضد الدولة، وفي عهد بني حمدان نبغ اسم حلب كما رأينا، وفي عهد الغزنوية برزت غزنة وبخارى في ميادين العلم، وقد بينا ذلك مفصلا فيما سبق.
الفصل السابع
في الوضع الاجتماعي
(1) السكان
برز بين سكان الإمبراطورية الإسلامية في هذا العصر، عنصر جديد هو عنصر الأتراك، وقد كان لهذا العنصر أثر كبير في حياة الأمة الإسلامية وتاريخها، وكان مبدأ ظهور هذا العنصر على مسرح الحياة العباسية منذ زمن المعتصم؛ فقد استقدم في سنة 220 قوما من بخارى وسمرقند وأشروسنة وغيرها من بلاد ما وراء النهر فألبسهم ثياب الديباج ومناطق الذهب وسلطهم، وأخذ يزيد عددهم حتى صاروا ثمانية عشر ألفا،
1
فاضطر أن يخرج بهم عن بغداد، حتى أكثر الناس من التهجم عليهم وعليه، قال دعبل يخاطب المعتصم في ذلك:
لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم
وصيف وأشناس وقد عظم الخطب
وإني لأرجو أن ترى من مغيبها
مطالع شمس قد يغص بها الشرب
وهمك تركي عليه مهانة
فأنت له أم وأنت له أب
وأخذ الناس يضعون الأحاديث على لسان النبي وصحابته في ذم «ليكونن الملك في ولدي حتى يغلب على عزهم الحمر الوجوه الذين كأن وجوههم المجان المطرقة.»
2
وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على مقدار كره الناس لهم حتى صاروا يحنون إلى أيام سيطرة الفرس وصرنا نسمع شاعرا كالبحتري يقول:
أتسلى عن الخطوب وآسى
لمحل من آل ساسان درس
أذكرتنيهم الخطوب التوالي
ولقد تذكر الخطوب وتنسي
أيدوا ملكنا وشدوا قواه
بكماة تحت السنور حمس
وأراني من بعد أكلف بالأش
راف طرا من كل سنخ وأس
وليس البحتري في هذه القصيدة شعوبيا، ولكنه رأى سوء حال البلاد في عصر الأتراك فتأسف على عهد الفرس.
أما الفرس في هذا العصر فقد رأوا أن مكانتهم في الدولة قد انحطت فأخذوا يوجهون قواهم إلى الاستقلال ببلادهم عن جسم الدولة مثل مرداويج الزياري، وطاهر بن الحسن، ويعقوب الصفار والساماني، وابن بويه، وصار شعراؤهم وكتابهم يعلنون سخطهم لهذا العهد كمهيار الديلمي وحمزة الأصفهاني.
وأما العرب فقد رأوا تسلط الترك أيضا بعد تسلط الفرس، فانطووا على أنفسهم، ورجعوا إلى قبائلهم يستعينون بهم على إيجاد سلطة لهم، فلما قووا أخذوا يحتلون القلاع والمدن ويؤسسون الدويلات كالعقيليين والحمدانيين والمرداسيين والمزيدين، وقد نبغ منهم شعراء اعتزوا بعروبتهم كالمتنبي والمعري وابن أبي حصينة.
3
هؤلاء هم سكان الإمبراطورية الإسلامية، وهناك بعض العناصر الأخرى «كالروم» من مسلمين ونصارى ولم يكن لهم نفوذ عسكري، أما في النواحي الثقافية والاجتماعية فقد لعبوا دورا هاما، نذكر منهم ابن الرومي الشاعر، وابن جني النحوي وغيرهما، و«كالسودان» من زنج وأحباش وقد لعبوا دورا هاما في الحياة الإسلامية وكانوا يجلبون من أفريقية أرقاء فيخدمون في الأرض والبيوت، وكان لهم آثار في البيت الإسلامي والبيئة الإسلامية، وما ننسى لا ننسى حركتهم في البصرة، وما أعقبها من فتن ومشاكل، و«كاليهود» و«النصارى» المنتشرين في أرجاء الدولة، وكانوا يمتهنون الجهبذة والصياغة والصيرفة والحساب والطب والصيدلة.
تبع الانحلال السياسي انحلال خلقي بارز، فكثر شرب الخمر، وجاهر الناس به، ولم يعد للخليفة ولا القاضي ولا المحتسب تلك الهيبة التي كانت له من قبل، وفشا الزنا في الناس عامتهم وخاصتهم، وعمت الموبقات الأخرى، وتناقش الفقهاء في هذا العصر في اللواط، واختلفوا في أمره، فأراد بعضهم أن يعتبره مثل الزنا يرجم صاحبه ويقتل، وقال آخرون: لا، بل يعزر إذا فعل بغلامه المملوك، ويحد إذا كان بغيره.
4
ويقول المستشرق ميتز (في كتابه: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع 2: 135): إن هذا اللواط أتى من المشرق مع جيوش العباسيين الذين جاءوا من خراسان، على أن بلاد الأفغان كانت مشهورة بذلك في القرن الثالث والرابع للهجرة، ثم شاع واستقر في القرن الرابع، ويذكر الثعالبي (في اليتيمة 1: 483): «أنه كان على شاطئ دجلة مكان للهو فيه إلى جانب الخمار والخمر «ظبي غرير» أو «ظبية غريرة»، وقاصده لا يدفع لهذا كله في الليلة إلا درهمين، وقد اتخذ المجان بعض الأديرة مواطن لعبثهم ولهوهم، كما نجد ذلك مفصلا في كتاب «الديارات» للشابشي، وقد عم البلاد بهذا الداء، بالزنا والفسق وشرب الخمر، في بغداد إلى درجة اضطرت الفقهاء الحنابلة إلى الثورة لمطاردة هؤلاء الفساق، وكسر أوائل الغناء ودنان الخمر، وتخريب دور اللهو والمجانة.
5
وفي سنة 321ه أمر الخليفة الظاهر بتحريم الخمر والغناء وسائر الأنبذة وأمر ببيع الجواري المغنيات على أنهن سواذج لا يعرفن الغناء، ثم وضع من يشتري له كل حاذقة في صنعة الغناء فاشترى منهن ما أراد بأرخص الأثمان.
6
ومن مظاهر الانحلال الاجتماعي ما يحدثنا به المؤرخون من وقوع بعض الأعمال الوحشية من فظاعات التعذيب والقسوة وامتهان الكرامة على الخوارج وأصحاب العقائد المخالفة لمذهب الحاكم؛ فقد روى صاحب زبدة الفكرة (مخطوط باريز 5: 179) أن الحسين بن حمدان القرمطي وابنه حين قبض عليهما مؤنس وجاء بهما إلى بغداد ألبسا برانس طوالا من اللبود وقمصانا من الشعر الأحمر. وقال المسعودي (في مروج الذهب 8: 169): «لما قبض على القرمطي ببغداد ألبسوه دراعة ديباج وبرنس خز طويل.» ويقول عريب (في ذيله على الطبري، ص57): «إنهم ألبسوه برنسا طويلا بشفاشج وجلاجل.» وقال ابن الأثير (في تاريخه 8: 205): «بل ألبسوه برنسا بأذيال الثعالب.» وقال مسكويه (في تجارب الأمم 6: 501): «بل برنسا طويلا كما يلبس النساء.» ولما هزم ابن أبي الساج وأدخل بغداد ألبس برنسا طويلا بشفاشج وجلاجل وحمل على الفالج، وقد ذكر عريب (في ذيله على تاريخ الطبري) أن الناس لما رأوه كذلك استاءوا، ولما اتهم الحلاج الصوفي بالكفر صلب حيا إلى أن مات، وهي من أفظع العقوبات، وقد ضاعت المثل الأخلاقية، ودرست المبادئ الإسلامية فأهين الخليفة، وسقي السم، وسملت عيونه، وضرب وجر برجله وعذب وشتم وحبس حتى يموت جوعا وعطشا.
7
ولا شك في أن هذا كله آت من الانحلال الخلقي والنفسي. (2) الأسرة
تكلمنا في الكتاب الأول عن شيء من أحوال الأسرة في العصر العباسي الأول، وعن دخول العناصر غير العربية من فارسية ورومية وحبشية وتركية إلى البيت الإسلامي، وعن انحطاط الأسرة واضطراب شأنها بذلك الخليط من الجواري، ونضيف ها هنا أن البيت الإسلامي أضحى يعج بالزوجات المتعددات، عدد غير محدود من السريات، وقد تبع الناس في ذلك خلفاءهم؛ فقد عج قصر الخلافة في هذا العصر، بعدد كبير من الجواري والخصيان حتى صار الخلفاء كلهم إلا قليلا أبناء جوار. قال ابن حزم في نقط العروس: «لم يل الخلافة في الصدر الأول من أمه أمة، حاشا يزيد وإبراهيم ابني الوليد، ولا وليها من بني العباس من أمه حرة حاشا السفاح والمهدي والأمين.»
8
وإذا كان هذا حال الخلفاء، فما قولك بأسر الوجوه والأعيان، أما السوقة والرعاع فقد تاهوا في تلك البيئة المنحلة المضطربة. ومما يجب أن نلاحظه ها هنا أن الجواري في هذا العصر قد كثرن وصارت لهم دور للهو والفسق، ويقول أبو حيان التوحيدي:
9
أحصينا ونحن جماعة في الكرخ أربعمائة وستين جارية في الجانبين، ومائة وعشرين حرة، وخمسة وتسعين من الصبيان من البدور، يجمعون بين الحسن والحذق والظرف والعشرة، هذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزته وحرسه ورقبائه، وسوى ما كنا نسمعه ممن لا يتظاهر بالغناء والضرب إلا إذا نشط في وقت، أو ثمل في حال، أو خلع العذار في هوى قد حالفه وأضناه.» ونحن نرى هذا سر انحطاط المجتمع وفساد الأسرة، وإلا ما معنى وجود هؤلاء «الصبيان البدور» الخمسة والتسعين الذين ذكرهم أبو حيان التوحيدي، ووصفهم أبو حيان في موضع آخر فقال: «خمسة وتسعون غلاما جميلا يغنون للناس،
10
وإنه كان بها غلام موصلي ممن ملأ الدنيا عيارة وخسارة، وافتضح أصحاب التستر والوقار، وأصناف الناس من الصغار والكبار بوجهه الحسن وثغره المبتسم وحديثه الساحر وطرفه الفاتر وقده المديد، ولفظه الحلو ودله الخلوب ... يسرقك منك ويردك عليك ... فحاله حالات، وهدايته ضلالات، وهو فتنة الحاضر والبادي.» وقد تفنن القوم في أسماء هؤلاء الغلمان فسموهم الأسماء المخنثة، مثل: نسيم ومؤنس ووصيف وفاتن وجميلة (لغلام ذكر)، ولا شك في أن هذا كان انحطاطا وانحلالا لأفراد الأسرة ما بعده انحطاط، وأبو حيان حجة في قوله أمين في نقله. وفي هذا العصر نبغ في بغداد شعراء فسقة مجان غطوا على أبي نواس وفسقه وعهره وبذوه، ولم يتركوا في هذا الحال مزيدا لمستزيد، وعلى رأسهم ابن حجاج وابن سكرة الشاعران الفاسقان العاهران اللذان ملأا شعرهما قحة وسوء خلق عجيبين. (3) المسكن
تحدثنا في الباب الخاص بالمسكن في الكتاب الأول عن شيء من البيت العربي وطرزه وأوضاعه، ونضيف ها هنا أن حفائر مدينة سامراء قد كشفت لنا، كما يحدثنا الأستاذان الأثريان «ساره»، و«هرتسفيلد» عن طريقة بناء المسكن العربي في القرن الثالث حيث يقول: «كانت الدور بسامراء تبنى على مثال واحد يصل بينها وبين الشارع أو الدرب دهليز مسقوف يفضي إلى صحن واسع قائم الزوايا، يبلغ عرضه ثلثي طوله في العادة، ويتصل له من جانب العرض القاعة الكبرى وصورتها هكذا ( ) وفي أركانها غرف صغيرة، ويحيط بالصحن أيضا غرف متجاورات مربعة للسكنى والحدائق المنزلية، وفي معظم الدور أقنية صغرى ثانوية، تشتمل على أماكن للمرافق المنزلية أيضا، ولا تخلو الدور قط من حمامات ومجار تحت الأرض، وكثيرا ما يكون فيها آبار وتشتمل أحيانا على صحون ذات طارمات وعلى سراديب للسكنى مهيأة بوسائل التهوية، والدور كلها من طابق واحد، وإذا كانت الأرض المحيطة بها غير مستوية اتخذ منها أصحاب الدور مسطحات مرتفعة بمهارة، وقد تبلغ الغرف في الدار الواحدة «60» غرفة، وبها شبابيك تقفل بألواح من الزجاج المتنوع الألوان، ويتراوح عرض اللوح بين «20» و«50» سنتمترا، وهكذا كانت قصور الخلافة إلا أنها أوسع وأضخم وأفخم.» ويقول الإصطخري (ص83) نقلا عن رجل زار دار الخلافة عامرها وغامرها حوالي أواخر القرن الرابع، فقال: «إنها مثل مدينة شيراز، وكانت زخارف هذه القصور فائقة حد الوصف من رياض وأشجار زينة وأزهار وفرش وتحف، ومن أروع هذه التحف ما كان في قصر المقتدر من تحف أجلها الشجرة الفضية التي كان وزنها خمسمائة ألف درهم، وهي تقوم وسط بركة مدورة صافية الماء، وللشجرة ثمانية عشر غصنا، لكل غصن شاحنات كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في أوقات لها، وللشجرة ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر، وقد أدخل الخليفة رسل الروم إلى هذه الدار، فكان تعجبهم منها أكثر من تعجبهم من جميع ما شاهدوه.»
11 (4) الطعام والشراب
ذكرنا شيئا من هذا في الفصل الخاص به في الكتاب الأول، ونضيف هنا أن الترف والرفاهية، قد ازدادت على سفر الأغنياء، وجعلوا لذلك آدابا وتقاليد؛ فقد روى الثعالبي عن أبي رياش أنه كان آية في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، ولكنه كان وسخ اللبسة قليل التنظيف، شرها على الطعام، سيئ المؤاكلة، دعاه والي البصرة أبو يوسف اليزيدي إلى مائدته يوما، فلما أخذ في الأكل مد يده إلى بضعة لحم فانتهشها ثم ردها إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر أن يهيأ له طبق ليأكل عليه على حدة.»
12
ولا شك في أن هذه الآداب والتقاليد الطعامية، قد دخلت بيوت الأعيان والطبقة البرجوازية، كما أن الغاية بتنويع الطعام قد بلغت أوجها في ذاك العصر؛ فقد روي أن ابن مسكويه خازن كتب عضد الدولة البويهي ألف كتابا في تركيب الباجات من الأطعمة، وأنه أحكمه غاية الأحكام وأتى فيه من أصول علم الطبخ بكل غريب حسن،
13
أما الحلوى فقد تفننوا فيها تفننا لا من حسن الطعم بل من حسن الشكل والصورة؛ ففي ديوان المتنبي (ص18) مقطوعة لطيفة قالها في شكر رجل أهدى إليه سمكا مصنوعا من السكر واللوز مطبوخا بالعسل. وكما أننا نجد في هذا العصر آدابا وتقاليد، كان أهل الظرف والترف يتقيدون بها، وقد أحصاها الوشاء في كتابه الطريف «الموشى»، وفيه فصل لنا آداب مجالس الشراب وآداب موائد الطعام، كما يحدثنا أنهم كانوا يكرهون أنواعا من الأطعمة، ويبتعدون عن طعامها مثل الهندباء والفجل والحرف لنتنها، والكراث والبصل لرائحتها، والثوم والبصل لمغبة أكلها، كما أنهم كانوا يمتنعون عن أكل الزيتون والتمر والمشمش والنبق والصاب والخوخ والأجاص وغيرها مما له نوى لما في إخراج نواه أمام الحاضرين من نقص في المروءة، وأنهم كانوا لا يأكلون السمسم المقلي والزبيب الأسود؛ لأنهم يشبهونه بالبعر، ولا الباقلي والبلوط والخرنوب الشامي وغير ذلك مما يرون في أكله على مجالس الشراب نقصا في آداب الشراب، وإنما كانوا يأكلون مع الشراب مملوح البندق ومقشر الفستق وتفاح الشام وسفرجل بلخ وقصب السكر المغسول بماء الورد، ويطيبون مجالسه بالعود الهندي والطين الخراساني، والملح الصنعاني.
14
ولا شك في أن هذا كان نوعا من الرفاهية والترف لم تصل إليه مجالس اللهو والشراب في أرقى عصورها في أوروبا. (5) مستوى المعيشة
لا نعرف شيئا حقيقيا عن مستوى المعيشة في هذا العصر، وعن أحوال الطبقات فيه، غير أنه لا شك في أن الناس يمكن تقسيمها إلى خمس طبقات : (1)
الحكام من خليفة وسلطان وأمير وعامل ومن إليهم. (2)
طبقة كبار التجار والزراع والملاكين والموظفين البارزين ومن إليهم. (3)
طبقة عامة التجار والزراع وكبار السوقة، والجنود المرتزقة. (4)
طبقة العامة من صغار السوقة وعمال الحوانيت والباعة والكتبة والمحترفين والفلاحين ورجال العلم. (5)
طبقة المكدين والمتصوفة والمتفقهة. (1)
أما أهل الطبقة الأولى فقد كانت مواردهم الواسعة سببا في أن يحيوا حياة بذخ وترف لا حد لهما؛ فقصورهم تعج بالخدم والحشم والرقيق والطرف والتحف، أما ما ينفقونه على بناء قصورهم فشيء لا يصدق. قالوا إن المتوكل بنى قصره «العروس» بثلاثين مليون درهم، و«الجعفري» بعشرة ملايين و«العزيب» بعشرة أيضا، و«الشيدان» بعشرة كذلك و«البرخ» بعشرة أيضا، و«الصبح» بخمسة ملايين ... إلى آخر ما يرويه مؤرخو العصر عن قصور هذا الخليفة. (2)
وأما طبقة كبار التجار والزراع والملاك والموظفين، فكانت كذلك طبقة مترفة لا تقل فخامة قصورها ورياشها عن قصور الطبقة الأولى، نذكر من هؤلاء آل الجصاص التجار الجوهريين الذين بلغت ثروتهم حدا مدهشا.
15 (3)
وأما طبقة عامة التجار والزراع وصغار الملاكين والموظفين فكانت أحوالهم متوسطة يتبلغون هم وأهلهم بطعام جيد، وسكن حسن وخدم محدودين. (4)
وأما طبقة العامة من صغار السوقة والباعة وعمال الحوانيت والباعة والكتبة والمحترفين والفلاحين، فإنهم كانوا يعيشون في شدة وضنك على الرغم من تعبهم وكدهم؛ لأن الطبقات الثلاث الأولى استنزفت موارد الدولة واستغلت خيراتها، وليست لدينا معلومات عن مقدار موارد هؤلاء البؤساء، ولكنا عثرنا على بعض النتف التي تعطينا صورة عن حالهم ومقدار ما كانوا يتبلغون به؛ فقد روى التنوخي (في كتاب: الفرج بعد الشدة 2: 155): «أن رجلا فقيرا جاء إلى البصرة في القرن الرابع وطلب عملا من صاحب حانوت، فاستخدمه الحانوتي كاتبا لحساباته مقابل نصف درهم في اليوم إلى طعامه وكسوته، ثم زيدت الأجرة إلى درهم في اليوم.» ويقول مسكويه (في تجارب الأمم 2: 198) في سنة 352ه: قال إن أبروتها الطبيب كان يدور من باب إلى آخر ليعالج المرضى، ويأخذ دانقا ونصفا أو ربع درهم عن كل مريض.» فإذا كان هذا حال كاتب الحسابات والطبيب ، فما قولكم بالعمال والفلاحين والباعة المتجولين!
أما رجال العلم فقد وضعناهم في عداد هذه الطبقة لأنهم كانوا دوما في شر حالة؛ فكتب الأدب والتاريخ والطبقات مليئة بأخبار هؤلاء البائسين، وإليكم ببعض النتف التي تؤيد ما ذكرناه:
كان أبو حيان التوحيدي الإمام الأديب الكاتب الفيلسوف البليغ الصوفي يعيش من نسخ الكتب والوراقة والتأليف، وإليك وصف حاله: «ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم.»
16
وقد ملأ كتبه «الإمتاع» و«الصداقة» و«المقايسات» بشكوى الزمان من سوء الحال والفقر، واضطر آخر عمره - ولا شك في أنه أصيب بنوع من الجنون - إلى أن يحرق كل كتبه.
وكان أبو علي القالي الإمام اللغوي الأديب، يشكو البؤس والفقر فلا يجد أحدا يعطيه قوته حتى اضطر أن يبيع كتبه ليعيش، ثم عزم أن يهاجر إلى الأندلس فهاجر إليها ولقي الحياة الهنية بقرب أميرها الكريم الحكم الأموي.
وكان الفقيه الشاعر اللغوي الأديب الأبيوردي مضرب المثل في البؤس والحاجة، وقد حكى عنه الخطيب البغدادي أنه مكث سنتين لا يقدر على شراء جبة يلبسها في الشتاء.
وهناك مئات من الآدميين ومن العمال والفلاسفة والأطباء وأهل الحكمة والفن عاشوا في شظف وبؤس ما بعدهما مزيد، ونختم هذا الكلام بهذه القصة، بل الفاجعة التي يرويها أبو حيان فيقول: «شاهدنا في هذه الأيام شيخا من أهل العلم ساءت حاله وضاق رزقه، واشتد نفور الناس عنه، ومقت معارفه له، فلما تولى هذا عليه دخل يوما منزله ومد حبلا إلى سقف البيت واختنق به، فلما عرفنا حاله جزعنا وتوجعنا وتناقلنا حديثه وتصرفنا فيه.»
17
وهذا بلاء ما بعده بلاء. والحق أن العلماء كانوا نوعين؛ «نوع» تمكن من الاتصال بالخليفة أو السلطان أو الأمير، أو بعض رجال الدولة، أو الأغنياء الرحماء، فهم في حالة ميسورة، بل ربما بلغوا طبقة الأغنياء، ولكنهم قلة. و«نوع» لم تمكنه ظروفه من الاتصال بالخليفة، أو رجال دولته، أو أنهم لم يرضوا ذلك، فهم في بؤس وعنت أو في كفاف وتقشف. (5)
طبقة المكدين والمتصوفة والمتفقهة: كان المكدون من شحاذين محترفين أو بؤساء عاجزين أو مقعدين يعيشون من صدقات الناس وإحسانهم، وكانوا يتخذون المساجد والطرقات العامة وأبواب المساجد والحمامات محلات لهم، يسألون الناس فيها الإحسان والتصدق، وكان العربي يأنف من أن يهوي إلى هذه الطبقة، بل يفضل أن يرجع إلى البادية يسرق أو يغزو.
أما المتصوفة والمتفقهة فهم الذين كانوا يعيشون من ريع الأوقاف وإحسان المحسنين ويقنعون بما يرد إليهم من جامكيات الأوقاف، وأعطيات المحسنين، وقد ظهر في هذا العصر نوع من «الزوايا» التي يجد فيها المتصوف و«المدارس» التي يجد فيها الفقيه طعامه وشرابه ولباسه.
عصر السقوط
من سنة 422ه إلى سنة 656ه
الفصل الأول
عرض موجز لشئون الخلافة وأحوال
الخلفاء من عهد القادر إلى عهد المستنصر آخر الخلفاء
وقف بنا الكلام في عرضنا لشئون الخلافة وأحوال الخلفاء في الكتاب الثاني عند نهايته عن الخليفة القادر أبي العباس أحمد، ورأينا أنه كان من أفاضل الخلفاء حسن الطريقة، وأنه أراد إرجاع مظاهر العزة للخلافة، ولكنه لم يفلح إلا بعض الشيء، فحييت رسوم الخلافة، ورجع وقار الدولة لطول عهده، ولكن تلك الحياة كانت صحوة الموت كما قلنا.
ولما مات في سنة 422ه بويع ابنه عبد الله جعفر وتلقب بالقائم بأمر الله، وكان حسن الطريقة كأبيه، صالحا عاقلا، فاستطاع أن يتم خطوة أبيه، فأمر بالمعروف وعدل في الناس. وكان سلطان العراق في عهده جلال الدولة البويهي، ولم يكن هذا حازما، فشغب عليه جنوده، واضطرب أمر السلطنة فاضطرب أمر الخلافة معها تبعا، وعاث الجنود الفساد في البلاد والقرى، حتى في ممتلكات الخليفة فلم يستطع السلطان أن يمنعهم، وانتشر البدو في البلاد يفسدون وينهبون، فلما مات جلال الدولة تسلطن ابن أخيه أبو كاليجارين سلطان الدولة، ولقبه الخليفة بمحيي الدولة (الدين)، ولم تكن حال البلاد في عهده خيرا من حالها في عهد عمه إلى أن مات، فخلفه ابن خسرو فيروز الملك الرحيم، ولم يكن خيرا من سلفه إلى أن طرده طغرل بك السلجوقي وقضى على دولة آل بويه، وابتدأت دولة آل سلجوق.
وتفصيل ذلك أن حالة العراق قد ساءت في أواخر عهد خسرو فيروز، حتى إن أبا الحارث أرسلان البساسيري أحد مماليك بهاء الدولة البويهي قد قوي نفوذه وأراد أن يزيل الخلافة العباسية وكاتب الخليفة المستنصر الفاطمي صاحب مصر بذلك، ولما علم الخليفة في بغداد بهذا، كتب إلى طغرل بك يستغيث به، فقدم هذا على بغداد في محرم سنة 447ه وأسر فيروز، أما البساسيري فقد فر وأخذ يجمع جموعه لاسترداد بغداد، فبعث إليه طغرل بك ابن عمه قتلمش فتغلب البساسيري، واضطر طغرل بك أن يقابله بنفسه، والتقى جمعهما وانهزم البساسيري، وسيطر طغرل بك على الديار الموصلية، ثم رجع إلى بغداد سنة 449ه، وقابل الخليفة ففوض إليه إدارة البلاد وخلع عليه سبع خلع، وتوجه وعممه ولقبه بملك المشرق والمغرب، فقبل يد الخليفة مرتين، وبالغ في احترام الخليفة.
وفي سنة 450ه بينما كان السلطان طغرل بك غائبا عن بغداد، استطاع البساسيري أن يدخلها بجنده ويخطب للمستنصر العلوي، واضطر القائم إلى الهرب واللجوء إلى مهارش بن مجلي العقيلي في حديثة عانة فأكرم وفادته. أما البساسيري فإنه تسلط على بغداد وسار بالناس سيرة حسنة وامتد نفوذه إلى واسط والبصرة حيث خطب للمصريين أيضا.
وفي سنة 451ه توجه طغرل بك إلى بغداد فهرب البساسيري منها، وبعث السلطان الإمام أبا بكر أحمد بن محمد المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران يشكره ويستدعي الخليفة، ولما وصل الخليفة إلى النهروان خرج طغرل بك لاستقباله ودخلوا بغداد جميعا في أواخر سنة 451ه، وأنفذ السلطان جيشا لملاحقة البساسيري فأمسك به وقتله شر قتلة، ثم رجع السلطان إلى الري عاصمة ملكه، وأقام فيها نائبا سماه «الشحنة» بعد أن تزوج السلطان بابنة الخليفة ومات بالري في سنة 455ه.
ولما مات خلفه عضد الدولة أبو شجاع ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وكان أميرا حازما عاقلا مدبرا، استعان بالوزير العظيم نظام الملك الطوسي على إدارة دولته، فصدقه نظام الملك في الخدمة وحسنت الدولة في أيامهم، ولما مات ألب أرسلان خلفه جلال الدولة أبو الفتح ملكشاه، ولأوائل حكمه توفي الخليفة القائم في 13 شعبان سنة 467ه.
خلف بعد القائم حفيده أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي العباس محمد بن الخليفة القائم ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه؛ فإن «الذخيرة» مات أيام أبيه، وكان للذخيرة جارية أرمنية فولدت بعد موت سيدها بستة أشهر غلاما سماه جده عبد الله وولاه عهده وأحسن تربيته ورعايته، فشب قوي النفس، متن الخلق، عظيم الهمة، أحسن إدارة البلاد، ومنع الفتيات المفسدات من البغاء في بغداد، وأشرف على أمور الناس بنفسه، فحسنت الأحوال؛ لأنه كان حسن السيرة، ذا فضل وحزم وعفة وجهاد أيضا، فتوسعت رقعة البلاد في عهده وامتدت من الصين إلى اليمن، ووضع في النواحي التي افتتحها وخطب للخليفة فيها من بلاد الروم خمسين منبرا، وامتد سلطانه إلى سمرقند والمشرق، وما ذلك كله إلا لحسن إدارته وبراعة سياسته واستماعه لإرشادات الوزير الصالح العالم نظام الملك، فلما مات ملكشاه وكان له بنون أربعة: بركياروق، ومحمد، وسنجر، ومحمود، وهو طفل، فطلبت أمه من الخليفة أن يسمي ولدها للسلطنة فأجابها، إلا أن جنود نظام الملك سلطنوا بركياروق، وبعثوا إلى الخليفة تقليد السلطنة فمات فجأة والتقليد بين يديه في 15 محرم سنة 487ه فلم يتم ذلك.
وخلفه ابنه أحمد المستظهر بالله، وكان صالحا عادلا حسن الأخلاق طيب السيرة، وكانت أيامه أيام هدوء وسكينة، لولا فساد السلطان بركياروق؛ إذ لم يكن حسن الإدارة، فاختل أمر السلطنة في عهده، وطمع عمه تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق بالسلطنة، وجرت بين الاثنين معارك، إلى أن مات العم، فصفا الجو لبركياروق واستقامت أموره بإدارة وزيره العاقل مؤيد الملك عبد الله بن نظام الملك وكان حازما عاقلا مدبرا. ولما مات مؤيد الملك عادت الفتن بين بركياروق وأخيه محمد، واتقدت نيران الحرب بين أفراد آل البيت السلجوقي من سنة 492ه إلى سنة 497ه، وفي هذه الفترة تحرك الفرنج لأول مرة مغيرين على المملكة الإسلامية، ثم مات بركياروق سنة 498ه فتسلطن أخوه محمد إلى سنة 511ه، ثم تولى ابنه مغيث الدنيا والدين محمود بن محمد بن ملكشاه ولقبه الخليفة المستظهر «يمين أمير المؤمنين»، وخطب له ببغداد في 13 محرم سنة 512ه، ولم يلبث الخليفة طويلا بعد محمد بن ملكشاه حتى مات في 16 ربيع الآخر سنة 512ه. وفي عهد المستظهر حدثت في الدولة أحداث جليلة في الشرق والغرب، أما الشرق فقد ظهرت فيه الباطنية بشكل رهيب، أما في الغرب فقد بدت فيه بوادر الحروب الصليبية.
ولما مات خلفه ابنه المسترشد بالله أبو منصور الفضل في 16 ربيع الآخر سنة 512ه وكان رجلا فاضلا، وكان سلطان العراق في عهده هو السلطان محمود بن محمد، وكان السلطان سنجر بن ملكشاه ملك خراسان وما وراء النهر وهو زعيم البيت السلجوقي، فلما مات أخوه محمد طلب من الخطباء أن يذكروا محاسن أخيه في خطبهم ويبينوا أعماله في قتال الباطنية، وكان يلقب بناصر الدين فاستبدله بمعز الدين، وعزم على قصد الجبل والعراق، ووقعت عدة معارك بين السلطان محمود وعمه سنجر، ثم بين السلطان وبين أخيه مسعود صاحب الموصل وأذربيجان، وكان الخليفة المسترشد قد استعاد شيئا من نشاط الخلفاء العباسيين الأولين، فقاد بعض الجيوش لمحاربة مخالفيه، مثل دبيس بن صدقة صاحب الحلة، ولكن السلطان مسعود لم يستحسن ذلك الأمر، وأفضى الحال إلى الحرب بينهما، فتقدم الخليفة جيشه لقتال مسعود، ولما كسر جيش الخليفة ووقع الخليفة أسيرا، وبلغت هذه الأخبار السلطان سنجر كتب إلى مسعود يأمره بأن يتلافى الحال ويعتذر إلى الخليفة، ويرده إلى بغداد معززا، وبينما كان يهيئ أمر عودته على أحسن حال، هجم الباطنية على الخليفة فقتلوه في سنة 529ه، ويقال إن الذي دفع إلى قتله هو مسعود (كما في الفخري، ص265).
ولما قتل وبويع ابنه الراشد بالله أبو جعفر المنصور في 27 ذي القعدة سنة 529ه عقب وصول الخبر بموت أبيه، جهز جيشا كثيفا لقتال مسعود، ولكن مسعودا سبقه ودخل بغداد فكف الراشد وهرب إلى الموصل وجمع مسعود العلماء والوجوه وأخذ خطوطهم بالقدح في الراشد، وخلعه ثم إن جماعة من الملاحدة والباطنة قتلوا الراشد في أصفهان.
ولما خلعه مسعود ولى عمه المقتفي لأمر الله أبا عبد الله محمد بن المستظهر في 8 ذي القعدة سنة 530ه، واستمر مسعود في سلطانه إلى أن مات سنة 547ه، وبموته أفل نجم السلاجقة؛ فقد خلفه ابن أخيه ملكشاه بن محمود، ولم يكن ذا سياسة وإدارة، أما الخليفة فإنه لما بلغه موته، طرد شحنة السلجوقية من بغداد، واستولى على داره وجمع الأموال وجيش الجنود وبعثهم فاستولوا على الحلة وواسط، وتقسم الأمراء في الأقاليم أملاك السلجوقيين في «حصن كيفا» و«ماردين» و«دمشق» و«الموصل» و«حلب» و«سنجار» و«الجزيرة» و«إربل»، و«أذربيجان» و«فارس»، و«لورستان»، وقامت في هذه المدن والأقاليم دول أو دويلات متعددة تقسمت أسلاب الدولة السلجوقية التي شادها طغرل بك وألب أرسلان وملكشاه ووزيرهم العظيم نظام الملك الطوسي.
واستمر المقتفي مستقلا بأمر العراق إلى ربيع الأول سنة 555ه حين مات، فخلفه ابنه المستنجد، وكان حسن السيرة صالحا أزال المظالم ومنع الفساد، وحل المقاطعات وأعادها إلى الخراج، وكان ملك السلاجقة بعهدة أرسلان شاه بن محمد بن ملكشاه، ولم يكن له نفوذ في العراق، واستمر في حكمه إلى سنة 566ه حين خنق في الحمام، فخلفه ابنه المستضيء بالله أبو محمد الحسن، وكان حسن السيرة عادلا كريما حليما، وفي عهده قضى صلاح الدين بن يوسف بن أيوب على الفاطميين في محرم سنة 567ه، وخطب للمستضيء وظل كذلك إلى أن هلك.
ثم استخلف الإمام الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء في ذي القعدة سنة 575ه، وكان إماما ذكيا سياسيا حازما عادلا بليغا عاقلا شجاعا مدبرا، وهو أطول العباسيين عهدا؛ فقد حكم 46 سنة وأحد عشر شهرا.
قال ابن طباطبا (في الفخري، ص280): «طالت مدته وصفا له الملك، وأحسن مباشرة أحوال الرعية بنفسه حتى كان يتمشى في الليل في دروب بغداد ليعرف أخبار الرعية.» وفي أيامه انقرضت الدولة السلجوقية بالكلية.
وكان للناصر من أعمال البر والخير والعرفان ما يفوت الحصر، ومات في سنة 622ه، وفي عهده حدثت حوادث جسام، كإغارة المغول والتتر على البلاد، فاستولوا على أقاليم المشرق من الصين إلى العراق، وعاثوا بالبلاد فسادا، والخليفة لا يستطيع الوقوف أمامه إلى أن أدركه أجله فمات في رمضان سنة 622ه.
فخلفه ولده أبو نصر محمد الظاهر بأمر الله في سنة 622ه، ولم تطل أيامه ولم يكن في أعماله شيء ذو خطر، ومات سنة 623ه فخلفه ولده أبو جعفر المنصور المستنصر بالله سنة 623ه، وكان شهما جوادا عاقلا عالما فاضلا محبا للعمران وتأسيس دور العلم، وكانت أيامه طيبة، والبلاد هانئة، وفي عهده تم للمغول السيطرة على بلاد إيران إلى حدود العراق، والخلفاء ساكتون واجمون، والنكبة محدقة بهم. وفي سنة 640ه مات المستنصر فخلفه ابنه المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله آخر الخلفاء العباسيين على يد هولاكو المغولي، وكان ذلك في 20 محرم سنة 656ه.
قال ابن طباطبا في وصف المستعصم الفخري: «كان رجلا حرا متدينا، لين الجانب، سهل العريكة عفيف اللسان والفرج ... قليل الخبرة بأمور المملكة مطموعا فيه ... وكان زمانه ينقضي بسماع الأغاني والتفرج على المساخر، وبعض الأوقات بخزانة الكتب للتسلي، وكان أصحاب دولته من الجهال الأراذل إلا وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي، فإنه كان فاضلا عاقلا نبيلا، ففسدت الأمور واضطربت أحوال الدولة، وطمع فيها التتر، وكان جنكيز خان قد هلك في سنة 624ه/1227م في عهد الخليفة المستنصر بعد أن استولى على أكثر بلاد المملكة الإسلامية في المشرق والمغرب، فلما هلك اضطربت الدولة المغولية فترة، ثم أجمع قوادها وأمراؤها أمرهم على انتخاب آكتاي بن جنكيز خاقان عليهم في سنة 426ه، فجهز جيشا من 30 ألف مقاتل ولى قيادته إلى شيرماجون وبيدشو لقتال السلطان جلال الدين منكوبرتي ملك الدولة الخوارزمية فقضوا عليه.»
1
وكانت الدولة الخوارزمية حاجزا عن البلاد الإسلامية التي سيطر عليها جنكيز وبين الدولة العباسية، فلما سيطروا على الدولة الخوارزمية، سهل عليهم القضاء على أملاك الخلافة العباسية، ويظهر أن المسلمين قد كانوا يعرفون هذا؛ فقد روى ابن تغري بردي «أن بعض الناس دخلوا على السلطان الملك الأشرف موسى صاحب دمشق وهنئوه بمقتل عدوه، منكوبرتي، فقال لهم: «تهنوني وتفرحون، وسوف ترون عنه، والله لتكونن هذه الكسرة سببا لدخول التتر إلى بلاد الإسلام، ما كان الخوارزمي إلا مثل السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج».» وهكذا كان؛ فإن مانجو خان (مانكو) الذي خلف آكتاي سنة 649ه جهز جيشين؛ أحدهما بقيادة أخيه كوبلاي لإتمام فتح الصين، والثاني بقيادة أخيه الأصغر هولاكو للقضاء على الإسماعيلية في فارس، والسيطرة على بغداد، فشرع هولاكو يجهز جيشه ويعد العدة ويكاتب الملوك والأمراء المسيحيين وغير المسيحيين من أعداء خلافة بغداد للقضاء على الخليفة. وتمكن هولاكو في سنة 653ه من السيطرة على بلاد الإسماعيلية واحتلال حصنهم «قلعة الموت» في سنة 654ه، ثم كتب إلى الخليفة المستعصم في 9 ربيع الثاني سنة 655ه/21 أيلول سنة 1257م رسالة يدعوه فيها إلى الاستسلام والخضوع والحضور إلى حضرته لإعلان ذلك، فلم يهتم بالرسالة كما لم يهتم بأمر الدفاع عن بلاده على الرغم من تحذير وزيره ابن العلقمي له، فسارت جيوش المغول قاصدة العراق حتى طوقت بغداد سنة 656ه، وأراد الخليفة في تلك الساعة المصالحة والذهاب بنفسه إلى معسكر هولاكو مع أولاده الثلاثة ليسلم إليه بغداد التي أعمل فيها التتر التخريب والفساد مدة أسبوع، على أن يؤمنه على أهله ونفسه بعد أن قدم جواهر الخلافة ونفائس المملكة إلى هولاكو، فأخذ ذلك منه، ولم يمهله إلا عشرة أيام حتى قتله هو وابنه الأكبر في الرابع عشر من صفر سنة 656ه بعد أن كان خرج عن بغداد ومعه الخليفة فقتله في الطريق، رفسا على باب كلواذي.
وقد حل ببغداد من التقتيل وفظائع التتر أمور مخيفة أطنب المؤرخون في وصفها، وإليك موجز ما يقوله السيوطي (في تاريخ الخلفاء، ص363)، عن ذلك، حين يذكر أنه قد قدر عدد من قتل من أهلها في الحصار وبعده ما يقرب من مليون نسمة، ولم يترك هولاكو أحدا من العلماء والأمراء والحجاب وكبار الموظفين والتجار والوجوه والأشراف على قيد الحياة، ولم يسلم من أهل المدينة إلا من اختفى في بئر أو في قناة، وقد انتهبت دورها وقصورها وأرسلت نفائسها إلى أذربيجان، وكان لسقوط بغداد أثر كبير في خضوع أمراء آسيا الغربية مثل بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل والأتابك أبو بكر بن سعد صاحب فارس، وسلاجقة الروم، كما كان من آثار هذا السقوط أن انتقلت الخلافة العباسية إلى مصر.
الفصل الثاني
مظاهر الانحلال وأسباب السقوط في الدولة
فسدت أمور الدولة العباسية في هذه الفترة فسادا بارزا، وبخاصة في الفترة الأخيرة منها؛ فقد كان الخلفاء منصرفين إلى توافه الأمور، أما تقوية كيان الدولة والتيقظ لما قد يصيبها من بلاء فقد كانوا في معزل عنه، وكان السلاطين السلاجقة هم المفكرون بشئون الدولة والبلاد، وقد عاشت البلاد فترات رخاء وأمن، حين كان السلاجقة أقوياء منصفين، فلما ضعفوا وظلموا فسدت الحالة وعم البلاء إلى أن كانت الكارثة العظمى. ويمكننا إجمال مظاهر الانحلال في الدولة العباسية حين سقوطها بالنقاط الأربع عشرة الآتية: (1)
سقطت مكانة الخليفة في هذه الفترة، وذلت الخلافة ذلا واضحا في أواخر عهد بني بويه، وتسلط على الخلفاء مماليكهم، وعلى رأسهم البساسيري مملوك بهاء الدولة بن عضد الدولة. وقد صور لنا ابن العميد (في كتابه: تاريخ المسلمين، ص271) نفوذ البساسيري وضعف الخليفة بقوله: «كان قد عظم قدره بالعراق واستفحل، فطار اسمه، وعظمت هيبته، وخافته أمراء العجم، وخطب له على منابر العراق، ولم يبق للملك الرحيم بن بويه، إلا مجرد الاسم، ثم بلغ الخليفة القائم بأمر الله أن البساسيري قصد دار الخلافة للقضاء عليه ... وقد استطاع أن يقضي عليه ويسجنه في قلعة الحديثة، ثم استنجد الخليفة بطغرل بك السلجوقي لطرد البساسيري، فكان له ما أراد، وقد ظن أن سيطرة السلاجقة ستعيد له مكانته، وللخلافة سلطانها، ولكن ظنه خاب؛ فإنهم أعادوا له مظاهر الاحترام، واستبدوا بالأمر دونه، وأقطعوه بعض الأراضي ليستغلها. (2)
لأن السلطان الأجنبي الذي كان يضفي عليها شيئا من المهابة، قد ضعف هو نفسه، وصار الأجناد من ديالمة وكرد لا يسمعون للسلطان البويهي، وقد رأينا أنهم لما أفسدوا بعض قرى الخلافة شكا الخليفة ذلك إلى السلطان جلال الدولة فلم يقدر أن يصنع شيئا لضعفه ، ولما سقطت الدولة البويهية وخلفتها السلجوقية استعاد الخلفاء بعض هيبتهم، حين كان السلاجقة أقوياء، فلما ضعفوا عادت الخلافة من جديد إلى الانحطاط والضعف، وهذا شأن كل من لا يعتمد على نفسه في حماية بلاده، بل ينتظر من الغريب أن يحميها عنه.
ولما ضعف السلاجقة وكان الخلفاء قد لاقوا من المهانة والمذلة ألوانا، عزم أحدهم أن يثور لكرامته ويعيد للخلافة مكانتها بعد ما رآه من تعسف السلاجقة وظلمهم حتى قال المسترشد:
1 «فوضنا أمورنا إلى آل سلجوق فبغوا علينا، فطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون.» وقد أعلن هذا الخليفة عداءه للسلطان محمد السلجوقي في سنة 520ه، وأخذ الخليفة يقوي نفسه ويعمل على إقصاء السلاجقة من بغداد، وقطع في سنة 529ه الخطبة لمسعود،
2
فتحاربا وكان الفوز لمسعود، وأسر الخليفة. (3)
كان من جراء سقوط الهيبة العباسية أن انزوى الخلفاء في قصورهم يعيشون عيشة ترف ودعة، وبالغوا في الاحتجاب عن الناس. ويذكر المستشرق لسترنج
3
نقلا عن الرحالة اليهودي توديلا الذي زار بغداد حوالي سنة 555ه، وكان ذلك في عهد المقتفي أو المستنجد، أن الخليفة كان لا يخرج من قصره إلا مرة واحدة؛ أي ليؤم الناس في صلاة عيد الفطر. (4)
كان الخلفاء لا يستطيعون الوقوف أمام رغبات السلاجقة أو وزرائهم؛ فالسلطان البويهي يعزل وزير الخليفة على الرغم منه، لا لشيء إلا تنفيذا لرغبة عميد الدولة البويهي، كما أنه عزل وزيره أبا شجاع تنفيذا لرغبة ملكشاه؛
4
بل إن ملكشاه صمم على طرد هذا الخليفة نفسه من بغداد سنة 485ه لأنه رأى منه ميلا إلى التدخل في أمور الدخل، فبعث إليه من يقول له: «لا بد أن تترك لي بغداد، وتذهب إلى أي بلد شئت، فانزعج الخليفة وقال: أمهلني ولو شهرا. فقال: ولا ساعة واحدة. فأرسل الخليفة إلى وزير السلطان يطلب المهلة إلى عشرة أيام، فاتفق أن مرض السلطان ومات، وعد ذلك كرامة للخليفة.»
5 (5)
كان انحلال الدولة السلجوقية مؤذنا بسقوط الخلافة العباسية؛ لأن ضعف السلاطين، جعل الدولة العباسية مطمعا للأجانب من شرقيين وغربيين، فاستطاع الصليبيون أن يسيطروا على الشام، ويوطدوا أقدامهم فيه، واستطاع التركستانيون (الخطا) أن يسيطروا على الممالك الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، وقد حسب الخلفاء أن زوال سلطة السلاجقة يعيد إليهم سلطانهم، فلما زالوا لم تعد سلطتهم وتسلط عليهم الخوارزميون الذين ورثوا أملاك السلاجقة في المشرق، ولا شك في أن الناصر العباسي قد أخطأ خطأ كبيرا حينما استنجد بخوارزمشاه تكش للقضاء على عدوه طغرل بك السلجوقي، ووقع الخلفاء من جديد تحت سلطان الخوارزمية، فعاد الخصام والتنافس من جديد بين الخلفاء والخوارزمية، ولم ينته ذلك التنافس إلا بهلاك الطرفين على يد التتر. (6)
كان من نتائج ضعف الخلافة والسلطنة أن قويت جهود الإسماعيلية والباطنية عموما في فرض سلطانهم والعمل على تقويض أركان الخلافة العباسية، ولقد لعب الخلفاء الفاطميون في مصر دورا كبيرا في نشر الإسماعيلية، كما سنرى ذلك، وقد كان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة. (7)
كان من نتائج ضعف الخلافة والسلطنة أن تقوى الصليبيون وسيطروا على بلاد الشام وعلى جزء من بلاد مصر، ووطدوا أقدامهم في تلك البلاد حتى مكن الله لصلاح الدين الأيوبي أن يقضي عليهم ويقضي على الفاطميين ويعيد للخلافة الإسلامية بعض هيبتها. (8)
كان من نتائج انخذال العرب وبعدهم عن الدولة، وانحلال العصبية العربية، وسيطرة الأعاجم أن سارت في طريق السقوط. يقول ابن خلدون (في المقدمة، ص183): «وهذا ما وقع لبني العباس؛ فإن عصبية العرب كانت فسدت بعد دولة المعتصم وابنه الواثق، واستظهارهم بعد ذلك، إنما كان بالموالي من العجم والترك والديلم والسلجوقية وغيرهم، ثم تغلب العجم الأولياء على النواحي وتقلص ظل الدولة، فلم تكن تعدو أعمال بغداد، حتى زحف إليها الديلم وملكوها، ثم صار حكمهم ثم انقرض أمرهم، وزحف أخيرا التتر، فقتلوا الخليفة ومحوا اسم الدولة.» وهذه نظرة صادقة؛ فإن تخلي الخلفاء عن عصبيتهم واعتمادهم على هؤلاء الدخلاء، قد أفسد دولتهم ثم قضى عليها. وإذا قارنا هذا الوضع المخزي للعرب يوم سقوط بغداد بالوضع الذي كانوا عليه حينما سار الرسول
صلى الله عليه وسلم
وخلفاؤه من راشدين وأمويين إلى غزو العالم وفتحه، تبينا أي ذل حاق بهم، وأي سقوط خلقي واجتماعي وصلوا إليه،
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وصدق الله فإن الأرض لله يرثها عباده الصالحون. (9)
كان لجهل المستعصم وسوء إدارته وتقريبه الجهال والفسقة أثر فعال في سقوط الدولة، وقد وصف لنا صاحب الفخري أحوال سقوط بغداد، وتحذير ابن العلقمي للمستعصم من الاستمرار في غيه، فقال: «كان المستعصم رجلا خيرا متدينا، لين الجانب لين العريكة عفيف اللسان ... إلا أنه كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة، مطموعا فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطلع على حقائق الأمور، وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرج على المساخر، وبعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسا ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولية عليه، وكلهم جهال من أرذال القوم إلا وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي فإنه كان من أعيان الناس وعقلاء الرجال، وكان مكتوف اليد مردود القول يترقب العزل صباح مساء ... وفي أواخر أيامه، قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة هولاكو فلم يحرك منه عزما، ولم ينبه منه همة، ولا أحدث عنده هما، وكان كلما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء، ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط والإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدولة.» فإذا كان هذا وضع الخليفة ورجاله، فالسقوط أمر طبيعي جدا ومفهوم. (10)
كان لانقسام الأمة وتجزيء سكانها واختلاف وجهة نظر كل من سكانها من عرب وترك وديلم وروم وأحباش وفرس ونصارى ويهود، قد كان كالسوس ينخر في جسم الإمبراطورية حتى انهارت وهوت هذا الهوى الفظيع. (11)
كان سوء إدارة الخلفاء العباسيين المالية والإدارية وضياع العدل، وسيطرة الظالمين والأشرار والأوباش وسوء معاملة أهل الذمة، وفقدان الوازع الخلقي والديني سببا قويا في الانحلال، فالسقوط. (12)
كان لتقوي الفرق العقائدية الهدامة، من قرامطة وباطنية، وغلاة من كل قبيل، وتقاتل هؤلاء الفرقاء بالأقلام والسيوف، وعمل كل واحد على تهديم خصمه بكل الطرق، ولو بالاستعانة بالأجنبي، تأثير قوي في ضعضعة الدولة وسقوطها. (13)
كان لفساد الأسرة والبيت العربيين، بانتشار الجواري والسريات والغلمان والخصيان، أثر قوي في تقويض معنويات الأمة الخلقية، ومقوماتها الاجتماعية، وتقويض هذه المعنويات والمقومات من أجل أسباب السقوط. (14)
كان لاضطراب الأحوال الاقتصادية وفساد أمور الزراعة، وكثرة الضرائب، وكثرة المصادرات، وانتشار الفقر والبؤس يد قوية في تهديم الدولة والعمل على سقوطها.
الفصل الثالث
في نتائج الانحلال وظهور دول جديدة
هي: (1) دولة السلاجقة. (2) دولة الخوارزمية. (3) دولة الأتابكية. *** (1) دولة السلاجقة
ينتسب السلاجقة إلى سلجوق بن دقاق (تقاق أو أديقاق)
1
أحد رؤساء التركمان (الغز) الساكنين سهول تركستان فيما وراء النهر، وكان ذا طموح فتقرب من ملوك السامانيين، وأخذ قدره يسمو، حتى هابه الأتراك وقربه السامانيون وبخاصة بعد أن اتخذ مدينته مستقرا، ولما مات خلف ثلاثة أولاد، ميكائيل وموسى وأرسلان، فأخذوا يوسعون رقعة بلادهم ويعظم سلطانهم إلى أن هلكوا، فبرز أولاد ميكائيل وهم: بيغو، وطغرل بك، وجفري بك، ولما انقرضت الدولة السامانية سنة 389ه طمعوا في الاستيلاء على أراضيها، فأخذوا يحتلون بعض بقاعها وعظم ملكهم، واستطاع طغرل بك أن يستولي على خراسان. وفي سنة 429ه استولى على مرو، ونيسابور، وبلخ، وجرجان، وطبرستان، وخوارزم، وهمذان، والري، وأصفهان، وتخاذل بنو بويه أمامه، ولمع اسم السلاجقة في العالم الإسلامي. ولما ثار البساسيري أبو الحارث أرسلان على الخليفة، رأى هذا أن يستنجد بطغرل بك لإنقاذه فكتب إليه طغرل بك يلبي رغبته، ويظهر له العبودية والطاعة، ودخل طغرل بغداد، وخطب له في جوامعها يوم الجمعة في 22 محرم، وقبض على الملك الرحيم البويهي وقضى على آل بويه، وأخذ أمر السلاجقة يسمو حتى سيطروا على العراق والمشرق كله. ولما مات طغرل بك خلفه ألب أرسلان محمد بن داود بن ميكائيل، وكان حازما عاقلا مدبرا استطاع أن يوسع حدود المملكة الإسلامية على حساب الدولة الرومانية الشرقية، وامتدت أملاكه من أقصى الشرق إلى جزيرة العرب وإلى بحر مرمرة بعد أن هزم الإمبراطور البيزنطي رومانوس وأسره في موقعة ملاذكرد سنة 464ه، ولم تقم للروم بعدها قائمة. وكان عهد ألب أرسلان عهد عز ورخاء وعلم، بفضل حزمه وإدارة وزيره العالم العظيم نظام الملك الطوسي مؤسس المدارس النظامية
2
ومدبر الدولة، واستمرت الدولة في السمو أيام هذين العاقلين، إلى أن مات ألب أرسلان وخلفه ابنه أبو الفتح ملكشاه، فظل نظام الملك يدير الدولة، وقيض الله إتمام الفتوح والقضاء على الباطنية. بلغت الدولة في عهد ملكشاه أقصى حدود الصين في الشرق وبلاد الشام والجزيرة العربية وبلاد الروم إلى بلاد جورجيا، وكان يعين نظام الملك أيضا في تدبيره فاضلان آخران هما: كمال الدولة أبو الرضى فضل الله بن محمد صاحب ديوان الإنشاء والطغراء، ومشرف الملك أبو سعيد محمد بن منصور صاحب ديوان الذمام والاستيفاء، وكلاهما حازم مدبر داهية جواد، ولما مات ملكشاه أخذت الأمور تضطرب بعض الاضطراب لاختلاف أولاد ملكشاه الأربعة، واشتداد أمر الباطنية، فانقسمت الدولة إلى دويلات عرفت بدول الأتابكية.
بعد موت ملكشاه وانقسام أولاده، تجزأت الإمبراطورية السلجوقية إلى أربعة فروع سلجوقية، وهي: (1)
سلاجقة العراق وفارس. (2)
سلاجقة سورية في حلب ودمشق. (3)
سلاجقة كرمان. (4)
سلاجقة الروم في آسيا الصغرى.
وذلك بعد أن مرت بعهود ثلاثة. (1-1) العهد الأول، عقب موت ملكشاه
فقد مات ملكشاه وله أربعة أولاد هم: بركياروق وله «12 سنة» ومحمد وله «11 سنة ونصف» وسنجر وله «8 سنوات»، ومحمود وله «4 سنوات»، وكان لكل واحد من هؤلاء الأبناء أم مختلفة وحاشية تعمل على أن يتولى هو السلطنة، فوقع الخلاف بينهم وتوسعت شقة الفتنة بين الأطراف، ويظهر أن جماعة بركياروق كانوا أقوى، فاستطاعوا أن يسيطروا أول الأمر، ثم تغلبت جماعة محمد إلى أن هلك بركياروق سنة 498ه فتولى بعده ابن ملكشاه الثاني ووقعت الفتنة من جديد بين محمد وابن أخيه، فانتصر محمد بعد حروب دامت أكثر من ثلاثة عشر عاما، ضعف فيها الشرق الإسلامي أمام الصليبيين في الخارج والإسماعيليين في الداخل. (1-2) العهد الثاني
مات محمد في سنة 511ه/1117م وكان قد عهد بالأمر بعده لابنه محمود، فثار عمه سنجر عليه ووقعت بين الجانبين معارك، انتهت بتصالحهما واقتسام أجزاء المملكة، ولم تكن سيطرتهم على بلاد الشام إلا سيطرة اسمية، فتمكن الصليبيون من انتزاعها من أيديهم، وكونوا فيها إمارات صليبية أربع في بيت المقدس، وأنطاكية، وطرابلس، والرها، ولم يبق بيد المسلمين سوى دمشق ومصر، أما آسيا الصغرى فقد انفصلت تماما، وتكونت فيها أسرة مستقلة، وكذلك حال الجزيرة وفارس وأذربيجان وديار بكر. (1-3) العهد الثالث
مات محمود سنة 525ه/1130م فانقسم السلاجقة ثلاثة أقسام؛ «الأول» على رأسه داود بن محمود الذي نودي به بعد أبيه. «الثاني» على رأسه الأخوان مسعود وسلجوق شاه ابنا ملكشاه. «الثالث» بقيادة طغرل بك بن محمود وعمه سنجر، وقد وقعت عدة معارك بين كل من الأقسام، إلى أن استقر مسعود على العرش سنة 532ه/1137م وهو آخر سلطان سلجوقي قوي، ولما مات سنة 547ه/1152م أخذت الأسرة السلجوقية في السقوط، فوجدها الخوارزميون لقمة سائغة للازدراد. (2) الدولة الخوارزمية
تنتسب هذه الدولة إلى القائد التركي «توشتكين» أحد رجال ملكشاه السلجوقي، وكان لتوشتكين هذا ولد اسمه قطب الدين محمد، وعرف بالإدارة والعلم والعقل، فعهد إليه بركياروق السلجوقي بإقليم خوارزم ولقبه خوارزمشاه، ولما أخذت الدولة السلجوقية في الانهيار بعد موت ملكشاه وتفرق رجالها، أخذ قطب الدين خوارزمشاه يطمع في الاستقلال بولايته وتوسيع رقعتها، ولكن لم يبدأ التوسيع الفعلي إلا في عهد ابنه أتسز بن خوارزمشاه حينما أعلن أتسز عصيانه على سنجر السلجوقي، فقدم هذا عليه في سنة 533ه وفرق شمله ووطد نفوذه في خوارزم وولى عليها غياث الدولة سلمان شاه ابن أخيه محمد. فأخذ أتسز يجمع جموعه وهاجم غياث الدين فأخرجه من خوارزم، ثم تحالف هو وملك بلاد الخطا على محاربة سنجر، فاستطاعوا أن يفتكوا بالجيش السنجري في سنة 536ه/1141م ويستولوا على بلاد ما وراء النهر،
3
وعلى مرو عاصمة سنجر، ثم تمكن سنجر من إخراجهم منها صلحا، ثم وقعت الحرب من جديد بينهم، ولم تقتصر الحرب بين السلجوقية والخوارزمية على السيف بل تعدتها إلى القلم، فكان لكل فريق شعراؤه وأدباؤه الذين يهاجمون الفريق الآخر ،
4
ثم رجحت كفة الخوارزمية على أيام «إيل أرسلان بن أتسز» الذي أخذ يفتك بالسلاجقة، ولما مات إيل أرسلان سنة 562ه/1172م تولى العرش ابنه سلطان شاه محمود، بمساعدة أمه التي أقصت ابن إيل أرسلان الأكبر وهو علاء الدين تكش، فسار علاء الدين وطرد أخاه، ووقعت بين الأخوين فتن انتهت باستقرار علاء الدين وسيطرته على المملكة وتوسيعها حتى بلغت أخباره مسامع الخليفة الناصر لدين الله العباسي، فأراد الاستعانة به على طرد ملك آخر سلجوقي في العراق وهو طغرل بك، وكانت هذه الفرصة مواتية لأغراض تكش، فجيش جيشا والتقى بالسلاجقة قرب الري في سنة 590ه/1193م وانتصر عليهم. وهكذا سيطر تكش على ملك سلاجقة العراق، ثم على همذان وأصفهان والري ورجع إلى خوارزم يوطد فيها أركان دولته، ويعمل على توسيعها، فحارب بلاد «الخطا» واستولى على إحدى مدنهم الكبرى، وهي بخارى سنة 594ه/1197م، وحارب الإسماعيلية وفتك بهم في سنة 593ه/1196م وسيطر على قلعتهم «الموت» عاصمتهم.
ولما مات في سنة 596ه/1199م وخلفه ابنه قطب الدين محمد الذي ترك لقبه، وتلقب بلقب أبيه علاء الدين، وسار على خطته في الغزو والفتح، على الرغم من تألب المجاورين عليه مثل شهاب الدين ملك الدولة الغورية، واستطاع في سنة 602ه/1205م أن يقطع مدينتي بلخ وهراة عن الدولة الغورية. وفي سنة 606ه/1209م سيطر على بلاد ما وراء النهر، وفي سنة 611ه/1214م سيطر على كرمان ومكران وسواحل المحيط الهندي والبلاد الواقعة غربي نهر السند. وفي سنة 612ه/1215م أحاط بغزنة عاصمة الدولة الغورية، فاضطر صاحبها «قتلغ تكين» أن يخطب وده ويضرب السكة باسمه. ومما هو جدير بالذكر أن علاء الدين قد عثر أثناء احتلاله لغزنة على رسائل كان الخليفة الناصر بعث بها إلى الغوريين لمعاونته على الفتك بالخوارزمية، فكانت هذه الرسائل سببا في سنة 614ه/1217م لبعض الحملات على بلاد الخليفة فسار يريد العراق، ولكنه لم يتمكن من إتمام حملته، لما بلغه من قيام الخطر المغولي، فرجع إلى عاصمته لاتخاذ الاحتياطات الضرورية.
ولما مات علاء الدين سنة 617ه تولى الأمر بعده ابنه جلال منكوبرتي، فاستمر إلى سنة 628ه حين حاربه التتر وقضوا على الدولة الخوارزمية. (3) دولة الأتابكية والشاهات
هي عدة دول زاحمت الدولة السلجوقية، وسميت بهذا الاسم لا لنسبتها إلى بيت واحد أو إلى أتابك
5
واحد، ولكنها كانت متصلة بالبيت السلجوقي بصلة «الأتابكية» نسبة إلى «الأتابك» ومعناه الأمير الوالد، وهو كل من يربي الملك ويهتم بتدبير شئونه، فكان آل سلجوق كلما برز شخص عظيم من مربي رجالات أسرتهم سموه «أتابكا» تكرمة له وتعظيما، وقد استطاع هؤلاء الأتابكية أن يصلوا إلى الولايات والإمارات ثم تمكنوا أن يستقلوا بولاياتهم وإماراتهم وأورثوها أبناءهم من بعدهم، أما «الشاهات» فمفردها «شاه» ومعناه الأمير، وقد أطلقه السلاجقة على من كان مولى لهم ثم ولوه بعض الولايات فعظم سلطانه فيها واستقل عنها.
و«الأتابكية» و«الشاهات» حكموا مناطق مختلفة وأسسوا دويلات متعددة انفصلت عن الدولة السلجوقية؛ فقد كان الأمير السلجوقي إذا ولي إمارة استصحب معه مربيه، فكان ذلك المربي هو صاحب النفوذ الفعلي للدولة، وربما عمل لحسابه الخاص، منفصلا عن سياسة سلاجقة بغداد، ولما مات ملكشاه، استقل كل أمير بما تحت يده، سواء أكان ذلك إقليما أو بلدة، وتسابقوا للإغارة على جيرانهم، فاشتبكوا ببعضهم وانتهزت القبائل التركية هذه الفرصة، فأخذت تغير على سهول آسية العربية. وفيما يلي إلماع إلى هذه الدويلات: (3-1) دويلة الشاهات الأرتقية
تنتسب هذه الدويلة إلى أرتق بن أكسب التركماني، أحد مماليك ملكشاه وقواده، وقد استطاع معين الدولة سقمان بن أرتق أن يستولي على حصن كيفا سنة 495ه، ويستقل بها في عهد بركياروق، ثم ضم إلى دولته مدينة ماردين وما إليها، وفي سنة 502ه انقسمت هذه الدويلة إلى مملكتين؛ إحداهما بالحصن والأخرى بماردين، أما مملكة الحصن فاستمرت إلى سنة 620ه وانتهت على يد الأيوبيين، وأما مملكة ماردين فاستمرت إلى سنة 811ه، أي بعد ظهور المملكة العثمانية بمائة وإحدى عشرة سنة، على يد دولة القره قيونلي. ومما يجب ذكره أن وجود هذه الدولة في هذا الحيز الجغرافي الحساس الذي كانت عنده كان من العوامل التي أضعفت وحدة المسلمين بسبب كثرة ما وقع بشأنها من منازعات. (أ) سلسلة ملوك ماردين
نجم الدين غازي بن أرتق 502-516ه.
حسام الدين تيمور تاس بن غازي سنة 547ه.
نجم الدين ألبي بن تيمور ناس سنة 517ه.
قطب الدين غازي بن ألبي سنة 580ه.
حسام الدين يوسف بن أرسلان سنة 597ه.
ناصر الدين أرتق أرسلان بن غازي سنة 637ه.
نجم الدين غازي بن أرتق أرسلان سنة 658ه.
قره أرسلان بن غازي سنة 661ه.
داود بن قره أرسلان سنة 693ه.
غازي بن قره أرسلان سنة 712ه.
صالح بن غازي سنة 765ه.
أحمد بن صالح سنة 769ه.
محمود بن أحمد سنة 769ه.
داود بن صالح سنة 778ه.
عيسى بن داود سنة 809ه.
صالح بن داود سنة 811-908ه. (ب) سلسلة ملوك حصن كيفا
معين الدين سقمان بن أرتق سنة 495-498ه.
إبراهيم بن سقمان سنة 502ه.
ركن الدين داود بن سقمان سنة 543ه.
فخر الدين قره أرسلان سنة 570ه.
نور الدين محمد بن أرسلان سنة 581ه.
قطب الدين سقمان بن محمد سنة 597ه.
ناصر الدين محمود بن محمد سنة 619ه.
ركن الدين مودود بن محمود سنة 620ه. (3-2) دويلة أتابكية دمشق (497-549ه/1103-1154م)
أسسها طغتكين مملوك تتش بن ألب أرسلان والي دمشق عندما توفي ملكشاه،
6
وقد امتد نفوذه إلى حلب والجزيرة وديار بكر وأذربيجان وهمذان، وأقيمت له الخطبة في بغداد، وقد استمرت هذه الدولة إلى أن قضي عليها سنة 549ه بزعامة نور الدين محمود بن زنكي، ثم انتقلت إلى الأيوبيين فوليها الملك الأفضل في حياة صلاح الدين ثم الملك العادل. (3-3) دولة أتابكية الموصل (516-660ه/1122-1262م)
كانت هذه أعظم دول الأتابكية؛ فقد امتد سلطانها مما بين النهرين إلى بلاد الشام، ومؤسسها هو عماد الدين زنكي بن آق سنقر، وكان أبوه أحد مماليك ملكشاه، فلما تولى ملكشاه السلطنة كان لآق سنقر قدر رفيع في الدولة فسماه قسيم الدولة، وأقطعه حلب، وأعمالها، وحماة ومنبج واللاذقية وتكريت إلى أن قتله تتش السلجوقي في سنة 487ه ، فلما قتل تتش في سنة 488ه تمكن عماد الدين زنكي بن آق سنقر من استرجاع مملكة أبيه، ولمع نجمه فسيطر على واسط والبصرة بالإضافة إلى مملكته في الموصل والجزيرة ونصيبين، ولما استفحل أمر الصليبيين في سورية، ولم يبق بأيدي المسلمين فيها سوى حمص وحماة ودمشق، تطلع المسلمون إلى عماد الدين لإنقاذهم من براثن الصليبيين، فتمكن من استرداد حلب في سنة 522ه كما استولى على حماة، وظلت الحروب بينه وبين الصليبيين إلى أن قتل سنة 541ه/1146م، وكان من أهدافه أن يسلط أصحاب الأطراف على السلطان مسعود السلجوقي ليصفو له الجو في مملكته ويتمكن من إتمام حروبه مع الصليبيين، واستطاع أن يستولي على الرها وينقذها من الصليبيين سنة 539ه/1144م، وكان استيلاؤه عليها فوزا كبيرا للمسلمين؛ لأن سقوطها كان بداية نهاية النفوذ الصليبي في المشرق كما يقول «باركر»
7
وقد حاول عماد الدين أن يستولي على دمشق، ولكن الصليبيين كانوا يعينون أتابكة دمشق عليه فيرتد عنها فاشلا
8
إلى أن تمكن من الاستيلاء عليها سنة 549ه/1154م. ولما مات عماد الدين خلفه ابنه سيف الدين غازي على القسم الشرقي من المملكة، واتخذ الموصل مقرا له، كما خلفه ابنه نور الدين محمود على القسم الغربي واتخذ مدينة حلب مقرا له، واتفق الأخوان على محاربة الصليبيين فحارباهم بعنف إلى أن تمكن صلاح الدين من الاستيلاء على الدولة الأتابكية وضم شملها إلى دولته. (3-4) دولة أتابكية سنجار (566-617ه/1170-1220م)
أسس هذه الأتابكية عماد الدين زنكي الثاني بن قطب الدين مودود من 566ه إلى 594ه في الموصل، ولما مات خلفه ابنه قطب الدين محمد، وظل من سنة 594ه إلى 616ه، ثم خلفه ابنه شاهنشاه، وقد استمرت دولته إلى سنة 617ه حين استولى عليها الأيوبيون في عهد الملك الأشرف موسى بن أيوب. (3-5) دولة أتابكية الجزيرة (576-648ه/1180-1250م)
ابتدأت في سنة 576ه بوفاة سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل؛ فإن بلاده انقسمت بين ولديه؛ عز الدين مسعود ملك الموصل، وسنجر شاه ملك جزيرة ابن عمر، وقد استمرت هذه الأتابكية إلى أن أخذها الأيوبيون سنة 648ه. (3-6) دولة أتابكية الإربل (539-630ه/1144-1232م)
أسسها زين الدين علي بن بكتكين أحد مماليك عماد الدين زنكي، لما عينه حاكما على الموصل سنة 539ه/1144م، وفي سنة 544ه ضم إلى مملكته سنجار وحران وإربل، إلا أنه تنازل عن أملاكه كلها لسيده، ولم يبق له إلا إربل، فحكمها هو وأبناؤه من بعده حتى أخضعها المغول. (3-7) دولة أتابكية أرمينية (493-604ه/1100-1207م)
أسسها سقمان القطبي مملوك قطب الدين إسماعيل السلجوقي سنة 493ه في بلدة «مرند» من بلاد أذربيجان، وامتد سلطان سقمان إلى «خلاط»، فجعلها عاصمة ملكه، وقد تعاقب عليها أبناؤه إلى أن آلت في سنة 604ه إلى الملك الأوحد نجم الدين أيوب ابن الملك العادل الأيوبي إلى أن استولى عليها الخوارزميون ثم استولى عليها المغول. (3-8) دولة أتابكية أذربيجان (531-622ه/1136-1225م)
أسسها إيل ركز مملوك السلطان مسعود السلجوقي حين ولاه على إقليم الران شمال أذربيجان سنة 531ه، ثم أخذ يوسع ملكه حتى استولى على جميع أذربيجان وبلاد الجبل وهمدان وأصفهان والري وتغليس ومكران، ولما مات سنة 568ه خلفه أبناؤه إلى سنة 622ه حين استولى عليها هولاكو، ويظهر أن مناعة هذه البلاد قد جعلت هولاكو يتخذها مستودعا للأسلاب والنفائس التي سطا عليها في فتوحاته. (3-9) دولة أتابكية فارس (543-686ه/1148-1287م)
أسسها سنقر بن مودود بن سلغر التركماني في شيراز سنة 543ه، وامتد نفوذها إلى كرمان وأصفهان والعراق العجمي في عهد سعد بن زنكي بن سنقر، ثم خضعت لجنكيز خان، فلم يفسدها ولم يعمل فيها تخريبا كما فعل في غيرها من المناطق الإسلامية.
الفصل الرابع
أحوال البلاد الداخلية
(1) الخلافة
أصبحت الخلافة في هذا العهد رئاسة دينية تشريفية! وقد انزوى الخلفاء في قصورهم يحاولون استعادة مكانتهم الدينية والاجتماعية، وتعاقب على الخلافة خلفاء انصرفوا إلى إقامة الشعائر الإسلامية وحماية تعاليمه، إلى أن قضى هولاكو عليهم وقتل آخرهم، فوجم المسلمون في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية حتى اعتقد فريق بدنو يوم القيامة، وصاروا ينظرون إلى كل حدث رهيب أنه سخط من الله، وأن خلو العالم الإسلامي من خليفة دليل على سوء المصير، وأنه لا بد لهم من خليفة يحمي الإسلام، إلى أن كانت سنة 658ه وتولى الملك الظاهر بيبرس سلطة مصر، فاستقدم الإمام أحمد بن الإمام الظاهر بالله العباسي أحد من نجوا من مذابح المغول، واستقبله بمظاهر الإجلال، وبايعه هو والعلماء والأمراء والعظماء بالخلافة، وتلقب بالمستنصر بالله. واستمرت الخلافة العباسية في مصر إلى أن قضى عليها السلطان سليم العثماني. (2) الوزارة
من الأمور الغريبة التي يلاحظها المرء أن أكثر الوزراء في هذا العهد، سواء أكانوا وزراء الخليفة أو وزراء السلطان، كانوا من خيرة الناس خلقا ودينا وإصلاحا وتعميرا.
فمن وزراء الخلفاء: ابن جهير فخر الدولة محمد بن محمد، وكان من عقلاء الرجال ودهاتهم، أرسله القائم بأمر الله إلى ملك الروم، فأحسن الرسالة، ولما عزل وأعيد ثانية فرح الناس بعودته فرحا شديدا، ويقال أن سقاء ذبح ثورا له لم يكن يملك غيره، وتصدق بلحمه، فأعطاه الوزير بغلا بآلته، وأعطاه شيئا من الذهب.
1
ومنهم ابنه عميد الدولة محمد بن محمد بن محمد بن جهير وزير القائم والمقتدي، وكان رجلا فاضلا حصيفا، وكان نظام الملك وزير السلطان يعجب منه ويقول وددت أني ولدت مثله، ثم زوجه ابنته واستوزره المقتدي وفوض إليه الأمور، ثم عزله الخليفة فشفع له نظام الملك وأعاده.
ومنهم أبو علي الحسن بن علي بن صدقة، وكان فاضلا نحريرا عالما بشئون القوانين، لقبه الخليفة المسترشد بجلال الدين، سيد الوزراء، صدر الشرق والغرب ظهير أمير المؤمنين، وكانت له معرفة بالحساب وأعمال السواد، ومنهم نقيب النقباء علي بن طبرزد الزيبي، وكان فاضلا مشرعا عالما بالقوانين وأسباب الرئاسة، ومنهم الوزير العالم الجليل مؤيد الدين محمد بن محمد العلقمي، وكان أديبا بارعا راوية فاضلا خطاطا، وقد أطنب ابن طباطبا في مديحه وقال: «اتهمه الناس بأنه خامر، وليس ذلك بصحيح، ومن أقوى الأدلة على عدم مخامرته سلامته في هذه الدولة؛ فإن السلطان هولاكو لما فتح بغداد وقتل الخليفة سلم البلد إلى الوزير وأحسن إليه، وحكمه، فلو كان خامر على الخليفة لما وقع الوثوق إليه .»
2
ومن وزراء السلاطين: نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي (سنة 485ه)، وكان وزيرا حازما عالي الهمة مدبرا برع في الآداب العربية والفارسية وألف فيهما وسمع الحديث النبوي، وكان ألب أرسلان لا يقطع أمرا دون رأيه، ولما مات وتسلطن ملكشاه صار نظام الملك كأنه السلطان، فأقام على تدبير الدولة عشرين سنة، وكان من حسنات الدهر، فهو أول من أسس المدارس في الإسلام وبغداد والمشرق وأجرى الجرايات على الفقهاء والمتصوفة، وأسقط في زمانه كثيرا من الضرائب الجائرة، وهو الذي أزال لعن الأشاعرة ومنع سب عقيدتهم من المنابر، وكان عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرل بك أن يلعن الأشعرية، وهو الذي فتك بالباطنية وأفسد دسائسهم وأمورهم إلى أن قتلوه قرب نهاوند.
ومنهم عميد الملك محمد بن منصور الكندري أول وزراء الدولة السلجوقية استوزره طغرل بك، وكان فصيحا باللغتين العربية والفارسية، ذا ثقافة واسعة وعلم وأدب ونبل، وكان يقوم بالترجمة بين الخليفة والسلطان.
ومنهم كمال الدين محمد بن الخازن الرازي
3
وزير السلطان غياث الدين مسعود، وكان من أحسن الوزراء تدبيرا وعقلا، وقد اطمأنت البلاد في عهده وهدأت.
والحق أن وزراء السلاطين الأول، كانوا من خير الناس، فلما هلك ملكشاه واضطرب أمر الأسرة السلجوقية بعده، فسدت الأمور، وكان من توابع هذا الفساد أن الوزارة قد انحطت، وإليك ما يقول بعض الكتاب عن حق السلطان محمد: «قد كثر تعجبي من السلطان يتأنق في تخير كلاب الصيد وفهوده، وإنما يقتني منها ما يراه موافقا لمقصوده، فيسأل عن فروعه وأصوله وانقطاعه ووصوله، فما باله لا يتخير لإيوانه ومراتب سلطانه من الكفاة الأفاضل والصدور الأماثل!» (3) أحوال الباطنية
نظم الإسماعيليون، الذين عرفنا أمرهم فيما مضى، طريقة سرية للدعوة إلى مذهبهم في أرجاء العالم الإسلامي، وقد كانت هذه الطريقة تعتمد على كثير من الأسرار والأمور المحجوبة، وتفسير القرآن الكريم والآثار الإسلامية تفسيرات لا تعتمد على ظواهر النصوص، بل على الباطن، والمجازات، والاستعارات، والكنايات، وزعموا أن كثيرا من هذه النصوص لا تفهم إلا بالمعلومات المكتومة التي تناقلها الخلف عن السلف عن الأئمة، وأنها لا تعطى إلا لمن يقسم على أن يحفظ في باطنه؛ لأن في هذه العقيدة تعاليم لا يجيزها عامة المسلمين، وأفكارا تخالف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، كفكرة حلول الألوهية في «إسماعيل»، وانتظار رجعته مهديا، وفكرة تناسخ الأرواح، وفكرة نشوء الكون متجليا عن ذات الله سبحانه، وفكرة المراتب السبعة أو التسعة التي يتدرج فيها المريد حتى يصل إلى درجة الكمال المطلق، وغير ذلك من الأفكار التي ينبغي أن تظل طي الكتمان، ولا يطلع على أسرارها وبواطن دقائقها إلا المخصوصون المأمونون.
وقد رأينا أن عبد الله القداح وأباه ميمونا قد اتخذا مدينة «سلمية» مقرا لحركتهما السرية، بعد مقرها الأول في «البصرة»، وأن هذين المقرين صارا بؤرة للنشاط الإسماعيلي في سائر أنحاء العالم الإسلامي.
ولما كان أصحاب هذه الفكرة ضعافا أول الأمر، لم تأبه بهم الخلافة العباسية، فتركتهم وشأنهم، أو وكلت بهم رجال العقائد وأصحاب المقالات الإسلامية، يبينون عوار عقيدتهم ويشنعون عليهم وعلى ما انطوت عليه فكرتهم من مخالفات شرعية وعقلية، ويظهر أنهم أنفسهم قد انزووا يعملون في الخفاء على نشر دعوتهم حتى يتيح لها الزمن أن تخرج قوية قاهرة.
ولما كانت الدعوتان، الإسماعيلية والفاطمية، تشربان من معين واحد، وكان نجاح الفاطمية في المغرب ومصر والشام قويا، رأى الإسماعيليون أن الفرصة مواتية لهم لنشر دعوتهم والدعاية لها في سائر أرجاء الإسلام، وكان من عادة الفاطميين أن يبعثوا الدعاة لنشر مذهبهم والدعوة لهم سرا، وكان للدعاة في مصر رئيس هو «داعي الدعاة» الذي يلي «قاضي القضاة» في المكانة والمرتبة، وكان يجمع الدعاة، ويطلعهم على أسرار الدعوة، ويبثهم في الأقطار الإسلامية. وقد اهتم الفاطميون بنشر دعوتهم في العراق وإيران لأن الإيرانيين والعراقيين يميلون إلى آل علي. وكان غرض الفاطميين هو نشر عقيدتهم أولا، والقضاء على العباسيين ثانيا.
ومما تجدر الإشارة إليه أن أصحاب هذه الدعوة قد انقسموا منذ زمن الخليفة المستنصر (487ه/1094م) إلى قسمين؛ قسم يقول إن المستنصر أوصى بالأمر بعده لابنه نزار، وقسم قال بل إنه أوصى بها لابنه المستعلي، واتخذت الفرقة الأولى بلاد المشرق مركزا لها برعاية الحسن بن الصباح، وبقيت الثانية في مصر والمغرب.
4
وتفصيل ذلك أن الحسن بن الصباح قدم إلى مصر لدراسة الدعوة وتتبع أحوالها، وأعطاه المستنصر أموالا وبعثه للدعوة في المشرق، ورأى بعد وفاة المستنصر أن ابنه نزارا أولى من أخيه المستعلي بولاية أبيه لكفايته، ورأى وزير المستنصر، وهو بدر الجمالي، أن المستعلي أفضل، واختلف الرجلان واضطر الحسن أن يستقل بفكرته، ومنذ ذلك الحين انقسمت الفاطمية إلى هذين القسمين. أما معلوماتنا عن الحسن بن الصباح وأحواله فهي أنه كاتب ذكي، نشأ في خدمة ألب أرسلان ولمع اسمه في عهد ملكشاه، وكان شيعيا متحمسا، ولكنه كان يكتم فكرته لتعصب السلاجقة ولسنيتهم، فلما اكتشفوا أمره طردوه من خدمتهم، فأعلن اعتناقه المذهب الإسماعيلي، وبعثه عبد الملك بن عطاش رئيس الدعوة الإسماعيلية في العراق داعية إلى أصفهان فذهب إليها، ثم رأى أن يسافر إلى مصر ليتعمق في دراسة العقيدة الفاطمية على يد فلاسفتها وعلمائها في القاهرة، فخرج من أصفهان سنة 469ه/1076م عن طريق أذربيجان وميافارقين وعكا، ومنها ركب البحر متخفيا في زي تاجر إلى أن بلغ مصر، وما زال قدره يسمو هناك ويتغلغل في شئون الدعوة والدولة إلى أن مات الخليفة المستنصر، وأريد تسمية الخليفة الجديد، فقال الوزير بدر الجمالي: إن المستنصر قد عهد بالأمر إلى ابنه الأصغر وهو المستعلي، وما ذلك إلا لأنه جده لأمه، ولأنه يريد إبقاء نفوذه وسيطرته على الدولة، وخالفه الحسن بن الصباح في ذلك وقال: لا، إن الولاية للابن الأكبر وهو الأمير نزار،
5
وهكذا اضطر الحسن بن الصباح أن ينشق عن المذهب الفاطمي المصري ويؤسس حركته الباطنية الجديدة، وقد قويت حركة الحسن بن الصباح في عهد السلاجقة حتى أضحت خطرا يهدد سلامة البلاد، قال البنداري: «وكان بينهم (أي الإسماعيلية) رجل من أهل الري - هو الحسن بن الصباح - ساح في العالم، وكانت صناعته الكتابة، فخفي أمره حتى ظهر وقام، فأقام من الفتنة كل قيامة واستولى في مدينة قريبة على حصون وقلاع منيعة ، وبدأ من القتل والفتك بأمور شنيعة، وخفيت عن الناس أحوالهم، ودامت حتى استتبعت على الاستتار بسبب أنه لم يكن للدولة صاحب أخبار، وكان الرسم في أيام الديلم (البويهيين) ومن قبلهم من الملوك أنهم لم يخلوا جانبا من صاحب بريد، فلم يخف عندهم أخبار الأقاصي والأداني، وحال الطائع والعاصي، حتى ولي أمر الدولة السلجوقية ألب أرسلان محمد بن داود، ففاوضه نظام الملك في هذا الأمر، فأجابه أنه لا حاجة بنا إلى صاحب خبر؛ فإن الدنيا لا تخلو كل بلد فيها من أصدقاء لنا وأعداء ... فلم يشعر إلا بظهور القوم، وقد استحكمت قواعدهم واستوثقت معاقدهم وأخافوا السبل، وأجالوا على الأكابر الأجل.»
6
والحق أن الحسن قد استطاع أن ينشر في برهة وجيزة دعوته في أرجاء المشرق من فارس إلى العراق، كما استطاع أن يستولي على بعض الحصون والقلاع، ويتخذها مقرا لرجاله، وكان استيلاؤه سنة 483ه على قلعة الموت
7
التي كان بناها ملكشاه بداية لقوة حركته، ومركزا استطاع منه أن يستولي على كثير من بلاد خوزستان وقوهستان ... وكان ابن الصباح مغرما ببناء القلاع على رأس الجبال متباعدا عن المدن متحصنا بها لئلا يسهل الوصول إلى جماعته، وقد ألف حوله جماعة من الأشداء المتعصبين فأمرهم بالفتك بمخالفيهم، ومما هو جدير بالذكر أن الحسن نظم الدعوة الفاطمية تنظيما جديدا، فسمى نفسه «داعي الدعاة» أو «رئيس الدعوة»، ثم يأتي من بعده «طبقة ثانية» هي طبقة كبار الدعاة، ويختص كل واحد منهم بإقليم من أقاليم الدعوة الثلاثة وهي «العراق» و«قوهستان» و«الشام»، ثم تليهم طبقة ثالثة هي «طبقة الدعاة» وهم الذين تدربوا في قلعة الموت، وتفرقوا في الأقاليم الثلاثة تحت إشراف «رئيس الدعوة»، وكانوا متفقهين بالمذهب الإسماعيلي عارفين بأسراره، ثم تليهم «طبقة رابعة» وهي «طبقة الرفاق» وهم الذين يطلعون على الأسرار ولا يطلب إليهم نشرها، ثم تليهم طبقة خامسة وهي «طبقة اللاصقين» وهم طبقة لم تتعمق في معرفة أسرار الدعوة وأصولها، ولكنهم ممن يتعهدون تنفيذ كل ما يطلب إليهم، ثم تليهم «طبقة سادسة» هم «طبقة الفدائيين» الذين باعوا أنفسهم من داعي الدعاة، وهم الشبان المتحمسون الذين استعان بهم الحسن على تنفيذ خططه وقتل خصومه، ثم تليهم «طبقة سابعة» وهم «طبقة المستجيبين» أو العوام الذين يدخلون في الدعوة.
وأبرز هؤلاء الطبقات نشاطا هم الفدائيون الذين كان الحسن يختارهم من الشبان الأقوياء المتحمسين البارعين في الاحتيال والتخفي واستعمال الأسلحة المتعددة، ومعرفة اللغات الكثيرة، وكان أبرز أمكنة نشاطهم المساجد والكنائس وقتل خصومهم فيها أيام الجمع والآحاد، وكان من عادتهم أن يكونوا من ثلاثة، حتى إذا ما فشل الواحد في خطته وقتل، قام الآخران بإتمام العمل، وهكذا تمكن للدعوة من قتل كثير من خصومها كالخليفتين المسترشد والراشد، الوزير ونظام الملك وغيرهم كثير، ولا شك في أن براعة الدعاة بإغراء هؤلاء الشبان هي التي جعلتهم يتحمسون بشدة لحركتهم ويتفانون في نشرها.
وقد نقل لنا المستشرق إدوار براون (في تاريخ الآداب الفارسية 2: 207) فصلا عن الرحالة الإيطالي ماركو بولو
8
الذي زار البلاد في القرن السابع، وكتب عن هؤلاء الفدائيين فصلا قال فيه: «إن زعيم الإسماعيلية، الحسن بن الصباح أمر بإنشاء حديقة متسعة غناء، في واد بين جبلين وملأها بأشجار الفاكهة المختلفة، كما أقام فيها القصور الجميلة وزينها بالذهب، وحفر فيها أقنية وفساقي ملأها خمرا ولبنا وعسلا وماء صافيا، وكان يسميها الجنة، وقد حشر فيها الجواري الحسان المغنيات الراقصات، وإن الحسن كان يخدر هؤلاء الشبان بالحشيش، ثم يحملهم إلى الجنة جماعات جماعات تتراوح بين الأربعة والعشرة، فإذا أفاقوا من تحشيشهم اعتقدوا أنهم في الجنة التي وعد الله المتقين، ثم يحملون إلى قصره بعد أن يخدروا ثانية، فإذا أفاقوا آمنوا بقدرته وتفانوا في طاعته، ويقصون ما رأوه على الآخرين، فيتوقون بدورهم إلى دخول الجنة.» ويقول بروكلمان (في تاريخ الشعوب الإسلامية 2-138): «إن ما أورده ماركو بولو هو مجرد خرافة.» ولكن ابن خلكان يورد لنا شيئا شبيها بذلك عن حصن مصياف،
9
وقد نشر الحسن بن الصباح هؤلاء الفدائيين في كافة أرجاء العالم، فخافه الأمراء والكبراء ودفعوا له الضرائب دفعا لشره، وخصوصا بعد موت ملكشاه، وانقسام الأسرة السلجوقية من بعده، وظهور الصليبيين في الشام، وقد قدر عدد الفدائيين في زمن ملكشاه بنحو مائة وستين ألف رجل
10
فإذا كان هذا عددهم في زمن ملكشاه السلطان القوي الذي فتك بهم مرات، وحاول مرات أن يحتل قلعتهم «الموت» فلم يفلح، وكان وزيره نظام الملك أعدى أعدائهم لا يترك فرصة للفتك بهم، وقد ملأ رسالته «سياستنامة» كثيرا من التهجم عليه والتحريض على قتلهم، أقول إذا كان هذا عددهم في ذلك الزمان فما قولك بالأزمنة التالية، حين اقتتل السلاجقة فيما بينهم، حتى استعان بعضهم، وهو بركياروق، على خصومه بالإسماعيلية.
11
وقد ازداد نفوذهم أيام سنجر الذي اضطر إلى مصالحة الحسن بن الصباح، وفي أيامه قتلوا الخليفة المسترشد ثم ابنه الراشد من بعده، فخافهم الخلفاء في قصورهم.
ولما مات الحسن بن الصباح سنة 518ه/1124م، أخذت أحوال الباطنية تختلف قوة وضعفا، ولما فشلوا في الاستيلاء على البلاد الإسلامية، عمدوا إلى السلب والنهب، وإثارة حروب العصابات، ثم اضطروا أثناء الحروب الصليبية في سورية، أن يحاربوا الصليبيين عدة مرات، واستطاعوا في سنة 533ه/1140م أن يستعيدوا احتلال قلعة مصياف - على السفح الشرقي لجبل النصيرية - التي كانت مقرا لنائب زعيمهم راشد الدين سنان سنة 692ه/1192م، وذلك بعد أن استطاعوا استمالة رضوان بن السلطان تتش أمير حلب السلجوقي إلى مذهبهم، كما استطاعوا الاستيلاء على حصن كيف والقدموس والعليقة،
12
وكان راشد الدين الملقب «شيخ الجبل» من أشد خصوم الصليبيين، وله معهم عدة معارك، ولما فتح المغول مصياف (مصياد، مصياث) سنة 658ه/1260م قدم بيبرس فأوقع ضربة قاضية بالحشاشين سنة 670ه/1272م.
وتولى زعامة الإسماعيلية بين سنة 607-618ه/1210-1221م جلال الدين حسن، ورأى أنهم لم يصبحوا قادرين على مهاجمة خصومهم الأقوياء، وهم رجال الدولة الخوارزمية، والأتابكية، والخلفاء العباسيين، فرأى أن خير وسيلة هي أن يطلب إلى جماعة منهم أن يظهروا شعائر الإسلام، وترك ما كانوا عليه، وأرسلهم سفراء عنه إلى الخليفة في بغداد، وإلى علاء الدين بن محمد خوارزمشاه، وإلى الأتابكية، يعلنون رجوعهم إلى الحق والإسلام، فاستقبلت رسله بالاحترام، وخلعت عليهم الخلع، وطلب جلال الدين من بعض فقهاء المسلمين، بعد أن أحرق كتب الإسماعيلية، أن يفقهوا جماعة الإسماعيلية بتعاليم الحنيفية،
13
ولم تطل حركة جلال الدين هذه طويلا؛ فإنه بعدما مات، خلفه ابنه علاء الدين محمد، فرجع عما كان سار عليه أبوه حينما اكتسح المغول الدولة الخوارزمية، فوقف منكوبرتي ضده وفتك بالإسماعيلية سنة 624ه، ولكن هولاكو فتك بهم سنة 654ه/1256م قبل مسيره إلى بغداد،
14
وأسر هولاكو زعيمهم ركن الدين خورشاه. وهكذا انتهى أمر الإسماعيلية في النهاية بعد استيلاء هولاكو على قلعة الموت، ولم يبق في أيديهم إلا قلاعهم الشامية، ومنذ ذلك الحين تشتتوا ما بين شمالي سورية وفارس وعمان وزنجبار والهند على الأخص؛ حيث يقيم منهم حوالي مائة وخمسين ألفا يعرف واحدهم بالخوجة أو المولى، وهم اليوم خاضعون لسلطة آغا خان الذي ينتسب إلى آخر داعي دعاة في الموت،
15
ولا يزال قسم منهم موجودا في مدينة سلمية والقدموس ومصياف في سورية، كما أن في سورية اليوم صنفا آخر منهم يعرف باسم «النصيرية» أو «العلوية» وهم إسماعيليون في الأصل، يرجع اسمهم إلى محمد بن نصير الذي ظهر في الشطر الثاني من القرن التاسع، ويبلغ عددهم نحوا من ثلاثمائة ألف في سورية، ويقيمون في محافظة اللاذقية.
الفصل الخامس
في الأحوال الخارجية
(1) الحروب الصليبية. (2) التجارة الخارجية. *** (1) الحروب الصليبية (1-1) الحملة الأولى
تبتدئ الحملة الصليبية الأولى بين المسلمين ونصارى أوروبا في سنة 1095م/488ه، أما النضال بين المسلمين والنصارى، فيرجع إلى عهد أقدم؛ أي حين تمكن المسلمون أن يسيطروا على ما كان بيد دولة الروم الشرعية من أقاليم حوض البحر الأبيض المتوسط في الشرق، وحين سيطر على شبه جزيرة إيبريا في أوروبا؛ فقد تركت المسيحية للإسلام تلك الديار وفي نفسها حسرة، وكانت تفكر دوما في استعادتها حتى استطاعت استعادة شبه جزيرة إيبريا، وقضت على الإسلام في المغرب العربي (بديار الأندلس). أما في المشرق فإن سلسلة الحروب والغزوات التي كانت بين المسلمين والروم منذ أيام عمر بن الخطاب إلى عهد ريكاردوس قلب الأسد في الحروب الصليبية، ثم في عهد الجنرالين اللنبي وغورو في الاحتلال البريطاني والفرنسي للشرق الأوسط، ثم في حملة قنال السويس الأخيرة وضرب مدينة بورسعيد من قبل القوات الفرنسية والإنكليزية سنة 1956م، ما هي إلا رد على حملات الإسلام الأولى التي أقضت تمضجع النصرانية.
لم تنقطع الحروب بين المسلمين والروم في آسية الصغرى منذ أيام بني أمية وبني العباس إلى عهد سيف الدولة، وكانت هذه الحروب سجالا بين الجانبين، وقد اشتدت هذه الحملات قوة في عهد سيف الدولة ونقفور فوكاس؛ فقد كان لسيف الدولة حملات قاسية كما كان لخصمه نقفور حملات مشابهة، وقد استطاع إمبراطور الروم نقفور في سنة 964م/322ه طرد المسلمين من جزيرة إقريطس (كريت)
1
وقد هدأت حملات الإمبراطورية البيزنطية فترة، حين وقعت الحرب الأهلية بينهم، فخلع الإمبراطور نقفور وحل محله حنا الشمشيق
John Zimiskes
المعروف بالدمستق، وقد كان هذا جبارا ذا مطامع، وضع بيت المقدس أمام عينيه ولكنه مات ولم يصل إلى مطمحه لقوة الدفاع الإسلامي.
ويظهر أن الإمبراطورية الرومانية البيزنطية، قد وجدت نفسها محتاجة إلى الاستعانة بالغرب الكاثوليكي ضد المسلمين فعمدت إلى ذلك. ويذكر بعض المؤرخين أن الإمبراطور «ألكسيس كومنين»
Alexés Comnène
استنجد بروبرت كونت الفلاندر سنة 1071-1093م حينما مر به في سنة 1087م وهو عائد من حجه إلى الأراضي المقدسة
2
ثم إنه كتب إليه رسالة بهذا الخصوص،
3
كما كتب إلى البابا إربان الثاني يستنجد به لتجهيز حملة ضد المسلمين.
والحق أن الحملة الصليبية الأولى في سنة 488ه/1095م لم تكن إلا حجا مسلحا، شجع عليه البابا، وأثار عواطف النصارى على ما يلقاه النصارى في المشرق، وبخاصة بيت المقدس، وذلك حين دعا إلى مؤتمر «كلير مونت» يوم الأحد في 18 كانون الأول سنة 1095م/488ه، واتخذ المؤتمرون من نصارى أوروبا الكاثوليك قرارا بإنفاذ الحملة الصليبية الأولى للأراضي المقدسة، وأخذ «المؤمنون» ينخرطون في الحملة، ولم يكتف البابا بذلك بل راح يطوف في أرجاء فرنسة وإيطالية داعيا إلى الجهاد في سبيل إنقاذ مهد المسيح من المشركين.
وهناك شخصان قد لعبا دورا هاما في حض الناس على المشاركة بهذه الحملة، وهما «بطرس» الناسك الذي جن جنونه في الدعوة لهذه الحملة المقدسة، و«غوتيه المعدم»
Gautier sans avoir
ولما تم جمع المؤمنين خرج بطرس الناسك في نيسان سنة 1096 ومعه خمسة عشر ألف صليبي، فساروا إلى القسطنطينية ووصلوها في 20 تموز سنة 1096م ثم تتابعت الحملات الأخرى كحملة «كودفروا دي بويون»
Gaudfroi de Gouillon
4
التي وصلت في 23 كانون الأول سنة 1096، وحملة «ريموند» كونت «تولوز»
5
وحملة «تنكريدو
6
بوهيمند النرماندي» أمير «تارنت» في 15 نيسان سنة 1097، وحملة الكونت «روبرت كورتهوز بن وليم» الفاتح وأخو «هنري الأول» ملك إنكلترا، وكان فيها عدد كبير من الأشراف والأساقفة والمؤرخ «فوشيه
Fouchet » الذي خلف لنا تاريخا يبين فيه كثيرا من أحوال حملته وصورا مشرفة عن استقبال الروم للصليبيين، وقد اعترفت كل هاته الحملات الصليبية بولائها للإمبراطور البيزنطي، ووعدها بتسليم كل ما تسيطر عليه إليه، واسترجاع الأراضي التي اقتطعها المسلمون من مملكته.
ويقول ابن القلانسي مؤرخ دمشق، إن «الإفرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه، ففتحوا «نيقية».»
7
وهكذا خرجت هذه القوات الصليبية بقيادة «تنكريدو» و«كودفروا دي بويون» كما أنفذ معها الإمبراطور فرقة بيزنطية بقيادة ثاتيكبوس، فحاصروا نيقية ففتحوها وكسروا القوات السلجوقية، ثم ساروا جنوبا، واصطدموا بجيش الأمير قيلج أرسلان السلجوقي فشتت شملهم في 20 رجب سنة 490ه/تموز سنة 1097م ثم أعادوا تجميع قواهم وكسروا المسلمين. ثم اتجهوا نحو «قونية» ووجدوها خالية، فاحتلوها ثم انقسموا ثلاثة أقسام؛ «أحدها» وجهته قيلقيا، «والثاني» إلى أنطاكية، «والثالث» إلى بلاد أرمينية.
أما حملة أرمينية فقد كانت بزعامة «بلدوين دي بويون»، ولا شك في أن اتجاهه ذلك الاتجاه هو انحراف عن الهدف الرئيسي للحملة التي جاءت ل «إنقاذ» بيت المقدس، وما ذلك إلا لأن بلدوين كانت له مطامع شخصية في بلاد أرمينية.
وأما حملة أنطاكية وكانت بقيادة بوهيمند فقد وصلها، وكانت مدينة محصنة فيها أكثر من أربعمائة برج وحصن قائمة على الجبال المحيطة بها، وكان عليها القائد التركي «ياغي سيان»، ولما علم بمقدمهم حصنها واستغاث بدقاق أمير دمشق، وبكر بغا أمير الموصل، وبالسلطان بركياروق، واستطاع أن يصمد أمام الصليبيين إلى أن جاءه الغوث بقيادة دقاق أمير دمشق، والتحم الفريقان واشتد الأمر على الصليبيين واضطر بطرس الناسك إلى الهرب، ولكن «تانكريدو» أرجعه، وباء الصليبيون بفشل مريع، جعلهم يتراجعون ويجمعون قواهم من جديد، ومما زاد في قوتهم أن الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي الوزير الفاطمي قد بعث رسولا إلى الصليبيين لعقد اتفاقية بينه وبينهم ضد السلاجقة المخالفين له في العقيدة، على أن يستقلوا هم بأنطاكية وتكون لهم الحرية الكاملة بإقامة شعائرهم في القدس، وقد رحب الصليبيون بهذه الاتفاقية، وأدركوا ما ينطوي عليه العالم الإسلامي من انقسام. ولما بلغت هذه الأخبار مسامع الملك رضوان السلجوقي صاحب حلب، تناسى خصومته لياغي سيان التركي، وقدم إليه منجدا بقوى كثيرة، والتقى الجيشان وكانت الغلبة للصليبيين لمعاونة الأرمن والنصارى السوريين إياهم في حملتهم، واستمر تقدم الصليبيين إلى حلب والمعرة والبارة.
وقد فرحت الدولة الفاطمية بهذا الانتصار الصليبي لسببين؛ «أولهما» الشماتة بالخلافة العباسية التي تؤيد السلاجقة، و«ثانيهما» اعتقادهم بأن حملة الصليبيين إنما هدفها القدس فقط. واستمر الصليبيون يتقدمون في الديار الشامية حتى سيطروا على بيت المقدس وقضوا على الأمير افتخار الدولة حاكم القدس المصري في 13 تموز سنة 1099 / 23 شعبان سنة 492 بقيادة «تانكريدو» و«غودفروا» بعد معارك دامية، استحال فيها المسجد الأقصى إلى بركة من الدماء؛
8
مما جعل هذه الوقعة لطخة في تاريخ الصليبيين كما يقول المؤرخ
Grousset .
9
وقد بلغت أخبار هذه الفظائع دمشق، فبعث أميرها وفدا إلى بغداد برئاسة زين الدين إلى سعد الهروي مستغيثين بالخليفة والسلطان السلجوقي، وأخذ الشعراء يصورون للناس فظاعة هذه النكبة الكبرى حتى قال قائلهم:
أحل الكفر بالإسلام ضيما
يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح
وسيف قاطع ودم حبيب
وكم من مسجد جعلوه ديرا
على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق
وتحريق المصاحف فيه طيب
10
على أن تملك الصليبيين للقدس قد أثار بينهم مشاكل داخلية استمرت قرنين حتى تهيأ للمسلمين استردادها، ولم تكن القدس هي المملكة الصليبية الوحيدة في ديار الشام، بل كان لهم هناك ثلاث ممالك أخرى في «أنطاكية» و«الرها» و«طرابلس»، كما قسم الصليبيون المدن الكبرى في الساحل الشامي إلى مستعمرات أوروبية أنشأت فيها «مارسيلية» و«البندقية» وغيرها من المدن الإيطالية أحياء برمتها.
11
وهكذا انتهت الحملة الصليبية الأولى التي يقال إن عدد رجالها يقارب المليون. (1-2) الحملة الثانية
لما استشهد عماد الدين الزنكي أمير الشام، الذي كان شجى في حلوق الصليبيين، طمع هؤلاء في استرداد ما أخذه منهم كالرها، ولكن ابنه محمودا وقف أمامهم وقفة قوية خيبت آمالهم، فاستنجدوا بأوروبا فبعثت إليهم في سنة 542ه بالحملة الثانية؛ وكانت مؤلفة من فرنسيين بقيادة الملك لويس السابع، وألمان بزعامة الملك كونراد الثالث، ومعهم عدد كبير من الفلامنديين والطليان، وقد كان عدد أفراد هذه الحملة مليونا،
12
ولما وصلت مراكبهم في سنة 543ه ساحل صور وعكا، ووصل المسافرون برا التقوا في بيت المقدس فحجوا وصلوا صلاة الموت وعزموا السير إلى دمشق، ولم يشعر أهل دمشق إلا وملك الألمان وملك الفرنسيس احتاطا بدمشق فلقيهم الجيش الإسلامي وهزمهم وفرق جموعهم، وكان بقيادة مجير الدين أرتق بن محمد، ومعين الدين أتسز، وكانت الجيوش الموصلية بقيادة سيف الدين غازي، والجيوش الحلبية بقيادة نور الدين محمود، فسدد الجميع ضربات قاضية على رأس الجيش الصليبي، فتفرق أصحابه شذر مذر، ولكنهم عبثوا بالساحل الشامي بعد أن رحلوا عن دمشق.
واستطاع نور الدين أن يسيطر على الشام ومصر ويوحد إمارتها بقيادته، فخافه الصليبيون وحسبوا له حسابا، وتقهقروا إلى السواحل، فلما مات سنة 569ه خلفه ابنه الملك الصالح إسماعيل.
ولكن صلاح يوسف بن أيوب صاحب مصر، رأى أنه من المتعذر إدارة البلاد إذا لم يحكمها رجل واحد قوي، فعزم على توحيد القطرين (مصر والشام) كما كان الحال أيام نور الدين، فتم له ذلك في سنة 578ه حين قصد الشام من مصر، ففتح طبرية وجنين والغور، وحاصر بيروت وعكا وفتحها، ثم سار نحو غرب الفرات حتى وصل آمد ثم رجع ففتح حلب، وبلغه أن الفرنج المقيمين بالقدس قصدوا دمشق، كما أن الفرنج المقيمين بالكرك والشوبك قصدوا المسير إلى المدينة المنورة لنبش قبر الرسول
صلى الله عليه وسلم
فرجع سريعا وطردهم عن دمشق، ثم حاصر الكرك سنة 580ه وفتح نابلس. وفي سنة 583ه تجمع الصليبيون عليه فسار إليهم والتقى جمعاهما في «حطين» قرب طبرية، فأباد جموعهم وأسر ملك الفرنج الكبير، وصاحب الكرك، وصاحب جبيل، وقتل منهم أربعين ألفا، ولم يبق منهم إلا خمسة آلاف أسلم منهم قسم فأطلقه، ومن لم يسلم أسره. ثم سار إلى عكا ففتحها، ثم فتح الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ودبورية وأكثر مدن فلسطين، وحاصر عسقلان والرملة وغزة والجليل واللد فاستسلمت جميعها. ثم نازل القدس وفيها رءوس النصرانية - الصليبية وملوكها - وضيق عليهم الخناق فطلبوا الأمان فقال: على شريطة أن يؤدي كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة، وكل طفل دينارين، ومن عجز أسر؛ فقبلوا وتسلم المدينة، وكان فيها ستون ألف رجل ما عدا النساء والأطفال، فوفى لهم بعهده وأجلوه وقدسوه، وكان فتح القدس هذا فتحا مبينا مخلدا، أعاد الله على العرب مثله اليوم ليفتحوا الأراضي المحتلة من فلسطين ويطهروها من أوضار الصهيونيين الظالمين.
وفي ذلك اليوم الأغر يوم فتح القدس، يقول عبد المنعم الحلباني في قصيدته التي قالها مهنئا صلاح الدين، رضي الله عنه:
وفيت لهم حتى أحبوك ساطيا
بهم ووفاء العهد قيد المخاصم
فخافوا فخابوا فانتدوا فتلاوموا
فقالوا خذلنا بارتكاب الجرائم
وخص صلاح الدين بالنصر إذ أتى
بقلب سليم راحما للمسالم
فخطوا بأرجاء الهياكل صورة
لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
يدين لها قس ويرقى بوصفها
ويكتبه يشفى به في التمائم (1-3) الحملة الثالثة
بينما كان صلاح الدين على أسوار عكا سنة 586ه جاءته الأخبار من بلاد الروم أن ملوك أوروبا قادمون لينجدوا الصليبيين في الشام ومعهم مائة ألف صليبي، فحزن الناس وكانت هذه الحملة مؤلفة من ثلاثة ملوك هم «فريدريك باربروس» ملك ألمانيا الذي غرق في الطريق، و«فيليب أوغست» ملك فرنسة، و«ريكاردوس» قلب الأسد ملك إنكلترا، وقد وصلت الحملة إلى عكا، بعد أن فتحت قبرص، فتلقتها جيوش المسلمين في عكا فردوهم عنها، ثم ساروا إلى يافا فأخلاها المسلمون ورأى السلطان تخريب عسقلان والرملة واللد، وسار إلى القدس، وراسله الصليبيون على الصلح، فلم يقبل ووقعت بين الجانبين معارك، ثم طلب ملك الإنكتار (الإنكليز) الصلح، فصالحه صلاح الدين بعد فشل المسلمين في الاستيلاء على عكا، وعقدت الهدنة بين الجانبين في البر والبحر لثلاث سنوات وثلاثة أشهر، على أن تستقر بيد الفرنج موانئ يافا وعكا وقيسارية وأرسوف وحيفا، وتظل عسقلان خرابا. واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في الهدنة، واشترط الفرنج دخول أنطاكية وطرابلس في الهدنة، وأن تكون اللد والرملة مناصفة بينهما فتم ذلك. وكانت وفاة صلاح الدين بعد الهدنة بيسير، تغمده الله برحمته. (1-4) الحملة الرابعة
لما مات صلاح الدين واضطرب الأمر بين أولاده وابن أخيه الملك العادل، قوي الصليبيون وأخذوا يجمعون جموعهم لغزو المسلمين، ولكن ما عتم الملك العادل أن وضع يده على المملكة الأيوبية كلها، وتخلص من أولاد أخيه صلاح الدين، الأفضل، والظاهر، وتم له ملك الشام ومصر. وحدث في سنة 595ه أن تجمع الفرنجة في حصن الأكراد والمرقب وأغاروا على حماة. ثم في سنة 600ه خرجوا إلى بيت المقدس فهرع إليهم الملك العادل، واضطروا إلى مهادنته، وتم الصلح على أن يسلم إليهم مدن يافا والناصرة واللد والرملة. (1-5) الحملة الخامسة
وفي سنة 602ه/1204م قدم على سواحل عكا جمع عظيم من الصليبيين الألمان والنمساويين والمجر والهنكر فدخلوها، وانثالوا على المدن المجاورة والأيوبيون لاهون بالمشاكل بينهم، وقد غنم الصليبيون من المسلمين مغانم كثيرة، وكان في هذه الحملة كثير من الصليبيين الشبان المتحمسين من فرنسة وألمانية حتى سميت هذه الحملة بحملة الشبان. ولما مات الملك العادل في سنة 615ه ازداد البلاء على المسلمين وطمعت الفرنج فيهم، واستولوا على كثير من ديار الشام ومصر، ولما استولى الفرنج على دمياط واتجهوا نحو المنصورة عظم الأمر على بني أيوب وطلبوا إلى الفرنج الصلح على أن يتنازلوا لهم عن القدس وعسقلان وطبرية واللاذقية وجبلة وجميع ما فتح صلاح الدين من الساحل، ما عدا الكرك والشوبك، فلم يرض الفرنج، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار لقاء تخريب سور القدس وقالوا لا بد من تسليم الكرك والشوبك. فجمع الأيوبيون صفوفهم وعزموا على لقاء عدوهم، وتم لهم النصر على الفرنج وأسر ملكهم القديس وثلاثون ألفا من رجاله.
وقال ابن أبي شامة: «وبلغني أن النصارى ببعلبك سودوا وسخموا وجوه الصور في كنيستهم حزنا على ما جرى على الفرنج.» ولم يكن سبب تسليم القدس ثانية للصليبيين آتيا من ضعف القوى الإسلامية، بل للخلاف بين الملكين الكامل والمعظم؛ فقد كان الكامل يخشى إن توجه لمقاتلة الإمبراطور فريدريك قائد الحملة السادسة أن يفاجئه الملك المعظم؛ ففضل تسليم القدس إلى فريدريك، ولله في خلقه شئون. (1-6) الحملة السادسة
قاد هذه الحملة الإمبرور فريدريك الثاني صاحب صقلية سنة 1228م/624ه؛ فقد كان داهية سياسيا، لم يدخل في حرب، ولكنه فاوض الملك الكامل الأيوبي على استلام القدس وبيت لحم والناصرة، وهي المحلات المقدسة عند المسيحيين، فأجابه إلى ذلك لمدة عشر سنوات، على ألا يتعرضوا لقبة الصخرة ولا المسجد الأقصى، ويكون الحكم في الرساتيق المجاورة إلى والي المسلمين.
ولما بلغت هذه الأخبار إلى العالم الإسلامي قامت قيامة الناس على سوء تصرف الملك الكامل، وأقيمت المآتم، فحدقت قلوب أهل دمشق على الملك الكامل وفسد أمره من ذلك الحين، وساءت أمور الأيوبيين حتى استمد بعضهم بالفرنج ،
13
وظلت البلاد في اضطراب حتى الزحف المغولي.
ولما جاء هولاكو سنة 657ه قضى على الجميع، وظلت القدس بأيدي الصليبيين إلى أن استردها الملك الصالح أيوب في سنة 637-647ه بمساعدة الخوارزميين. (1-7) الحملة السابعة
في سنة 690ه/1270م عزم الملك القديس لويس التاسع، ملك فرنسة بعد أن خرج من الأسر وعاد إلى بلاده، على أن يسترجع بيت المقدس وينتقم لنفسه من المسلمين الذين أسروه في المنصورة، ولم يتخلص منهم إلا بمبلغ جسيم، فأخذ هو وأخوه يجمعان جموعهما لفتح تونس ومصر والشام واحتلال القدس، ولكن ذلك لم يتم؛ فقد مات في تونس بالطاعون سنة 1270م/690ه، وقضي على الحروب الصليبية. وهكذا انتهت هذه الحروب بعد أن دامت قرنين من سنة 491ه إلى سنة 690ه، وقد كان لها نتائج خطيرة نجمل بعضها بالنقاط الآتية: (1)
إن حملات الصليبيين عاقت المسلمين عن التقدم والسير في سبيل الحضارة التي كانوا يسيرون إليها بخطوات سريعة في العصر العباسي الأول، ثم بخطوات بطيئة في العصر الثاني والثالث. (2)
أفادت تلك الحملات الصليبيين فوائد جليلة لأنها أطلعتهم على مقدار الحضارة والتقدم في ديار الإسلام والروم معا. (3)
نقل الصليبيون بعد هذه الحملات صناعات كثيرة عن بلاد الشام ومصر، كصناعة الورق والنسيج والحديد والأسلحة والزيوت. (4)
أفاد الأوروبيون الصليبيون وبخاصة الطليان من بنادقة وجنويين وبيسيين، فوائد مادية جلى في التجارة والاقتصاد من المشرق حتى بعد انتهاء هذه الحروب. (5)
كان من جراء هذه الحروب إيقاد روح التعصب المقيت بين المسلمين ومن في بلادهم من أهل الذمة بعد أن كادت هذه الروح تنمحي، وقد لقيت منها بلاد الإسلام شرا مستطيرا. (6)
استفاد الصليبيون كثيرا من ثقافة العرب والمسلمين فدخلت لغاتهم كثير من الكلمات العربية، وتطعمت آدابهم بالآداب العربية، ونقلوا كثيرا من كتب العلم والفن والحكمة، من شرح فلسفة أرسطو إلى كتب علم الطبخ والموسيقى والأزياء والأقمشة والزهور والبقول والنبات. (7)
نقل الصليبيون كثيرا من أصول الهندسة البنائية وريازة العمران
Architecture
وتجلى ذلك في كثير من الأبنية من قصور وكنائس التي زخرفوها بالأرابسكا
Arabesques . (8)
نقل الصليبيون كثيرا من عادات أهل الشام ومصر إلى ديارهم، كما تأثر المسلمون بالصليبيين في كثير من عاداتهم في البيوع والتجارة واللباس والطعام.
14 (2) التجارة الخارجية
قويت في هذه الفترة الصلات التجارية الخارجية بين المسلمين وبين الروم وأوروبة وجزر البحر الأبيض المتوسط قوة واضحة، وكانت تجارات العراق والمشرق تقلع من موانئ صور وطرابلس - أكبر موانئ الساحل الشرقي - إلى سواحل القسطنطينية في بحر إيجة وخليج البندقية، وبحر تيطس (الأسود) وجزر قبرص ورودس وإقريطس.
كان هذا كله قبل الحملات الصليبية، أما بعد أن كانت هذه الحملات، فقد ازدادت الصلات التجارية الخارجية، وتوثقت جدا، ويقول بيكولوتي: «إن أربع موانئ هي: عكا، وبيروت، وطرابلس، واللاذقية، وخمس مدن داخلية هي: الرملة، ودمشق، وحماة، وأنطاكية، وحلب، قد استفادت من التجارة مع اللاتين ولا سيما البيسيين، والجنويين، والطسقانيين، وكلهم إيطاليون، وهذه الجمهوريات الأربع، بيزة وجنوة والبندقية وطسقان، التي كانت تقتسم إيطاليا، هي أول من اتجر مع الشام من أمم الغرب وجاراهم بعض تجار من أهل بلجيكا وإنكلترا، ثم عدلوا لبعد بلادهم. وكان لهؤلاء الطليان والفرنسيين من التجار - أمالفي ومارسيليا - مكاتب تجارة في الإسكندرية، وفي المدن الساحلية والداخلية في الشام يقايضون بواسطتها حاصلات الشرق مع حاصلات الغرب، ولما فتح الجنويون ثم البنادقة جزيرة قبرص، زادت صلات الشام مع هذه الجزيرة التي هي على بعد 93 كيلومترا من ساحل الشام.»
15
وعقد صلاح الدين في 15 صفر سنة 569ه/1172م معاهدة تجارية بينه وبين جمهورية بيزا منح البيسيين عدة امتيازات، وتقاضى منهم مقابلها ضرائب معينة.
وكان لأهل الجمهوريات الإيطالية مزايا كثيرة في ديار الشام، كما كانت لهم مراكز في مصر، واعتاد الأوروبيون بعد الحروب الصليبية على كثير من بضائع الشرق الإسلامي وأغذيته، فقويت الصلات بين الجانبين، وأصبحت جزيرة قبرص بمكانة رفيعة لأنها النقطة المتوسطة بين أوروبة وديار الشام ومنافذ النيل.
قال المؤرخ صالح بن يحيى صاحب تاريخ بيروت: «إن مراكب البنادقة أخذت تتردد إلى بيروت بعد الحروب الصليبية بالمتاجر قليلا قليلا، وكانت مراكب البنادقة تحضر إلى قبرص، فيرسل صاحب قبرص بضائعهم في شونتين
16
كانتا له إلى بيروت نقلة بعد أخرى، وكان للقبارصة جماعة فيها، ولهم فيها خانات وحمامات وكنائس ثم بطل ذلك.» وكان على ميناء بيروت دواوين وعمال ومشارفون وشاد
17
يوليهم نائب دمشق.» يقول الأب لامنس: «في سنة 1136م جاءت مراكب فرنسية وعليها تجار فرنسيون من مرسيليا، ثم أخذت بعض مرافئ فرنسة كمونبيليه وآرل تبعث بسفنها إلى الشرق، وبذلت جنوة جهدها لتبقى لها الأفضلية في التجارة مع الشام، وكانت عكا المرفأ الأعظم أولا بين موانئ الشام وقاعدة التجارة ومركز القناصل العامين، ثم مرافئ صور وطرابلس والسويدية التي كانت تسمى ميناء مارسمعان ثم بيروت، ومنذ القرن الخامس عشر تقدمت بيروت سائر موانئ الشام، أما البضائع التي كان التجار الفرنج ينقلونها إلى بلادهم، فأهمها الحرير والقطن والكتان والأنسجة من حريرية وقطنية ومزركشات ومذهبات وشغوف ومناديل مما يصنع في معامل الموصل وحلب وحماة وحمص ودمشق، وكان الزجاج العراقي والصوري والطرابلسي موضع إعجاب الأوروبيين، فكان ينقل إليهم. وكان للسكر ومصنوعاته والبهارات والتوابل وغير ذلك مما تستورده أسواق حلب من الهند والعجم سوق رائجة في أوروبا. أما السفن التي كانت ترد من أوروبا إلى المشرق فكانت تحمل جوخ الفلاندر والآلاف من حجاج بيت المقدس.»
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأوروبيين بدءوا منذ ذلك الحين يقيمون قنصليات لهم في هذه الديار، ويقال إن أول قنصل كان للبنادقة هو «فرنسيسكو واندللو» وكان في دمشق سنة 1384ه، ويقول الأب لامنس: «إن أول ما ورد اسم القنصل في حملة النزالة الجنوبية التي كانت في عكا أواسط القرن الثاني عشر، وأنهم قد دعوه أولا نائب القومص أو القومس
Vicont Vicecong
ثم انتشرت هذه الرتبة في أماكن شتى في النصف الثاني من ذلك القرن، وعرف أصحابها بالقناصل، وأطلق أولا على الإيطاليين، وبعد زمن طويل صار للفرنسيين قنصل.» ويذكر
Rey
في كتابه:
Les Colonies Francaises en Syrie ، ص7 «أن قناصل فرنسة في مدن صور وجبيل وأنطاكية كان لهم الإشراف على الفنادق الموسومة باسمهم، وقد بالغت بعض الجوالي الأجنبية فأقامت لها محاكم خاصة للنظر في قضاياهم التجارية، كما أقاموا سجونا لتنفيذ عقوبات من يحكم عليه من رعاياهم.»
18
الفصل السادس
الوضع العلمي والثقافي
كان هذا العهد - على الرغم من اضطراب السياسة فيه - عهدا زاهيا بالعلم والثقافة والعرفان؛ فقد بلغت مرو وشيراز وبغداد والموصل وحلب ودمشق والقدس والقاهرة درجات رفيعة من العلم في القرنين الخامس والسادس، وكان الخلفاء والسلاطين والأمراء يشجعون أهل العلم ويكرمونهم ويقتنون الكتب ويحسنون إلى مؤلفيها، ويغدقون العطاء عليهم، ولم يكن هذا الإحسان وتلك العناية خاصة بعلماء الدين والعربية والحكمة، بل كان يشمل أهل الفنون والصناعات، وقد رووا أن المعتضد العباسي لما أراد بناء قصره ببغداد استزاد فيه في الذرع بعد أن فرغ من تقدير ما أراد فسئل عن ذلك، فذكر أنه يريده ليبني فيه دورا ومساكن ومقاصير، يرتب في كل موضع رؤساء كل صناعة ومذهب من مذاهب العلوم النظرية والعملية، ويجري عليهم الأرزاق السنية ليقصد كل من اختار علما أو صناعة رئيس ما يختاره، فيأخذ عنه.»
1
ولا شك أن في ذلك عناية ما بعدها عناية لأهل الفنون والصنائع من نظرية وعملية، وقد كانت للمعتضد أعمال كثيرة تدل على حسن رعايته لأهل الفنون والعلم.
أما دور العلم ومراكز الثقافة التي وجدت في هذين العنصرين فأجل من أن تحصى في أية بقعة من بقاع الإسلام، ويقال إن أول من حفظ عنه أنه أسس مدرسة في الإسلام هم أهل نيسابور، حيث بنيت «المدرسة البيهقية» ثم «مدرسة الأمير نصر بن سبكتكين»، وكان السلاجقة ووزراؤهم منذ عهد ألب أرسلان من أكثر الناس عناية ببناء المدارس، ومعاهد العلم، لتخريج الفقهاء والعلماء والحكماء والمتكلمين، وقد كانت للوزير العالم الأجل نظام الملك الطوسي تلك المسيرة التي زين بها تاريخ السلجوقية، وهي تأسيس المدارس النظامية في إيران والعراق.
2
وقد زود تلك المدارس بكل ما تحتاج إليه لتخريج الأئمة والعلماء في الدين والأدب والحكمة، ثم تتابع على ذلك أولاده وخلفاؤه من الوزراء حتى عمت إيران والعراق المدارس ودور الكتب. ويقول المستشرق روبن ليفي: «إن المدارس والجامعات الأوروبية الأولى اقتبست بعض تراتيبها التعليمية عن المدرسة النظامية.»
3
وقد كان لهذه المدرسة مدرس كبير واحد يختار من كبار أئمة العلم في العصر، ويعينه مدرسان آخران يطلق عليهما اسم «معيد» لتلاوة المحاضرات بعد انتهاء الدرس، وقد وصف لنا الرحالة ابن جبير درسا من دروس النظامية حضره حين زار بغداد سنة 580،
4
فممن درس فيها: الإمام أبو إسحاق الشيرازي إمام الشافعية في عصره، والإمام الغزالي، وابن شداد المؤرخ، وقد نجت النظامية من نكبة هولاكو واستمرت تؤدي رسالتها إلى القرن التاسع، ولم نعد بعد هذا الوقت نسمع بأخبارها.
5
أما الشام فيظهر أن طرابلس كانت أقدم بلد فيه أسست المدارس؛ فقد رووا أن الأمير القاضي علي بن محمد بن عمار صاحب طرابلس في النصف الثاني من القرن الخامس سنة 472، أسس أول دار حكمة لبث الفقه الشيعي، وكانت البلدة في عهده كعبة العلماء في العصر.
وقالوا إن نور الدين محمود بن زنكي لما استولى على الشام أسس المدارس لأهل السنة والجماعة، وأخذ يستدعي الفقهاء والصوفية ويقيم لهم المدارس والربط في دمشق، وأنه بنى المدرسة العصرونية في حلب لشرف الدين بن أبي عصرون عالم سنجار في سنة 545ه/1127م، وبنى له مدارس أخرى في دمشق ومنبج وحمص وبعلبك، كما بنى لقطب الدين النيسابوري الحكيم الرياضي المفسر، المدرسة العادلية بدمشق
6
ويذكر ابن جبير الذي زار دمشق سنة 580ه/1184م أنه كان بها نحو من عشرين مدرسة تقوم بالإنفاق على من يدخل فيها طلبا للعلم، كما ذكر أن مارستاناتها ورباطاتها كانت من مفاخر الإسلام، ويقول إن بها مدرسة للهندسة وثلاث مدارس للطب،
7
وبلغت حجرات المدرسة الفخرية بها 360 حجرة، كما يذكر أن عدد مدارس بغداد كان نحوا من «30» مدرسة لشتى أنواع العلم والأدب.
وقد نبغ في الدولة الإسلامية في هذه الفترة طوائف من الأئمة في علوم الدين والدنيا كانوا وما زالوا مفاخر الإسلام، ممن أنتجتهم هذه المدارس أمثال:
الإمام الغزالي:
الذي تعلم في نظامية نيسابور، ثم قدم بغداد فعكف على التعلم والتعليم في نظامية بغداد نحوا من خمس سنوات، ولما قتل الباطنيون نظام الملك عكف الغزالي على دراسة أحوال هؤلاء القوم وانتقد عقائدهم، وطاف العالم الإسلامي يحاربهم، ثم رجع إلى نيسابور مدرسا في نظاميتها فترة، تلبية لرجاء الوزير فخر الملك بن نظام الملك، ثم اعتزل التدريس قاصدا مسقط رأسه طوس، منصرفا إلى العبادة والتأليف إلى أن مات سنة 505ه.
الرئيس ابن سينا:
الحسين بن عبد الله سنة 428ه/1037م، الإمام الفيلسوف صاحب التآليف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات، وأشهرها القانون والشفاء والإشارات.
الحكيم الخيام:
الرياضي الفلكي الشاعر الذي عهد إليه ملكشاه جلال الدين أن يصلح التقويم، فوضع التقويم الجلالي، وله في الفقه والفلسفة والرياضيات آثار جليلة، فضلا عن رباعياته.
الإمام الرازي:
فخر الدين محمد بن عمر سنة 606ه/1210م إمام المفسرين الفيلسوف، وهو عربي قرشي، ولد بالري ورحل إلى خوارزم وألف في التفسير والرياضيات والحكمة والأدب والتصوف.
العالم البيروني:
محمد بن أحمد، أبو الريحان الخوارزمي سنة 440ه/1048م الفيلسوف الرياضي المؤرخ أقام في الهند واطلع على فلسفتها وفلسفة اليونان، وله «الآثار الباقية» و«الجماهر» و«تحقيق ما للهند من مقولة» وغيرها.
أبو العلاء المعري:
أحمد بن عبد الله التنوخي 449ه/1057م الشاعر الفيلسوف الأديب الأشهر صاحب الآثار والدواوين الكثيرة الموجود منها: «السقط» و«اللزوم» و«الغفران» و«الملائكة» و«عبث الوليد» و«شرح ديوان ابن أبي حصينة».
الأمير ابن أبي حصينة:
الحسن بن عبد الله 457ه/1065م الأمير الشاعر الأديب المعري شاعر بني مرداس، وقد جمع أبو العلاء ديوانه وشرحه.
الأديب الحريري:
القاسم بن علي أبو محمد 516ه/1122م وهو الأديب الكبير، والإمام اللغوي، صاحب «المقامات» المشهورة، له «درة الغواص» و«ملحة الإعراب» وغيرهما.
الكاتب عبد الرحيم:
بن علي بن السعيد المشهور بالقاضي الفاضل 596ه/1200م وزير صلاح الدين وكاتبه ومترجمه، له رسائل عديدة وإنشاءات سياسية وتاريخية لا تزال مخطوطة.
المؤرخ حمزة بن أسيد:
بن علي التميمي ابن القلانسي 555ه/1160م مؤرخ الشام الثقة، كان أديبا كاتبا شاعرا محدثا، طبع له «ذيل تاريخ دمشق».
المؤرخ غريغوريوس:
بن هارون بن العبري 685ه/1286م مؤرخ سرياني تعلم في أنطاكية، واشتغل بالفلاسفة واللاهوت، وتولى أسقفية حلب، وله «تاريخ الدول»، وكتب في الطب وتفسير الكتاب المقدس.
القاضي يوسف بن رافع:
بن تميم بن شداد الأسدي 632ه/1234م القاضي المؤرخ الأديب، ولاه صلاح الدين قضاء القدس والعسكر وحلب، ومن آثاره النوادر السلطانية في سيرة صلاح الدين. وغيرهم كثير ممن خرجوا من هذه المدارس أو درسوا فيها، وقد كانت هذه المدارس على أنواع، منها للفقه على مذهب واحد من المذاهب الأربعة أو على مذهبين، ومن مدارس المذهبين، وهي في الغالب، الحنفي والشافعي كالمدرسة الأسدية التي بناها في دمشق أسد الدين شيركوه، والمدرسة العذراوية التي بنتها السيدة عذراء بنت صلاح الدين، هناك مدارس للمذاهب الأربعة: كالمستنصرية الكبرى ببغداد والصالحية بمصر.
8
ولم تخل حركة من الحركات الفكرية في الإسلام، ولا مذهب من المذاهب العقائدية من وجود مدارس تروج له، وتغذي حركته؛ فقد كانت للقرامطة مدارس وحلقات، كما كانت للباطنية مدارس، ومكاتب ومراصد.
يقول المستشرق «بارتولد» (في تاريخ الحضارة الإسلامية، ص87): «لم تكن حصون الإسماعيليين لتدبير الاغتيالات السياسية فحسب، بل دبرت فيها أمور حضرية، فكانت لمكتبة «آلموت» ومرصدها شهرة واسعة، ونشأ من هذه القلعة عدة علماء قاموا بخدمات جليلة في إيران في العهد المغولي، ومن هؤلاء العلماء نصير الدين الطوسي، صاحب المؤلفات في الفلسفة والهيئة والرياضة، وفي العقائد الشيعية، ورشيد الدين المؤرخ اليهودي الأصل.»
9
وكتاب رشيد الدين: «جامع التواريخ» قد ألفه بأمر السلطان غياث الدين خدا بنده محمد، وطلب إليه أن يجمع فيه الروايات والأخبار التاريخية الخاصة بجميع الأمم من الصينيين إلى الإفرنج، وكان يعاونه في عمله هذا رجل مغولي مؤرخ واثنان صينيان عالمان، وراهب بوذي من كشمير، وعدة إيرانيين وراهب فرنسي، وقد حاول رشيد الدين تسجيل الروايات التاريخية كما سمعها بدون تحريف.
10
وأما دور الكتب فقد كانت موجودة قديما، ولم يكن مسجد من المساجد الجامعة منذ القرن الثاني للهجرة (القرن الثامن للميلاد) في العواصم الإسلامية يخلو من خزائن كتب العلم والدين والحكمة، وكان كثير من أهل العلم يوقفون كتبهم على الجوامع كالخطيب البغدادي وأبي نصر المنازي
11
وغيرهما، وقد كانت هذه الجوامع تحتوي آلاف الكتب، ولا بأس أن نقف ها هنا وقفة لنقارن بين دور الكتب في الجامع الإسلامي في القرن الثامن للميلاد، وبين خزانة الكتب في الكتدرائية الغربية في أوروبة؛ فقد روى المستشرق متز أنه كان في مكتبة الكاتدرائية بمدينة «كنستانزا» في القرن التاسع «356» كتابا، وفي مكتبة دير «البندكتين » سنة 1032م ما يزيد على «100» كتاب بقليل، وفي خزانة كتب الكاتدرائية في مدينة «بامبرخ» سنة 1130ه «96» كتابا فقط.
12
أما في العهد الذي نؤرخه فقد كثرت خزائن الكتب كثرة مدهشة في الجوامع والمدارس والزوايا والربط والبيوت، ويروى أن شرف الملك أبا سعيد محمد بن منصور الخوارزمي بنى خزانة كتب في مدرسة أبي حنيفة سنة 459ه وكانت تحتوي على كتب كثيرة من آثار الجاحظ، وأن الخليفة الناصر نقل إلى المدرسة النظامية سنة 589ه قسما من خزانة كتبه ووضعها تحت تصرف الطلاب، كما أن المؤرخين ابن الساعي وابن النجار وقفا كتبهما على هذه المدرسة.
ولم تكن هذه الحركات الثقافية خاصة بدولة السلاجقة؛ فإن الدول الأخرى كالخوارزمية والأتابكية كانت كثيرة العناية بالنواحي الثقافية، على الرغم من انشغالها بالحروب، وقد نبغ تحت رعاية هاتين الدولتين جمهرة من الأدباء والعلماء والشعراء، نذكر منهم: زين الدين أبا إبراهيم إسماعيل بن حسن الجرجاني الذي قصد خوارزم سنة 504ه/1110م إثر الدعوة الكريمة التي وجهها إليه قطب الدين خوارزمشاه، وظل هناك إلى أن مات، ومن آثاره كتاب «ذخيرة خوارزمشاه» وهو من كتب الطب والسموم. ومنهم رشيد الدين محمد عبد الجليل البلخي المعروف بالوطواط الأديب الكاتب باللغتين، وقد خدم الخوارزميين أيام أتسز خوارزمشاه سنة 521، وكان يؤلف القصائد والرسائل في هجو السلاجقة خصوم الخوارزمية، كما كان أوحد الدين محمد الأنوري العالم الفلكي والشاعر الأديب، يرد على هذه القصائد والرسائل ويكيل المدح للسلطان سنجر السلجوقي ويهجو أتسز.
وفي عهد علاء الدين خوارزمشاه سنة 596-617ه نبغ جمهرة من العلماء والأدباء، نذكر منهم: محمد بن قبيس مؤلف «المعجم في معايير أشعار العجم» كتبه بالعربية، ثم ترجمه إلى الفارسية، وكان ابن قبيس من أهالي الري، وقد خدم الدولة الخوارزمية، ثم انتقل إلى خدمة الأتابك سعد بن زنكي سنة 632ه/1225م، ثم إلى ابنه أبي بكر من بعده،
13
ثم في عهد جلال الدين منكوبرتي اللذين كانا يشجعان العلم وأهله، على الرغم من اضطراب الوضع السياسي.
ومن هؤلاء العلماء نصرة الدين حمزة بن محمد العالم الأديب الذي ارتقى إلى ولاية تسا، وأسرة الجويني التي نبغ منها بهاء الدين متولي الإدارة المالية في عهد مانجوخان، وعلاء الدين بن بهاء الدين المعروف بعطا ملك، الكاتب العالم الأديب المؤرخ المشهور مؤلف «جهان كشا»، وشمس الدين بن بهاء الدين، وكلهم عالم أديب ومؤرخ أريب.
14
ومما تجب الإشارة إليه أن الفنون الجميلة من تزيين المباني والنقش والرسم والنحت والتصوير والخط والموسيقى، قد ارتقت في هذا العصر رقيا ملموسا، وقد ألف المقريزي المؤرخ المشهور كتابا أرخ فيه مصوري المسلمين، ولكن كتابه فقد مع الأسف، ولقد عني المسلمون في هذا العصر بالفنون الجميلة، نظرا لميل أمراء هذا العصر من سلاجقة وخوارزمية وأتابكية إلى هذه الفنون، وممن نبغ في الخط ياقوت المستعصمي، وإليه ينسب الخط الياقوتي، ومن آثاره بعض المصاحف والكتب الرائعة في خطها.
الفصل السابع
في الوضع الاجتماعي
(1) العاصمة. (2) السكان. (3) الأخلاق. (4) الملابس. *** (1) العاصمة
تعددت العواصم في هذه الفترة، فذهبت عن بغداد نضارتها، وعمتها الكآبة والخراب لما مر عليها من صروف الدهر ونكبات الأيام. وقد صورها لنا الرحالة ابن جبير الذي زارها في سنة 580ه، فقال: «هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية، قد ذهب أكثر رسمها ولم يبق منها إلا شهير اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها، والتفات أعين النوائب إليها، كالطلل الدارس والأثر الطامس، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين أو العقد المنتظم بين لبتين ... أما الجانب الغربي فقد عمه الخراب، واستولى عليه، وكان المعمور أولا، وعمارة الجانب الشرقي محدثة لكنه مع استيلاء الخراب عليه، يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة، في كل واحدة منها الحمامان والثلاثة، والثماني منها بجوامع يصلي الجمعة، فأكبرها القرية، ثم الكرخ وهي مدينة مسورة، ثم محلة باب البصرة، وهي أيضا مدينة وبها جامع المنصور، ثم الشارع وهي أيضا مدينة، فهذه الأربع أكبر محلات ... وأما الشرقية فهي دار الخلافة ... قد اتخذ فيها المناظر المشرفة، والقصور الرائعة، والبساتين الأنيقة، والشرقية حصينة الأسواق، عظيمة الترتيب، وبها من الجوامع ثلاثة: جامع الخليفة، وجامع السلطان، وجامع الرصافة، وحماماتها لا تحصى عدة، ذكر لنا أحد أشياخ البلد أنه بين الشرقية والغربية نحو الألفي حمام، وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به، فيخيل للناظر أنه رخام أسود صقيل لكثرة القار عندهم، والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها، وأعظمها وأشهرها «النظامية ».»
1 (2) السكان
كان سكان بلاد الإمبراطورية الإسلامية في هذا العهد هم سكانها الذين حدثناك عنهم في العهد السابق، إلا أن العناصر البارزة منهم هي العناصر الطورانية؛ فالسلاجقة والخوارزمية والأتابكية هم من التركمان والأتراك الطورانيين الذين كانت ديارهم في تركستان مما وراء النهر، ثم انثالوا منه إلى إيران فالشرق الأوسط، وهم قوم أشداء محاربون، عرفوا بذلك منذ زمن الجاحظ، فقد أطنب في رسالته التي ألفها عنهم في تفضيلهم، وبيان مزاياهم وشجاعتهم حتى يقول: «ومزية الأتراك في الحروب، وهم كذلك أصحاب عمد، وسكان فياف، وأرباب مواش، وهم أعراب العجم، كما أن هذيلا أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات ولا الطب والفلاحة والهندسة ولا غراس ولا بنيان، ولا شق أنهار ولا جباية غلات، ولم يكن همهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم، وتدويخ البلاد، ولذتهم في الحروب، وهي فخرهم وحديثهم وسمرهم، وقد اتصفوا بالصفات التي تستتبع النجدة والفروسية من الكرم وبعد الهمة وطلب الغاية والحزم والعزم والصبر.» وعلى الجملة فقد كان لهؤلاء الأتراك - من تركمان وديلم وخوارزم - سلطان كبير في هذا العهد الذي نؤرخه.
ومن سكان الإمبراطورية الإسلامية في هذا العهد الصليبيون من أمم أوروبا فقد أقاموا في الشام قرنين، اختلطوا فيها بالسكان، وعلى الرغم من الفتن والحروب بين الطرفين؛ فإن كلا من الجانبين قد أثر في الجانب الآخر، وأفاد من مزاياه وتضرر بعيوبه، وقد فصلنا ذلك في كلامنا على نتائج الحملات الصليبية. يقول ابن جبير إنه كان بين الجانبين حد يعرف بحد المقايسة، فهم يتشاطرون الغلة على استواء ومواشيهم مختلطة لا حيف يجري بينهم فيها.
2
وقد كان هؤلاء الصليبيون ثلاث طبقات: (1)
طبقة العبيد الذين كان يحضرهم التجار الجنويون والبنادقة إلى الشام من جورجيا وروسيا وأرمينية، وكان هؤلاء على شر حالة، ولم يكن الصليبيون يسمحون ببيع الرقيق المسيحي إلى المسلم، والعكس بالعكس، وكان الأسرى من الجانبين، المسلمين والصليبيين، يعاملون معاملة الرقيق، إلا في حالات خاصة كأن يكون الأسير شريفا أو شخصية معروفة. (2)
طبقة التجار والزراع والموظفين، وقد كان هؤلاء موضع احترام الجانبين من مسلمين وصليبيين. (3)
طبقة الأشراف والنبلاء ورجال الكنيسة وهؤلاء كانوا يعيشون في ترف ويسر، ولهم إقطاعات وقد جمعوا ثروات ضخمة، وكانت لهم قصور فخمة لا تقل عن قصور أمراء المسلمين رونقا وفخامة.
3
ومن طرائف أخبار الصليبيين والمسلمين أنهم كثيرا ما كانوا يتناسون أحقادهم وتراثهم في الحروب ويجتمعون معا في الحفلات العامة من أعراس وولائم، وقد حفظ لنا أسامة بن منقذ الأديب الشاعر والكاتب المعاصر، وأحد فرسان المسلمين وأدبائهم في أيام الصليبيين في «كتاب الاعتبار» صورا رائعة من الصلات الاجتماعية بين الجانبين، كما يذكر الرحالة ابن جبير أنه حضر إحدى حفلات لزواج صليبي في صور، ووصفها لنا وصفا دقيقا، فقال: «إن الرجال والنساء قد اصطفوا صفين عند باب العروس وراحت الأبواق والمزامير وجميع الآلات اللهوية حتى خرجت العروس تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال، كأنهما من ذوي أرحامها، وهي في أبهى زي وأفخر لباس، تسحب أذيال الحرير المذهب سحبا على الهيئة المعهودة من لباسهم، وعلى رأسها عصابة من ذهب قد حفت بشبكة ذهب منسوجة، وعلى لبتها مثل ذلك منتظم، وهي رافلة في حليها وحللها تمشي فترا في فتر، وأمامها جلة رجالها من النصارى في أفخر ملابسهم، ووراءها أكفاؤها ونظراؤها من النصرانيات، يتهادين في أنفس الملابس، وقد تقدمهم المسلمون وسائر النصارى من النظار قد عادوا في طريقهم محاطين يتطلعون ولا ينكرون عليهم، فساروا حتى أدخلوها في دار بعلها.
4
وكان جمهور المسلمين يؤاخي الصليبيين وربما صلوا في بقعة واحدة كل يقوم بشعائره.
5
ويحدثنا أسامة بن منقذ: أنه وجد في بيت المقدس أيام أخذ النصارى إياه، أنهم بنوا في أحد أجزائه كنيسة لهم، وأن أسامة زارها، وكان المسجد الأقصى تحت حماية الداوية من الصليبيين، وكانت بين أسامة وبينهم مودة، فإذا زارهم أكرموه،
6
وكانت له معهم ومع أمرائهم أخبار وقصص تدل على الصداقة والمودة الصحيحة، وقد ضمن ذلك في كتابه «الاعتبار».
7 (3) الأخلاق
ضعف الوازع الديني هذه الفترة في الإمبراطورية الإسلامية لتكالب الناس على الدنيا، وتلبية الشهوات النفسية، وفشو الباطنية المشككين في الأديان الداعين إلى الانسلاخ من تعاليم الإسلام وشعائره، وقد رأينا طرفا من ذلك فيما مضى.
تجدر الإشارة ها هنا إلى أن وجود الملاحدة قد قوى من جانب آخر الروح الدينية عند جماعة من المسلمين حينما رأت فساد هؤلاء وبعدهم عن الدين، فازدادت تعلقا به، وغالت في عبادة الله والانصياع لأوامره وإقامة شعائره، وهم الصوفية والزهاد الذين قويت حركتهم في أواخر العصر العباسي، وبخاصة تحت ظل الخوارزمية والأتابكية. وكان على رأس هؤلاء المتصوفة جماعة منهم الشيخ عبد الكريم بن هوازن القشري 437ه/1045م (مؤلف الرسالة القشرية)، والإمام الغزالي، ومحيي الدين بن عربي، والجيلي، وابن الفارض، وسعدي، وحافظ الشيرازيان.
ومن مظاهر الأخلاق التي أراد المصلحون تقويمها بها «حركة الفتوة» التي رعاها الخليفة الناصر لدين الله وشجع عليها ووجه الشبان إليها ليتركوا حياة الترف والفساد، ويتمرنوا على جهاد النفس، وينخرطوا في فرق الجندية التي تقوي أجسادهم وتهيئهم للقاء العدو بعد تلك الميوعة والتخنث والفساد الذي صاروا إليه. (4) الملابس
كان من نتائج اتصال الشرق بالغرب بعد الحملات الصليبية أن تشبه الصليبيون بالمسلمين في ملابسهم، كما أن كثيرا منهم تزوجوا نصرانيات أرمنيات أو عربيات، ولا شك في أن ذلك البيت المختلط قد أصبح أثاثه ولباس أهله مختلطا كذلك، فقد أخذ الصليبيون عن المسلمين استعمال «الكوفية» ووضعوها حول القبعة القصيرة الجوانب وعمدوا إلى إطالة ملابسهم وتحليتها بالجواهر والأحجار الكريمة على عادات الشرقيين، وصاروا يلبسون «الكلوتة»، وهي نوع من ألبسة الرأس تشبه الطربوش ويؤثر عن «بلدوين» الأول (سنة 1110-1118م) أنه كان على الرغم من قرب عهده ببلاده كان يؤثر الألبسة الإسلامية،
8
وكانت السيدات الصليبيات يأخذن عن النساء المسلمات كثيرا من ألبستهن وأنماط زينتهن، فكن يطلن الثياب ويجرجرن أذيالهن، حتى إن بعض الأسر الصليبية صارت تفرض على بناتها إذا بلغن الحلم، أن يضربن بخمرهن على وجوههن، ويمنعنهن أن يخرجن سافرات، بل إنهم ما كانوا يسمحون لهم بالخروج من البيوت إلا للضرورة كالذهاب إلى الكنيسة والحمام، كما كان حال المسلمات اللواتي لم تكن تسمح لهم إلا بالذهاب إلى المساجد والحمامات. وربما نقل بعض الصليبيين عادات المسلمين إلى بلادهم؛ فقد روى المؤرخ روي
Rey : أن نساء الطبقة الوسطى من أهل البندقية كن يعشن عيشة شرقية خالصة، بل إنهن ما كان يسمح لهن بالخروج إلى الكنائس نظرا لوجودها ملحقة في قصورهن.
9
وأخذ الصليبيون من المسيحيين صناعة السيوف والأسلحة الأخرى، وصاروا يتزينون بهذه الأسلحة، وكانت دمشق والقاهرة مشهورتين بصنع السيوف والرماح.
10
أما بعد؛ فهذه صورة مجملة عن الأمة العربية الإسلامية في العصر الذي نؤرخه، وهي كما ترى صورة قاتمة من بعض النواحي مشرقة من بعضها الآخر، ولكنها على كل حال صورة واضحة الملامح بقيت فيه الشخصية العربية الإسلامية ظاهرة القسمات.
أما فيما بعد هذا العصر، وهذا ما سنكشفه لك في الجزء المقبل، فقد تبدلت الأحوال من سيئ إلى أسوأ.
Shafi da ba'a sani ba