Zamanin Farko: Tarihin Al'ummar Larabawa (Sashe na Farko)
عصر الانبثاق: تاريخ الأمة العربية (الجزء الأول)
Nau'ikan
عصر الانبثاق
تاريخ دنيا العرب قبل الإسلام
توطئة
دول الحضارات الشمالية
حضارات الوسط
حضارات الجنوب
أيام النبي صلى الله عليه وسلم
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثانى
Shafi da ba'a sani ba
عصر الانبثاق
تاريخ دنيا العرب قبل الإسلام
توطئة
دول الحضارات الشمالية
حضارات الوسط
حضارات الجنوب
أيام النبي صلى الله عليه وسلم
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثانى
Shafi da ba'a sani ba
عصر الانبثاق
عصر الانبثاق
تاريخ الأمة العربية (الجزء الأول)
تأليف
محمد أسعد طلس
عصر الانبثاق
توطئة
انبثق سيل تاريخ الأمة العربية في حوالي القرن الأربعين قبل الميلاد في دنيا العرب الممتدة ما بين جبال زاغروس، وطوروس، واليمن، وجبال الأطلس.
ويدخل في حدود هذه «الدنيا العربية» جميع البلاد المعروفة اليوم بأسماء: اليمن، الحجاز، نجد، قطر، البحرين، الكويت، الشام، العراق، مصر، السودان، ليبيا، تونس، الجزائر، مراكش.
وقد كان قلب هذه «الدنيا» هو بلاد نجد والحجاز وبادية الشام، ومن هذا القلب كانت الموجات العربية تخرج، وتفيق على ما حولها من الديار والأقاليم، وأقدم هذه الموجات الموجات الإحدى عشرة الآتية: (1)
Shafi da ba'a sani ba
موجات ما قبل التاريخ الحضري التي انساحت نحو وادي النيل، وما بين نهري دجلة والفرات، وبلاد اليمن. (2)
موجة القبائل الأكادية التي انساحت إلى ما بين النهرين في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد. (3)
موجة الكنعانيين التي انساحت إلى بلاد الشام في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد. (4)
موجة الآشوريين التي انساحت إلى ما بين النهرين حوالي النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد. (5)
موجة الرعاة «الهكسوس» التي انساحت إلى وادي النيل في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد. (6)
موجة الآراميين التي انساحت إلى بلاد الشام في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. (7)
موجة العبرانيين التي انساحت إلى أرض فلسطين في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد. (8)
موجة اليمنيين التي انساحت إلى شمالي الجزيرة العربية في فجر الألف الأول قبل الميلاد. (9)
موجة الأدوميين التي انساحت إلى جنوبي الشام في أواسط الألف الأول قبل الميلاد. (10)
موجة اليمانيين من الغساسنة والمناذرة التي انساحت إلى الشام والعراق في النصف الثاني من القرن الأول بعد الميلاد. (11)
Shafi da ba'a sani ba
موجة المسلمين التي انساحت في أواسط الألف الأول بعد الميلاد إلى الشام والعراق.
وقد اختلف العلماء في البقعة الأولى التي خرجت منها هذه الموجات، ولكن الأكثرين قالوا على أنها قلب الجزيرة العربية. يقول الدكتور جواد علي: تصور العلماء الذين قالوا إن الجزيرة العربية هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزان هائل يفيض في حقب متعاقبة، تبلغ الواحدة منها زهاء ألف عام، بما يزيد عن طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم على صورة موجات قالوا لها: «الموجات السامية»، وقد علل القائلون بهذه النظرية الهجرات السامية من بلاد العرب سبب هذه الهجرات، بعدم استطاعة شبه الجزيرة قبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخصيبة في الشمال، وقد كانت الطرق الساحلية من أهم الطرق التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم.
رأى المستشرق الإيطالي المشهور كيتاني أن الجفاف الذي حل ببلاد العرب فحول أكثر أراضيها إلى صحاري جرد؛ كان العامل الأول في هذه الهجرات، رأى أن جو بلاد العرب قبل ألفي سنة أو ثلاثة آلاف أو أكثر من ذلك، لم يكن على الشكل الذي نلاحظه الآن، وأن تغيرات وتطورات طبيعية طرأت على الجزيرة كان نتيجتها ظهور هذا الجفاف، وهي تطورات استغرقت أمدا طويلا، وقد أيد هذا الرأي ودافع عنه السير توماس أرنولد، ورأت المس ألينور كردنر التي قامت بأبحاث جيولوجية في حضرموت في عامي 1937، 1938م؛ أنه لم تحدث في الأقسام الجنوبية من شبه الجزيرة العربية تغيرات طبوغرافية وجيولوجية وجوية كبيرة منذ زمن الباليوزوسي، وينتهي حوالي 10000 قبل الميلاد؛ حيث كان الجو مشبعا بالرطوبة.
1
وقد لفت الأستاذ كيتاني أنظار العلماء إلى هذه الظاهرة المهمة؛ ظاهرة التغير الذي طرأ على جو بلاد العرب، والجفاف الذي حل بها في أواخر الدورة الجليدية الأخيرة، ففي الوقت الذي كان فيه معظم النواحي الأوروبية وشمالي آسيا تغطي أرضها الثلوج؛ كانت جزيرة العرب ذات جو معتدل، وأمطار غزيرة، وأشجار وزروع، وكانت هضبة إيران تغطيها الثلوج ... ثم أخذ الجو يتغير في بلاد العرب، ففقد الجو رطوبته، وسار بصورة مستمرة وبطيئة نحو الجفاف منذ أكثر من أربعة عشر ألف سنة، فأثر ذلك بالطبع في حياة سكانها، وفي حياة حيوانها ونباتها؛ فانقرض ما لم يتمكن من تكييف نفسه مع المحيط، وظهرت الحاجة إلى هجرات ...
2
وهذه الموجات أو الهجرات التي اندفعت من قلب دنيا العرب إلى البلاد المحيطة بها، فأقامت حضارات عريقة وأصيلة، قد أثبت البحث العلمي الحديث أنها كلها ترجع إلى أرومة واحدة وعرق واحد؛ هما: الأرومة العربية، والعرق العربي الممتازين بطابع واحد وسمة واحدة، وملامح متشابهة، وأفكار متماثلة، ولغات متقاربة، وأنظمة وقوانين وتشريعات متساوية، وعقليات دينية متناظرة.
وقد اصطلح المستشرقون وعلى رأسهم العلامة الألماني اللغوي شلوتسر
Schloser
في بحث له نشره سنة 1781م، على تسمية الأقوام الذين قاموا بهذه الموجات بالساميين لا العرب، وهي في رأينا تسمية خاطئة؛ فإنهم حين بحثوا في أصول اللغات العربية والعبرانية والآرامية والسريانية والحبشية والفينيقية والآشورية والبابلية و... ووجدوا الصلات القوية بينها، وقد نسبوا إلى «سام بن نوح» لأن التوراة ذكرت في سفر التكوين
Shafi da ba'a sani ba
3
أن هذه الأمم كلها سامية، وأنها من نسله، وهذا خطأ لا يعتمد على واقعة تاريخية أو علمية، وإنما هو مبني - على فرض صحة هذا النسب الذي هو موضع شك كبير - على الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. ثم إننا لو جاز لنا أن نقبل ذلك من حيث الاصطلاحات اللغوية، وأنهم إنما سموها سامية من قبيل الاصطلاح؛ فلا علاقة أصلا بين الأمور العرقية الأتنولوجية وبين هذه التسمية.
ولا يصح في رأينا إذن أن نطلق كلمة «سامي» أو «حامي» أو «آري»، ونحن نريد بها عرقا بعينه؛ لأنها اصطلاح لغوي بحت، وإنما يجب أن نقول إن هؤلاء الجماعات من البشر قد تحدروا من أصل واحد، سكن بقعة واحدة، هي في أصح الأقوال قلب جزيرة العرب، وإن اللغة التي يتكلم بها سكان تلك البقعة هي اللغة الأم، وإن اللغة العربية الفصيحة هي أقرب اللغات إلى تلك اللغة الأم، وقد قال بهذا القول جماعة من أئمة المستشرقين، وعلى رأسهم العلماء: سبرنجر، وشريد، وونكلر الألمانيون ، وروبرت سميث الإنكليزي، وغويدي الإيطالي، ولهم على ذلك أدلة عديدة وجيهة؛ بعضها لغوي، وبعضها اجتماعي وأخلاقي.
4
فالتقسيم الذي قال به شلوتسر واتبعه الناس من بعده لا يعتمد على حقيقة تاريخية ثابتة؛ لأنه عد من بين الشعوب السامية جماعة لا يعتبرها العلماء الثقات من الساميين، وهم العيلاميون، واللوديون، كما أنه أبعد جماعات كان يجب أن يدخلهم في الساميين؛ وهم الفينيقيون والكنعانيون.
وعلى هذا فالتقسيم المذكور في التوراة تقسيم «مصنوع»، حتى قال بعض العلماء الألمان - وهو المستشرق المرحوم بروكلمان: إن واضعي التوراة العبرانيين قد تعمدوا إقصاء الكنعانيين والفينيقيين عن سلسلة النسب السامي لأسباب دينية وسياسية، مع علمهم الأكيد بأنهم على اتصال واشج بهم،
5
فهذا يدلك على سوء طوية علماء اليهود منذ الأزل، وعلى أنهم قوم لا يرعون حق قرابة أو علم أو دين، وأن الكذب والتلفيق من طبائعهم، وأن ما يتجدد اليوم في فلسطين العربية الذبيحة من المآسي المادية، واغتصاب الأراضي، وإفساد الحرث والنسل، والتعدي على الحريات، وهتك المقدسات؛ هو أمر متوارث في أصحاب التوراة منذ أقدم عصورهم إلى الآن.
تاريخ دنيا العرب قبل الإسلام
توطئة
Shafi da ba'a sani ba
يقول العلماء الجيولوجيون إن دنيا العرب في آسيا وأفريقيا كانت في العصر الجليدي تنعم بجو دافئ، وإن الأمطار كانت تهطل فيها بغزارة، وإن سهولها كانت مغطاة بالأعشاب والغائل، وإنه قد كان فيها عدد كبير من الحيوانات الأليفة المفيدة ... وإن هذا كله هو سبب قيام الحضارات العريقة التي قامت في ربوعها.
ولكن ما عتم العصر الجليدي أن انزاح عن أوروبا حتى هجم الجفاف على آسيا، وكان نصيب دنيا العرب منه كبير؛ فجفت بقاع كثيرة في ديارهم، وأخذ كثير من سكان أرضهم يزحفون إلى الشمال، ويحتلون الأراضي الطيبة الصالحة للسكنى، وقد كان لظهور عصر الجفاف هذا أثر كبير في نفوس الناس وأوضاعهم؛ فتبدلت أخلاقهم، وظهر الفقر والبؤس في صفوفهم، واضطروا إلى الرحيل والمهاجرة ... وبهذا يفسر حدوث العدد الكثير من الموجات التي خرجت من قلب دنيا العرب إلى ما حولها من البقاع، فذهب الهكسوس إلى مصر، وزحف الأكديون والآشوريون إلى العراق ، ودخل الآراميون إلى سوريا، وقصد الكنعانيون والعبرانيون فلسطين، وتوجه المناذرة والغساسنة إلى سوريا والعراق و...
1
وقد ظهرت الحضارات في دنيا العرب أيام كانت تتمتع بالجو الدافئ الطيب الممطر الصالح الباعث للنشاط والعمل، وأقدم هذه الحضارات هي: (1)
حضارات الشمال: وهي حضارة الدول السومرية، والأكدية، والبابلية، والآشورية، والكلدانية، والفينيقية، والمصرية، والتدمرية. (2)
حضارات الوسط: وهي حضارة الدول النبطية والتموذية والجندبية، والتيماوية، والحجازية، والنجدية، والتهامية. (3)
حضارات الجنوب: وهي حضارة دول معين، وسبأ، وقتبان، وحضرموت، وأوسان.
هذه هي حضارات دنيا العالم العربي التي قامت منذ فجر تاريخهم، وفي الحين الذي انبثق فيه سيل تاريخهم الخضم إلى أن ظهر فجر الإسلام؛ فشيد تلك الحضارة الخالدة، ووحد بين أقطارهم جميعا، وأقام تلك الإمبراطورية العظيمة التي سيطرت على حدود دنيا العرب من أقصاها إلى أقصاها، ووطدت دعائم الملك العربي.
وفي الفصول الآتية سيرى القارئ موجزا دقيقا - على الرغم من قلة إسهابه - لتاريخ هذه الدول، والحضارات التي قامت في دنيا العرب قبل الإسلام.
دول الحضارات الشمالية
Shafi da ba'a sani ba
(1) الدول السومرية
قطن العراق في أواسط الألف الرابع قبل الميلاد جماعات عرفت بالسومرية؛ وهم من العرق العربي «السامي»، ويزعم بعض المؤرخين أنهم جيل آري؛ لأن رءوسهم مستديرة، وعيونهم واسعة، وأنهم كانوا يحلقون لحاهم، وأنهم قد دخلوا العراق من الجبال الفارسية؛ أي من جهة الشرق، ولكن هذه المزاعم - وإن صح بعضها - لا تقوم دليلا على أنهم (ومثلهم في ذلك مثل الأكديين) كانوا من أصل آري؛ فإن أخلاقهم، وطبائعهم، وعاداتهم، وتراثهم، وأسلوب حضارتهم، وطراز عيشهم، وآدابهم، ولغاتهم التي خلفوها لنا؛ تدل دلالة قوية على شدة شبههم بالبابليين المقطوع بكونهم من العرق العربي «السامي».
والسومريون قوم سكنوا وادي الفرات الشرقي في الألف الرابع قبل الميلاد، بالقرب من أرض السماوة وما حولها، وأسسوا عدة مدن تكون كل مدينة دويلة مستقلة بتاريخها، وكانوا يتنازعون السلطة، فقد تتوسع دويلة وتضعف دويلة، وقد تعظم سلطة بعض الدويلات على الأخرى، ولكن لم يتح لهذه أن تتحد وتشكل دولة واحدة تحت سلطان واحد إلا بعد أن سيطر عليها الملك الأكدي العظيم سرجون ، في حدود منتصف الألف الثالث قبل الميلاد على ما سنراه بعد.
وما تزال معلوماتنا العلمية الصحيحة عن هذه الدويلات جد ضئيلة، ولعل التنقيبات الأثرية الجديدة تكشف لنا عن معلومات أوفى وأوضح.
1
وأشهر تلك الدويلات هي:
دويلة لكش.
دويلة الوركاء.
دويلة أور.
دويلة أوما.
Shafi da ba'a sani ba
وقد كشفت التنقيبات عن حضارة عريقة لهؤلاء القوم، أول مظاهرها: كتابتهم، وتنظيمهم شئون الزراعة والتجارة والصناعة والحرب، والحياة الاجتماعية، وتقدم الفنون الجميلة، والمعارف العامة.
أما كتابتهم، فكانت تتألف من صور وعلامات خاصة عرفت بالكتابة المسمارية؛ لأن أحرفها تشبه شكل المسامير، وكانوا يكتبون هذه الصور والعلامات بقلم من القصب على قطع من الطين الطري الذي يجفف بالشمس أو بالنار، وتعود أقدم هذه الآثار المكتوبة بهذه اللغة إلى الألف الرابع قبل الميلاد، ولم تلبث هذه الكتابة التصويرية أن تحولت إلى كتابة صوتية في حضارة دولة «أوغاريت» التي اكتشفت آثارها مؤخرا قرب مدينة اللاذقية عند رأس الشمرة، وكان هذا التحول مقدمة لاختراع الفينيقيين حروف الكتابة التي نشروها في العالم المتمدن كله فيما بعد.
وأما تنظيم شئون الزراعة، فقد دل عليه عنايتهم بشئون الري، وتجفيف المستنقعات، وردم الأهوار، وإقامة السدود، واختراع الآلات المتقنة للحراثة، ومن بينها آلة تشق الأرض وتلقي البذور في آن واحد، كما أنهم اعتنوا بزراعة النخيل، وتنويعه، وتحسين أجناسه، وقد عثر على بعض الألواح السومرية التي تحض الناس على الاهتمام بتنظيم شئون الزراعة ووقاية المزروعات، والعناية بتحسين أنواعها وأجناسها.
وأما رقي الصناعة والتجارة عندهم، فيدل عليه ما اكتشف من الآثار المصنوعة من النحاس والذهب والفضة والبرونز، فقد صنعوا من هذه المعادن آلات الزراعة والحراثة، وأدوات المنازل والزينة، وعدد الحرب والقتال، وقد كان للسومريين علاقات تجارية واسعة مع سكان سائر العالم العربي والخارجي في الشام والجزيرة وشمال أفريقيا وآسيا الصغرى وبلاد فارس والهند.
وأما تفوقهم في فنون الحرب وصناعة القتال وتعبئة الجيوش، فيدل عليه ما عثر في مدنهم من آلات القتال المتقنة والخناجر والدروع، والرماح والسيوف والخوذ والتروس، وقد كشفت التنقيبات في مدينة «لكش» عن معلومات جد قديمة تتعلق بالأسلحة، وتنظيم حركات الجيوش، وحركات الكر والفر، وعربات القتال.
وأما تقدمهم في الحياة الاجتماعية، فيتجلى ذلك في تقسيم المجتمع عندهم إلى طبقات:
أعلاها:
طبقة الكهنة، ورجال الدين، وقادة الدولة، ورجال السياسة.
وثانيها:
طبقة كبار الموظفين، وعظماء الأحرار، وملاك الأرض، وأصحاب الأطيان.
Shafi da ba'a sani ba
وثالثها:
طبقة الصناع، والفلاحين، والعبيد.
وقد كان الملك أركاجينا مشهورا بإصلاحاته الاجتماعية والقانونية، ويعد أول مشرع عادل قبل حامورابي لقرون عديدة، وقد كانت قوانينه العادلة تهدف إلى إزالة الظلم عن الطبقات الفقيرة، ونشر العدل بين الطبقات العامية من أرباب الصناعة والفلاحة والرق، وتمنع كبار الموظفين وملاك الأرض وأصحاب الأطيان ورجال الدين والكهنة والقادة ورجال الدولة من ابتزاز أموال الطبقة الثالثة.
وأما تقدم الفنون الجميلة، فلا أدل عليه من التماثيل الرخامية المدهشة التي عثر عليها في مدنهم، كما يدل عليه تقدمهم في فن الريازة وزخرفة المعابد والقصور والقلاع زخرفة فائقة، وقد كانوا على جانب عظيم في علم الهندسة وبخاصة المعمارية، وقد ظهرت آثار ذلك في تخطيط مدنهم وتنظيم شوارعها ومرافقها العامة وقلاعهم، وهم أول من استعمل أسلوب «العقد» في البناء، كما أنهم أول من اخترعوا طرائق صنع «القباب» في العمران.
وتدل ملحمة «جلجامش» أحد ملوكهم في مدينة الوركاء على مبلغ تقدمهم في الفنون الجميلة من نحت وحفر، وصياغة وأدب من شعر ونثر وخطابة، وقد وجدت في المقبرة الملكية في «أور» كنوز ثمينة في تفوقها الفني ونقوشها البارعة، سواء في الرسم، أو في الحفر، أو في النقش، أو في التكفيت.
وأما معارفهم الثقافية العامة، فقد كانت جد مدهشة بالنسبة لزمانهم؛ لأنهم برعوا بالحساب وعلم الفلك، وكانوا يوقتون بالشهر القمري، ويقسمون السنة إلى اثني عشر شهرا قمريا، وكان نظام التعداد عندهم يقوم على الأساس الستيني.
والحق أن الحضارة السومرية هي حضارة جد عريقة، وجد مدهشة، تبهر المرء، وتدل على ما وصل إليه العقل في وادي الرافدين من التقدم، كما تدل على أن العرب قد كان لهم قبل ذلك العصر تاريخ أعمق، ولعل التنقيبات ستكشف عن ذلك. ويذهب بعض المؤرخين المدققين إلى أن هذه الحضارة تفوق الحضارة المصرية القديمة وتسبقها.
2
ويقول البروفسور ديورانت في كتابه القيم عن «قصة الحضارة»: ويمكن أن نلخص الحضارة السومرية تلخيصا موجزا في هذا التناقض بين خزفها العج الساذج وحليها إلى أن أوفت على الغاية في الجمال والإتقان، لقد كانت هذه الحضارة مزيجا مركبا من بدايات خشنة، وإتقان بارع في بعض الأحيان، في تلك البلاد (على قدر ما وصل إليه علمنا في الوقت الحاضر) نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات، وأول تنظيم الري، وأول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع، وأول العقود التجارية، وأول نظام للائتمان، وأول كتب القوانين، وأول استخدام للكتابة في نطاق واسع، وأول قصص الخلق والطوفان، وأول المدارس والمكتبات، وأول الأدب والشعر، وأول أصباغ التجميل والحلي، وأول النحت والنقش البارز، وأول القصور والهياكل، وأول استعمال للمعادن في الترصيع والتزيين، وهنا نجد في البناء أول العقود والأقواس وأول القباب، وهنا كذلك تظهر لأول مرة في التاريخ المعروف بعض مساوئ الحضارة في نطاق واسع؛ يظهر الرق والاستبداد، وتسلط الكهنة، وحروب الاستعمار، ولقد كانت الحياة في تلك البلاد متنوعة مهذبة موفورة النعم متعددة، وهنا بدأت الفوارق الطبيعية بين الناس تنتج حياة جديدة من الدعة والنعم للأقوياء، وحياة من الكدح والعمل المتواصل لسائر الناس، وفي تلك البلاد كانت بداية ما نشأ في تاريخ العالم من اختلافات يحيطها الحصر ...
3
Shafi da ba'a sani ba
وبعد، فهذه هي الحضارة السومرية، وهي أول حضارة عربية عريقة بلغت الأوج، ودلت على أن مثل هذه الحضارة بواكير حضارات أعرق ستكشف عنها التنقيبات الدائبة التي يعمل العراق الحديث على كشفها. (2) الدولة الأكادية
خرج الأكاديون (الأكديون) من قلب الجزيرة العربية إلى وادي الرافدين في العراق، وجاوروا السومريين في حوالي بداية الألف الثالث قبل الميلاد، وكونوا دولتهم فيه، وقد عاشوا في بادئ أمرهم إلى جانب السومريين، واقتبسوا منهم حضارتهم وعلمهم وثقافتهم، ثم أخذوا يتكتلون حتى تمكنوا من التغلب عليهم في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، حين نبغ فيهم الملك المصلح سرجون، فقضى على الدويلات السومرية، ووحد العراق كله، ثم توسع في ملكه حتى غدا ملكه إمبراطورية واسعة، كانت أول إمبراطورية في تاريخ حضارة الإنسان؛ فقد استولى على كافة الهلال الخصيب، وديار عيلام، وآسيا الصغرى، وشيد مدينة عظيمة جعلها عاصمة ملكه الواسع سماها «أكد»، وبها سميت الدولة.
وقد خلف الملك «سرجون» العظيم ملوك كبار، ساروا في سبيل رفع شأن أمتهم وتعزيز مكانتها، ومن أجل هؤلاء الملوك «نرام سن» الذي سار سيرة سرجون في الفتح حتى بلغت جيوشه إلى قبرص، ولكنه ما لبث أن مات فتقهقرت الدولة الأكدية، وأخذ نفوذها يتقلص بهجوم «الكوتيين» عليها؛ وهم أقوام من برابرة الجبال الشمالية والشرقية في العراق، فقضوا على الدولة الفتية القوية السائرة في سبيل الحضارة، واستولى على ديارهم ملوك الكوتيين الجهال الحفاة؛ فاختل حبل الأمن، وعمت مساوئ الجهالة مدة حكمهم التي دامت نحوا من قرن، وكادت شعلة الحضارة الأكدية بجذورها السومرية أن تنطفئ لولا قيام دويلة سومرية في مدينة «لكش» وما حولها، وقد خلفت لنا «لكش» آثارا جليلة في الأدب السومري، ومآثر جليلة في المعابد والقصور والمحلات العامة، وقد كان أحد ملوك هذه الدويلة وهو الملك «كودية» من عظماء الملوك لآثاره الجليلة، وقد حفظ لنا الدهر نماذج رائعة من الأدب السومري من عهد «كودية».
ولما اشتد ضغط الكوتيين على أهل المدن الأكدية تجمعوا بزعامة البطل «أوتو جكال»، فقضى على الكوتيين، وأسس مملكة جديدة في مدينة «وركاء»، ولكن عهده لم يطل؛ إذ ثار عليه أحد أتباعه، وهو حاكم مدينة «أور»، فأسس أسرة حاكمة دامت فترة غير قصيرة من الزمن، عرفت بأسرة «أور الثالثة».
وقد كان عهد هذه الأسرة الحاكمة من أزهى عصور الأكديين؛ لما بلغوه في عهدها من التقدم العلمي والاجتماعي والسياسي، وقد كان عدد ملوك هذه الأسرة خمسة، اشتهروا كلهم بالعمل المثمر والعمران الراقي، والسير في سبيل الحضارة، وخلفوا آثارا فنية قيمة، كما شادوا كثيرا من القصور الفخمة، والمعابد المدرجة الضخمة (الزكورات)، والتي ما تزال أطلالها ماثلة إلى أيامنا هذه.
وعلى الرغم من عظمة ملوك هذه الأسرة، فإنهم لم يستطيعوا إعادة الدولة إلى ما كانت عليه من قبل من القوة والوحدة والسلطان.
ومما هو جدير بالذكر أنهم فكروا جديا بالتآلف مع إخوانهم السومريين، فاتحدت الدولتان وامتزجت حضارتاهما، فكونتا حضارة عظيمة خالدة عرفت بالحضارة السومرية-الأكدية، وقد ظلت في ازدهار نحوا من عشرين قرنا، وهيئت الجو للحضارة البابلية العظيمة، وما جاء بعدها في وادي الرافدين من حضارات. (3) الدولة البابلية
دخل العراق في الألف الثالث قبل الميلاد جيل من العرب يعرف بالعموريين، زحفوا من غربي الجزيرة العربية في سوريا إلى العراق، ويظهر أن الأكديين حين فقدوا نفوذهم السياسي، واشتد خلافهم مع السومريين، ورأوا اضمحلال دولتهم استنجدوا بالعموريين؛ فقدم هؤلاء عليهم بسيول جرارة، سائرين مع الفرات مخلين سهل شنعار بمدنه وقراه، وفي سنة 2050 قبل الميلاد احتلوا بابل، وكانت قرية لطيفة أعجبتهم بحسن موقعها وطيب مناخها، فاعتنوا بها، وجعلوها عاصمة مملكتهم حتى عدت في فترة قصيرة مدينة عظيمة، وتتابع على بابل نفر من الأملاك كان أعظمهم سادسهم الملك حمورابي الذي حكم البلاد من سنة 1948 إلى سنة 1905 قبل الميلاد، فوحد العراق، وقضى على العيلايين الذين احتلوا بلاد السومريين، كما استولى على أراضي آشور والفرات، ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وكان عهده الذي دام ثلاثة وأربعين عاما من أزهر عصور بلاد الرافدين، ثم خلف من بعده ملوك لم يستطيعوا أن يتمموا ما بدأ به وما شيد، فأخذت الإمبراطورية البابلية تنحدر قليلا فقليلا حين ثار الكاشيون من سكان سواحل الخليج العربي وجبال إيران على الدولة البابلية، واقتطعوا منها جزءا، كما تقدم الحثيون من سكان آسيا الصغرى إليها، واستولوا على جزء آخر منها، ولم يستطع الملك شمسوديتاثا الوقوف أمام الغزو الحثي؛ فسقطت بابل في يد الحثيين القساة، وأمعنوا فيها تخريبا وسلبا.
وقد اغتنم الكاشيون في الجنوب فرصة انشغال الحثيين في الشمال بالسلب والنهب والتخريب، فأغاروا عليهم، واستولوا على بابل، وطردوهم من البلاد، وأقاموا أنفسهم حكاما على الديار البابلية في سنة 1750 قبل الميلاد. وكان استيلاء الكاشيين هؤلاء سببا من أهم أسباب التأخر العمراني والانحطاط السياسي في البلاد، وخسرت بابل مركزها العالمي الذي لم تستطع أن تسترده إلا في أيام الكلدانيين بعد عصور.
وقد ظل الكاشيون مسيطرين على البلاد إلى أن طردهم الآشوريون منها، وضموها إلى مملكتهم، وعلى الرغم من أن بابل قد حاولت عدة مرات التخلص من النفوذ الآشوري، فإنها لم تستطع الإفلات من أيدي الآشوريين، وظلت خاضعة لحكمهم إلى أن سقطت مدينة نينوى.
Shafi da ba'a sani ba
وقد بلغت بلاد الرافدين في عهد البابليين حدا رفيعا في العلم والحضارة تممت به ما بدأه السومريون والأكديون من قبل، وغدت هذه الديار سيدة دول الدنيا، وركيزة حضارات آسيا وأفريقيا وأوروبا؛ فقد وجد البابليون قبلتهم في بلاد الرافدين حضارة راقية في عمرانها وعلمها وفنها وهندستها وزراعتها وصناعتها وتجارتها وقوانينها وأنظمة حكومتها، فأكملوا ذلك وتمموا من عندهم ما لم يجدوه عن أسلافهم من السومريين والأكديين، ولولا الحضارتان القديمتان في «أكد» و«سومر»، لما استطاع البابليون أن يبدعوا ذلك الإبداع الخلاق في حضارتهم خلال أربعة قرون؛ لأن دولتهم قامت - كما رأينا - حوالي أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وبلغت أوجها في عهد حمورابي أوائل الألف الثاني قبل الميلاد.
وإن أجل آثار البابليين في حضارتهم هو العلم بمظاهره كلها، من تأليف وبحث وتطور وترجمة وكتابة.
يقول جرجي زيدان في وصف أقدم مكتبة في العالم عثر عليها في بابل: عثر النقابون على قرميدة بابلية عليها كتابة مسمارية فيها قائمة بأسماء ملوك بابل منذ أكثر من ستين قرنا، ويدل ذلك على قدم التمدن في ذلك البلد المبارك، وفي جملة أولئك الملوك ملك اسمه «شرجينا»، وكان محبا للعلم والعلماء، راغبا في العمارة، أنشأ مكتبة في «الوركاء» من أعمال العراق سماها مدينة الكتب، وعهد إلى رجال من خاصته في جمع الكتب قديمها وحديثها، وأن يفسروا بعضها بالترجمة أو التعليق، واستعان بالعلماء من سائر الأقطار لينقلوا علوم الآخرين إلى لسانهم وتدوين علومهم، واشتغل آخرون بالشرح والتعليق، كما فعل بطليموس فيلادلفوس بالإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، وكسرى أنوشروان في جنديسابور في القرن الخامس للميلاد، وكما فعل الرشيد والمأمون في بغداد في القرن الثاني والثالث للهجرة.
وقد دون «شرجينا » هذه العلوم بالحرف المسماري نقشا على الطين، وهي القراميد الآشورية المعروفة، فكانت مكتبة «وركاء» هذه مملوءة بالكتب اللغوية والفلكية والشرعية والأدبية وغيرها، ثم نسخت بعد إنشائها بخمسة عشر قرنا بأمر من أمير آشوري، وحفظت في دار خاصة بها كما تحفظ المكاتب اليوم، وعثر النقابون بالأمس على بقايا هذه المكتبة بين النهرين، ونقلوها إلى المتحف البريطاني في لندن، فهي هناك إلى هذه الغاية ...
4
فمكتبة «وركاء» هذه أول مكتبة بل دار كتب في العالم، اهتم بها الملوك والعلماء البابليون، فزودوها بنتائج تراثهم العلمي، وخير بحثهم العقلي، ونقلوا إليها مباحث قرائح العالم القديم، ولا ريب في أنه قد كان إلى جانب هذه الدار العمومية دور كتب خصوصية جمعها علماء الدولة وكتابها ومؤلفوها وأغنياؤها وأمراؤها، ولا عجب إذن أن نقول إن بحوث الأدب والعلم والتشريع قد ازدهرت في أيام البابليين ازدهارا مدهشا.
أما الأدب، فقد ضربوا فيه بسهم كبير، وخلفوا لنا آثارا رائعة من الأدب الديني، من شعر ونثر، ومن القصص الوعظي المنظوم على ألسنة الحيوان، الذي انتقل إلى اليونان عن طريق أيسوب؛ ذلك الأسير الشرقي الذي عاش في البيئة اليونانية، ومن القصص الشعري المسرحي الذي يتجلى بأروع مظاهره في «ملحمة جلجامش».
وأما العلم، فقد أبدعوا فيه أشياء كثيرة؛ منها «علم التاريخ» وسير الأولين، وقد برعوا في هذا العلم، وعرفوا كثيرا من تاريخ الإنسانية الأولى من بدء الخليقة وتكون العالم، وأحوال كثير من الأمم والشعوب والمدن والأقوام، وأحوالهم ممن سبقوهم أو عاصروهم في شتى بقاع الأرض؛ ومنها «علم اللغة»، فقد اهتموا بدراسة سنون لغتهم من نحو وصرف وعروض وبيان وما إلى ذلك؛ ومنها «علم الطب»، فقد توصلوا فيه إلى معرفة كثير من العلل ومداواتها، ومعرفة النباتات والأدوية والعقاقير والأطعمة الصحية المفيدة والأطعمة الضارة، وقد تضمنت شريعة حمورابي كثيرا من آداب الطب وشرائط الأطباء، وما يجب للمرضى وعليهم؛ ومنها «علم الفلك»، فقد ازدهر على أيديهم وتقدم تقدما باهرا، واعترف اليونان لهم بهذا العلم والتقدم فيه، وبأنهم أصحاب الفضل في معرفة كثير من نظرياته، ولا تزال الإنسانية تتمتع بفضل مكتشفاتهم وبحوثهم فيه، فهم الذين عرفوا النجوم الثابتة، والنجوم المتحركة، ورسموا لها الخرائط والمخططات، وبنوا طرائق سيرها، وحددوا مواضع الفلك، وأمكنة الكواكب، وعرفوا الأبراج الاثني عشر، وأدركوا الفرق بين الدورة الشمسية والسنة القمرية، وقسموا الشهر إلى أربعة أسابيع، واليوم إلى اثنتي عشرة ساعة، والساعة إلى ستين دقيقة.
وأما التشريع، فقد بلغوا فيه درجة رفيعة جد سامية تدل على ما وصلوا إليه من سعة في الثقافة وتنظيم في العقل، وسمو في التشريع؛ وأوضح دليل على ذلك هو قانون حمورابي،
5
Shafi da ba'a sani ba
وإن الإنسان ليدهش أمام ذلك العقل العربي الذي أبدع هذا القانون الرفيع، الذي إذا قورن بقوانين الرومان التي صيغت في أزهى عصورهم في القرن الثالث قبل الميلاد، تبين الفرق الشاسع بينه وبين القوانين الرومانية السطحية، على الرغم من الزمن السحيق الذي صيغت فيه مواد قانون حمورابي، وهو القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد.
6 (4) الدولة الآشورية
قدم الآشوريون إلى وادي الرافدين في الألف الثالث قبل الميلاد، من قلب الجزيرة العربية، واستوطنوا المنطقة الواقعة على جانبي نهر دجلة شمالي نهر «الهضيم»، واتخذوا لأنفسهم مدينة سموها باسم إلههم «آشور»، وبنوها بالحجارة الضخمة، وهي معروفة اليوم باسم «شرقاط»، وقد شادوا حولها عددا من المدن والقلاع، وأشهرها «كالح» و«نينوى».
وينقسم تاريخهم إلى قسمين:
الأول:
هو العهد الذي سبق تاريخهم لتأسيس الإمبراطورية.
والثاني:
هو العهد الإمبراطوري.
أما العهد الأول، فيمتاز بأنهم أخذوا يهيئون أنفسهم تهيئة عسكرية قوية يستطيعون بها التغلب على خصومهم «الحثيين» الذين كانوا يقطنون في شماليهم، والميتانيين الذين كانوا يقطنون في غربيهم، و«الأكدين» و«العموريين» الذين كانوا يسكنون في شرقيهم، وقد نبغ منهم في هذا العهد جمهرة من الأمراء، أشهرهم «شلم نصر الأول» الذي نظم صفوفهم، وأفاد من الحضارة السومرية فوائد كثيرة؛ فجعل شعبه شعبا قويا، واستطاع أن يستولي على بابل وما حولها من أملاك السومريين، كما استطاع أن يتغلب على الأكديين حتى لقب نفسه «ملك سومر وأكد». ثم خلفه الملك «تكلات بيلاسر الأول»، وقد بلغت الدولة في عهده مبلغا ساميا في القوة والرقي ، والتمهيد للعهد الإمبراطوري، ولكن ما عتم أن مات حتى خلفه ملوك ضعفاء، وتوقفت حملات الفتح، ودب الانحلال إلى الدولة، واستطاع خصومها من «الآراميين» أن يستولوا على بعض أجزائها، إلى أن ظهر الملك «شلم نصر الثالث» الذي جدد عهد سميه الأول، فقام بعدة حملات موفقة جعلته الآمر المطاع في كل آسيا الغربية، من حدود فارس حتى أرمينية حتى البحر الأبيض المتوسط، وقد دون فتوحاته في المسلة الخالدة التي نصبها في عاصمته «كالح» المعروفة اليوم باسم مدينة «نمرود»، وقد سجل على هذه المسلة أسماء الملوك الذين أخضعهم، وأخذ منهم الجزية. ثم خلفه الملك «تكلات بيلاسر الثالث»، وكان كسميه الأول؛ محاربا قويا وفاتحا موفقا، وقد توصلت الدولة في عهده إلى أسمى درجات المجد، وبلغت فتوحه إلى دمشق وفلسطين وسائر أجزاء الهلال الخصيب والمشرق وغيرهما من العالم المتمدن القديم.
وأما العهد الثاني، فيبدأ بعهد الملك «سرجون الثاني» المعروف بلقب «شيروكين»؛ أي الملك الصالح، وقد ارتقى عرش الدولة في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وظل فيه سبعة عشر عاما (722-705 قبل الميلاد) أخضع فيها بلاد بابل إخضاعا كليا، كما استولى على مملكة إسرائيل في فلسطين، واستولى على عاصمتها مدينة السامرة.
Shafi da ba'a sani ba
ولم يستقر «سرجون» في عاصمة واحدة؛ فاتخذ مدينة «آشور» عاصمة له، ثم انتقل إلى «كالح» ثم إلى «نينوى»، ثم بنى مدينة جديدة سماها «دور شيروكين» أي مدينة الملك الصالح شمالي مدينة نينوى، وقد تفنن في بنائها على شكل مربع ضلعه ألفا ياردة، وجعل لها سورا ذا أبراج عالية تنيف على المائة والخمسين، وجعل لها ثمانية أبواب كبرى، كل باب يحمل اسما من أسماء الآلهة الآشورية، وزين جوانب الأبواب بصور ثيران مجنحة ذات رءوس بشرية، وجعل شوارع مدينته مستقيمة واسعة، وشيد في وسطها قصره الفخم العظيم، وبجواره ثلاثة معابد صغيرة، وصرح مدرج «زقوره»، ولكنه لم يتمتع بذلك طويلا؛ إذ اغتيل بعد سنتين، فخلفه ابنه «سنحاريب»، وكان فتى عسكريا صارما عاقلا، وأول عمل قام به هو عودته إلى «نينوى» العاصمة القديمة إرضاء لرجال الدين الذين نقموا على أبيه لانتقاله عنهم، وما استقر في نينوى حتى أخذ يرتب أموره، وينظم شئون الدولة، ويعمر المدينة، ويبني لنفسه قصرا ضخما زينه بكثير من النقوش والتماثيل الجليلة التي نقلها من مدينة أبيه «دور شيروكين»، كما شاد كثيرا من الأمكنة العامة التي جعلت عاصمته زينة مدن الدنيا في عهده، ولكنه لم يتمتع بالأمن والسكينة طويلا؛ إذ فوجئ بقيام الثائر «مردوخ بلادان» عليه وإعلان الثورة في بابل، فخرج سنحاريب لمحاربته، واحتل بابل، ولاحق مردوخ الذي التجأ إلى إقليم الأهوار حتى قضى عليه، ثم قضى على الفتن التي قامت في الأقاليم الخاضعة لسلطانه في بلاد قليقية، وفينيقية، وسوريا، وفلسطين، وكان سنحاريب شديد العنف والقسوة في أعماله الحربية، وبخاصة في حرب بابل ويهودا بفلسطين، فقد لاقى أهل هذين البلدين منه ظلما شديدا.
ولما هلك خلفه ابنه «أسر حدون» وكان سياسيا حكيما، فاتبع طريقة الحكمة واللطف والسياسة، وأعاد بناء بابل، ونظم البلاد تنظيما عمرانيا حسنا، حتى استقرت الأوضاع العامة في عهده استقرارا جعله يفكر في توسيع ملكه، وفتح ديار مصر التي تنافسه في فينيقية وسوريا وفلسطين، فسار يريد الاستيلاء عليها، ومر بطريقه على صيدا التي أعلنت ثورتها عليه فدمرها، ثم سار نحو مصر في سنة 674 قبل الميلاد، ولكنه لم يوفق في حملته هذه؛ فرجع وأخذ يهيئ نفسه لحملات أكبر، وظل ثلاث سنوات يهيئ نفسه وجيشه، وسار إليها في سنة 671 قبل الميلاد، فدخل أرض مصر، واستولى على عاصمتها «منفيس»، وألحق الدولة المصرية بالإمبراطورية الآشورية.
ولما مات خلفه ابنه «آشور بانيبال» العظيم الذي وطد أقدام الإمبراطورية، وأخمد ثورات المصريين، وأعاد جميع بلادهم إلى سلطته بعد أن قل نفوذه في بعض بلادهم، واستولى على مصر من الدلتا إلى أعالي النيل، واحتل مدينتي «طيبة» و«الأقصر» في الجنوب، وغنم غنائم كثيرة، ثم رجع إلى مصر الشمالية، ورحل إلى بلاده بعد أن أقام في مصر جيشا كبيرا، ولكن تكاليف هذا الجيش الضخم والثورات العديدة التي كانت تقوم في أنحاء الإمبراطورية الواسعة أضعفت مركزه؛ فأخذت الدولة تتقلص، وكان لحملات «الماديين» في الشرق، و «الكلدانيين» في الغرب أثر قوي في ضعضعة الإمبراطورية وانكسارها.
وقد استطاع ملك الكلدانيين «بنو يولاسر» في سنة 612 قبل الميلاد أن يستولي على نينوى، ويقضي على الإمبراطورية الآشورية العظمى.
إن الآشوريين خلفوا من ورائهم حضارة جليلة لا تقل عن أخواتها السابقات اللواتي قمن في وادي الرافدين، وقد كان لملوك هذه الدولة وبخاصة «آشور بانيبال» أثر قوي في نشر روح العلم وإحياء العرفان؛ لما كان يتمتع به من حب الأدب والمعرفة، وقد جمع في قصره كثيرا من الآثار الأدبية، والكتب العلمية المختلفة، وقد عثر النقابون في سنة 1853م في حضائر قصره الفخم الذي شيده في نينوى على خزانة كتبه المملوءة بالسجلات والوثائق والبحوث العلمية والأدبية المدونة على رقم الطين، والتي يبلغ عددها عشرات الآلاف، كما عثروا على كثير من المنحوتات والتماثيل الفنية الرائعة، وأواني الزينة والتجميل والحلي البديعة. قال البروفسور ديورانت في الفصل النفيس الذي عقده في كتابه قصة الحضارة عن مكتبة آشور بانيبال: أهم ما يخلد ذكر آشور في تاريخ الحضارة هو مكتباتها؛ فقد كانت مكتبة آشور بانيبال تحتوي على ثلاثين ألف لوحة من الطين مصنفة ومفهرسة، وعلى كل واحدة منها رقعة يسهل الاستدلال بها عليها، وكان على كثير منها تلك العبارة التي كانت من شارات الملك الخاصة: «فليحل غضب آشور وبليت ... على كل من ينقل هذا اللوح من مكانه ... وليمحوا اسمه واسم أبنائه من على ظهر الأرض.» وكثير من هذه الألواح منسوخة من أخرى أقدم منها لم يبين تاريخها، وتكشف أعمال الحفر في كل يوم.
وقد أعلن آشور بانيبال أنه أنشأ مكتبة ليمنع الآداب البابلية أن يجر عليها النسيان ذيله، ولكن الألواح التي يصح أن تسمى الآن أدبا لا تتجاوز عددا قليلا منها، أما معظمها فسجلات رسمية وأرصاد يقصد بها التنجيم والفأل والطيرة والتنبؤ بالمستقبل، ووصفات طبية، وتقارير ورقى سحرية، وترانيم وصلوات، وأنساب الملوك والآلهة. وأقل هذه الألواح مدعاة إلى الملل لوحان يعترف فيهما آشور بانيبال بحب الكتب والمعرفة، وهو اعتراف يزري به في أعين مواطنيه، والغريب أن يكرر فيهما هذا الاعتراف، ويعبر عليه إصرارا: «أنا آشور بانيبال، فهمت حكمة نابو، ووصلت إلى فهم جميع فنون كتابة الألواح، وعرفت كيف أضرب القوس، وأركب الخيل والعربات، وأمسك أعنتها ... وحباني مردوخ حكيم الآلهة بالعلم والفهم هدية منه، ووهب لي إثورت وشرجال الرجولة والقوة والبأس الذي لا نظير له، وعرفت صنعة آداب الحكم، وما في فن المكتبة كله من أسرار خفية، وقرأت في بناء الأرض والسماء وتدبرته، وشهدت اجتماعات الكتبة، وراقبت البشائر والنذر، وشرحت السموات مع الكهنة العلماء، وسمعت عمليات الضرب والقسمة المعقدة التي لا تتضح لأول وهلة. وكان من أسباب سروري أن أكرر الكتابات الجميلة الغامضة المدونة باللغة السومرية، والكتابات الأكدية التي تصعب قراءتها، وامتطيت الأمهار، وأطلقت السهم، وتلك سمة المحارب، ورميت الحراب المرتجفة كأنها رماح قصيرة ... وأمسكت بالأعنة كسائق المركبات ... ووجهت ناسجي دروع الغاب وبحنانه، كما يفعل الرائد، وعرفت العلوم التي يعرفها الكتبة على اختلاف أصنافهم حينما يحين وقت نضجهم، وتعلمت في الوقت نفسه ما يتفق مع السيطرة والسيادة، وسرت في طرائقي الملكية ...»
7
ولم يكن آشور بانيبال وحده من ملوك آشور الذين سلكوا مسلك العلم وإحياء الفنون، بل كان أكثر ملوك هذه الدولة من أهل المعرفة وحب الفضائل، وقد قربوا العلماء، وساروا على النهج الصالح الذي سنه البابليون في علوم الدين والسياسة والآداب والفنون، والتشريع والنسخ والترجمة.
وليس هذا وحده ما خلفه الآشوريون من أثر علمي، بل إنهم اشتغلوا أشغالا علمية ميزت حضارتهم، ويمكننا إجمال ذلك بالنقاط الآتية: (1)
اعتنوا عناية شديدة بعلم الطب وعقاقيره ونباتاته، وقد حفظت لنا الرقم الطينية التي خلفوها كثيرا من بحوثهم في هذا الباب، وتجاربهم في العلاج، وقد كان عملهم هذا البداية الصالحة لعلم التاريخ الطبيعي، وقد أفاد اليونان والرومان أجل الفوائد من بحوثهم هذه. (2)
Shafi da ba'a sani ba
بحثوا بحوثا عميقة في علم اللاهوت، فقد كانوا يعرفون بوجود إله أعظم هو رب السموات والأرضين، وأنه سبحانه قد خلق آلهة من دونه يتسلسلون في القوة والإمكانيات حتى بلغ عددهم في القرن التاسع قبل الميلاد خمسة وستين ألف إله
8
وأن لهؤلاء الآلهة أنسابا وتواريخ، وأنهم يتناسلون، ويكونون مجمعا خاصا له نظامه وسياسته، وقد انتقلت أكثر هذه المعلومات اللاهوتية والميثولوجية إلى اليونان والرومان، فبنوا عليها عقائدهم، ولا شك في أن الصلة قوية بين الآلهة اليونانيين المتعددين وبين الآلهة الآشوريين الذين لا يكادون يحصون.
9 (3)
تفوقوا تفوقا خاصا في علوم الهندسة والفلك والتشريع، وقد ضارعوا بذلك إخوانهم البابليين، وهم وإن لم يبدعوا في هذه العلوم إبداع البابليين فإنهم قد أكثروا من التأليف فيها، وتمموا بعض بحوثها. (4)
ولقد بذوا البابليين بالإكثار من الكتب، وجعل الخزائن لها، وتأسيس المكتبات، وإنشاء دور العلم، ووضع الفهارس للكتب، وتنظيم القوانين الخاصة بالمكتبات وبحفظها، وتسهيل مراجعتها، وتشجيع العلماء على وضع الكتب، والمتعلمين على المطالعة. (5)
اهتموا اهتماما شديدا بنسخ آثار من قبلهم من علماء السوريين والبابليين، فقد كان آشور بانيبال شبيها بحمورابي في هذا الاهتمام، فإنه كان يبعث البعوث العلمية إلى أقاصي الإمبراطورية والعالم الخارجي ينسخون له الكتب ويترجمونها. (5) الدولة الكلدانية
رأينا في الفصل السابق أن نهاية الآشورية في سنة 612 قبل الميلاد كانت على يد ملك الكلدانيين «بنو بولاسر» الكلداني الذي ولاه الآشوريون فانتهز ضعف دولتهم، وقضى عليها وأسس الدولة الكلدانية.
وقد ظل حكم الأسرة الكلدانية في وادي الرافدين نحو قرن، نبغ فيه عدد من الملوك العظام، أجلهم «نابولاصر»، وابنه «نابوخذ نصر»، و«نابونائيد».
والكلدانيون هم من الآراميين العرب الذين اتجهوا إلى شرقي وادي الرافدين، وأسسوا لهم مدينة في الجزء الجنوبي من وادي الرافدين سموها «كلدة» وإليها نسبتهم، وقد كان ذلك في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وظل نفوذهم يقوى حتى اضطر الآشوريون أن يولوا الملك الكلداني عليهم، فلم يلبث أن قضى على دولتهم، وأسس الدولة الكلدانية كما سلف.
Shafi da ba'a sani ba
وقد اغتنم الفراعنة المصريون سقوط الدولة الآشورية، فحاولوا غزو سوريا الشمالية والجنوبية، إلا أن «نابوبولاصر» جهز حملة قوية برئاسة ابنه «نابوخذ نصر»، والتحم الجيشان الفرعوني والكلداني عند قرقميش «جرابلس»، وانكسر الجيش الفرعوني، وهكذا ظل سلطان الكلدانيين نافذا على بلاد الرافدين وسوريا بجزأيها، واحتل الملك نابوخد نصر مدينة أورشليم، وأمعن في أهلها قتلا وتخريبا، وأسر ملكها، وسبى أهلها وساقهم أسرى أرقاء إلى بابل، وظلت الدولة الكلدانية في عهده ترفل في ثياب العزة ثلاثة وأربعين سنة.
فلما هلك خلفه ابنه، وكان ضعيفا؛ استولى عليه رجال الدين، وتداخلوا في إدارة الملك، واستطاعوا أن يجعلوا أحدهم «نابونائيد» ملكا، ولكنه لم يوفق للإمساك بزمام الأمور، فتضعضعت الدولة، وأحس الفرس بضعضعتها؛ فأغاروا عليها بزعامة ملكها قورش في سنة 538 قبل الميلاد، وسقطت الدولة، وبسقوطها انتهى حكم العرب في بلاد الرافدين، وانتقلت السلطة والسيادة إلى الآريين الذين ظلوا يتحكمون فيها إلى ظهور الدولة العربية الكبرى في ظل الإسلام. •••
أما آثار هذه الدولة العظيمة في ميادين الحضارة والعلم، فلم تكن أقل من آثار سابقاتها في وادي الرافدين، فلقد كان الكلدانيون أصحاب عناية شديدة بالفلك والتنجيم والرياضيات والهندسة والطب والزراعة والطبيعيات والإلهيات، وقد انتفعوا بالحضارة البابلية القديمة، وأضافوا إليها كثيرا من بحوثهم الخاصة، وقد كان للكلدانيين هؤلاء أثر قوي جدا في تثقيف عرب قلب الجزيرة قبل الإسلام، فإن صلاتهم بهم كانت جد قوية، وقد أفادوا منهم كثيرا من معلوماتهم في الأنواء والنجوم والطب والطبيعيات والإلهيات، ولا أدل على ذلك من قصة إبراهيم - عليه السلام - وأبيه اللذين كانا من هؤلاء الكلدانيين، والتي ذكرها القرآن الكريم مفصلة.
10
ومن آثار الكلدانيين الخالدة على حضارة وادي الرافدين تأثيرها في لغات أهل هاتيك الأقاليم، فقد أثرت اللغة الكلدانية في اللغات التي كانت منتشرة في ذلك الوادي، وطبعته بطابعها؛ النحوي والصرفي والبياني والأدبي، بل إنها تغلبت على تلك اللغات جميعا، وغدت لغة التخاطب في الوادي وسوريا وفينيقية وشبه جزيرة سيناء وبعض ديار مصر، والسر في ذلك أن هذه الكلدانية كانت لغة غنية في مفرداتها، سهلة في تعبيراتها، مرنة باستعمالاتها، غنية في آدابها من شعر ونثر، منيعة في نحوها وصرفها، منطقية في قواعدها.
11 (6) الدولة الفينيقية
الفينيقيون هم من الكنعانيين والآراميين الذين تركوا قلب الجزيرة العربية، وانساحوا إلى بلاد الشام في فجر الألف الثالث قبل الميلاد أو قبل ذلك بقليل، وكانوا قبائل رحلا يقطنون السهول الخصبة في ديار الشام ، ولما توطدت أقدامهم في تلك الديار أسسوا لهم في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد دولة عريقة ذات حضارة، فبنى الكنعانيون مدينة صور في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وبنى الآراميون مدينة جبيل في القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، كما بنوا مدينة بيروت (بيريت) في القرن الثاني والعشرين ق.م.
وكانت حدود دولتهم تبدأ من حدود جبال طوروس شمالا إلى نهر الدامور جنوبا، وفي أوائل القرن الأول من الألف الثاني اتحد الشعبان من الكنعانيين والآراميين، وكونا دولة واحدة هي الدولة الفينيقية العظمى الممتدة من شمالي سوريا إلى جنوبيها.
وقد كانت هذه الدولة مؤلفة من عدة مدن، وكل مدينة تكون مملكة مستقلة عن الأخرى، وأجل هذه الممالك مملكة جزيرة أرواد، ومملكة مدينة جبيل، ومملكة مدينة بيروت، ومملكة مدينة صيدا، ومملكة مدينة صور، وكانت مملكتا صور وصيدا في عراك دائم، وتنافس قوي على السيادة.
وكانت حكومة صيدا في أيام قوتها تحكم الأهلين حكما مطلقا استبداديا إلا في بعض الفترات؛ فإنها كانت تتقيد بمجلسين؛ أحدهما للشيوخ، والآخر للنواب، كما كانت حكومة صور في أول أمرها حكومة مستبدة، ثم تقيدت بمجالس عامة مؤلفة من أغنياء الشعب، ومرتبطة بمشورة رجال الدين والقضاء، ويذكر بعض المؤرخين أنها كانت جمهورية خلال فترة من الزمن، وستظل هذه الأمور غير واضحة إلى أن يكتشف ما يثبتها.
Shafi da ba'a sani ba
ومن أشهر ملوك هذه الدولة الملك «حيرام»، الذي كان في حوالي القرن العاشر قبل الميلاد، وكان حليفا للنبي سليمان الحكيم - عليه السلام - وهانيبال بطل قرطاجة، وقد كان لهذه الدولة سلطان عظيم في البحر، واتصلوا عن طريق سفنهم وتجاراتهم بأوروبا وأفريقيا وآسيا.
أما في أوروبا، فقد اتصلوا ببلاد الغال في فرنسة، وحملوا إليها تجاراتهم، كما اتصلوا بإيطالية وإسبانية واليونان، وكثير من جزائر البحر الأبيض المتوسط، كقبرص وأقريطش وصقلية ورودوس، وكان لهم في موانئ هذه البلاد مستعمرات ومتاجر وأسواق وممثليات، وأما في أفريقيا فقد اتصلوا بمصر، ولكن المصريين أقصوهم عنها، فساروا إلى تونس، وأسسوا فيها مدينة عظيمة هي مدينة قرطاجة التي ضارعت مدائن صور وصيدا وجبيل ، ولعبت دورا هاما في تجارة البحر الأبيض المتوسط، وفي السيطرة على أسواق أوروبا وأفريقيا.
وأما في آسيا، فقد استولوا على أكثر موانئ آسيا الصغرى، واتخذوها مراكز لتجاراتهم، ونقلوا إليها منتجات بلاد الشام وشمال أفريقيا، واستبدلوها بمنتجات آسيا الصغرى وموانيها، من المنسوجات والأوائل البيتية، وقد ظلوا كذلك إلى أن تغلب عليهم اليونان، وتفوق أسطولهم التجاري عليهم.
لقد ضرب الفينيقيون بسهم وافر في الرقي والسلطان، وكانت مملكتهم مشتهرة بالملاحة وعلم البحر، ومعرفة السواحل في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، واجتاز ملاحوها جبل طارق، وصعدوا في المحيط الأطلسي حتى وصلوا إلى جزر «القصدير» جنوبي إنكلتره، وكانوا حوالي أفريقيا من البحر الأحمر إلى مضيق جبل طارق، وأسسوا المستعمرات العديدة في المراكز التي وطئوها، وبرعوا في الصناعات، وبخاصة الزجاج الشفاف الملون، والأنسجة الجميلة الملونة المصبوغة بالأرجوان.
وكانت بلادهم ممتدة على الساحل السوري، الممتد من مصب الدجى شمالي مدينة أوغاريت العظيمة إلى جنوبي مدينة عكا. وأصل مدنهم أوغاريت «رأس الشمرة» و«صيدا» و«صور» و«جبيل» و«أرواد» و«طرابلس» و«جبيل» وبيروت و«عكا».
وكانت مملكتهم على جانب عظيم من المعرفة والتفوق في العلوم والآداب والصناعة والتجارة؛ أما العلوم والآداب فقد ضربوا فيها بسهم عظيم، ووضعوا الحروف الهجائية، واختصروها إلى اثنين وعشرين حرفا بعد أن كانت عند البابليين والمصريين تعد بالمئات، ونشروا ذلك في العالم المتمدن القديم، فأخذها عنهم اليونان وسائر دول أوروبا وآسيا؛ وأما الصنائع والفنون فقد أتقنوهما، وبخاصة فنون التجارة البحرية، والحدادة، والنجارة، وبخاصة نجارة السفن والأساطيل، واستطاعوا أن يؤسسوا أسطولا تجاريا ضخما جابوا به البحار، ووصلت سفنهم إلى شمال أوروبا، وأقصى موانئ الهند والصين، والمحيط الأطلسي، وبحر البلطيق، وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا يعرفون «البوصلة» ولا «الخرائط الجغرافية»، فإنهم كانوا يهتدون في أسفارهم بالنجوم والكواكب لبراعتهم في علمي الفلك والنجوم.
وقد برع الفينيقيون بالتعدين، ولا زالت الحفائر والتنقيبات الأثرية التي تجري في الجمهوريتين السورية واللبنانية، تثبت أنهم كانوا يقومون بحفريات يستخرجون بها الذهب والفضة والحديد والنحاس في بلادهم وفي جزائر البحر الأبيض المتوسط التي سيطروا عليها، أو أقاموا لهم فيها ممثليات.
وأجل آثار الفينيقيين على الحضارة الإنسانية هي في نقلهم العلم والحضارة والصناعة الراقية من الشرق إلى الغرب؛ فهم الذين نقلوا صناعات النسيج والصباغة والتعدين، وعمل الزجاج، والفخار الملون من ديارهم إلى أوروبا، وكان ذلك بذرة حضارة الدوحة الحضارية الأولى في أوروبا.
وقد كشفت حفريات «أوغاريت» في ديارهم قرب اللاذقية عند رأس الشمرة عن تقدم فائق في الهندسة وفنون البناء، وعن الأبجدية التي يرجع عهدها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهي أبجدية فينيقية بحروف مسمارية، كما كشفت حفريات جبيل (بيبلوس) شمالي بيروت عن أقدم المدن الفينيقية، عن المقبرة الملكية بسراديبها المحفورة في الصخر حفرا رائعا، وقد عثر فيها على ناووس الملك «حيرام»، نقشت على جوانبه كتابة بحروف فينيقية ترجع إلى عام 1250ق.م، كما عثر في المدينة على مسرح تمثيلي عظيم، كما كشفت حفريات صور (تير) عن أنها كانت مدينة منذ الألف الثالث قبل الميلاد مدينة محصنة، وأنها قسمان؛ أحدهما الجزيرة المحصنة، وثانيهما الساحل التجاري، وأنها كانت ذات صلات تجارية عريقة متينة مع مصر الفرعونية، وأن أزهر عصورها كان حوالي سنة 1100ق.م، وأن منها هاجرت الملكة «إليسا» إلى شمال أفريقيا، وأسست مدينة قرطاجة حوالي سنة 800ق.م، وقد حاول الآشوريون والبابليون القضاء عليهم فردتهم على أعقابهم. وكشفت حفريات على أنها كانت مدينة كبيرة منذ القرن الخامس عشر ق.م، وأن الآشوريين فتحوها ودمروها سنة 840ق.م. كما دمروها في سنة 677ق.م، ثم صارت تحت النفوذ البابلي، ثم الفرس، ثم استعادت مجدها الغابر في استقلال داخلي إداري إلى أن استسلمت للإسكندر المقدوني في سنة 333ق.م. (7) الدولة المصرية
قامت في وادي النيل حضارة راقية حين توحدت إماراتها المتفرقة في الشمال والجنوب تحت تاج واحد في أواسط الألف الخامس قبل الميلاد، على يد الملك «مينا الأول» مؤسس الأسرة المصرية الأولى والأسر التي تعاقبت بعدها وبنت الأهرام، والتي نبغ منها ملوك عظماء أمثال «خوفو» و«خفرع» و«رمسيس» و«إخناتون» وغيرهم من عظماء الملوك الذين تعاقبوا على حكم مصر من سنة 4400ق.م. إلى سنة 2266ق.م.
Shafi da ba'a sani ba
وكانت المملكة المصرية على جانب عظيم من الرقي والحضارة في العلم والعمران والفنون، ثم أخذت تنحط قليلا فقليلا إلى أن استولى على الأمر ملوك الأسرة الثانية عشرة، فضعف أمرها بسبب الخلاف الداخلي بين الملوك والأمراء والنبلاء من أصحاب الإقطاعات. وقد حكمت الأسرة الثانية عشرة من سنة 2466ق.م. إلى عهد الملك «أمنمهات الرابع» سنة 2200ق.م، وقد استغل هذا الضعف أمراء العمالقة المعروفين باسم الشاسو (أي الرعاة) وباسم «الهكسوس» أي أمراء الصحراء، وقد كان هؤلاء الأمراء من عرب شبه جزيرة سيناء الأقوياء البارعين بالحرب، فاستولوا على أرض مصر، وأخضعوها لنفوذهم، وأدخلوا إليها ما كان عندهم من أسباب الحضارة؛ كالعربات الحربية، والخيول، وعدد القتال وما إليها من شئون الحرب والتجارة، وقد حكم هؤلاء الأمراء أرض مصر نحوا من خمسة قرون. يقول المؤرخ جورج دالس يدج في كتابه تاريخ سكان أرض النيل: وكان آخر ملوك الدولة الثانية عشرة أمنمها الرابع، ومن عصره [...] وذلك في نحو سنة 2200ق.م. إلى عصر الدولة الثامنة عشرة نحو خمسمائة سنة، ملك مصر فيها الهكسوس أو الملوك الرعاة، وهؤلاء هاجروا إلى مصر من الشرق، وأقاموا بمنفيس، وتسلطوا على كل البلاد المصرية ...
12
ولم يكن هؤلاء الملوك جفاة بداة كما يزعم بعض المؤرخين، بل كانت لهم حضارة وكان لهم تاريخ عريق، وحكومة منظمة؛ فقد جاء في آثار بابل أن الملك «نرام سن بن سرجون» حارب بعض سكان جزيرة سيناء، وأراد الاستيلاء على مدينة «معان»، وأنه أسر أميرها، وحمل بعض آثارها الجميلة إلى بلاده حين عاد إليها،
13
وجاء أيضا في بعض النصوص: أن عرب شبه جزيرة سيناء كانوا يحترفون التجارة، ونقلها من الشمال إلى الجنوب، وأنه كانت لهم صلات تجارية كبيرة مع بابل ومصر في سنة 2500ق.م.
14
فسكان شبه جزيرة سيناء في ذلك العصر من هؤلاء الرعاة كانوا على جانب من الحضارة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وإنهم لما احتلوا مصر كانت لهم من القوة ما يمكنهم من الاحتلال؛ من تنظيم عسكري، وتدريب حربي. ولا يمكن أن يوصفوا بأنهم بدو جفاة أجلاف مخربون، وأنهم قد أخروا مصر حين احتلوها، ثم إن هؤلاء القوم لم يدخلوا مصر إلا حين أراد الفراعنة الاستيلاء على مملكتهم في شبه جزيرة سيناء، فتغلبوا هم على المصريين، وأخضعوهم لسلطانهم في أواخر عهد الأسرة الثانية عشرة؛
15
وذلك أنه لما مات الملك «أمنمهات الأول» في سنة 2466ق.م. وتملك ابنه «بوسرتسن الأول» لجأ أخوه «سنهات» إلى كنف الملك «عم وانشي» ملك سيناء؛ فأكرمه وزوجه ابنته، وعهد إليه بإمارة بعض المقاطعات التابعة له، ولما كبر سنهات رجع إلى مصر، وقويت العلاقات بين مصر وسيناء، وفي عهد الملك «يوسرتسن الثاني» شخص إلى مصر «الملك الجاشع» ملك سيناء، ونزل ضيفا معززا على الملك «ختو ممنت» أمير مصر الوسطى، وقويت صلات الود والقربى بين الأسرتين في مصر وسيناء، وما تزال آثار هذه الصلات مسجلة منقوشة على قبر هذا الملك. وفي عهد الملك «يوسرتسن الثالث» سنة 2333ق.م. طمع المصريون في الاستيلاء على شبه جزيرة سيناء، فغضب ملكها، وزحف على مصر، فاستولى عليها، وأسس العمالقة الهكسوس ملكهم في مصر سنة 2266ق.م. إلى سنة 1700ق.م، وكونوا الأسرة الرابعة عشرة، والخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة في أسر التاريخ المصري العريق.
16
Shafi da ba'a sani ba
فلم يكن العمالقة الهكسوس إذن طغاة ولا جفاة ولا غاصبين، ولكنهم كانوا ملوكا حلفاء أوفياء للفراعين، ولكنهم حين أرادوا السيطرة على ديارهم فتحوا أرض مصر كما فتحها عمرو بن العاص من بعدهم.
يقول المؤرخ يوسيفوس اليهودي المتوفى في أواخر القرن الأول للميلاد، نقلا عن المؤرخ الإسكندري المتوفى في أواسط القرن الثالث قبل الميلاد، أثناء كلامه عن نشوء دولة الهكسوس، ما ترجمته: واتفق على عهد تيماوس أحد ملوكنا أن الإله غضب علينا، فأذن لقوم لا يعرف أصلهم جاءوا من الشرق، وتجاسروا على محاربتنا، وغلبونا على بلادنا، وأذلوا ملكونا، وأحرقوا مدننا، وهدموا هياكلنا وآلهتنا، وساموا الناس ذلا وخسفا، فقتلوا الرجال، وسبوا النساء والأولاد، ثم نصبوا عليهم ملكا اسمه سلاطيس أقام في منفيس، وضرب الجزية على مصر أعلاها وأسفلها، وأقام الحامية في المعاقل لدفع الآشوريين عن وادي النيل إذا طمعوا فيه، وبنى مدينة «أوراس» في ولاية «صان» لهذه الغاية، وحصنها بالأبراج والقلاع والأسوار، وأكثر من حاميتها حتى بلغ عددهم «240000»، وكان سلاطيس يأتي إليها في الصيف؛ لجمع الحنطة، ودفع رواتب الجند، وتمريسهم بالحرب، وبعد ثلاث عشرة سنة من حكمه خلفه ملك اسمه بيون، وحكم أربعا وأربعين سنة، وجاء بعده «أبا خناس» وحكم ستا وثلاثين سنة، ثم «أيوفيس» وحكم إحدى وستين سنة وشهرين، وهؤلاء الستة هم أول من حكم من ملوكهم، ولم يكفوا عن محاربة المصريين؛ لأنهم كانوا يلتمسون إبادتهم. وكانت هذه الأمة تسمى هكسوس
Hyksos ؛ أي الملوك الرعاة لأنها مؤلفة من: هيك
Hyk
ومعناه باللغة المقدسة المصرية «الهيروغليفية»: «ملك»، و
Sos
ومعناه: «راع»، ولكن البعض يقول إنهم عرب.
17
ولقد تعمق في دراسة تاريخهم المستشرق البروفسور بروغش
Brugcsh
Shafi da ba'a sani ba
بك في كتابه القيم عن الفراعنة،
18
وخلاصة رأيه فيهم أن الأقوام الذين يسميهم الفراعنة في آثارهم منتى، والذين حكموا مصر أحقابا طويلة هم الهكسوس، وأنهم شيدوا بمصر مدنا أجلها «زوان» و«هواز» و«أوارس»، وجعلوا فيها حصونا وقلاعا، وأنهم كانوا أذكياء عقلاء، أعجبوا بحضارة المصريين وعلمهم ولغتهم؛ فاقتبسوها وتكلموا اللسان المصري وكتبوه، واقتبسوا من الحضارة المصرية ما لاءمهم، وأنهم كانوا يحبون العمارة والبناء، فاستخدموا المصريين في بناء المدن على الأسلوب المصري، وأمروهم أن يجعلوا لهم التماثيل وأن يميزوها عن تماثيل ملوكهم الفراعنة؛ فميزوهم بإبقاء شعر الرأس واللحية، وبثيابهم الخاصة وحليهم، ولم يقبلوا أن يعبدوا آلهة المصريين، بل عبدوا آلهتهم «نوت» و«ست» و«سوتخ»، وبنوا لهذه الآلهة معابد ضخمة، وأقاموا لها تماثيل فخمة في مدينتي «زوان» و«أوارس»، وكانوا يؤرخون بزمن ملكهم العظيم «نوب»، ودام عهد حكمهم من عهده إلى أن انقرضوا أربعمائة سنة.
وقد أفاد الفراعنة المصريون فهم أشياء كثيرة، أهمها التغيير في طراز البناء الفرعوني القديم، ويعد بناء أبي الهول المجنح من مبتكرات الهكسوس، ويقول بروغش بك: إن الآثار التي عثر عليها مما يتعلق بهم هي آثار قليلة جدا، والسبب في ذلك هو أن الفراعنة بعد أن تغلبوا عليهم محوا أسماءهم عن تلك الآثار، إلا اسمين اثنين تمكن النقابون المحدثون من قراءتهما، وهما «دوعاكنن» و«نوبتي».
ويقول بروغش بك أيضا: أن النبي يوسف - عليه السلام - جاء إلى مصر في زمن الملك الهكسوسي نوبتي، وكان ذلك في سنة 1750ق.م.
وقد ظل هؤلاء الملوك يحكمون ديار مصر إلى سنة 1700ق.م، ثم تمكن الفرعون أحمس ملك طيبة أن يقضي على آخر ملوكهم، وحكم مصر اثنين وعشرين سنة، حاول فيها أن يطمس كل آثارهم.
19
وبعد القضاء على حكم الهكسوس ظهرت أسر قوية أعظمها الأسرتان التاسعة عشرة والعشرين، وأشهر ملوكها «رعمسيس الأول» رأس الأسرة التاسعة عشرة، وكان حوالي سنة 1315ق.م؛ و«رعمسيس الثاني» حفيده، وابن «بسامانيك الأول»، وحكم من سنة 1292ق.م. إلى سنة 1225ق.م، وقد حارب الحثيين في سوريا، وكسرهم في قادش، وكان عظيما ميالا إلى العمران فشيد القصور الفخمة، والهياكل الجبارة، وأعظمها في بلاد النوبة، وطيبة، والأقصر، والكرنك؛ و«رعمسيس الثالث» الذي حكم مصر من سنة 1200ق.م. إلى سنة 1179ق.م، وقد حارب أهل ليبيا، وصد هجمات شعوب البحر.
ثم جاءت الأسرة الحادية والعشرون، وحكمت من سنة 1110ق.م. إلى سنة 980ق.م، وأولها الكاهن صرصور الذي اختلس الملك من الأسرة العشرين بأسلوب دنيء منقوش على هيكل «خوفو» بطيبة، وتولى بعده أبيه الكاهن «يعن خي»، فتزوج بابنة ملك سوريا، ووطد العلائق بين الأسرتين، وفي عهد هذه الأسرة قصد غرود ملك آشور في وادي الرافدين أرض مصر مدافعا عن أسرة رعمسيس، فطرد أسرة الكهنة، واستولى على مصر، وتلقب بملك آشور ومصر، واتخذ مدينة «تنيس» عاصمة له، وتأسست به الأسرة الثانية والعشرون، وأول ملوكها ابنه «ششنق بن نمرود» أو «شيشق» كما في التوراة، وقد ولد في مصر، وتربى على التقاليد المصرية، وأسس لنفسه عاصمة في «تل بسطة» بالشرقية قرب مدينة الزقازيق الحالية، ودامت هذه الأسرة من سنة 980ق.م. إلى سنة 810ق.م، وقد خلفت آثارا جليلة في البناء والفتوح.
وفي سنة 810ق.م. تغلب الأمير «بتوباستيس» على الحكم، وأسس الأسرة الثالثة والعشرين، وفي أيامه انقسمت ديار مصر إلى عشرين إقليما، فتوزع السلطان، وضعفت البلاد ، ودام ذلك إلى سنة 721ق.م. حين قام الأمير «تفن خت» أحد أمراء الأقاليم، فاستولى على مصر كلها بحريها وشرقيها، وخلفه ابنه «باكوريس»، وكان ملكا حازما عالما فاضلا، أراد النهوض بالبلاد، ولكن الأحباش تغلبوا عليه في سنة 715، وأسسوا الأسرة الخامسة والعشرين، وكان أولهم الملك «سباقون»، فاستولى على البلاد كلها، ونظم أمورها، وأبقى حكام البلاد الأصليين بإضافة مشاورين أحباش، وكادت البلاد أن تستقر لولا قيام شلم نصر ملك آشور بالهجوم على الفينيقيين والفلسطينيين، فاستنجد هؤلاء بالمصريين، فقدم إليهم سباقون وجنوده، ولكنهم انهزموا أمام الآشوريين، ورجع إلى مصر، وتعاقب الملك في أبنائه إلى سنة 665ق.م.
Shafi da ba'a sani ba