توطئة
المقدمة
الباب الأول
1 - أوليات الانبعاث العربي في الشام ومصر
2 - حركات الإصلاح في العالم العربي
3 - حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية في الجزيرة العربية
4 - حركات الإصلاح في الآستانة وآثارها في العراق والشام
5 - الحركات في العهد الحميدي وأثرها في العالم العربي
6 - العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
7 - الجمعيات والمنظمات السرية العربية ونشاطها
الباب الثاني
1 - الثورة العربية وآثارها في العالم العربي
2 - جيش الثورة العربية، وأشهر معاركه، وقضاؤه على الحكم التركي
3 - الحكم على نتائج الثورة العربية
4 - الشام والعراق والجزيرة بعد الثورة العربية
5 - الحالة العامة في مصر والسودان
6 - الحالة في شمال أفريقيا
الباب الثالث
1 - حالة العالم العربي الفكرية في القرن التاسع عشر
2 - مظاهر الحضارة في العالم العربي
توطئة
المقدمة
الباب الأول
1 - أوليات الانبعاث العربي في الشام ومصر
2 - حركات الإصلاح في العالم العربي
3 - حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية في الجزيرة العربية
4 - حركات الإصلاح في الآستانة وآثارها في العراق والشام
5 - الحركات في العهد الحميدي وأثرها في العالم العربي
6 - العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
7 - الجمعيات والمنظمات السرية العربية ونشاطها
الباب الثاني
1 - الثورة العربية وآثارها في العالم العربي
2 - جيش الثورة العربية، وأشهر معاركه، وقضاؤه على الحكم التركي
3 - الحكم على نتائج الثورة العربية
4 - الشام والعراق والجزيرة بعد الثورة العربية
5 - الحالة العامة في مصر والسودان
6 - الحالة في شمال أفريقيا
الباب الثالث
1 - حالة العالم العربي الفكرية في القرن التاسع عشر
2 - مظاهر الحضارة في العالم العربي
عصر الانبعاث
عصر الانبعاث
تاريخ الأمة العربية (الجزء الثامن)
تأليف
محمد أسعد طلس
توطئة
إن كتابة هذا الجزء من تاريخ الأمة العربية كانت أشد أجزائه صعوبة؛ لا لقلة المواد الأولية، ولا لتعقد موضوعاته وحسب، بل لأنها تتصل بحاضرنا الذي نعيش فيه، وما يزال بعض الذين قاموا بأدواره أو سطروا بعض وقائعه وأخباره أحياء بيننا. وما أحب أن أزج بنفسي في خضم المناقشات والمباحث الجدلية؛ ولذلك اعتزمت على أن أبتعد ما أستطيع عن مواطن النقاش والجدل والأمور المختلف فيها، والمباحث التي كثر الرد والاختلاف بسببها. ولست في هذا الجزء مؤرخا، ولكني سارد ومعلق، وموضح؛ لأن التاريخ النهائي لهذه الحقبة لم تتوفر بعد مواده، ولم تنضج النضج الكافي. وما أعمله في الحقيقة ليس إلا محاولة من المحاولات العديدة المفيدة التي قام بها بعض المؤرخين والكتاب المعاصرين.
وكل ما أرجوه في عملي هذا، هو أن أضع أمام الكتاب والمؤرخين الذين سيحاولون بعدي أن يلجوا هذا الخضم، بعض المواد الأولية المدروسة المهيأة، يستعينون بها على أداء رسالتهم القومية، أو يقدمونها إلى المؤرخين الأجانب الذين يريدون درس تاريخنا دراسة صادقة مخلصة، نقية من التعصب والغرض.
لقد قلت في توطئة الجزء الخاص بتاريخ «عصر الانحدار»: «إن في النهضة العربية التي نراها اليوم بين صفوف الشعوب العربية من مراكش إلى العراق، لبشارة طيبة تؤكد أن الله سبحانه قد آذن لهذه الأمة الكريمة أن تستعيد مجدها.» وفي هذا الجزء يجد القارئ العزيز بذور تلك النهضة، وأسبابها، ودوافعها، وبواكيرها، منذ فجر القرن الثالث عشر الهجري، حتى العصر الأخير الذي تكونت فيه الدول العربية في مراكش وتونس والجزائر، وليبيا ومصر والسودان، والعربية السعودية وسورية ولبنان والأردن، والعراق والكويت.
ولن أتعرض في هذا الجزء إلى أوضاع هذه الدول وأحوالها، ولا إلى جامعة الدول العربية وتاريخها وأعمالها؛ فإن الوقت لم يحن لذلك بعد، وأرجو أن يتاح لي بعد فترة من الزمن دراسة أحوال البلاد العربية منذ حركة الحسين بن علي ملك الجزيرة العربية إلى الوقت الحاضر، دراسة مفصلة مستوعبة، والله المسئول أن يعين على إتمام هذا العمل القومي، ويوفق إلى أداء الرسالة الوطنية التي هدفنا إليها طوال حياتنا.
المقدمة
أطل القرن الثالث عشر للهجرة مع نهاية القرن الثامن عشر للميلاد، وكانت الإمبراطورية العثمانية هي المسيطرة على أكثر أرجاء العالم العربي، وإن كانت هذه السيطرة روحية في بعض أقاليمه كشمالي أفريقية ومصر والسودان. أما الجزيرة العربية والعراق والشام فكانت تحت النفوذ المطلق للإمبراطورية، كما كانت في حالة عجيبة من التفكك والتفسخ الداخلي والخارجي.
ولما حاول السلطان سليم الثالث العثماني إصلاح الأمور، وتنظيم الجيش والأخذ بطرائق الإصلاح الأوروبية الحديثة، بمعونة سفير نابليون الثالث لدى بلاطه الجنرال سباستياني
Sebastiani ، لم يمكنه الجنود الانكشاريون المرتزقة من ذلك، وأكرهوه على أن يخلع نفسه، وتم لهم ذلك في سنة 1807م، وفتكوا بجميع زعماء الإصلاح الذين آزروا السلطان في حركته الإصلاحية، وأجلسوا على العرش ابن عمه مصطفى الرابع الذي سار معهم كما يريدون، وأرجع الإمبراطورية إلى طرائق الرجعية والفساد. وكذلك فعلوا مع خلفه السلطان محمود الثاني، الذي أراد أن يخطو خطوة نحو الإصلاح، فوقفوا في وجهه فترة إلى أن تغلب عليهم وأصدر «فرمانا» شاهانيا في سنة 1826م أوجب به تأليف جيش نظامي حديث في الإمبراطورية، وفتك بعدد كبير من الانكشارية، وقضى على سلطانهم قضاء مبيدا. ولكن الدول الغربية الطامعة في استعمار الإمبراطورية العثمانية لم تترك السلطان المصلح يتم خطواته؛ ففي سنة 1827م اتفقت الدول الثلاث: روسية وإنكلترة وفرنسة، فيما بينها، على تجزئة أوصال الإمبراطورية العثمانية، وحطمت أسطولها في معركة «نافارين» المشهورة. ثم تتابعت المحن على الدولة العثمانية المريضة، فلم تمكن السلطان محمودا الثاني من إتمام إصلاحاته ولا إلى إعادة القوة إلى الجسم المريض.
ومنذ ذلك الحين أخذت المقاطعات والولايات الخاضعة للدولة العثمانية تفكر في الاستقلال عن الدولة والانفصال عنها شيئا فشيئا، وكان الانبعاث العربي؛ فسارت البلاد العربية في طور جديد.
الباب الأول
الفصل الأول
أوليات الانبعاث العربي في الشام ومصر
رأينا في الجزء الماضي الخاص بتاريخ «عصر الانحدار» سوء الحالة العامة التي بلغت إليها الدولة العثمانية التركية المسيطرة على دنيا العرب، وبخاصة في ختام القرن الثاني عشر للهجرة. وبينما كانت الدولة تسلك طريق الانحدار والتدهور، كان عدد من الزعماء في الشام ومصر يحاول بعث الأمة العربية، وكانت فلسطين ولبنان ومصر ميدانا لتسابق أولئك الزعماء، وكان من أبرزهم الشيخ ظاهر العمر الزيداني، الذي رأينا طرفا من سيرته، وسمعنا بأهدافه الرامية إلى الاستقلال وتأسيس ملك عربي في الشام.
والشيخ ظاهر هو بدوي الأصل، كان أبوه من زعماء البادية الأذكياء الأقوياء المقربين من الأمير بشير الشهابي حاكم لبنان. ولما رأى الأمير الشهابي كفاية الزيداني، سماه أميرا على منطقة صفد، فقضى فيها عمره على خير حالة، ولما مات خلفه ابنه ظاهر في سنة 1737، وعمل على توسيع رقعة إمارته فضم إليه طبرية، وما زال يتوسع حتى سيطر على عكا وأصلح أحوالها، ورمم أسوارها، وأعاد الهدوء والسكينة إلى سائر المنطقة، وسار بالناس سيرة عادلة، وعامل أهل الذمة بما يقضي به الشرع؛ فأحبه الناس، وشجع الزراعة والصناعة والتجارة فازدهرت البلاد في عهده. ولم تأت سنة 1750م حتى كان الحاكم المطلق لفلسطين، ورأى أن علي بك حاكم مصر رجل مرهوب الجانب كثير المطامع، فتعاهد معه، ثم تحالف مع روسية ضد الإمبراطورية العثمانية، واستطاع أن يستولي على صيدا ويطرد واليها العثماني بمعونة المراكب العسكرية الروسية، التي كانت شرقي البحر الأبيض المتوسط في سنة 1772م. وامتد سلطانه من جنوبي لبنان حتى حدود مصر، فقلقت الدولة العثمانية بسبب مطامعه، وطلبت إلى والي دمشق التركي وأمير لبنان الشمالي أن يزحفا عليه بجيش لجب، فتمكنا منه واستطاعا أن يحاصراه ويتآمرا مع بعض رجاله على قتله غيلة، واحتلا مدينة صيدا. وكان في جيش دمشق التركي ضابط حدث، اسمه: أحمد الجزار، استطاع بدهائه وذكائه أن يحل محل ظاهر العمر، ويستولي فيما بعد على كافة المنطقة.
وكان الجزار فتى أرناءوطيا من بلاد البوسنة، هرب من بلاده إلى الآستانة، ثم باع نفسه من تاجر يهودي، وانتهى به مطاف الرق إلى أن صار بين مماليك علي بك صاحب مصر، فأدخله علي ضمن جنده وعهد إليه بأمور الشرطة وتأديب العصاة، فكان شديدا عليهم، سفاحا، ظالما حتى عرف بالجزار، ثم اضطرته ظروف مجهولة أن يغادر مصر إلى دمشق، فاتصل بحاكمها وكان في عداد رجال الحملة التي بعث بها الوالي لقتال ظاهر العمر. ولما تمكنت حملة دمشق من حصار الشيخ ظاهر والفتك به غيلة، عمل أحمد الجزار على أن يحل محله، ثم ما زال يوسع سلطته ويكثر من المماليك والأجناد، وبخاصة البشناق، والألبان الأرناءوط، والمغاربة، حتى استولى على فلسطين كلها، وتقرب من الباب العالي في إستانبول، فاعترف بولايته ثم سماه واليا على دمشق في سنة 1780م وحاكما على لبنان . وهكذا استطاع الجزار الألباني المستعرب أن يوحد المقاطعات الثلاث ويكون جيشا قويا، وأسطولا ضخما استطاع بهما أن يسحق قوى نابليون بونابرت على أبواب عكا ويرده طريدا، فعظمت مكانته لدى الباب العالي وأضحى السيد المطاع في بلاد الشام، إلى أن مات في سنة 1804م/1219ه بعد أن فتك بالشام وأهله فتكا ذريعا.
وكان أبرز أمراء الشام المستقلين في ذلك الحين هو أمير جبل لبنان بشير الشهابي الثاني 1788-1840م، وكان الجزار قد طلب إليه أن يعاونه على حرب نابليون، فقصر في ذلك وغضب عليه الجزار واضطره على الهرب؛ فلجأ إلى مصر على إحدى المراكب البريطانية وقوى أواصر المودة بينه وبين محمد علي باشا.
وبعد هلاك الجزار أسندت الدولة العثمانية ولاية الشام إلى والي حلب إبراهيم باشا فمهد الأمور، وأضافت الدولة إليه ولايات دمشق وصيدا وطرابلس، وطلبت إلى الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان أن يكون تحت إمرته، فانصاع لذلك كارها، ولكنه لم ير من ذلك بدا لتسلم له إمرة لبنان.
وتعاقب الولاة الأتراك على الشام، وأكثرهم ظالم مستبد لا يعمل إلا لمصلحته الخاصة. وكثيرا ما كان يقع الخلاف بين ولاة الشام فيتحاربون ويقاسي الأهلون من ذلك شرا مستطيرا، وكم من مرة هاجم والي حلب والي دمشق، أو هاجم كلاهما معا والي عكا أو صيدا أو طرابلس، أو حاكم جبل لبنان. وما نريد أن نتوسع في ذلك فليس ها هنا مجاله.
1
وقد استمرت الدولة تتخبط في الفوضى والفساد، على الرغم من محاولات الإصلاح التي قام بها السلطان محمود الثاني، وكان لانفصال بلاد اليونان عن جسم الدولة واستقلالها في سنة 1830م بعد حرب فظيعة ذهب بها أكثر الأسطول التركي والأسطول المصري، كما كان لانفصال المقاطعات الرومانية عن الدولة العثمانية وإعلانها استقلالها في ذلك الحين أثر بالغ في إضعاف كيان الدولة. ويظهر أن الدولة العثمانية قد طاش صوابها، وأرادت التنفيس عن غمها الذي لحق بها من جراء الانهزامات، فسلكت إلى ذلك طريقا بشعة، وهي: الانتقام من نصارى الشام، فكتبت إلى واليها فيه تطلب إليه أن ينتقم منهم. وجمع والي دمشق العثماني أعيان البلاد في سنة 1831م، وتلا عليهم الفرمان الشاهاني القاضي بقتل كبراء النصارى في هذه البلاد لتآمرهم وإفسادهم، ولكن موقف أعيان المسلمين كان موقفا مشرفا؛ إذ قالوا له: ليس بين النصارى المقيمين بيننا مفسدون، وإنما هم أهل ذمة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
أوصى بهم خيرا، فقال: من آذى ذميا كنت خصمه يوم القيامة. ونحن لا نتحمل تبعة ظلمهم والفتك بهم. فأخذ خطوطهم على ذلك وبعث بها إلى الباب العالي في الآستانة. ولعمر الحق إن موقف عرب الشام المسلمين من عرب النصارى لموقف مشرف ومنطقي، وهو دليل على أن الروح القومية السليمة كانت قوية في هذه الأمة العربية على الرغم من محاولة الدولة العثمانية تفكيك عراها، وفصم أوصالها، فأية علاقة بين نصارى اليونان الثائرين على الدولة العثمانية وبين النصارى العرب العائشين بين إخوانهم، المحافظين على حقوق المواطن، ولكنه منطق الظلم والفوضى.
ولا شك في أن هذا العمل كان بذرة من بذور الانبعاث العربي؛ فقد رأى المسلمون العرب في هذه الديار فساد خطة الأتراك العثمانيين وسوء إدارتهم، فتمركزت في نفوسهم - أو في نفوس الواعين منهم على الأقل - فكرة التخلص من الظلم التركي وإنقاذ البلاد العربية الرازحة تحت عبئه من تلك الحالة الشاذة. وكانت أولى الانتفاضات ثورة أهالي دمشق على واليهم التركي سليم باشا في سنة 1247ه الذي قدم إلى دمشق وأخذ يعامل الأهلين بقسوة وعنف، بعد أن قاسى منه أهل حلب قسوة وعنفا شديدين. وما إن وصل إلى دمشق حتى زاد الضرائب واحتقر الأعيان، وضرب العامة، فعزموا على الفتك به وبجنده، وتجمهروا وتظاهروا عليه، وحصروه في قصره وضيقوا عليه، فاضطر أن يلجأ ليلا إلى الجامع المعلق أولا ثم إلى القلعة، وأمر بعض جنده بإحراق دار الحكومة ليشغل الناس عن محاصرته، فلم يأبهوا لذلك الحريق، واضطر الوالي أن يقذف عليهم نيران المدافع من القلعة، فهلك من الأهلين عدد كبير. ثم لجأ الوالي إلى بيت القاضي فهاجم الناس البيت واحتلوه وقتلوه، واختاروا من بينهم حكومة تدير شئون البلاد كانت بذرة جديدة من بذرات الوعي القومي العربي. ويقول بعض المؤرخين: إن الدافع الحقيقي لثورة أهالي دمشق على الوالي العثماني، هو محمد علي باشا صاحب مصر؛ فإنه كان يطمع في السيطرة على الشام، فدفع أهالي العاصمة السورية للثورة على واليهم.
أما مصر فقد كانت منذ سنة 1798م/1213ه تحت السيطرة الفرنسية، وكان نابليون بونابرت قد احتلها في تموز من تلك السنة، وادعى حين نزوله إلى الإسكندرية أنه محب للإسلام، وأنه صديق للخليفة العثماني، وأنه يريد أن يبني للمسلمين «مجدا عظيما لا نظير له في الأقطار، والدخول في دين النبي المختار»، وأنه إنما جاء إلى مصر لينقذها من ظلم المماليك ... إلى آخر تلك الأقوال المعسولة التي لم تخدع شعب مصر، فثار عليه واعتبره غاصبا ظالما مستعمرا. وأصيب في الإسكندرية وحدها دفاعا عنها حين احتلال الفرنسيين نحو من ثمانمائة قتيل وجريح، وقد لعبت المقاومة الشعبية السرية دورها في الفتك بجيش نابليون وإزعاجه.
يقول الأستاذ محمود الشرقاوي: «لم تمض عشرة أيام على دخول نابليون الإسكندرية حتى بدأت هذه المقاومة السرية، فقتل أحد جنود الأسطول الفرنسي في أحد الشوارع، وفي الوقت نفسه ألقي في البحر خادم لأحد الضباط وغرق، وغضب كليبر - قائد حامية الإسكندرية الفرنسي - لهذه الحوادث أشد الغضب، فاعتقل بعض أعيان المدينة واستدعى حاكمها السيد محمد كريم، والقاضي الشرعي وغيرهما، فطلب إليهم البحث عن القتلة، وهددهم بشنق من تقع عليه القرعة من المعتقلين إذا لم يسلم القتلة في خمسة أيام. ولكن ذلك كله لم يجد نفعا؛ فقد تستر الناس عليهم حتى هربوا، وعرفوا فيما بعد أن السيد محمد كريم كان عونا لرجال المقاومة السرية. وبعد ذلك بأيام أراد الجنرال كليبر أن يسير كتيبة إلى بعض البلاد في البحيرة، فلم تجد هذه الكتيبة، في اليوم الذي حدد لسفرها، ما تحمل عليه أثقالها وأزوادها وماءها من الإبل؛ لأن أهل الإسكندرية وما جاورها أخفوا إبلهم وهربوها حتى لا يستعين بها الفرنسيون ، وسارت الكتيبة بلا ماء، وبعد يوم واحد من سفرها ظهرت الإبل في الإسكندرية. وعندما سافرت كان العرب يهاجمونها في الطريق ويعرفون سيرها وطريقها وغايتها، وظهر للفرنسيين أن المهاجمين كانوا على اتصال برجال المقاومة في الإسكندرية، ولما وصلت الكتيبة إلى دمنهور وجدت ستة آلاف من المصريين على استعداد لملاقاتها؛ فهابت أن تحاربهم ولم تتم سيرها، بل رجعت إلى الإسكندرية بعد أن فقدت عددا غير قليل من رجالها ... وكما وقف رجال المقاومة بالمرصاد لجنود نابليون يعتدون عليهم ويقتلونهم حيثما وجدوهم، وقفوا كذلك لرسله يتصيدونهم ويفتكون بهم. أرسل نابليون رسالة من القاهرة إلى الجنرال كليبر في الإسكندرية مع الكابتن جوليان يأمره فيها بالقبض على السيد محمد كريم، ولم تصل إليه الرسالة؛ لأن رجال المقاومة قتلوا الكابتن جوليان وهو في طريقه إليها. وخرجت سفينة فرنسية من رشيد، يحمل قائدها رسالة أخرى من كليبر إلى نابليون، فلم تكد تبتعد عنها قليلا حتى هاجمها أهالي مطوبس وإدفينا، فأرغموها على العودة إلى رشيد. ثم خرجت مرة أخرى إلى وجهتها، ولكن الفلاحين أطلقوا عليها نيرانهم من جانبي النيل حتى أرغموها للمرة الثانية على العودة، وأعدم الفرنسيون بالرصاص عمدة إدفينا.»
2
والحق أن الشعب المصري بكافة طبقاته كان إلبا على الاستعمار الفرنسي، ولم ينخدع بخدع نابليون وأحابيله، بل قاومه أشد المقاومة وثار عليه. وكان الأزهر الشريف مقر الثورة، كما كانت أصوات المؤذنين تختلط بأصوات الداعين إلى الثورة على الظالمين المغتصبين.
3
وأراد الطاغية نابليون كبت تلك الثورة في مقرها، فسلط نيران مدافعه على الجامع الأزهر، فهدمه وهدم كثيرا من الأحياء المجاورة له، كالغورية والفحامين، والصناديقية. قال الجبرتي: «ضربوا بالمدافع والبنبات، البيوت والحارات، وتعمدوا بالخصوص الجامع الأزهر، وحرروا عليه المدافع والقنبر (أي: القنابل). فلما سقط عليهم ذلك ورأوه، ولم يكونوا في عمرهم عاينوه، نادوا: يا سلام من هذه الآلام، ويا خفي الألطاف نجنا مما نخاف. وتتابع الرمي من القلعة والكيمان، حتى تزعزعت الأركان.» ودخلت جيوش الفرنسيين إلى الجامع الشريف بخيولهم، فربطوها بقبلته وعاثوا بأروقته، وكسروا قناديله ونهبوا خزائن طلبته، وما فيه من المتاع والأواني والودائع والمخبآت، وأتلفوا المصاحف والكتب، وكان ذلك في اليوم الثالث من جمادى الأولى سنة 1213ه/22 تشرين الأول سنة 1798م. ولما رحل نابليون وخلفه الجنرال كليبر لم يكن أحسن حالا منه، ورأى الشعب المصري أنه لا بد من الانتقام؛ فقد تحمل ويلات شدادا، ولم يعد في طوقه أن يصبر على ظلم الفرنسيين، وكان المجلى في ساحة الانتقام هو الشيخ سليمان الحلبي، وهو فتى سوري رحل من حلب لتلقي العلم في الأزهر الشريف، فمكث فيه ثلاث سنوات ثم رجع إلى بلده، ولما وصل إلى حلب وبلغته نكبات الفرنسيين لإخوانه المصريين وتهديمهم لمدرسته الروحية وأكبر جامعة إسلامية، آلى على نفسه أن ينتقم من الظالمين، ورحل إلى مصر للفتك بالقائد الفرنسي الذي سام مصر خسفا. فلما دخلها وزار المسجد المعمور وجده قد تهدم وأضحت معالمه خرابا، اشتدت حماسته وباع نفسه لدينه وقوميته، وترصد القائد العام الجنرال كليبر فقتله في اليوم الرابع عشر من حزيران سنة 1800م بطعنات خنجره، فكانت هذه الطعنة بذرة من بذرات الانبعاث العربي. وإنه لمن الصدف الطيبة أن يقوم بهذا العمل القومي النبيل في ديار مصر فتى لم يتجاوز الرابعة والعشرين من أهل حلب. ولم يكن سليمان يوم محاكمته الصورية إلا مظهرا رائعا من مظاهر البطولة والعزة على الرغم من كثرة تعذيبهم إياه وسوء قتله.
ومنذ ذلك اليوم ازدادت ريبة الفرنسيين في شيوخ الجامع الأزهر وفي طلبته، وعرفوا أنهم لن يستطيعوا البقاء في هاته الديار. ولكن جنونهم وحمقهم دفعاهم إلى إغلاق الجامع الأزهر والتضييق على أساتذته وطلابه، وتسفير الغرباء من أبناء العروبة إلى ديارهم، كما أنهم أمعنوا في إغلاق المساجد والجوامع الكبيرة في القاهرة وسائر المدن المصرية، وامتهنوا حرمتها المقدسة فجعلوا من مسجد الأمير أزبك في الأزبكية سوقا لبيع أموال المصريين المصادرة، ومن مسجد الرويعي خمارة، ومن المسجد الناصري قلعة عسكرية، ومن مسجد الأمير سليم الكاشف في أسيوط سجنا، وهدموا عددا كبيرا من المساجد والمدارس، نذكر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر: مسجد الجنبلاطية في باب النصر، ومسجد جركس، ومسجد خوتد بركة، ومسجد عثمان الكنجية، ومسجد خاير بك، ومسجد عبد الرحمن الكنجية، ومسجد البنهاوي، ومسجد الطرطوشي، ومسجد الشيخ العدوي.
هكذا فعل نابليون الإمبراطور العظيم الذي يزعم بعض المؤرخين أن حملته على مصر كانت حملة جد مفيدة، وأنها سارت بمصر خطوات نحو التقدم والخير، مع أنها كانت حملة استعمارية لم يهدف من ورائها إلا إلى استعمار مصر والاستمتاع بخيراتها. وحين بعثت الدولة العثمانية حملتها العسكرية لطرد الفرنسيين، أخلص الشعب المصري في كفاحه مع الدولة العثمانية ضد الغاصب، ثم أعان محمد علي على الدولة العثمانية ظنا منه أن الحالة ستتحسن على يديه، ولكن فأله قد خاب.
فقد استولى محمد علي باشا الأرناءوطي الألباني على مصر بعد أن أوقع بين فرق أجناد الدولة العثمانية وبقايا المماليك، واضطرب حبل الأمن في البلاد وساءت أوضاعها، وأخذ أهل مصر وعقلاؤها يفتشون عن المخلص، وكان محمد علي داهية استطاع أن يخلب ألبابهم ويستولي على السلطة في مصر في سنة 1805م/1220ه، وقد سار أول الأمر بالبلاد سيرة حسنة، واستعان بالمخلصين من قومها كالسيد عمر مكرم الزعيم القومي المخلص، كما استعان بنفر من شيوخ الأزهر الفاضلين. ولكن لما توطدت أقدامه ساءت سيرته وأخذ يفتك بالناس ويسيء معاملتهم، ولكنه على الرغم من ذلك كان واحدا من أولئك الذين أثاروا في سكان مصر والشام جذوة الوطنية، ووضع - سواء كان متعمدا أو غير متعمد - بذرة من بذور القومية العربية في البلد الذي احتله، كما فعل ذلك نابليون من قبل كما سنفصله بعد.
الفصل الثاني
حركات الإصلاح في العالم العربي
حركة محمد علي في مصر
رجع الأتراك وحلفاؤهم الإنكليز إلى أرض مصر بعد أن خرج عنها الفرنسيون، وكانت البلاد مقسمة السلطات؛ فالإنكليز يسيطرون على الإسكندرية وأكثر الوجه البحري، والوالي التركي يسيطر على القاهرة وما حولها، وبقايا المماليك وزعيمهم محمد بك الألفي يسيطرون على الوجه القبلي، وجنود الأتراك في القاهرة والوجهين يعيثون في الأرض فسادا، ولا يصيخون للوالي التركي، وقد حاول هذا الوالي، واسمه: خسرو باشا، أن يقصي محمد الألفي عن مصر، فأعلمه أن السلطان يستدعيه إلى الآستانة، وأنه سينعم عليه بألقاب ورتب وأموال، فلم يأبه به، وقال له: نحن في بلادنا ولن نتركها حتى يأذن الله.
ولم يتمكن خسرو باشا من فرض سلطانه على الصعيد؛ وكيف يستطيع ذلك وجنوده الأتراك لا يطيعونه؛ لأنه قد مضى عليهم شهور وهم بدون رواتب ولا جامكيات؛ ولذلك أخذوا يعيثون الفساد في البلاد، ويقطعون السابلة، ويغيرون على الأهلين، ويسرقون بيوتهم ومحلاتهم، وكم ثارت فتن بين خسرو باشا وبين الأجناد بسبب مرتباتهم، وقد اضطر في بعض هذه الفتن أن ينجو بنفسه وأهله هاربا من القاهرة إلى دمياط؛ خوفا من فتك الأجناد الذين أحرقوا بيته وأرادوا الفتك به وبحريمه.
ولم يكن الوالي التركي الذي خلفه - واسمه: طاهر باشا - خيرا منه، حتى ساءت حالة البلاد، وتمنى أهلها زوال هذه الدولة الظالمة؛ لما رأوه من عبث جنودها وبخاصة الانكشارية الذين رفضوا الوالي العثماني الجديد؛ علي باشا الطرابلسي. وكان محمد علي رئيس الجنود الأرناءوط في مصر يعمل في الخفاء على إثارة القلاقل وتوسيع شقة الخلاف بين الدولة والجنود، وبينهم وبين المماليك، ويثير الأهلين على الولاة الأتراك، حتى تمكن من الاستيلاء التام على زمام الأمور في مصر يوم 13 صفر سنة 1220ه/13 مارس 1805م، فأخذ ينظم البلاد، ويدعم سلطانه في البر والبحر، حتى هابته الدولة العثمانية واعترفت به على شريطة أن يؤدي لها أموال الجباية في أوقاتها. وعرف كيف يصانع رجال الدولة حتى ثبت قدميه، ثم انصرف إلى إصلاح شئون البلاد الداخلية؛ فأنشأ المصانع والمعامل ودور الصناعة والسفن، ومعامل البارود، والقنابر «القنابل» ومسابك المدافع، والأسلحة، كما أمر بإنشاء مدرسة للهندسة، ومعامل لصنع النسيج الحريري والقطني والصوفي،
1
وأمر بإقامة سد عظيم عند مدينة رشيد لتنظيم ري البلاد، ونظم الدورات الزراعية في مصر بتحديد مساحات زراعة القطن أو الكتان أو الحمص، أو القمح أو السمسم.
وعلى الرغم من أن «محمد علي» ظل على عنجهية الأعجمية، فقد اضطر إلى أن يتعرب ولا يكون شديد التعصب لقوميته غير العربية، لمعايشته المصريين واضطراره إلى أن يداريهم، وطموحه للسيطرة على البلاد المجاورة، وبخاصة الشام الذي تربطه بمصر شتى الروابط من دينية وقومية وتاريخية واجتماعية، فعمل على ضم الشام إلى بلاده، وأرسل حملة على رأسها ابنه (بالتبني) إبراهيم، وكان قائدا محنكا، وسياسيا عميقا، ففتح حصن عكا الحصين، ثم سار حتى بلغ بالجيش العثماني ضواحي حمص فشرده، ثم احتل بعلبك، وأتاه الأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان خاضعا، واستسلم له حكام السواحل كصيدا وصور وبيروت واللاذقية في محرم سنة 1248ه، ثم استسلمت له مدينة دمشق ودخل مدينة حلب ونظم أموره، ثم عزم على احتلال الأناضول، فعبر جبال طوروس حتى بلغ قونية والتقى بالجيش التركي فكسره، ثم سار نحو «كوتاهية» وكاد أن يبلغ الآستانة، ولكن السلطان محمودا اضطرب، وداخله الفزع والغضب وطلب معونة الدول الأوروبية، وبخاصة روسية التي أصبحت بعد أن عقدت الدولة معها معاهدة أدرنة ترى من مصلحتها نصرة السلطان العثماني، فبعثت إليه باثني عشر ألف مقاتل. ولما رأى إبراهيم باشا أن لا قبل له بالوقوف أمام الدولة العثمانية اضطر إلى أن يعقد معها معاهدة صلح، على أن تبقي له بلاد الشام وجنوبي الأناضول من حدود آذنة، مع جزيرة كريت، على أن يدفع للسلطان في كل سنة مبلغا من المال، هو: ستون ألف كيس طوال خمس سنوات، وأن يذكر اسم السلطان على المنابر يوم الجمعة في مصر والشام. واستقر إبراهيم باشا في مدينة «أنطاكية» شمالي الشام، وأخذ يعمل على توطيد دعائم دولته وترتيب المجالس الإدارية والشئون المالية، وتنظيم الأحوال الزراعية والتجارب الصناعية. وقد حمد الناس - على وجه العموم - سيرة إبراهيم باشا في الشام، ولم يتبرموا بها. ولو لم يقم بتجنيد الأهلين تجنيدا إجباريا، وبفرض ضرائب باهظة لسكن الناس إلى الحكم الجديد، ولكن لم تمض فترة حتى ابتدأت الاضطرابات؛ ففي القدس ثار أهلوها سنة 1249ه ووقعت فتنة كبيرة بين المسلمين والنصارى. وفي بلاد النصيرية عند الساحل السوري اشتعلت نار فتنة عمياء بين الجند والأهلين، فانتدب إبراهيم باشا لإخمادها الأمير بشير الشهابي، وكان عنيفا في حربه إياهم والفتك بهم وبمزروعاتهم وقراهم؛ فقد أتلف جنده نحوا من مائة قرية من قراهم. وفي بلاد طرابلس ثار الأهلون لفداحة الضرائب، فاضطر إبراهيم باشا أن يطلب إلى الأمير الشهابي قمع الثورة في جبال عكار وصافيتا والحصن، كما ثار أهالي حلب والشمال السوري حتى أنطاكية، ولم يقدر جند إبراهيم باشا على قمع ثورتهم حتى أمده أبوه من مصر بعساكر جديدة. وفي بلاد نابلس امتنع الأهلون عن تنفيذ قانون التجنيد العام، وثاروا على إبراهيم باشا وحاصروه في القدس مدة شهرين، ولو لم يحضر أبوه محمد علي من مصر على رأس جيش وينقذه، لكانت العاقبة جد وخيمة. وفي بلاد الدروز في حوران ووادي التيم ثار الأهلون أيضا، واضطر نائب إبراهيم باشا في دمشق إلى إرسال جيش كبير لقتالهم في سنة 1251ه، ولكن الجيش انهزم أمام قوى الدروز، واضطر إبراهيم باشا أن يجيش جيشا قويا، ففتك بالدروز شر فتكة.
وهكذا بدأ الأهلون يعلنون عداءهم للدولة المصرية، ولا شك في أن الدولة العثمانية ومن وراء إنكلترا كانت تثير الأهلين، وتدس الدسائس، وتحرك رؤساء العشائر، وزعماء الطوائف، ومشايخ البلاد على الثورة، إلى أن كانت سنة 1255ه، فبعثت الدولة العثمانية إلى سورية جيشا كبيرا بقيادة حافظ باشا، والتقى مع الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا عند مدينة «نزب» فانتصر إبراهيم باشا. وبلغت الأخبار إلى إستانبول وكان السلطان محمود الثاني قد مات وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد وهو فتى في السادسة عشرة، فاضطر رجال الدولة أن يهادنوا إبراهيم باشا. ولكن الدول الأوروبية كفرنسة وإنكلترا وروسية وبروسية والنمسة قلقت لاستكانة الدولة العثمانية، فعقدت مؤتمرا في لندرة سنة 1840م قررت فيه عدم موافقتها على بقاء محمد علي في الشام وانحصار سلطته في مصر وعكا، وخالفت فرنسة في هذا القرار وعزمت في الخفاء على مساعدة محمد علي نكاية بإنكلترا. ولكن الدول الأخرى، وبخاصة إنكلترا، عزمت على مقاومة نفوذ محمد علي، فبعثت إنكلترة أسطولها إلى سواحل الشام، واحتلت بيروت وسائر المدن الكبرى الساحلية، واضطر محمد علي أن يتراجع إلى مصر، وترك إبراهيم باشا دمشق في سنة 1256ه، ثم انسحب من سائر البلاد الشامية.
والحق أن حركة محمد علي في الشام كانت - على ما فيها من المساوئ - حركة طيبة مباركة؛ فقد أحيت أصول الوعي القومي العربي من جهة، وأثارت في أكثر النفوس جذوة الوطنية وحب الاستقلال والتخلص من النير التركي، ورفعت أيدي أصحاب الإقطاعات عن الأراضي الشاسعة التي كانوا يتملكونها من جهة ثانية، هذا فضلا عن روح العدالة والإنصاف التي بثتها بين الأهلين خلال الفترة التي حكمت البلاد فيها.
الفصل الثالث
حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية
في الجزيرة العربية
أراد محمد علي وابنه إبراهيم أن يسيطرا على البلاد العربية؛ تمهيدا لإقامة إمبراطورية عربية واسعة، وكان الابن أكثر تفهما لهذه الحركة من أبيه محمد علي؛ لأنه كان أكثر إدراكا للوعي العربي العام؛ ولذلك حبت نفسه إلى الاستيلاء على الجزيرة العربية والقضاء على الحركة الوهابية التي قام بها أحد زعماء الإصلاح الديني في الجزيرة، وهو: محمد بن عبد الوهاب.
ومحمد بن عبد الوهاب بن سليمان هذا هو فقيه مصلح من بني تمام، ولد سنة 1115ه/1703م في «العيينة» من بلاد نجد، وكان ذكيا ألمعيا، درس مبادئ العلوم الدينية في بلده على شيوخه، ثم رحل إلى الحجاز وسكن المدينة المنورة، فقرأ على شيوخها، ثم انتقل إلى العراق وسكن البصرة فآذاه بعض أهلها، ورجع إلى نجد فسكن في «حريملة» فترة، ثم رجع إلى مسقط رأسه يبشر بدعوة الإصلاح الديني التي ارتآها، ويعمل على تطهير الدين، ويدعو إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ويحرض على قراءة كتب المجتهد أحمد بن تيمية. وقد آزره أول الأمر في دعوته هذه أمير «العيينة» عثمان بن حمد بن معمر، ثم خذله فقصد إلى «الدرعية» في سنة 1157ه، فرحب به أميرها محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن فرحان بن إبراهيم الذهلي الشيباني، وآزره لما كان بينه وبين أمير «عيينة» من التنافس. وفي الدرعية كثر مريدوه. ولما مات محمد بن سعود سنة 1179ه/1765م وخلفه ابنه عبد العزيز، قوي سلطان ابن عبد الوهاب؛ لحب الأمير إياه وإخلاصه في تقبل دعوة الإصلاح التي دعا إليها ابن عبد الوهاب، ولما مات عبد العزيز سنة 1218ه/1803م وخلفه ابنه سعود الثاني المعروف بالكبير؛ اتفق هو والشيخ على نشر الدعوة بالسيف، فاتسع نطاقها وعمت جميع شرق الجزيرة العربية واليمن والحجاز، إلى أن مات ابن عبد الوهاب سنة 1206ه/1792م في الدرعية،
1
فخلفه ابنه، وقويت الصلات بين آل عبد الوهاب وآل سعود طوال العصر، وما يزال أبناء عبد الوهاب حتى أيامنا هذه معروفين بآل الشيخ، ولهم لدى الملوك السعوديين أعظم المكانة.
ولما عظمت مكانة السعوديين الوهابيين السياسية وامتد سلطانهم ذلك الامتداد الواسع، خافت الدولة العثمانية منهم، وخصوصا في أيام سعود الكبير، بعد استيلائهم على الأماكن المقدسة وزحفهم على النجف وبغداد ودمشق، فعهدت إلى أمير مصر محمد علي بمحاربتهم، وصادف ذلك هوى من نفس محمد علي، فجيش جيشا ضخما وبعث به، وعلى رأسه أحد أبنائه: طوسون، فزحف على المدينة المنورة، ولكن السعوديين تمكنوا من الفتك بالجيش، ولم ينج طوسون إلا بأعجوبة، فجمع قواته من جديد وزحف على المدينة فاستولى عليها في سنة 1228ه/1812م. ولكن السعوديين ظلوا يناوئونه حتى توفي أميرهم سعود في سنة 1229ه/1814م، فخلفه ابنه عبد الله، وكان مثل أبيه نجدة وشجاعة، وقد استمرت الحرب بينه وبين محمد علي فترة طويلة، حتى عهد محمد علي إلى ابنه إبراهيم، فهاجم بلاد القصيم وأخرج السعوديين منها، ثم اضطرهم إلى الاحتماء بعاصمتهم الدرعية، وما زال محاصرا لها حتى استسلم له أميرها عبد الله في أيلول سنة 1818م، فساقه أسيرا إلى الآستانة حيث قتله السلطان سنة 1234ه/1818م وهدم مدينة «الدرعية»، وأقام في نجد أميرا من قبله، وأعاد بلاد الحجاز إلى الأشراف الذين كان السعوديون قد أقصوهم عنه، ثم حاول الاستيلاء على بلاد «عسير» فلم يتمكن، واستمرت حروبه في الجزيرة منذ سنة 1825م إلى سنة 1837م. ولما احتل الإنكليز بلاد عدن في سنة 1839م رأى أن يتخلى عن مطامعه في جزيرة العرب، ويسلم المدينتين المقدستين «المدينة ومكة» إلى الباب العالي.
ولما ضعف سلطان محمد علي في الجزيرة، لمع نجم أحد أمراء السعوديين في نجد، وهو: تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود في الرياض، وكان تركي هذا رجلا قويا ذا شكيمة، فاتخذ الرياض عاصمة له، وأعاد للسعوديين عزتهم ووطد احترام دولتهم، فلما قتل سنة 1249ه/1832م
2
خلفه ابنه فيصل، وكان فتى حازما كثير المطامع مؤمنا بقوميته ودينه، عاملا على تطهير بلاده وسائر الجزيرة من الدخلاء والأجانب، فشمر عن ساعده وثار على قاتل أبيه مشاري بن عبد الرحمن فقتله، ثم انصرف إلى محاربة جنود محمد علي المصريين محاربة عنيفة، ولكنهم استطاعوا بمعونة ابن عمه خالد بن سعود أن يفلوا من حده ويأسروه، فجيء به إلى مصر في سنة 1255ه/1838م فأقام أسيرا سجينا إلى سنة 1259ه، ثم فر من سجنه وعاد إلى نجد، ودانت له البلاد إلى أن توفي في الرياض سنة 1282ه/1865م، فخلفه سعود بن فيصل بن تركي بعد أن تولاها أخوه عبد الله بن فيصل بن تركي فترة قصيرة وخلع منها في سنة 1287ه. وفي أيام سعود تفرقت الديار النجدية إلى إمارات صغيرة، وضعف شأن السعوديين؛ فكان بلد الخرج تحت سيطرة ثنيان بن عبد الله بن ثنيان. وكانت بلاد الأحساء والقطيف وقطر والبحرين وعمان تحت سيطرة عبد الله بن عبد الله بن ثنيان، وكانت بلاد العارض تحت نفوذ سعود بن جلوي بن تركي، وبلاد الفرع وما إليها تحت سلطان فهد بن حنيتان بن ثنيان، ومدينة الرياض تحت نفوذ عبد الرحمن بن فيصل. وقد ظلت هذه الحالة إلى أن كانت سنة 1292ه/1875م؛ ففيها مات سعود بن فيصل، وتمكن الأمير محمد بن الرشيد الشمري أمير حائل في شمالي نجد من الاستيلاء على أكثر ملك آل سعود. وفي سنة 1305ه تمكن من الاستيلاء على الرياض عاصمتهم، وامتد سلطانه على نجد كله فخضع له، وظل على ذلك إلى أن مات سنة 1314ه/1896م.
3
ولا شك في أن الحركة الوهابية كانت بذرة من بذرات القومية العربية، وعاملا من عوامل إيقاظ الوعي الوطني الديني الساعي إلى تطهير النفس العربية مما علق بها من أوضار الماضي وجهالات الاستعمار الأجنبي الذي أفسد كل شيء في دنيا العرب، وحاول أن يطمس نور الحقيقة والإيمان، ويقضي على الحيوية العربية، في البلاد العربية عامة وجزيرة العرب خاصة. ولكن ظهور الدعوة الوهابية بما اشتملت عليه من تحريض على الجهاد، وتطهير للنفوس، وإذكاء للوعي بصفة عامة، قد أيقظ العرب من سباتهم، وأثار فيهم الوعي القومي العربي وإن لم تكن هذه الإثارة مقصودة بذاتها.
الفصل الرابع
حركات الإصلاح في الآستانة وآثارها
في العراق والشام
لقد أحس حكام الآستانة بعد توقيع مندوبهم على معاهدة «كوتاهية» يوم 18 نيسان سنة 1833م في مقر إبراهيم باشا ابن محمد علي، أن إمبراطوريتهم العظمى آخذة في الانحلال فالاندثار، إن لم تتخذ خطة جديدة في سيرها وتعمل على الإصلاح والأخذ بأسباب الحضارة الجديدة؛ ولذلك أصدر السلطان محمود الثاني سنة 1255ه/1839م فرمانات بتنظيم الجيش تنظيما صحيحا، وبإصلاح شئون البلاد، وبعقد المعاهدات مع الدول العظمى، وبالأخذ بأسباب الحضارة الجديدة؛
1
فإنه بعد أن نظم الجيش تنظيما صحيحا بوساطة المدربين الأوروبيين، عمد إلى الإصلاح الإداري؛ ففي سنة 1253ه/1837م ألغى لقب «الصدر الأعظم» وأحدث لقب «الباش وكيل»؛ أي رئيس الوزراء، وأحدث منصب وزارة الداخلية والوزارات الأخرى، وبعد سنة نظم أمر رواتب الموظفين، فصاروا يأخذونها آخر كل شهر من خزينة الدولة بعد أن كانوا قبل ذلك يأخذون منحا أو تعويضات من الأهلين.
ولم يمت السلطان محمود في 19 ربيع الثاني سنة 1255ه 1 تموز سنة 1839م إلا بعد أن وضع أسس الإصلاح، حتى عده المؤرخون بمثابة الملك بطرس الأكبر الذي نظم شئون القيصرية الروسية.
ولما مات محمود خلفه ابنه السلطان عبد المجيد خان وله من العمر نحو 18 سنة، وفي عهده تولى وزارة الخارجية رشيد باشا، وكان رجلا مصلحا تقلب في عدة من وظائف الدولة الكبرى، ومن بينها سفارة بلاده في لندن، فأعجب أشد الإعجاب بالنظام البرلماني والأسلوب الدستوري، فلما تولى منصبه السياسي ببلده عزم على أن يطبق تلك الأنظمة ويجعل لبلاده دستورا عصريا، ويسمو ببلاده في نظر الأوروبيين الذين أخذوا ينظرون إلى محمد علي صاحب مصر نظرة إكبار على عكس نظرتهم إلى دولة الخلافة العثمانية، وقد حبذ العمل كل من بريطانية وفرنسة. ونورد فيما يلي خلاصة ذلك الدستور المعروف باسم: «فرمان كل خانه»، الذي تلي علنا على جمهور كبير من الوزراء والأعيان يوم 26 شعبان سنة 1255ه 3 تشرين الثاني سنة 1839م:
غير خاف أن دولتنا العلية جرت منذ مبدأ ظهورها على هدى أحكام القرآن الكريم وضوء القواعد والقوانين الشرعية، فبلغت بذلك مكانة سامية ورفاهية. ولكنها ما عتمت منذ قرن ونصف أن أخذت تنحرف عن ذلك السبيل، فتبدلت أحوالها وانقلبت قوتها إلى ضعف، وغناها إلى فقر.
وبما أن الممالك التي لا تسير إدارتها على القوانين الشرعية لا يمكن أن تخلو أو تثبت؛ لذلك انصرفت أنظارنا الملكية إلى دراسة أحوال أمتنا وتعمير ممالكنا، والعمل على رفاهية شعوبنا، والتنقيب عن الأسباب التي تهيئ ذلك، والسعي في ذلك السبيل، لما تتمتع به مواقع ممالكنا الجغرافية، وخصوبة أراضيها، ومواهب أهاليها. وإننا لنرجو أن نصل إلى أهدافنا المرجوة خلال خمس سنوات أو عشر.
وبعد الاعتماد على العلي القدير، نعلن وضع قوانين وأنظمة جديدة تتحسن بها إدارة ممالك دولتنا، تشتمل على النقاط العامة التالية:
صيانة الأرواح والأعراض والأموال.
تحديد الضرائب والخراج.
تنظيم شئون التجنيد ومدته؛ لما في ذلك من صيانة البلاد والعباد والأعراض والأموال. أما صيانة الأرواح والأعراض والأموال فلما في ذلك من حماية الدولة؛ لأن الدولة التي لا تصون أرواح أهاليها وأعراضهم وأموالهم ليست جديرة بأن تسمى دولة، والشخص الذي لا يأمن على روحه وعرضه وماله لا يمكنه أن يرتبط بهذه الدولة، وعلى العكس إذا كان آمنا على ماله وروحه وعرضه فإنه يغار على دولته وتزداد محبته لها.
وأما تحديد الضرائب والخراج، فإنه لا بد لكل دولة من مصارف الجند ورجال الإدارة، ولا بد للناس من وضع قوانين عادلة في تحديد الضرائب وأخذ الخراج، والبعد عن نظام الإقطاع الكيفي «والالتزامات المضرة» التي لا تتقيد بقانون، ولا ترحم أصحاب الأرض، ولا تحد من سلطات المسئولين.
وأما مسألة تنظيم الجندية، فإنه لا بد للبلاد من جند يصونون أراضيها ويحمون حدودها، ولكن يجب ألا يقسر الناس على التجنيد إلا ضمن حدود القانون، ولا يطلب من بلدة أو عشيرة زيادة عن تحملها؛ لما في ذلك من الظلم والإخلال بموارد البلاد من زراعة وتجارة. كما أنه لا بد من تحديد مدة التجنيد لكل فرد من أفراد الممالك بأربع أو خمس سنوات بطريق المناوبة. وهناك أمور أخرى تتعلق بتنظيم العدالة، وهي:
لا يجوز إعدام أرباب الجنح، ولا يجوز تسميمهم جهارا أو خفية، ولا يعدم أحد إلا بعد ثبوت إجرامه بمقتضى القوانين الشرعية.
ولا يجوز تسلط أحد على عرض أحد.
ولا يجوز التعدي على أموال الآخرين وأملاكهم، ولكل امرئ حق التصرف التام بأملاكه الخاصة، ولا يحق لأحد أن يعتدي على أحد أو يتدخل في أموره الخاصة. ومن مات وهو متهم، فورثته أبرياء لهم حقوقهم ما لم يحكم على المورث، ويبقى لهم مال مورثهم بعد أخذ حقوق المحكوم لهم.
يتمتع جميع أفراد شعوبنا من مسلمين وغيرهم بحماية الدولة لهم ومساعدتهم بدون استثناء.
يزداد عدد أعضاء مجلس الأحكام العدلية على قدر اللزوم، وسيجتمع الأعضاء ورجال الدولة في المواعد المضروبة، ويتناقشون في أحوال الدولة بحرية تامة، ويقررون القوانين المختصة بالأمن والأموال والخراج، ثم تقدم إلى «السرعسكرية» القيادة العامة، ثم يرفع إلى مقامنا لتوشح بتوقيعنا وتصبح نافذة إلى ما شاء الله، وسنحلف بالله العظيم في غرفة الخرقة النبوية بحضور جميع العلماء والوكلاء الأعضاء، وسيحلفون بالله على أن من خالف هذه القوانين الشرعية من الوكلاء والعلماء والناس، فسيقع عليه العقاب مهما كانت مرتبته، وسيقرر قانون للعقوبات.
سيزاد راتب الموظفين بحيث يصبح الفرد منهم مكفي المئونة، وسيعاقب المرتشون ويوضع قانون خاص شديد لعقوبة الرشوة؛ لأنها أعظم سبب لخراب الممالك، ولأنها محرمة شرعا. سينفذ هذا الدستور في كافة أنحاء الممالك العثمانية وفي العاصمة.
يبلغ هذا الدستور إلى كافة سفراء الدول الصديقة الممثلة في العاصمة؛ ليكونوا شهودا على دوام هذه الإصلاحات إلى الأبد. ونسأل الله أن يلهمنا التوفيق، وأن يصب سوط عذابه على كل من خالف هذه القوانين، وأن لا ينجح له أعمالا مدى الدهر، آمين.
حرر في يوم الأحد 26 شعبان سنة 1255ه.
2
ويظهر أن هذه القوانين الدستورية لم تطبق تماما؛ لانشغال الدولة العثمانية بحروبها مع روسية، وهي المعروفة بحروب القرم، فما إن انتهت هذه الحروب في سنة 1272ه/1856م حتى أصدر السلطان قانونا جديدا عرف ب «الإصلاحات الخيرية»، التي نورد فيما يلي موجزا عنها: إن من أهم أفكارنا السامية العمل على إسعاد رعايانا التي ما فتئنا نعمل على الترفيه عنهم منذ تبوأنا العرش، فازدادت ثروة البلاد. ورغبة منا في رفع دولتنا إلى مصاف الدول العظيمة وبلوغها درجة الكمال بالتعاون مع كافة الدول الصديقة، أصدرنا الإرادة الملكية بإجراء الأمور الآتية: اتخاذ كافة التدابير لحماية جميع رعايانا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وحفظ أموالهم وأعراضهم، ضمن الأحكام الشرعية والقوانين النظامية السابقة الواردة في «فرمان كل خانه»، وإخراجها من حيز الكتابة إلى حيز العمل، وغيرها من القوانين النافعة الصادرة عن أجدادنا السلاطين العظام، والممنوحة للطوائف المسيحية وغيرهم من أرباب الطوائف المقيمة في ديارنا، والسماح لهم بإقامة مجلس في «البطريق خانات» تحت رعاية بابنا العالي، تعمل على الإصلاح الذي يقتضيه الوقت وتستدعيه المدنية الحديثة، بموجب الوثيقة المرخص بها لأساقفة الطوائف المسيحية من السلطان أبي الفتح محمد خان الثاني وخلفائه ... وتمحى وتزال إلى الأبد - من المحررات الرسمية الديوانية - كافة التعبيرات والألفاظ المتضمنة تحقير جنس لجنس آخر في اللسان أو الجنسية أو المذهب. ويمنع قانونا استعمال كل وصف أو تعريف يخل بالشرف أو يستوجب العار بين الناس أو الموظفين. لا يمنع أحد من رعايانا من إجراء رسوم الدين وشعائره، ولا يجبر أحد على تبديل دينه.
يتمتع كل أحد من رعايانا بوظائف الدولة إذا استوفى الشروط القانونية المطلوبة، وجاز الامتحانات المرعية، وتخرج من المدارس المؤهلة. ولا يمنع أحد من رعايانا من الدخول في المدارس الملكية والعسكرية، بلا فرق ولا تمييز بين المسلمين وغيرهم. ويسمح لكل طائفة من رعايانا بفتح مدارس خاصة بها لتعليم المعارف والحرف والصنائع تحت إشراف الحكومة وتطبيق برامجها، ويكون انتخاب معلميها وطرق تدريسها تحت ملاحظة مجلس المعارف المختلط الذي نسمي أعضاءه.
تحال كافة الدعاوى التجارية والجنائية التي تقع بين المسلمين والنصارى وغيرهم من الرعايا والأجانب، على الدواوين والمحاكم الخاصة المختلطة، وتكون محاكماتهم علنية. ويجوز للمسيحيين أن يتحاكموا في محاكمهم البطريكية أو الروحية، إذا كانت الدعوى متعلقة بشئون الميراث، وتصدق شهادة الشاهد بمجرد تحليفه اليمين حسب قواعد دينه.
تحال كافة الدعاوى الحقوقية إلى المحاكم الحقوقية في الولايات والمديريات، بحضور كل من الوالي والقاضي، وتكون المحاكمة فيها علنية. وإذا رغب أحد المتحاكمين في الدعاوى الحقوقية من المسيحيين إحالة دعواه إلى المحاكم البطريكية أو الروحية جاز ذلك.
يجب أن تكون لغات المرافعة في المحاكم التجارية والجنائية مفهومة، وبلغات أهل البلاد المعروفة في ممالكنا المحروسة.
يجب أن تنظم أحوال السجون لحبس مستحقي السجن أو المتهمين، ولا يؤذى سجين ولا يعذب تعذيبا جسديا، ولا يعامل سجين إلا بما تنص عليه القوانين النظامية الخاصة بالسجون.
يجب أن يتساوى رعايانا في دفع الضرائب، كما يستوون في التمتع بوظائف الدولة، لا يتميز مسلم على مسيحي أو غيره، ويقبل منهم بدل الخدمة العسكرية النقدي أو الشخصي.
تطبق أنظمة انتخابات أعضاء المحاكم والمجالس العامة على سائر رعايانا من مسلمين أو غيرهم، وستتخذ الإجراءات لتكون الانتخابات حرة طليقة من كل قيد من قيود الضغط.
تهيأ قوانين وأنظمة لحفظ الحقوق والبيوع والتصرف في العقارات والأملاك، تحافظ فيها على روح الشرائع السماوية.
يمنح الأجانب المقيمون في ممالكنا جميع الحقوق التي يمنحها رعايانا في بلادهم الأجنبية، وتصحح كافة الأخطاء السابقة التي حدثت قبلا، وخاصة فيما يتعلق بالضرائب والعشور.
تنظم شئون الالتزام والمناقصات والمزادات العلنية في الدولة، وتطبق العقوبات الشديدة على من يخالفونها ويستغلونها لمنافعهم الخاصة.
تنظم شئون الأشغال العامة والضرائب المفروضة من أجلها في المديريات والولايات، مما يتعلق بالطرق والمسالك البرية والبحرية.
بما أنه قد وضعت مؤخرا جداول خاصة بموازنة كل مديرية أو ولاية سنويا، فيجب على المسئولين ترتيب هذه الجداول وتقديم الحسابات المضبوطة، وتسوية شئون المعاشات، تحت إشراف الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء)، ويجتمع كبار موظفي الدولة المختصون لمناقشة هذه الموازنات العامة، كما يشترك معهم النواب الممثلون لكافة المديريات والولايات بعد أن يحلفوا الأيمان، ويبدون آراءهم بكل حرية وصراحة في الدورات العادية أو الاستثنائية.
تطبق كافة القوانين الصادرة عنا على جميع رعايانا وسكان ممالكنا من كافة الرعايا مهما كانت جنسياتهم ومأمورياتهم.
يسمح بفتح البنوك والدوائر المالية، وتهيأ كافة الأسباب لصيانة أموال الدولة ومواردها وزيادة الثروة العامة.
تفتح الطرق، وتشق الشبكات، وتنظم شئون الملاحة اللازمة لنقل محصولات ممالكنا، وتمنع الأسباب التي تحول دون تقدم التجارة والزراعة.
يعمل على تعميم العلوم والمعارف الأجنبية بطرق تدريجية مفيدة. على رئيس الوزراء نشر هذا الفرمان الجليل في العاصمة وكافة أنحاء ممالكنا، والعمل على تحقيق ما تضمنه، والأسباب اللازمة والوسائل الكافلة لتحقيق أهدافه النبيلة، وأن يبذل جهده لتعميمه واستمراره.
حرر في دار الخلافة أوائل جمادى الآخرة سنة 1272ه.
هذه بعض خطوات الإصلاح التي أراد رشيد باشا أن يسير عليها، وقد استطاع أن يضمن لها النجاح بموافقة السلطان الشاب عليها والدعوة إليها، وبالعمل على إيجاد برلمان يظهر للعالم أجمع تطور الحياة الاجتماعية والسياسية في الإمبراطورية العثمانية. وعلى الرغم من أن انتخاب نواب ذلك البرلمان لم يكن مثاليا؛ فإن هذه الحركة الإصلاحية قد آتت أكلها ونبهت الأذهان، سواء في أجزاء المملكة العثمانية العربية أو في غيرها من الأجزاء، والذي يهمنا في هذا الصدد هو أن الجزء العربي من المملكة العثمانية أصبح يشعر بحقه في الحياة الحرة الديمقراطية.
ولما مات السلطان عبد المجيد وخلفه أخوه السلطان عبد العزيز في 25 حزيران سنة 1861م، انكفأت حركات الإصلاح لما كان عليه من عقلية رجعية وفساد نفسي وتبذير أرهق كاهل المملكة وجعلها تخضع للنفوذ الأجنبي، حتى اضطرت أن تعلن إفلاسها سنة 1875م. وتدخل الأجانب بشكل سافر في إدارة شئون المملكة، وقد حاول السلطان عبد العزيز أن يعقد قرضا جديدا مع البنك الفرنسي، على أن يعوض هذا المصرف بوضع يده على موارد البلاد جابيا وخازنا، ولكن الحكومة الفرنسية رفضت.
وهكذا اضطر السلطان أن يعلن إفلاس الدولة عن تأدية فوائد وحصص قروضها العشرة السابقة التي كانت قد عقدتها مع بعض الدول الأوروبية، وقد حاول بعض زعماء الإصلاح في المملكة إنقاذ هذا الموقف، وفي طليعتهم الوزير المصلح مدحت باشا، فخلعوا السلطان في سنة 1876م، ورفعوا إلى العرش السلطان مراد الخامس؛ كان فتى حسن الثقافة مستنير الفكر، تثقف بالثقافة الحديثة، وكان يرجى للبلاد في عهده كل خير لولا إدمانه على الخمر الذي آل به إلى اختلال عقله وخلعه من السلطنة في 31 آب سنة 1876م، فتولى الأمر من بعده السلطان عبد الحميد الثاني، وتولى الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) المصلح مدحت باشا، فسار بالبلاد سيرة حسنة، وألف لجنة من ستة عشر موظفا كبيرا وعشرة من العلماء واثنين من قادة الجيش لوضع نواة الدستور، فاستقت مواده من الدستور البلجيكي ونشرته بعنوان «قانون أساسي» في 23 كانون الأول سنة 1876م، وألغت امتيازات العاصمة إستانبول التي كان أهلها متمتعين بعدة مزايا وإعفاءات عسكرية ومدنية، وأطلقت حرية الصحافة، وأقيم تمثيل شعبي في مجلسين: أحدهما للنواب، والآخر للأعيان. أما النواب فينتخبون من كافة أرجاء المملكة بمعدل نائب واحد لكل خمسين ألف إنسان كل أربع سنوات، وأما الأعيان فيسميهم السلطان نفسه، ويضع مجلس النواب ميزانية المملكة، ويسمي محكمة عليا من عشرة أعضاء، وعشرة مستشاري دولة، وعشرة مستشاري استئناف لمحاكمة الوزراء وكبار القضاة والمتهمين بالخيانة العظمى، وأن يكون التعليم الابتدائي إجباريا في كافة أرجاء المملكة.
وحاول الوزير المصلح مدحت باشا أن ينفذ مواد الدستور وقوانين الإصلاح بكل ما أوتي من قوة، ولكن السلطان عبد الحميد الثاني شل حركته فأقاله في 5 شباط سنة 1877م، ثم نفاه بتهمة الخيانة العظمى واتصاله بالدول الغربية، ثم انصرف السلطان إلى الاستعانة على تنفيذ خطته الرجعية بأفراد الجيش الذين استمالهم وأغدق عليهم المناصب والمراتب، واستعان بنفر من الضباط الألمان لتدريبهم، واستطاع أن يقضي على كل حركة إصلاحية أو نشاط وطني، واضطر زعماء الإصلاح المعروفين باسم رجال «تركية الحديثة» إلى الهرب لباريس وجنيف.
وقد استعان السلطان عبد الحميد الثاني على حركته هذه بنفر من الرجال، وفي طليعتهم مستشاره وفقيه بلاطه الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الحلبي الذكي الداهية، واستطاع أن يستولي على نفر كبير من المثقفين ورجال الدين وأرباب الطرق الصوفية، ويتخذ منهم بطانة تقف أمام تيار الإصلاح، فأخذت هذه البطانة الحميدية تنشر آراءها في كافة أرجاء المملكة، ومن بينها البلاد العربية، مبينة للناس أن الوعي القومي الممثل في هؤلاء أو غيرها من الجماعات التي تدعو إلى القوميات في سائر بلاد المملكة، إنما هو وعي كاذب، وأن أوروبة إنما بعثت به لإفساد أحوال المسلمين.
واستطاع السلطان عبد الحميد وبطانته أن يستمروا في الهيمنة على أجزاء المملكة فترة طويلة، كما استطاعوا أن يؤخروا بعث الوعي القومي - وبخاصة الوعي العربي - فترة ما، فتفسخت المملكة ودب الفساد إلى كافة أجزائها، وتداعى العقلاء من أهلها الأتراك وغير الأتراك للعمل على إنقاذها والقضاء على روح الجاسوسية، والاستخذاء والدسائس التي سيطرت عليها طوال العهد الحميدي. وكان في طليعة هؤلاء المتداعين ثلاثة من الشبان الأتراك، وهم: أنور، ونيازي، وطلعت؛ فأسسوا «جمعية الاتحاد والترقي»، وعملوا على تنفيذ الدستور في سنة 1908م، وسيطروا على العاصمة، فخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني، وولوا أخاه السلطان محمد رشاد الخامس، وأوجدوا برلمانا يمثل كافة بلاد الإمبراطورية، ويعمل على تنظيم كيان الإمبراطورية المتفكك، ولكن هذا كان شبه مستحيل؛ لأن الإمبراطورية كانت مؤلفة من عناصر متباينة في الأجناس والأديان والأفكار، ولأنها كانت محاطة بعدد كبير من الخصوم الأقوياء، ومليئة بعدد ضخم من المشاكل. ولقد حاولت «جمعية الاتحاد والترقي» خلق ما أسمته «الجامعة العثمانية» ولكنها لم تستطع، وكان شبان العرب الأحرار في طليعة من حاولوا الانفصال عن تلك الجامعة الغريبة، وأخذوا يفكرون في العمل للتخلص من ربقة الاحتلال العثماني والعهد الحميدي المتستر بستار الدين، البعيد عن روح الدين ومبادئه القويمة وأهدافه السامية على ما سنفصله فيما بعد.
الفصل الخامس
الحركات في العهد الحميدي وأثرها
في العالم العربي
كانت الإمبراطورية العثمانية وقت اعتلاء السلطان عبد الحميد الثاني على عرشها في حالة من التفكك الداخلي جد واضحة، كما كانت الدول الأوروبية تعمل على انتقاص رقعتها وإفساد الجو الخارجي حولها، وكانت أقرب الدول الأوروبية منها هي دولة ألمانيا القيصرية؛ فقد تقرب القيصر غليوم الثاني من السلطان عبد الحميد الثاني، وتظاهر بأنه صادق في تقربه، وأنه يريد أن يجعل من دولة الخلافة دولة قوية، واعتقد السلطان العثماني بصحة هذا القول، فبادل القيصر العواطف، وقويت المظاهر الودية بين الدولتين، وتتابع الرسل والسفراء ورجال الإرساليات والبعوث بينهما، وكان من أبرزها بعثة الكولونيل فون ديركولتز،
1
وهو من أقدر ضباط الجيش الألماني، وقد قدم الآستانة في ربيع سنة 1883م لينظم الجيش التركي، فقام بعمله أحسن قيام، وظل ثلاث عشرة سنة يعمل بدأب حتى استقامت أمور الجيش، ونبغ فيه نفر من الضباط الأذكياء - وفيهم عدد غير قليل من الشبان العرب - وكان هؤلاء الضباط نواة الحركة التحررية في الإمبراطورية العثمانية.
وفي عام 1898م قدم القيصر نفسه إلى زيارة السلطان زيارة رسمية، فتلقاه وفتح له القصور واستقبله استقبالا باهرا، وعقد معه اتفاقية سكة حديد «برلين - بغداد - البصرة»، وزار الإمبراطور في هذه المناسبة بيت المقدس ودمشق، وكانت هذه الزيارة بمثابة دقة ناقوس نبهت الدول الغربية، وبخاصة بريطانية، على وجوب الوقوف أمام هذا التقرب التركي-الألماني، واستمر هذا التقارب بين الدولتين طوال عهد السلطان عبد الحميد الثاني.
ومما هو جدير بالذكر أن أكثر العالم العربي كان خاضعا في هذا العصر للنفوذ العثماني؛ فبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية كانت ممتلكات خاضعة خضوعا تاما للباب العالي، وكانت بلاد الشام مقسمة إلى ولايتين وسنجق واحد، ثم رأوا تقسيمها منذ سنة 1887م إلى ثلاث ولايات وسنجقين اثنين، وهي ولاية حلب في الشمال والشمال الشرقي، وولاية بيروت في الغرب، وولاية الشام في الشرق، وسنجق لبنان الذي اقتطع من ولاية بيروت، وسنجق القدس في الجنوب، وكان لهذين السنجقين وضع إداري مستقل.
وأما العراق، فكان مقسما إلى ثلاث ولايات، وهي: ولاية الموصل في الشمال، وولاية بغداد في القلب، وولاية البصرة في الجنوب.
وأما الجزيرة العربية فلم تكن الأوضاع فيها مستقرة، ولم تتمكن الدولة العثمانية من فرض سيطرتها عليها تماما إلا في سنة 1841م حينما سمت الدولة واليا على الحجاز خولته سلطة السيطرة على الجزيرة كلها، ومنحت أشراف مكة نوعا من السلطان الروحي والنفوذ التقليدي في ربوع الحرمين: مكة والمدينة. ولم يخرج عن سلطان الوالي إلا اليمن الذي كان دائم الثورات، وقد استطاع قائد إحدى الحملات العسكرية العثمانية على بلاد اليمن في سنة 1849م أن يخضع البلاد للخليفة العثماني، ولكنها ما لبثت أن انتقضت عليه، ثم اضطرت إلى أن تخضع ثانية في سنة 1865م، ثم ثارت إلى أن خضعت نهائيا في سنة 1872م بعد تعدد الحملات عليها عن طريق قناة السويس البحري، وطريق الحجاز البري.
وأما بقية أجزاء الجزيرة العربية، وهي: مقاطعتا هضبة نجد وبلاد شمر، فكانتا خاضعتين لنفوذ الأسرتين العربيتين القويتين: أسرة «آل سعود»، وأسرة «آل رشيد»؛ اللذين كانا يتنازعان السلطة في تلك الديار، ولا تستطيع يد الدولة العثمانية أن تمتد إليهما، وكانت ثمة بعض البقاع امتدت إليها يد دولة أجنبية مغتصبة، هي: دولة بريطانية؛ فإنها احتلت منطقة عدن في سنة 1839م، ثم احتلت جزيرة بريم الواقعة عند مدخل البحر الأحمر في سنة 1857م وأخذ سلطانها يقوى شيئا فشيئا في المناطق العربية الواقعة في الخليج العربي على طريق الهند.
أما بقية أجزاء العالم العربي، وهي: مصر والسودان وطرابلس الغرب والجزائر وتونس ومراكش، فلم تكن ترتبط بالخلافة العثمانية ارتباطا سياسيا قويا ولا سلطان لها عليها؛ فبلاد مراكش لم تطأها قدم الغزاة العثمانيين، ولم تمتد إليها يد سلطانهم أصلا. وبلاد تونس فقد انقطعت صلتها بدولة الخلافة وخضعت للسلطان الفرنسي منذ سنة 1881م، وبلاد الجزائر رزحت تحت قوى الاستعمار الفرنسي منذ سنة 1830م، وانقطعت الصلات نهائيا بينها وبين الدولة العثمانية. وبلاد طرابلس الغرب هي وحدها التي ظلت تحت النفوذ العثماني، وكانت مقسمة إلى ولايتين، هما: طرابلس، وبنغازي. وفي سنة 1912م استولت عليهما الدولة الإيطالية وطردت القوات العثمانية منهما. ومصر والسودان خضعتا للتاج البريطاني في سنة 1882م، ولم يبق للباب العالي عليهما إلا شبه نفوذ روحي.
هكذا كانت أوضاع البلاد العربية حين اعتلى السلطان عبد الحميد الثاني عرش الباب العالي، وقد ظل ثلاثا وثلاثين سنة يحكم إمبراطوريته الواسعة، ومن ضمنها البلاد العربية، بطريقة تغلب عليها روح الفوضى والرشوة والفساد، وأخذت أصوات التذمر ترتفع في أنحاء الإمبراطورية، وتألفت الجمعيات السرية تعمل على التخلص من ذلك العهد السيئ، وكان السلطان يصم أذنيه عنها حينا أو يتصامم حينا آخر؛ إلى أن يتمكن من القبض على أفرادها فيفتك بهم. وكانت أقوى تلك الجمعيات
2
وأكثرها نشاطا جمعية تركيا الفتاة «جون تورك»، فإن الأحرار العثمانيين من عسكريين ومدنيين أخذوا يضيقون ذرعا بالفساد المستشري بالبلاد، وبخاصة بعد الضربات العسكرية التي تلقتها الدولة في حروبها مع الغرب، فاجتمع نفر من ضباط الجيش واعتنقوا مبادئ جمعية «تركيا الفتاة»، وآلوا على أنفسهم أن يعملوا لتخليص البلاد من الحكم الاستبدادي. وكان في طليعة هؤلاء الضباط: أنور بك، ونيازي بك، اللذان آليا على نفسيهما أن يجهرا بالدعوة ويعملا على إعادة الدستور، الذي كان المصلح مدحت باشا قد وضعه، وانضم إلى هذين الضابطين رجل مدني كان يشغل منصبا حساسا في إدارة البريد، هو: طلعت أفندي. وأخذ الثلاثة يدأبون على العمل ويتصلون ببعض البيوتات المالية في منطقة سلانيك لتغذية حركتهم ماليا، واستطاعوا أن يجدوا من تجار الدونمة - وهم يهود سلانيك المتظاهرون بالإسلام - عونا ماديا كبيرا مكنهم من تأليف جمعية كبيرة انتشرت في كافة أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ومن بينها البلاد العربية، ألا وهي: جمعية «الاتحاد والترقي».
وقد استطاع الضابط نيازي بك أن يفر من الجيش مع بعض إخوانه من أعضاء الجمعية؛ الضباط والمدنيين، فيلجئون إلى جبال «رسنه» في ولاية مقدونية، وأخذوا ينظمون الحملة على «الخليفة الطاغية»، معطل الدستور، ويؤلبون الجيش عليه، ويحرضون المدنيين على العصيان المدني. وكان أول النذر أن أعلن رجال الفيلقين الأول والثاني في بلاد «الروم أيلي» والفيلق الرابع في بلاد «كردستان» انضمامهم إلى الحركة الإصلاحية، وأبرق نيازي بك إلى الخليفة برقية يطلب فيها أن يعيد العمل بالدستور وإلا فإن الفيالق ستزحف على دار الخلافة وتقصي الخليفة السلطان عن عرشه. فاستهان هذا بهم أول الأمر ، ولكنه لما رأى أن الأمر جد أصدر «إرادة شاهانية» بإعادة الدستور العثماني، وكان ذلك يوم الجمعة في 25 جمادى الآخرة سنة 1326ه/1908م، فتنفس الأحرار في البلاد، وأطلقت حرية الكتابة والنشر، وألغيت الجاسوسية المخيفة المنتشرة في شتى أنحاء البلاد.
وكانت البلاد العربية، وبخاصة العراق وسورية، قد ابتهجت ابتهاجا عظيما، وأخذ الأحرار ينخرطون في سلك «جمعية الاتحاد والترقي»، ولكن هؤلاء الأحرار فوجئوا بظهور نوايا سيئة لدى «الاتحاديين» الأتراك؛ لأنهم كانوا ميالين إلى تتريك البلاد العربية ودمجها في العنصر التركي، فأخذوا ينظرون إلى حركاتها بحذر وانتباه شديدين.
كما أخذ الاتحاديون من جانبهم يعملون على تقوية نفوذهم والقضاء على خصومهم. ثم رأوا أن الحل الجذري هو في خلع السلطان، فاستصدروا فتوى بخلعه لقتله الأبرياء وتعذيبهم وإحراق الكتب والإسراف في تبذير أموال الأمة، وبايعوا ولي عهده رشاد أفندي باسم: محمد رشاد الخامس. •••
ساءت الإدارة العامة في العهد الحميدي بشكل واضح، وبخاصة في البلاد العربية؛ لأن السلطان عبد الحميد الثاني كان سيئ الإدارة كما رأيت، تسيطر عليه الأفكار الرجعية ويطغى عليه حب الطمع والخوف من أن تتفتح عيون الشعب عليه. وكان يحكم البلاد بشبكة من الجواسيس والإرهابيين، وقد حظر تعليم التاريخ الصحيح في المدارس، وحرم تدريس العلوم السياسية والاجتماعية، وبخاصة في البلاد العربية. وكان يهتم بنفسه في تسمية الأساتذة والمدرسين، ممن يطمئن إليهم على تنفيذ خطته، وكان يوعز إليهم من وراء ستار بأن يعملوا على نشر الجهالة ويعرقلوا سير ركب العلم، وكان من جهة ثانية يسعى عن طريق بعض ضعفاء النفوس من رجالات الدين وأرباب الطرق الصوفية ليعملوا على نشر الأباطيل والخرافات والجهل، كما كان لا يسمح بطبع الكتب إلا بعد تدقيقها؛ فإن وافق عليها المدققون من جماعته نشرت، وإلا طويت وأحرقت. يقول الأستاذ المرحوم محمد كرد علي: «اشتد ضغط عبد الحميد على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع؛ لأنها ترقي العقول وتلقح الأذهان، وأصدر إدارته السرية إلى مديري المعارف في بعض الولايات ومنها الشام: أن يوقفوا سير المعارف عند الحد الذي وصلت إليه؛ لأن في انتشار المعارف انتشار المفاسد وتمزيق شمل الأمة.
ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء من الدنايا ما يكفي في نعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد، وأصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه، عبارة عن كتب خرافات وزهد وتلفيق، أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر، وأمور عادية لا ترقي عقلا ولا تزيل جهلا. وحاول أن يرفع من «دعاء القنوت» لفظ: «ونخلع ونترك من يفجرك»؛ لأن فيها لفظ «خلع»، وقلبه ينخلع من هذه اللفظة، ولأنه رأى مخلوعين قبله، وأن يسقط من «صحيح البخاري» أحاديث الخلافة، وأن تصادر «حاشية ابن عابدين»؛ لأن فيها باب الخلع. ورفعت من المعاجم كثير من الألفاظ: كالعدل، والمساواة، والاغتيال، والقانون الأساسي، والجمهورية، ومجلس النواب، والخلع، والديناميت، والقنابل. وغير بعض الأسماء، فلا يقال: «مراد» بل: «مرآة»، ولا: «عبد الحميد» بل: «حامد» أو «حميد» أو «حمدي»؛ لأن مرادا اسم أخيه، وعبد الحميد اسمه. وأصبحت الصحف في أيامه أبواقا تقدسه وتؤلهه على صورة بلغ فيها السخف إلى غاياته.»
3
ولم تكن حالة البلاد المالية والاقتصادية خيرا من الحالة الثقافية؛ فقد كان السلطان ووزراؤه وعماله في الولايات يعملون على ملء جيوبهم وخنق الشعب، وكانت الوظائف العامة تباع بيع السلع، وتقبض أثمانها، وكانت الخزانة العامة في الآستانة فارغة، والعجز يسيطر على موازنة الدولة العامة.
أما السياسة الخارجية للدولة فكانت سياسة المداورة والمخاتلة؛ لأن السلطان كان يعرف الضعف الذي يسيطر على إمبراطوريته، والمرض الدفين الذي يفتك بها، كما أنه كان لا يجهل أن الدول العظمى في ذلك الزمان كانت تتنافس فيما بينها، فلذلك عمد - بما فطر عليه من دهاء - إلى المخاتلة والدس، وخصوصا بعد أن زحفت جيوش الروس على بلاده وطوقت عاصمته، ولم تنسحب حتى فرضت عليه معاهدة تتشح بالعار والذل. ولم تكن معاهدة برلين أقل عارا، وكانت ثالثة الأثافي، حين أراد انتشال البلاد من الإفلاس الاقتصادي، فرهن بعض مواردها الكبرى لدى جماعات من كبار الممولين الأجانب، من إنكليز وفرنسيين وألمان، وأخذ منهم مبالغ ضخمة، زعم أنه يريد بها تقوية الجيش، وقد فعل شيئا كثيرا لتقوية الجيش، وخلق الروح العسكرية خلقا جديدا وتنظيم المعاهد العسكرية تنظيما حديثا، فرفع هذا العمل من مكانته بين رعاياه إلى حد ما، وإلى فترة ما.
ثم إنه عمد من جهة ثانية إلى تسخير رجال الدين في كافة أنحاء الإمبراطورية، لنشر الدعاية له بأنه ظل الله في الأرض، وأنه أمير المؤمنين، وزعيم المسلمين الروحي في كافة أرجاء المعمورة، وأنه خادم الحرمين الشريفين. وقد استطاع بهذا كله أن يفرض سلطانه على الناس، وأن يطيل عهده، وبخاصة حين سلك هو مسلكا دينيا خالصا، فأقصى عن القصور الملكية الموبقات التي كان أدخلها إليها أسلافه، وأحاط نفسه بهالة من رجال الدين وأرباب الوعظ والإرشاد، في طليعتهم الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الرفاعي الحلبي، الذي كان يتمتع بسلطان روحي كبير، ودهاء وعبقرية دينية كبيرين، فأنشأ في الآستانة معهدا دينيا كبيرا لتخريج القضاة والمفتين والدعاة وغيرهم من رجال الدين، واستطاع أن يجتذب أشراف مكة - وهم حكامها الروحيون - فأخذوا يؤيدونه في سياسته، ويعملون على تمتين أواصر سلطته الروحية بين طبقات الحجاج الوافدين إلى الحجاز من شتى بقاع الإسلام. ولما رأى السلطان أن العرب قد أخذوا يضيقون ذرعا بحكمه، وأن البلاد العربية لا بد من أن تثور عليه، أخذ يعمل على تقريب نفر من كبار رجالاتهم، ويغدق عليهم الأموال الضخمة والمناصب الرفيعة،
4
أو يستدعيهم إلى جواره فيضيفهم «ضيافة طويلة» في العاصمة، كما فعل مع الشريف الحسين بن علي - الملك حسين فيما بعد - فقد بلغه عنه أنه فتى كثير النشاط، كبير المطامع، ينحدر من أسرة عريقة، حكمت بلاد الحرمين عدة أجيال، فاستدعاه إلى الآستانة مع أسرته في سنة 1893م وهو فتى في عنفوان شبابه يصحب معه أولاده الأمير عليا الذي صار ملك الحجاز فيما بعد، والأمير عبد الله الذي صار ملك الأردن فيما بعد، والأمير فيصلا الذي صار ملك سورية فالعراق بعدئذ. وأوصى السلطان بإدخال الأولاد الثلاثة في إحدى مدارس العاصمة التركية على نفقته، ولكن الشريف حسينا أدرك الهدف من تلك الضيافة، فتقبلها صامتا ولقن أبناءه وجوب التحلي بالصبر والسكينة، إلى أن تحين الفرصة للقيام بالدعوة القومية، والعمل على تخليص البلاد العربية من ربقة الظالمين الأتراك، وفي طليعتهم هذا الخليفة الطاغية الذي يتستر بالدين ويرهق أبناء جلدتهم العرب عسفا وجبروتا.
الفصل السادس
العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد
ظهور الحركة الصهيونية
تولى السلطان محمد رشاد السلطنة بعد أخيه عبد الحميد سنة 1333ه/1915م، وكان ملكا ضعيف الإرادة، سيئ الإدارة، محدود التفكير، قليل الثقافة، ما عدا شيئا من الآداب الفارسية. وقد عظم سلطان «الاتحاديين» عليه فاستسلم لهم، وأخذوا يفتكون بالناس من خصومهم وبخاصة الحزب المناوئ لهم، وهو حزب «الائتلافيين»، فاغتالوا منهم نفرا في الولايات التركية والعربية، واصطرعت الإمبراطورية، وتنافس الحزبان للسيطرة على الحكم.
وفي هذه الفترة انتهز الأحرار العرب اليمانيون الفرصة، وأعلنوها حربا على دولة الخلافة العثمانية سنة 1329ه، فجهز السلطان جيشا من العرب أكثره من الشاميين، وبعث به إلى اليمن للفتك بإخوانهم هناك، وكانت مجازر بين الفريقين ذهب فيها ألوف من الجند الشامي، حتى اضطرت دولة الخلافة إلى الاعتراف بكيان الدولة العربية في اليمن وعقدت معاهدة صلح بينها وبين الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، وبذلك غدت دولة اليمن أول دولة عربية نالت استقلالها الذاتي وتخلصت من نير السلطة العثمانية.
وآلى أحرار العرب في الشام والعراق والجزيرة على التخلص من نير العبودية العثمانية، وكانت حركة أحرار اليمن حافزا لهم، وخصوصا حين رأى العرب ضعف الدولة، وتقلص ظلها عن الولايات التي كانت خاضعة لها في أوروبا كولاية «قوصوه» و«أشقودره» و«يانيه» و«مناستر» و«سلانيك».
وكان لبنان أكثر البلاد وعيا وأعمقها ثقافة، فتداعى أحراره مع نفر من السوريين إلى العمل وتخليص البلاد من الفوضى والفساد؛ ففي سنة 1877م اجتمع نفر من المثقفين العرب في بيروت، وألفوا من بينهم جماعة تسعى بإصلاح الأحوال العامة في البلاد، وكان ممثل الدولة في بيروت وقتئذ رجلا عاقلا، فكتب إلى الصدر الأعظم في الآستانة تقريرا يقول له فيه: «إن البلاد السورية تتجاذبها تيارات مختلفة، فقد اتجه نفر من شبيبة هذه البلاد ورجالاتها بأنظارهم نحو دول الغرب، وبخاصة نحو إنكلترة وفرنسة، يحاولون التشبه بهم، واقتباس حضارتهم، والاستعانة بهم لإصلاح حالة بلادهم، فإذا لم تأخذ الدولة العلية العثمانية بأسباب الإصلاح الحقيقي خرجت هذه البلاد عن الطوق.»
ولما قرأ الصدر الأعظم هذا التقرير اهتم بالأمر، فعرضه على السلطان، ولكن هذا كان لا يأبه لحركات الأحرار، فاستهان بأمرهم وأرسل إلى جواسيسه في الديار الشامية أن يضيقوا الخناق عليهم. ولكنهم لم يأبهوا له وزاد نشاطهم، فاتصلوا ببعض الأحرار العرب في حلب ودمشق وطرابلس وصيدا، واقتبسوا من الماسونية السرية نظمها في الدعاية، كما استعانوا بمحافلها لبث حركتهم، وأخذوا يكتبون نشرات يعلقونها ليلا في الشوارع والساحات يدعون الناس فيها إلى الثورة على الظلم، وطلب الاستقلال الذاتي، حتى قلقت الآستانة لهذا الأمر، وبعث السلطان عيونه إلى سورية يتحسسون الأخبار ليضعوا أيديهم على زعماء الحركة، فلقيت البلاد منهم عنتا شديدا، واعتقل عدد كبير من الأبرياء، وانتشرت شائعة تقول: إن حاكم الشام آنئذ - وهو الوزير مدحت باشا الصدر الأعظم السابق ومنشئ الدستور - هو على اتصال برجال هذه الحركة، وأنه يحميهم؛ طمعا في الاستيلاء على البلاد والاستقلال بها لنفسه وأولاده من بعده، كما فعل محمد علي في مصر. ومهما يكن من أمر فإن العيون قد باءوا بالفشل ولم يستطيعوا معرفة القادة الحقيقيين للحركة، فرجعوا إلى السلطان في الآستانة وجعبتهم خاوية إلا من بعض التكهنات الخيالية، والتهم الباطلة والتقارير الكاذبة، فلما رأى السلطان هذا الأمر رأى أن يتلافى الأمر بحكمته، فكتب إلى الوالي أن يجمع رجالات البلد ويتفهم مطاليبهم، فجمع نحو مائة رجل من أعيان المسلمين والنصارى في لبنان، وعقد عدة جلسات في كانون الثاني سنة 1913م أقروا فيها مطاليبهم الإصلاحية، ثم اختاروا من بينهم لجنة خماسية لرفع تلك المطاليب إلى السدة السلطانية والعمل على تنفيذها، وتنحصر تلك المطاليب في النقاط الآتية:
أن تهتم الدولة بشئون البلاد المالية، وتعنى بتوسيع سلطة المجالس العمومية، وتعين مستشارين أجانب في دوائر الدولة يعملون على السير بالبلاد في سبيل الحضارة الأوروبية.
ولكن الدولة لم تهتم بهذه المطالب، فاضطر نفر من الأحرار أن يغادروا لبنان إلى مصر أو فرنسة، ثم عقدوا مؤتمرا بباريس في 21 حزيران سنة 1913م، وانتهوا فيه إلى مطالبة الدولة بالقيام بالإصلاح، وبمنح العرب حقوقهم السياسية، وأن يشتركوا في المساهمة بإدارة بلادهم، اشتراكا حقيقيا يضمن لأرباب الكفايات مناصب رفيعة بلا تفريق بين الأديان والمذاهب، وأن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة مركزية تهتم بشئونها، وأن تنفذ مقررات مؤتمر بيروت، وأن تعتبر الدولة العثمانية اللغة العربية لغة رسمية في مجلس المبعوثان العثماني «النواب»، وأن تكون هي اللغة الرسمية للولايات العربية، وأن تكون الخدمة العسكرية محلية، ولا يقذف بالشبان العرب في أقاصي البلاد، وأن تهتم الدولة بشئون التعليم اهتماما جديا.
ولما رأى الاتحاديون أن العرب جادون في مطالبهم اتصلوا ببعض رجالات مؤتمر باريس، وأعلنوا أنهم سيلبون مطاليبهم فيجعلونهم يشاركون في الأعمال العامة ببلادهم وإدارتها، ويجعلون التعليم الثانوي والابتدائي بالعربية، ويبيحون استعمال العربية في المعاملات الحكومية ويعينون نفرا منهم في مناصب رفيعة في مجلسي الأعيان وشورى الدولة، وفي محكمة التمييز، ودائرتي: المشيخة الإسلامية، والفتوى. وشرع الاتحاديون بتنفيذ بعض هذه المطاليب فعلا.
ومما هو جدير بالذكر أن فكرة تهويد فلسطين العربية والدعاية للصهيونية العالمية
1
قد أخذت تظهر وتنتشر في ذلك الحين، حتى إن بعض النواب العرب في مجلس النواب العثماني قد أعلنوا ذلك للملأ، وبينوا أضراره وخطره، وحالوا دون تمكين اليهود من شراء أراضي فلسطين، وفي طليعة هؤلاء النواب السيد شكري العسلي نائب دمشق؛ فإنه حين رأى أن بعض الاتحاديين من اليهود الدونمة، وهم قوم خبثاء يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ويعتنقون الصهيونية، وفي طليعتهم جاويد بك ناظر المالية العثمانية آنئذ، شرعوا ينفذون خطتهم بامتلاك فلسطين وشراء الأراضي من أهلها بأبخس الأثمان لإقامة دولة صهيونية يهودية فيها، وأنهم قاموا يؤلفون الجمعيات الهادفة إلى هذا الغرض «كجمعية أصدقاء فلسطين» و«جمعية تعاون فلاحي اليهود وصناعهم في فلسطين وسورية» و«الجمعية الصهيونية اليهودية» وغيرها من الجمعيات الصهيونية.
رأى هذا النائب القومي العربي ما يكمن وراء هذه الفكرة الخطرة من شرور على البلاد وقوميتها، فأعلن في الصحف وفي البرلمان العثماني أن الصهيونية خطر وبيل، وأن الجمعيات التي ألفت لهذا الغرض كالجمعية «الصهيونية اليهودية» وجمعيات «إيكا» و«فاعوليم» و«الأليانس» وغيرها ساعيات في استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر أرمياء من الكتاب المقدس الباحث في أسر بابل لليهود، والذاكر وعد الرب برجوعهم إلى فلسطين بقوله في آخره: «يشترون الحقول بفضة، ويكتبون ذلك في صكوك، ويختمون ويشهدون شهودا في أرض بنيامين وحوالي أورشليم، وفي مدن يهودا، ومدن الجبل، ومدن السهل، ومدن الجنوب، لأني أرد سبيهم بقول الرب»، وذلك بعدما سبتهم حكومة الكلدان على أنهم لم يستطيعوا البقاء بعد ذلك؛ لأنهم أصبحوا محل التنازع بين حكومة الرومان في مصر، وحكومة الرومان في أنطاكية، ثم انقرضوا ولم يبق لهم ملك ولا دولة.
والآن عملا بهذه الآية يشترون الأراضي في فلسطين على حساب الفضة، ويشرطون البيع على أن يكون الثمن فضة، ويكتبون الصكوك ويشهدون، وهكذا تراهم لا يفترون طرفة عين، يتجسسون أخبار من تأخرت حالتهم المالية من أهل هذه البلاد، وهي عبارة عن لواء عكا بأجمعه، ولواء القدس، ولواء نابلس، وقسم من لواء الكرك، وبعض من قضاء عجلون، ويطمعون البائع بالثمن الفاحش، ويكتبون الصكوك ويشهدون عليها ويسجلونها عند محرر المقاولات، وعند بعض القنصليات. وكانت الحكومة قبلا منعت استعمارهم.
2
ولكن بما بذلوه من الدنانير التي تسحر ألباب الخائنين من الحكام والمستخدمين استطاعوا أن يستولوا على ثلاثة أرباع قضاء طبرية ونصف قضاء صفد، وأكثر من نصف قضاء يافا والقدس، والقسم المهم من نفس حيفا وبعض قراها، واليوم يسعون للدخول إلى قضاء الناصرة ليستولوا على سهل شارون ويزرعيل المذكور بالتوراة والمعروف اليوم بمرج ابن عامر الذي يشقه الخط الحجازي من الغرب إلى الشرق.
وهكذا اشتروا الكثير من القرى واستولوا عليها، وهم لا يخالطون العثمانيين ولا يشترون منهم شيئا، ولهم «بنك أنكلو فلسطين» يقرضهم بفائدة لا تتجاوز الواحد في المئة في السنة.
وقد جعلوا لكل قرية إدارة فيها مدرسة، وكل قضاء مديرية، ولكل جهة مدير عام، ولهم راية لونها أزرق وفي وسطها خاتم سليمان وتحته كلمة عبرانية معناها «صهيون»؛ لأنه جاء في التوراة أن «أورشليم» ابنة صهيون، ويرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم، ويترنمون بالنشيد الصهيوني، وقد احتالوا على الحكومة فقيدوا أنفسهم عثمانيين في سجل النفوس كذبا وبهتانا، وهم لا يزالون حاملين الجوازات الأجنبية التي تحميهم، وعندما يصيرون إلى المحاكم العثمانية يظهرون جوازاتهم ويدعون الحماية الأجنبية، ويحلون دعاويهم واختلافاتهم فيما بينهم بمعرفة المدير، ولا يراجعون الحكومة، ويعلمون أبناءهم الرياضة البدنية واستعمال السلاح، وترى بيوتهم طافحة بالأسلحة، وفيها كثير من البنادق (المارتين)، ولهم بريد خاص وطوابع خاصة وغير ذلك مما يبرهن على أنهم بدءوا بتأسيس مقاصدهم السياسية.
والحق أن هذا النائب وإخوانه من النواب العرب في مجلس «المبعوثان» التركي قد استطاعوا وقف النفوذ اليهودي بعد مشادة قوية في دورة الربيع البرلمانية سنة 1912م، فاستكان اليهود إلى أن أعلنت الحرب العالمية الأولى، ورأوا علاقات ألمانيا بالباب العالي، فصبوا جهودهم على برلين؛ آملين أن يتوصلوا عن طريقها إلى دخول الباب العالي والسيطرة على رجالاته وتأمين أغراضهم الصهيونية في فلسطين.
أما صهيونيو بريطانية، فقد استطاعوا أن يجتذبوا عطف بعض الزعماء البريطانيين إلى قضيتهم، وفي طليعتهم «سكوت» رئيس تحرير جريدة «المانشستر غارديان» و«بلفور» وزير الخارجية و«لويد جورج» رئيس الوزارة و«هربرت صموئيل» الزعيم البريطاني اليهودي، الذين اشترتهم الصهيونية العالمية واليهودية البريطانية وعلى رأسها «حاييم وايزمن»، فاندفعوا إلى تأييدها إلى أن أعلن «بلفور» وعده لليهود بتأسيس وطنهم القومي في فلسطين، وكان ذلك في الثاني من تشرين الثاني سنة 1917م.
3
الفصل السابع
الجمعيات والمنظمات السرية العربية ونشاطها
رأى العرب أن الدولة العثمانية وزعماءها الجدد - الاتحاديين - لن يغيروا خطتهم في محاربة الأماني القومية العربية، وأن السياسة المركزية التي اتبعوها في إدارة الدولة قد حطمت كل الآمال التي كان العرب الأحرار يصبون إليها؛ فلذلك عزموا على محاربة الدولة سرا وجهرا، وكان إغلاق الدولة لجريدة ونوادي «جمعية الإخاء العربي-العثماني» التي أسست في سنة 1908م، كانت تهدف إلى توثيق عرى الصداقة العربية التركية، بعد إعلان الدستور هي الشرارة الأولى؛ فقد اتقدت نيران العداوة بين أحرار العرب والدولة، وأخذ الأحرار يعملون في الخفاء ويؤلفون المنظمات والجمعيات السرية لنشر الأفكار القومية، وتهديم نظام الحكم التركي في البلاد العربية وإقامة دولة عربية.
إليك موجزا عن نشاط بعض هذه الجمعيات والمنظمات السرية: (1) الجمعية القحطانية
قام بتأليفها نخبة من الشبان العرب في الآستانة أواخر سنة 1909م لإيجاد كيان عربي مستقل ضمن الدولة العثمانية يناوئ المركزية التي يعمل الاتحاديون بموجبها، وذلك بأن تتكون من الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية وحدة إدارية مستقلة، لها برلمان خاص وإدارة خاصة، على أن يكون الخليفة العثماني هو الرأس الأعلى لهذه الدولة العربية.
وكان رأس هذه الجمعية الضابط العربي عزيز علي المصري، يعاونه السادة: سليم الجزائري، وأمين وعادل أرسلان، وخليل حمادة، وأمين كوزما، وأحمد صفوة العوا، وعلي النشاشيبي، وشكري العسلي، وعبد القادر الخرسا، وعلي الأرمنازي، ومحمود العجم، وسليم عبد الهادي، ونور الدين القاضي.
ولم تبق هذه الجمعية أكثر من سنة لاكتشاف أمرها. (2) جمعية «العربية الفتاة»
هي جمعية أسسها في باريس نفر من الطلاب العرب في سنة 1911م، وكانت تهدف إلى تحقيق استقلال البلاد العربية الخاضعة للسيطرة العثمانية استقلالا تاما، ثم انتقلت إلى بيروت في سنة 1913م، ثم إلى دمشق في سنة 1914م، وقوي أمرها بعد أن تحررت البلاد العربية من الحكم التركي وظهرت باسم «حزب الاستقلال».
ومن زعماء هذه الجمعية السادة: شكري القوتلي، وصالح حيدر، وجميل مردم بك، ومحمد المحمصاني، ورستم حيدر، وتوفيق الناطور، وعبد الحميد الزهراوي، وجلال البخاري، وعلي الحاج عمر، ورفيق التميمي، وعبد الغني العريسي، وعوني عبد الهادي، وعارف الشهابي، وأحمد قدري، وفؤاد حنتس، وعمر حمد، ونسيب البكري، وفخري البارودي. (3) المنتدى الأدبي
قام بتأسيسه في الآستانة نفر من النواب الموظفين والطلاب العرب في صيف سنة 1909م؛ ليكون مركزا أدبيا يلتقي فيه أحرار العرب وزوار العاصمة التركية، ويتذاكرون في أمور بلادهم وقضاياهم القومية. ولم يكن هذا المنتدى سريا، فقد كانت الدولة العثمانية تعرف نشاط مؤسسيه؛ لأن أهدافه في الظاهر لم تكن أهدافا سياسية، وقد كان عدد أعضائه كبيرا جدا، وقد أقاموا له فروعا في أكثر مدن الشام والعراق.
ومن أبرز رجالاته السادة: عبد الكريم قاسم الخليل، ويوسف مخيبر حيدر، وصالح حيدر، ورقيق سلوم، وجميل الحسيني، وسيف الدين الخطيب، وعبد الوهاب الزويتيني، وعبد الوهاب الإنكليزي، وتوفيق البساط، وسليم الجزائري، وأمين لطفي الحافظ، ومحمد الشنطي، وأحمد طباره، ورشدي الشمعة، وجرجي حداد، وسعيد عقل، وباترو باولي. (4) جمعية العهد
أسسها رجال الجمعية القحطانية سنة 1910م بعد أن افتضح أمر القحطانية، وكانت أهدافها هي أهداف جمعيتهم الأولى، ولكن لم يسمح هذه المرة إلا للعسكريين الموثوق بهم للدخول فيها، ما عدا مدنيا واحدا هو الأمير أمين أرسلان ، وكان زعيم هذه الجمعية هو الضابط عزيز علي المصري، وقد كان فيها عدد كبير من الضباط العراقيين، وكان لها فرعان أحدهما في بغداد والآخر في الموصل. وقد لعبت هذه الجمعية بين العسكريين الدور الذي لعبته «جمعية العربية الفتاة» بين المدنيين على الرغم من أن كل واحدة منهما كانت تجهل وجود زميلتها، حتى كانت سنة 1915م فاتصلتا ووحدتا مواردهما لإعداد الثورة العربية.
ومن رجالات هذه الجمعية الضباط: ياسين الهاشمي، وجعفر العسكري، وطه الهاشمي، وعبد الله الدليمي، وجميل المدفعي، وعلى جودت الأيوبي، وخالد الحكيم، ومصطفى وصفي، وأمين لطفي الحافظ، ومولود مخلص، ومحمد إسماعيل الطباخ، وعارف التوام، وسليم الجزائري. (5) حزب اللامركزية الإدارية العثمانية
وهو حزب سياسي أسسه نفر من المثقفين والأحرار العرب في القاهرة سنة 1912م، وكان يهدف إلى إقامة حكم لامركزي في الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية، وقد شكلوا له فروعا في مدن الشام والعراق والجزيرة العربية.
ومن أبرز زعمائه السادة: رفيق العظم، ومحمد رشيد رضا، وإسكندر عمون، وفؤاد الخطيب، وسليم عبد الهادي، وحافظ السعيد، ونايف تللو. (6) جمعية الإصلاح
هي جمعية اجتماعية سياسية، أسسها ستة وثلاثون شخصا يمثلون كافة الطوائف والأحزاب في لبنان سنة 1912م، لإيجاد كيان عربي مستقل على غرار حزب اللامركزية الذي أسس في القاهرة، وكانت الروابط وثيقة بينهم وبين أحرار القاهرة.
1 (7) الجمعية الخيرية
هي جمعية إصلاحية أسست في دمشق أيام ولاية الوزير المصلح مدحت باشا، وكان هدفها أدبيا اجتماعيا في الظاهر وسياسيا في الباطن لإعادة العمل بالدستور المعطل، وجعل الحكم في البلاد العثمانية عامة، والعربية خاصة حكما شوريا.
وكان رجال هذه الجمعية على اتصال برجال «جمعية تركية الفتاة»، ومن أبرز زعمائها السادة: الشيخ طاهر الجزائري، ورفيق العظم، وسليم البخاري، وجمال القاسمي، وعطا الكيلاني، وشكيب أرسلان، ومحمد كرد علي، وعبد الوهاب الإنكليزي، وسليم الجزائري، وفارس الخوري، وغيرهم من الأحرار العرب، وحسين عوني بك، وبدري بك، وهما موظفان تركيان كانا في دمشق.
هذه هي أكثر الجمعيات العربية نشاطا إذ ذاك، وهناك جمعيات ومنظمات سرية أخرى كانت تنشط بين الحين والحين، وتعمل على تقويض الحكم التركي واستبداده، ولكن معلوماتنا عنها ضئيلة.
ومهما يكن من أمر، فإن المنظمات - سواء أكانت جهرية أم سرية - أخذت تنشط في مطلع العقد الثاني من القرن العشرين، وتعمل بحزم للتخلص من النير التركي، حتى كان إعلان الثورة العربية الكبرى.
الباب الثاني
الفصل الأول
الثورة العربية وآثارها في العالم العربي
كان من نتائج المعاملات الظالمة التي عامل بها رجال الدولة التركية سكان الولايات العربية، من تتريكهم وتقتيل أبنائهم
1
وتهجيرهم إلى بلاد الأناضول، وتجويعهم وإفقارهم؛ أن عزم الأحرار الاستقلاليون على إعلان الثورة العربية على الدولة التركية، وكان لنفر منهم اتصال وثيق بفيصل بن الحسين بن علي الهاشمي، فقد عرفوه زميلا وفيا ومواطنا صالحا، وعضوا فعالا في «جمعية العربية الفتاة»، فشاوروه في الأمر، وتم الاتفاق على إعلان الثورة بعد أن طلبوا إليه أن يتصل بوالده الحسين بن علي شريف مكة وأمير الحجاز.
اتصل الشريف حسين ببعض قادة الأحرار الاستقلاليين وتعرف إلى حقيقة نواياهم، فقال لولديه عبد الله وفيصل أن لا مانع من أن يتصلا بالمستر ستورس السكرتير العام لشئون الشرق الأوسط لدى الحكومة البريطانية في القاهرة الذي كان قد كتب إلى أحدهما، وهو عبد الله، يخبره أن الحكومة البريطانية مستعدة لمساعدة الشريف حسين، على أن يثور على الدولة العثمانية.
وأخذ الحسين وأولاده يفكرون في الوضع الدقيق الذي أصبحت البلاد العربية فيه، بعد أن انحازت تركية إلى جانب ألمانيا في محاربة الحلفاء، فمن جهة رأوا حكومة تركية مشبعة بعداء العرب، ومصممة على البطش بهم، وعلى تتريك الشام والعراق، وعلى استرداد نفوذها في الحجاز واليمن، وقد تعاقدت مع أقوى دولة برية في العالم، ومن جهة ثانية رأوا دولا متحالفات مسيطرات على البحار وقادرات على تجويع الحجاز وعلى منع الحجاج من دخول الديار المقدسة، دع مطامع إحداها في العراق، ومطامع الثانية في الشام. هال هذا الوضع الحرج الحسين، ولبث بضعة أشهر يقلب الرأي فيه ويتتبع حوادث الحرب وفظائع جمال باشا في الشام، ويقاوم خطط والي الحجاز التركي المسمى وهيب باشا، وكان من شرار الاتحاديين المتعصبين على العرب . ثم في أيلول سنة 1915م وجه ابنه فيصلا إلى الشام وفروق «أسطنبول» في مهمتين:
الأولى:
مشاورة رجالات العرب في الشام في الخطة الواجب اتباعها.
والثانية:
مذاكرة حكومة العاصمة في عزل وهيب باشا أو نقله من الحجاز.
وقد تم له ما أراد من عزل هذا الوالي، أما مشاورة رجالات العرب فقد كان فيصل يجتمع في السر إلى رجال «الفتاة» خاصة، وقد تناولت مذاكراتهم القضية العربية من أساسها، وكان جميعهم قبل الحرب يتمنون اتفاق العرب والأتراك على صيغ تحفظ كيان العرب ولغتهم وحقوقهم المشروعة، ولكن بعد أن أعلن الترك الحرب على الحلفاء، وفتكوا بقافلة الشهداء الأولى، وصرحوا جهارا بسياستهم المؤدية إلى القضاء على القومية العربية؛ أصبح العيش معهم ضربا من المحال.
2
والحق أن البلاد العربية لم تعد تطيق المعاملات الشاذة التي كان جمال السفاح وأعوانه يعاملون بها العرب، فهبوا يطلبون إلى الملك حسين وأولاده أن يعلنوها حربا مقدسة على الظالمين الأتراك، ولكن الحسين كان يحب التريث في الأمر، والتعمق لمعرفة نوايا الإنكليز الحقيقية؛ لئلا يورط البلاد في مشاكل جديدة.
3
وابتدأت المراسلات الرسمية بين الشريف حسين وبين ممثل بريطاني؛ السير ماكماهون المقيم العام البريطاني في القاهرة، فكتب الشريف بتاريخ 14 تموز سنة 1915م إلى ماكماهون رسالة يطلب إليه فيها اعتراف الحكومة الملكية البريطانية باستقلال البلاد العربية الواقعة ما بين مرسين فآذنة، فحدود فارس، فخليج البصرة، فالبحر المحيط الهندي، فالبحر الأحمر، فحدود مصر، فالبحر الأبيض المتوسط، ويدخل فيها ولايات الشام والعراق.
وأجابه ماكماهون بكتاب مؤرخ بيوم 30 آب سنة 1915م يقول له فيه: «إن حكومة جلالة الملك تؤيد الشريف حسين والشعب العربي بمطالبه في استقلال بلادهم العربية، وفي جعل الخليفة عربيا. أما موضوع الحدود التي أوردها في رسالته، فهو أمر سابق لأوانه؛ لأن الحرب ما تزال قائمة بين الحلفاء والدولة العثمانية، ولأن تركية ما تزال تحتل قسما كبيرا من البلاد التي ذكرها الشريف حسين في رسالته.»
ولما بلغت هذه الرسالة إلى الشريف، اجتمع هو ونفر من أحرار العرب وتناقشوا في محتوياتها، وانتهى أمرهم إلى عدم الرضى عنها، وكتب الشريف رسالة إلى ماكماهون بتاريخ تاسع أيلول سنة 1915م يقول له فيها: «إن موضوع تحديد البلاد العربية الآن أمر ضروري جدا؛ لأن الأمة العربية بأسرها تطالب به، لأنها تعتقد أن لا حياة لها إلا في تلك الحدود.» فأجابه مكماهون بتاريخ 24 تشرين الأول من تلك السنة بكتاب يقول له فيه: «إن مقاطعتي مرسين وإسكندرونة وبعض أجزاء من سورية، وهي الواقعة غربي مقاطعات دمشق وحمص وحماه وحلب، لا يمكن اعتبارها أراضي عربية محضة، ولهذا يجب إخراجها من الحدود المبحوث عنها، فإذا أخرجت هذه الأجزاء من الحدود وافقت بريطانية على الحدود المعدلة، بشريطة عدم مس المعاهدات المعقودة بينها وبين زعماء العرب.
4
أما الأراضي الداخلة ضمن هذه الحدود المعدلة، وهي التي تستطيع إنكلترة أن تعمل فيها بملء الحرية دون الإضرار بحليفتها فرنسة، فإنكلترة مستعدة أن تعترف باستقلال العرب فيها، وتقديم المساعدة لهم. وأما ما يتعلق بولايتي البصرة وبغداد، فإن مركز إنكلترة ومصالحها فيهما يتطلب شكلا إداريا خاصا، وتعترف إنكلترة بوحدة الأراضي المقدسة، وتتعهد بحمايتها من كل اعتداء خارجي.»
وتقدم بريطانية للعرب كل مساعدة أو نصيحة لازمة، ويوافق العرب على الاقتصار على استشارة ومعونة وإدارة بريطانية العظمى وحدها، ويرضون بأن يكون جميع الموظفين الذين يحتاجون إليهم لتنظيم دوائر مملكتهم من التبعة البريطانية.
فلما تلقى الشريف هذه الرسالة أجاب عليها بتاريخ 5 تشرين الثاني سنة 1915 برسالة يقول له فيها: «إنه لا يصر على أن تكون مرسين وآذنة ضمن حدود البلاد التي يطلب الاعتراف باستقلالها. أما ولايتي حلب وبيروت وسواحلهما، فكلها عربية، ولا فرق بين المسلم العربي والمسيحي العربي. وأما العراق فهو كذلك عربي بحت، وهو مهد حضارة العرب ومدنيتهم، ولا يمكن للعرب أن يقنعوا بالتنازل عنه، وكل ما يمكن التساهل فيه هو أن الأراضي التي تحتلها الجيوش الإنكليزية الآن تترك لمدة قصيرة تحت إدارة إنكليزية لقاء تعويض عن مدة احتلال تلك المنطقة. ومن بداهة الأمور أن الموظفين الإنكليز الذين يحتاج إليهم العرب، لا يكون لهم إلا صفة استشارية، ويجب أن يتأكد العرب من أن إنكلترة لا تهملهم عند انتهاء الحرب، وعقد معاهدة الصلح، بل تمد يدها إليهم وتدافع عن استقلالهم.»
فأجابه ماكماهون برسالة تاريخها 13 كانون الأول سنة 1915 قال فيها: إنه مسرور لتنازله عن مرسين وآذنة، وإن قضية ولايتي حلب وبيروت تحتاج إلى تدقيق نظر لما لفرنسة فيهما من مصالح، وإنه سيعود إلى المفاوضة بهذا الصدد في الوقت المناسب، وإن مصالح إنكلترة في ولاية بغداد تتطلب إدارة ودية ثابتة، وأن إنكلترة لا تنوي إبرام أي صلح كان ما لم يكن في جملة شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية وخلاصها من سلطة الأتراك والألمان.
وفي 1 كانون الثاني سنة 1916م كتب الحسين إلى ماكماهون رسالة، قال له فيها: «إنه يكف أثناء الحرب عن المطالبة بلبنان؛ حبا لاجتناب ما يكدر صفو التحالف بين إنكلترة وفرنسة، ولكنه سيعود بعد الحرب إلى المطالبة به.»
فأجابه مكماهون في 30 كانون الثاني من تلك السنة برسالة، قال له فيها: «إن صداقة فرنسة وإنكلترة ستقوى وتشتد بعد الحرب.»
وهكذا انتهت المراسلات بين الشريف وماكماهون بعد أن كان العرب قد تورطوا في مد يد المساعدة إلى الحلفاء، فلما ظهرت منهم هذه النوايا السيئة، والأطماع في العراق، وبعض أجزاء سورية ولبنان؛ هالهم الأمر، وعلموا أن نوايا بريطانية وصديقتها فرنسة هي نوايا استعمارية. وقد اجتمع بعض أحرار العرب، أمثال: عزيز علي المصري ومحمد رشيد رضا، وطالبوا الحسين بأن يكف عن مناصرة البريطانيين بعد أن تبينت نواياهم العدوانية ضد العرب، على أن يفاوضوا الدولة العثمانية بتعديل موقفها من العرب وقضاياهم، وتطلق سراح من في سجونها من شبان العرب. فأبرق الشريف حسين برقية إلى أنور باشا وزير الحربية العثمانية في آذار سنة 1916م يطلب إليه الإفراج عن المسجونين، ومنح بلاد الشام نظاما لامركزيا، وإعلان استقلال الحجاز، وجعلها وراثية في أعقابه. فاعتذر أنور باشا عن تلبية هذه المطاليب وأن الأحكام الصادرة بحق المسجونين لا بد من تنفيذها. فأبرق الشريف إلى جمال باشا يعرض عليه ما عرض على وزير الحربية، فأجابه جوابا فيه كثير من ألفاظ الوعيد والتهديد، فأدرك الحسين وأولاده أن الأتراك مصممون على سياسة العنف وعلى التنكيل بالحسين وأنجاله وبأحرار العرب، وأحس الشريف فيصل أن جمال باشا سيفتك به، فاحتال عليه ليأذن له بالسفر من دمشق إلى الحجاز، وتظاهر بأنه مسافر إلى المدينة لكي يحضر المتطوعين العرب الذين استدعاهم جمال باشا.
وغادر دمشق في السادس عشر من أيار سنة 1916م بعد أن رأى إخوانه من أحرار العرب ورجال جمعيتي «العربية الفتاة» و«العهد» معلقين على الأعواد في بيروت ودمشق وحلب. ولما وصل إلى المدينة رأى أن الأتراك ينظمون خططهم للفتك بأبيه وبعرب الحجاز، فاجتمع إلى أخيه الأكبر الشريف علي ونظما خطتهما، وجمعا بضعة آلاف مقاتل استطاعا بها أن يهاجما أطراف المدينة في 8 حزيران سنة 1916م، وأعلن الشريف حسين في 10 حزيران سنة 1916م الموافق ليوم 9 شعبان سنة 1334ه إعلان الثورة العربية من مكة المكرمة.
ولما بلغ خبر الإعلان إلى ديار الشام والعراق فرح الناس بذلك فرحا عظيما، وزحفت جيوش الحلفاء نحو العراق فاحتلت ميناء البصرة، ثم سارت نحو كوت الإمارة «العمارة» في اتجاه بغداد، كما اشتبك الإنكليز مع قوى الأتراك في حملة السويس بقيادة جمال باشا الذي أراد الاستيلاء على قناة السويس وطرد الإنكليز من القطر المصري.
ولكن قواه قد تشتت وحملته قد تبعثرت، فأخذ يهيئ حملة ثانية استعد لها استعدادا كبيرا، ثم التقت قوى الجيش العربي-الإنكليزي بجيش الحملة التركية، فشتته، ودخلت مدينة غزة، وكانت هذه المعركة أولى المعارك التي اشترك فيها العرب مع أحلافهم الإنكليز في محاربة الجيش العثماني.
قال جمال باشا في مذكراته يصف حالة جيشه في تلك الحملة:
يقصر اللسان عن أن يوفي القوات العثمانية - لا فرق بين ضباطها وجنودها اللائي اشتركن في حملة القناة الأولى - حقهن من الثناء على ما بذلنه من الجهود وأظهرنه من ضروب الوطنية العالية، وأرى من واجبي تقديم إعجابي لأولئك الجنود البواسل الذين قاموا بذلك الزحف غير مبالين بما لاقوه من ضروب الضنك وتحملوه من المشاق في سحب المدافع، فضلا عن الجسور المتحركة، وهي كل ما كان لدينا من المعدات لعبور القناة وسط بحر من الرمال.
هذا وقد ساد بين رجال الحملة - لا فرق بين الأتراك والعرب - شعور العطف الأخوي، ولم يكن بينهم من يضن بحياته دفاعا عن إخوانه، والواقع أن الحملة الأولى كانت برهانا ساطعا على أن غالبية العرب الساحقة انضموا إلى الخلافة العثمانية بقلوبهم وجوارحهم.
5
الفصل الثاني
جيش الثورة العربية، وأشهر معاركه، وقضاؤه على الحكم التركي
تأسيس الحكم العربي الهاشمي في الشام والعراق
كان القائد التركي فخري باشا في المدينة ومعه عدد ضخم من الجنود، وكان جبارا عسوفا، له في الفتك بالأرمن أخبار مخيفة. أرسله الباب العالي سنة 1916م للفتك بعرب الحجاز ومعاملتهم بما عامل به الأرمن في بلاد «أورفه» و«السويدية» و«كلمس» و«عينتاب»، حينما كان في تلك الديار سنة 1915م.
وما إن استقر به المقام في الحجاز حتى أخذ يجمع جموعه للفتك بالقبائل العربية، وكانت قبيلة «بني علي» أولى القبائل التي لقيت منه ويلات شدادا، فقد أمر السفاح فخري جنوده أن يبيدوا أفراد القبيلة نساء ورجالا وأطفالا، وأن يحرقوا قراهم، ويبيدوا حرثهم ونسلهم. وقد انتشرت أخبار حملته على بني علي في الحجاز كله، فحلف أحرار الجزيرة كلها على الاستماتة في سبيل محاربة الأتراك، وتأييد الجيش العربي في حملته على الطغاة الطورانيين، ثم تمكنوا من الاستيلاء على ميناء جدة في حزيران من تلك السنة واستولوا على ما في ثكناتها من الأسلحة والذخيرة، وأسروا من فيها من الجنود، وأخذت الثورة العربية منذ ذلك الحين تسير من نصر إلى نصر؛ فدحروا حامية مكة التركية واستولوا على أسلحتها، وتوجهت قواهم نحو الطائف - حيث كان يقيم الوالي التركي - وحاصروه من حزيران إلى أيلول فاستسلم لهم، وكان قائد الحملة العربية الشريف عبد الله بن الحسين.
وكان الجيش العربي وقتئذ مقسما إلى ثلاثة أقسام: (1)
قسم يقوده الشريف فيصل بن الحسين، وهو مكون من نحو عشرة آلاف مقاتل أكثرهم من قبائل المدينة المنورة، مثل: بني جهينة، وعتيبة، وعجيل، وبليس، وفيهم نحو ألف خيال والباقون مشاة، وكان مقرهم في البادية بين المدينة المنورة وينبع. (2)
قسم يقوده الشريف علي بن الحسين، وهو مؤلف من ثلاثة عشر ألف مقاتل، فيهم ألف هجان، وعشرة آلاف جندي نظامي من عرب الشام والعراق الذين انفصلوا عن الجيش التركي والتحقوا بالقوى العربية، والباقون من عرب البادية وكان مقرهم في «رابغ». (3)
قسم يقوده الشريف عبد الله بن الحسين، وكان مؤلفا من أربعة آلاف مقاتل من البدو، وفيهم بعض العرب الذين كانوا في الطائف وانضموا بعد استسلام الوالي التركي فيها، وكان مقرهم في الطائف إلى جهات شرقي المدينة المنورة.
وكانت هذه الأقسام الثلاثة تتساند في حملاتها على الجند العثماني. ولما رأى فخري باشا أن الوضع قد أصبح خطيرا؛ رأى أن يوجه قوته الباقية كلها نحو مكة ليقضي على الشريف حسين، فبعث إليه من المدينة بخمسة آلاف جندي نظامي مدربين، ولكن الجند العربي استطاع أن يفتك بهذه الحملة، وكانت المعركة من أشد المعارك الحربية التي جرت في الحجاز.
وكانت المعركة الثانية في المدينة؛ فإن الجيش العربي بعد أن فتك بحملة فخري باشا واستولى على مدينتي ينبع ورابغ، قرر أن يتوجه نحو المدينة، مركز الجيش التركي وحصنه الحصين، وكان قائد الحملة الشريف فيصل، وقد هدف من وراء خطته هذه إلى أمرين:
أولهما:
الاستيلاء على المدينة المنورة، وهي ثاني مدن الحجاز.
وثانيهما:
عرقلة سير انسحاب الجيش التركي من المدينة المنورة إذا ما عزم على ترك البلاد والالتحاق بالفرق التركية المرابطة في فلسطين وسورية عن طريق الخط الحديدي.
وهكذا سار الشريف فيصل نحو شمالي الحجاز لينازل الجيش التركي، وقسم جيشه إلى قسمين: قسم صغير مؤلف من خمسمائة مقاتل، امتطى سفينة بريطانية متجها في البحر نحو «الوجه»، وقسم كبير مؤلف من نحو عشرة آلاف مقاتل سار إلى «الوجه» عن طريق البر، وتم الاتفاق بين القسمين على أن تصل الحملة البرية في 23 كانون الثاني سنة 1917م إلى «الوجه»، وتصل إليها الحملة البحرية في التاريخ نفسه. ولكن الحملة البرية تأخرت لأسباب قاهرة، ووصلت الحملة البحرية في موعدها. ولما رأى قائدها أنه لا يستطيع البقاء في الماء طويلا، اضطر أن يطلق المدافع على ميناء «الوجه» ويحتلها ويجلي الحامية التركية فيها، ثم وصلت الحملة البرية بقيادة الشريف فيصل، فطهر المنطقة من فلول الأتراك، وسيطر على شمالي البلاد الحجازية.
ولم يبق في يد الأتراك إلا «المدينة» نفسها، ففكروا أن ينسحبوا منها ويركزوا قواهم في المنطقة الواقعة بين «معان» و«بئر السبع» على الخط الحجازي الحديدي الواقع بين المدينة ودمشق. فأخذت القوات العربية تعمل في الخط الحجازي ومحطاته وجسوره تخريبا؛ لتعوق القوى والمؤن من الوصول إلى الجيش التركي في المدينة، وسار قسم من هذه القوات بقيادة الشريف ناصر، وكان فيها الشيخ عودة أبو تايه زعيم عرب الحويطات، والمستر لورنس، ووجهتها «العقبة» لاحتلالها، فوصلتها في تموز سنة 1917م بعد أن خربت المحطات والجسور والسكك الحديدية، وشتت شمل الحامية التركية المرابطة هناك.
وكان استيلاء القوى العربية على العقبة نهاية معارك الثورة العربية في الحجاز وابتداؤها في الشام؛ فإن الشريف فيصل سار بقواه في الجزيرة نحو فلسطين، وتوحدت قواه مع قوى الحلفاء تحت قيادة الجنرال أللنبي.
وأخذت القيادة المشتركة تعمل في تطهير أراضي فلسطين من فلول الجيش التركي بقية عام 1917م ومطلع عام 1918م، ولمع نجم الشريف زيد بن الحسين أصغر أنجال الشريف حسين في هذه الفترة، واستولى الجنرال أللنبي على «القدس» و«الصلت» و«عمان »، ثم جرت معارك عنيفة بين الجانبين حول «معان»، وخرج منها الأتراك بعد أن فقدوا عددا كبيرا من الضباط والجنود، وتوجهت القوى العربية والحليفة إلى حوران، فدخلتها في أيلول سنة 1918م بعد أن مزقت الجيش التركي الرابع شر تمزيق الذي كان السفاح جمال باشا يفخر به، ويقول: إنه جيش لا يقهر، فتشتت شمله، وأخذت القوى العربية تنظم وحداتها وتطهر البقاع المجاورة من الفلول التركية حتى كان شهر تشرين الأول من تلك السنة، فزحفت نحو دمشق بقيادة الشريف ناصر، ورحب الناس بها أعظم ترحيب، وألف أول حكومة عربية برئاسة السيد شكري الأيوبي، ثم ما عتم الأمير فيصل أن قدم إلى دمشق فاستقبلته استقبالا لم تستقبل به أحدا منذ قرون عديدة؛ لشدة تعلقها بالحرية، ولأنه كان رمز النضال القومي ضد المستعمرين الظالمين الأتراك.
وشرع الأمير فيصل بتنظيم أحوال البلد وترتيباتها الإدارية وتعريب دواوينها ، وألف حكومة جديدة برئاسة القائد علي رضا الركابي، وأرسل شكري الأيوبي حاكما عسكريا في حلب لينظم له الأمور؛ لأنها أكبر مدينة في بلاد الشام، فنظم أمورها وأخذ يعد العدة لاستقبال الشريف فيصل، فلما قدمها احتفلت به احتفالا جد عظيم، وخطب في حفل كبير ضم وجهاء البلد خطابا نورد بعض مقاطعه لخطورته، ولأنه يبين لنا كثيرا من آراء القيادة العربية في الحركة القومية، والأوضاع العامة للبلاد، قال:
لا شك في أنكم أيها السادة ترون منا أعمالا مهمة؛ إن حلب هي من أقاصي بلاد العرب، ولم يتصل بأهلها ما وقع بيننا وبين الأتراك، وما هو سبب قيامنا ضدهم، إن الأتراك كانوا يشيعون أن الأشراف اتفقوا مع الدول الغربية على بيع البلاد لقاء دريهمات أخذوها منهم، وأخرجوا ضدنا فتاوى ربما اغتر بها بعض البسطاء وصدقها، فنقول في رد وبطلان ما زعمه الأتراك وفيما شيعوه: إن الدين الإسلامي نشأ بقدرة الله تعالى، وانتشر بواسطة محمد النبي العظيم الذي تنسب إليه أسرتنا، فهل يتصور أحد أن أناسا يرضون بهدم ما بناه لهم جدهم من المجد والشرف، نحن لم نقم إلا لنصرة الحق وإغاثة المظلوم.
لقد ساد الأتراك ستمائة سنة هدموا خلالها صرح المجد الذي أقامه أجدادنا، وأرادوا أن يطفئوا نار العرب، ولكنها لم تطفأ؛ لأن العرب عاشت قرونا وأجيالا لم يتسن لغيرها من الأمم أن تعيش مثلها، وكانت العرب تنتظر الفرص لتنتهزها حين سنوحها.
نحن العرب نمنا ستمائة سنة، ولكننا لم نمت، ولما أعلن الأتراك النفير العام أتوا بأعمال تتبرأ منها الإنسانية، لا نرى لزوما لعدها، وكانت العرب تطالب الأتراك بحقوقها، فاغتنموا الفرصة التي مكنتهم من الانتقام من العرب.
ولقد رأى والدي أن دولة الترك لا تعمل لأجل دين أو عمل عام ينفع البلاد، وأنها أعلنت جهادها مع ألمانية لمجرد الانتقام من العناصر الخاضعة لها مثل العرب، وتبين له أن مبادئ الحكومات الغربية المدنية هي مبادئ إنسانية، مبادئ خير، مبادئ نصرة الحق، فاتفق معهم بعد الاتكال على قوة الله تعالى لعلمه أنهم ينصرون الضعيف ويساعدون على إعادة حقوق الأمم المحكومة، وتعاهد معهم على إزاحة حكومة الأتراك واستخلاص ما اغتصبوه منا نحن العرب. وباسم العرب حالف والدي الحكومات الغربية، وقام معهم ضد تركية وألمانية كتفا إلى كتف، لا كما زعم الأتراك من أن قيامنا كان نتيجة مطامع شخصية.
إن الأمم الغربية قد ساعدتنا مادة وستساعدنا معنى، وإني لأتلو عليكم برقية وردت إلي منذ ثلاثة أيام تبين لكم إحساسات الدول الغربية نحونا؛ ليفهم أهل الوطن أننا لم نبع البلاد، ولن نبيعها أبدا.
ثم طلب إلى أمين سره أن يتلو نص البرقية، فقرأ النص الآتي:
إن الهدف الذي ترمي إليه فرنسة وبريطانية العظمى بمواصلتهما في الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني، هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها الترك تحريرا نهائيا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تبني سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارا لا جبرا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم، وتنفيذا لهذه النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في سورية والعراق اللتين أتم الحلفاء تحريرهما، وفي البلاد التي يواصلون العمل على تحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلا.
والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات قبول نظام معين من النظامات، وإنما همهم أن يحققوا معاونتهم ومساعدتهم النافعة ... وأن يقيموا لهم قضاء عادلا واحدا للجميع، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد وتقدمها اقتصاديا، وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجعيها، وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما استخدمته السياسة التركية.
وعلق الشريف على هذه البرقية بقوله: لا شك في أن هذه البرقية هي من النبذ التاريخية العظيمة، وأنها تنم عن شواعر عالية، وحسيات عالية، لا يقوم العرب بأداء واجب الشكر عليها إلا بتحقيق أماني هذه الدول، وهي تشكيل حكومة عادلة قوية تحفظ حقوق جميع أهل هذه البلاد.
أيها الإخوان: إننا اليوم في موقف حرج، فالأمم المتمدنة وحلفاؤنا ينظرون إلينا بنظر الإعجاب والتقدير، وأعداؤنا يرمقوننا بعين الانتقاد، ولقد خرج الأتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل الصغير، لا حكومة ولا جند، ولا معارف، والسواد الأعظم من الشعب لا يفقهون من الوطنية والحرية، ولا ما هو الاستقلال، حتى ولا ذرة من كل هذه الأمور؛ وذلك نتيجة ضغط الأتراك على عقول وأفكار العامة، فلذا يجب أن نفهم هؤلاء الناس قدر نعمة الاستقلال، ونسعى إن كنا أبناء أجدادنا لنشر لواء العلم؛ لأن الأمم لا تعيش إلا بالعلم والنظام والمساواة، وبذلك نحقق آمال حلفائنا.
وأحض إخواني العرب على اختلاف مذاهبهم بالتمسك بأهداب الوحدة والاتفاق، ونشر العلوم، وتشكيل حكومة نبيض بها وجوهنا؛ لأننا إذا فعلنا كما فعل الأتراك نخرج من البلاد كما خرجوا، لا سمح الله، وإن فعلنا ما يقضي به الواجب يسجل التاريخ أعمالنا بمداد الفخر.
إنني أقل الناس قدرا وأدناهم علما، لا مزية لي إلا الإخلاص. وإنني أكرر هنا ما قلته في جميع مواقفي بأن العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد، وأن الديانات تأمر كلها باتباع الحق والأخوة، فمن يسعى لإيقاع شقاق بين المسلم والمسيحي والموسوي فما هو بعربي.
أيها الإخوان: أقسم لكم بشرفي وشرف عائلتي، وبكل مقدس ومحترم عندي، بأنه لا تأخذني في الحق لومة لائم، ولا أحجم عن مجازاة من يتجرأ على ذلك، فلا أعتبر الرجل رجلا إلا إذا كان خادما لهذه التربة.
وعندنا - والحمد لله - رجال أكفاء كثيرون، ولكنهم مقيمون خارج الديار وفي بلاد الأتراك، وسيأتون قريبا - إن شاء الله - فيصلحون الخلل الموجود هنا، ولا يجدر بنا أن نتقاعس عن العمل ريثما يأتون، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وعلينا أن نبتدئ بدون أن ننظر للمرء من حيث شرف عائلته وخصوصيته، بل ننظر إلى الرجل الكفء، شريفا كان أو وضيعا؛ إذ لا شرف إلا بالعلم، والإنسان يخطئ فإذا ما أخطأت فسامحوني وبينوا لي مواطن خطئي.
وبما أن أغلب الأفراد يجهلون قدر نعمة الاستقلال - كما بينت لكم - فلا يبعد أن يحصل في بعض المحلات ما يخل بالأمن، فالحكومة مجبورة على تطبيق معاملاتها على القانون العسكري العرفي مدة الحرب، ريثما يتم تشكيل حكومة منتظمة.
وأرجو إخواني أهل البلاد أن ينظروا إلى الحكومة نظر الولد البار للوالد الشفيق، ويساعدوها جهد طاقتهم، ويعلموا أن الحكومة مشارفة على أعمال الأفراد والموظفين، وإن الحكومة في طورها الجديد بحاجة لإيجاد قوة تحفظ كيانها، فكل من يريد أن يعبث بأوامرها ويخل بمقرراتها يستهدف ليدها القوية.
الدرك والشرطة هما قوام البلاد، وبدونهما لا تنتظم أحوال الحكومات؛ لذلك أطلب من الجميع - وخصوصا الشبان - أن ينتظموا بهما، وألا يتأخر أحدهم عن خدمة وطنه وبلاده بدون النظر لموقعه العائلي.
أيها الإخوان: إن العرب أمم وشعوب مختلفة باختلاف الأقاليم، فالحلبي ليس كالحجازي، والشامي ليس كاليماني؛ ولذا قد قرر والدي أن يجعل البلاد مناطق يطبق عليها قوانين خاصة بنسبة أطوار وأحوال أهلها، فالبلاد الداخلية يكون لها قوانين ملائمة لموقعها، والبلاد الساحلية أيضا يكون لها قوانين طبق رغائب أهلها.
وسأنظر، بأعجل وقت، في شئون الأوقاف والكنائس ورد حقوقها المغصوبة من قبل الأتراك، ونعطي كل ذي حق حقه.
أيها الإخوان: إنكم أعطيتموني البيعة بمنتهى الإخلاص والرضا، فأقابلها بالقسم العظيم؛ إني لا أفتأ عن نصرة الحق ورد الظلم وكل ما يرفع شأن البلاد، وأرغب إلى الأهالي أن يؤازروني بالعمل في خدمة الجامعة، إلى أن يلتئم مجلس الأمة، فأقول حينئذ: هذه بضاعتكم ردت إليكم.
إن حلب خالية الآن من المدارس، فأتمنى لها مستقبلا علميا باهرا كما كانت عليه في التاريخ.
وأرجوا أخيرا صرف الهمة والفعالية إلى أمرين مهمين:
أولهما:
حفظ الأمن العام.
وثانيهما:
ترقية المعارف، فوالله لا يمتاز أحد عندي إلا بفضله وعرفانه.
وأعلمكم أنني عند مروري من حماه أثرت همة الأهالي بكلمات وجيزة للعناية بالعلم وافتتاح المدارس، وبجلسة واحدة تبرع بضعة أشخاص بأربعة آلاف جنيه، ووعد آخرون بإبلاغه إلى اثني عشر ألف جنيه. وسأستدعي حضرات الأهالي بحفلات خاصة للعناية بهذا المشروع الهام، ومشروع العلم روح البلاد، ونفع العباد، ويمتع الأمة بالحياة الرغيدة.
1
هذا خطاب ممتع يعيد إلى ذاكرتنا خطب القادة العرب الكبار أمثال الإمام علي، وأبي جعفر المنصور، ومعاوية، والهادي، والرشيد؛ لما انتظم عليه من أساليب الإدارة الصالحة، والحكم الرشيد، والتواضع، والحزم، والأخذ بأساليب السياسة، والسير في مدارج الحضارة والرقي ، والدعوة إلى التعلم والتآخي، ونبذ روح التعصب والفرقة بين أجزاء الأمة الواحدة، وهو وإن اشتمل على بعض مقاطع تدل على وثوق بالدول الغربية، وميل إلى سياستها؛ فإنها أمور اقتضتها الظروف آنئذ، وإلا فإن المعروف عن فيصل - رحمه الله - أنه كان من أشد بني هاشم شكيمة، وأصلبهم عودا في القضايا القومية، وعدم التفريط بحقوق قومه، ولكنها السياسة تضطر المرء كثيرا إلى المداورة والمداراة والمجاراة.
الفصل الثالث
الحكم على نتائج الثورة العربية
كان من نتائج الثورة العربية الميمونة أن استقلت الجزيرة العربية استقلالا كاملا، فاستراح الحجاز واليمن ونجد من الظلم التركي نهائيا، وعاش أبناء هاتيك البلاد في سكينة وهناء ينعمون بنعمة الاستقلال، وقد اعترف لهم الحلفاء بهذا الاستقلال التام.
أما بلاد الشام والعراق، فإنها وإن لم تتخلص من رجال الاستعمار الغربيين نهائيا، فإنهم اعترفوا لها بكيانها القومي ولغتها العربية؛ يقول الأمير مصطفى الشهابي: «إن الثورة العربية كانت في اليقظة الحديثة أول عمل عظيم نهض به العرب لاسترداد حريتهم السليبة، وقد أدت هي وعوامل أخرى إلى استقلال الحجاز ونجد واليمن استقلالا تاما، وإلى اعتراف الحلفاء للعرب بكيانهم القومي وبلغتهم العربية في الشام والعراق ، والذي يقدر له أن يبتلى بحكم الأتراك، وأن يعيش معهم بلا قومية ولا لغة؛ يدرك ما لمثل هذا الاعتراف من شأن في حياة الأمم، فالثورة المذكورة لم تبلغنا كل ما كنا نبتغيه منها، ولكنها حققت جانبا من أهدافنا القومية، وعلمتنا كيف نسعى في تحقيق الجانب الآخر، وجعلت خصمنا في الشام والعراق دولتين استعماريتين كان لهما مطامع سياسية في ذينك القطرين، ولكن لم يكن لهما مطامع قومية كالمطامع التي كانت للحكومة التركية؛ فقد كنا مع الأتراك فاقدين للسيادة الداخلية والخارجية، وكنا فوق ذلك غير معترف لنا بلغتنا وبقوميتنا، وكنا مساقين إلى التترك، فأصبحنا مع الدولتين المذكورتين معرضين لفقد السيادة فحسب، وكلا الوضعين كان شرا، ولكن بعض الشر أهون من بعض. ولما كان من غير الجائز لأمة حية أن تقبل بفقد سيادتها، أي بتسلط دولة أجنبية على شئون الحكومة في بلادها، سرعان ما بدأ القتال المرير بيننا وبين إنكلترة وفرنسة على السيادة في العراق وفي الشام.»
1
وهذا قول حق؛ فإن الحركة الثورية التي قام بها الحسين وأحرار العرب كانت واجبا قوميا؛ لأن الذين عاشوا تحت الحكم التركي وذاقوا مرارته ورأوا فلذات أكبادهم تموت في العراء، ولغتهم تمتهن، وكرامتهم تداس، آمنوا بضرورة القيام بتلك الحركة، ولو لم تكن الضمانات التي أخذها الحسين من الحلفاء ضمانات قاطعة تعترف بالاستقلال العربي التام في دنيا العروبة كلها.
نحن نؤمن بأن الموقف الذي وقفته الدول الغربية - وبخاصة بريطانية وفرنسة - من الحركة العربية، قد كان موقفا شائنا لئيما، ولكن!
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبا
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
إن الحلفاء كانوا قد ملئوا الدنيا ضجيجا بأنهم قوم منصفون، وأنهم سيضمنون للدول التي تناضل معهم ضد الأتراك والألمان الظالمين، الحرية والاستقلال والسعادة والكرامة.
قال أرستيد بريان رئيس الوزارة الفرنسية في خطاب تاريخي ألقاه في مجلس النواب الفرنسي يوم 3 تشرين الثاني سنة 1915: «إن فرنسة تقوم والسيف في يدها للدفاع عن المدنية واستقلال الشعوب، وعندما تعيد السيف إلى قرابه تكون قد ضمنت للعالم سلاما موطدا بعيد المدى، وليس وراء هذا السلام فكرة ما للتسلط الغاشم، بل وراءه فكرة تمتع الشعوب بحريتها، واستقلالها في شئونها الداخلية، وتقدمها في مضمار المدنية؛ هذا هو السلام الذي يسير إليه جنود فرنسة.»
وقال لورد غراي رئيس الوزارة البريطانية في خطاب له ألقاه في حفلة تكريم أقامتها له الجمعية الصحافية الأجنبية يوم 18 تشرين الأول سنة 1916: «سنناضل حتى يتغلب الحق على القوة، وحتى نضمن حرية دول العالم كله كبيرة كانت أو صغيرة، كما نضمن تساويها وتقدمها على حسب استعدادها.»
إذا كان هذان الوزيران المسئولان ينطقان بمثل هذه الأقوال ويمنيان الأمم المغلوبة بالحرية والسيادة، وهناك أقوال وتصريحات كثيرة لمسئولين بريطانيين وفرنسيين كلها تنطق بالعدل والحرية والمساواة، فما ذنب أحرار الأمم المغلوبة إن وثقوا بهذه الأقوال الصادرة عن رجال مسئولين، وظنوا أنهم قوم شرفاء يحرصون على سمعة بلادهم ويضنون بكرامتها أن تمتهن وتلطخ سمعتها بالعار وسمة الكذب والافتراء والتضليل.
يقول المرحوم الشيخ فؤاد الخطيب شاعر الثورة العربية من قصيدة له:
حي الشريف وحي البيت والحرما
وانهض فمثلك يرعى العهد والذمما
يا صاحب الهمة الشماء أنت لها
إن كان غيرك يرضى الأين والسأما
واسمع قصائد ثارت من مكامنها
إن شئتها شهبا أو شئتها رجما
من شاعر عربي غير ذي عوج
قد بارك الله منه النفس والكلما •••
يا آل جنكيز إن تثقل مظالمكم
على الشعوب فقد كانت لهم نعما
فالظلم أيقظ منهم كل ذي سنة
ما كان ينهض لولا أنه ظلما
أرهقتم الشعب ضربا في مفاصله
حتى استفاق وسل السيف منتقما
فالشنق عن حنق منكم وموجدة
قد أرهف العزمات الشم والهمما
هيهات يصفح عنكم أو يصافحكم
حر ولو عبد الطاغوت والصنما
يا ابن النبي وأنت اليوم وارثه
قد عاد متصلا ما كان منفصما
والتف حولك أبطال غطارفة
شم الأنوف يرون الموت مغتنما
فاصدم بهم حدثان الدهر مخترقا
سدا من الترك إن تعرض له انهدما •••
يا من ألح علينا في ملامته
بعض الملام وجرب مثلنا الأمما
لو كان من يسمع الشكوى كصاحبها
مضنى لما ضج بالزعم الذي زعما •••
إيه بني العرب الأحرار إن لكم
فجرا أطل على الأكوان مبتسما
يستقبل الناس من أنفاسه أرج
ما هب في الشرق حتى أنشر الرمما
تلك الحياة التي كانت محجبة
في الغيب لا سأما تخشى ولا سقما
سارت مع الدهر من بدو ومن حضر
حتى استتبت فكانت نهضة عمما
من ذلك البيت من تلك البطاح على
تلك الطريق، مشت أجدادنا قدما
لستم بنيهم ولستم من سلالتهم
إن لم يكن سعيكم من سعيهم أمما
إلى الشآم، إلى أرض العراق، إلى
أقصى الجزيرة، سيروا واحملوا العلما
إن هذه القصيدة تنطق بالحالة التي كان عليها أحرار العرب ومثقفوهم والجيل الصاعد آنئذ، فلا يلومنهم لائم لأنهم وثقوا بأقوال الغربيين وأعلنوها ثورة على دولة الخلافة، دون الاستيثاق منهم، فإنه:
لو كان من يسمع الشكوى كصاحبها
مضنى لما ضج بالزعم الذي زعما
الفصل الرابع
الشام والعراق والجزيرة بعد الثورة العربية
ما إن استقر الشريف فيصل في سورية حتى ألف الحكومة العربية على الشكل الذي أشرنا إليه سابقا، وأراد أن يسير بالبلاد سيرا استقلاليا، فأرسل حاكما من قبله إلى الشمال جعل مقره في حلب، وأرسل حاكما ثانيا إلى الغرب جعل مقره في بيروت في سنة 1918م، ولكن الحلفاء الغربيين لم يرقهم هذا التصرف، وسفروا عن نواياهم الاستعمارية، وأظهروا اتفاقا كانوا عقدوه فيما بينهم في 9 أيار سنة 1916م عرف باتفاق سايكس-بيكو، قسموا بموجبه البلاد العربية إلى مناطق نفوذ، فاستقلت إنكلترة بفلسطين وما إليها من بلاد الأردن، واستقلت فرنسة بالساحل السوري من حدود صور في لبنان إلى حدود جبال اللكام وميناء الإسكندرونة.
ولما رأى الأمير فيصل وإخوانه في دمشق هذا التعدي السافر أعلنوا غضبهم على الحلفاء، وأخذوا يعدون العدة للدفاع عن حقوقهم في مؤتمر الصلح الذي عقد في باريس عقب إعلان الهدنة في 11 تشرين الثاني سنة 1918م، وسافر الأمير فيصل إلى باريس مفوضا من قبل والده الملك حسين وأحرار العرب، كما سافر معه نفر من زعماء الحركة مثل السيد محمد رستم حيدر وبعض المستشارين، ولما وصلوا باريس عارضت الحكومة الفرنسية بقبول الأمير فيصل والسيد حيدر عضوين في المؤتمر، ولكن الحلفاء وجدوا أنفسهم مضطرين إلى قبولهما عضوين رسميين؛ لأنهما كانا يمثلان مملكة الحجاز التي غدت إحدى الدول الحليفة والمؤسسة لعصبة الأمم، والسبب في موقف فرنسة هذا الموقف أنها كانت تبيت الاستيلاء على سورية كلها، وعدم الاكتفاء بما أعطته إياها معاهدة سايكس-بيكو، من جعل القسم الداخلي لسورية دولة عربية يتولى أمرها الأمير فيصل ويكون تحت انتدابها. ولكن فيصلا أبى إلا أن يكون مستقلا بالبلاد كلها، فأسس مملكته على أسس الاستقلال الصحيح الكامل، ولما وقف في مؤتمر الصلح بباريس يوم 1 كانون الثاني سنة 1919م، وقدم مذكرته إلى المؤتمرين، طالب باستقلال البلاد العربية كلها من أقصاها إلى أقصاها، على أن تشكل ولايات متحدة عربية، ولكن الفرنسيين والبريطانيين دفعوا بعض أذنابهم من خونة العرب، يطالبون ببقاء الدول الغربية في البلاد، مثل شكري غانم رئيس ما أسماه «الجمعية السورية بباريس»، ومثل بعض اللبنانيين الذين طالبوا بإشراف فرنسة على بلادهم.
وكان جو المؤتمر مكفهرا بالنسبة لمطالب العرب القومية، فاجتمعت لجنة الأربعة، وهي تضم: ولسن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ولويد جورج رئيس وزارة بريطانية، وكليمنصو رئيس وزراء فرنسة، وأرلندو رئيس وزراء إيطالية، فقررت بأكثرية آرائها - وباستثناء رأي الرئيس ولسن - وجوب إبقاء البلاد العربية تحت الحماية الفرنسية والبريطانية. وقرر المؤتمر في 30 كانون الثاني سنة 1919 قرارا يقضي بأن تفصل سورية، ولبنان، والعراق، وفلسطين، وأرمينية، عن الحكومة التركية، وبأن تشرف على هذه الولايات دولة وصاية تديرها باسم عصبة الأمم.
وقد عارض الرئيس ولسن ذلك، ورفض الاعتراف بالمعاهدات السرية بين الحلفاء القاضية بتقسيم تركية بين إنكلترة وفرنسة وإيطالية، وطالب الرئيس ولسن بإرسال «لجنة استفتاء» تستطلع رأي الأهلين في العراق والشام، كما نصت المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، فرفضت إنكلترة وفرنسة ذلك، كما رفضتا الاشتراك في عضوية هذه اللجنة لنواياهما السيئة، وهكذا تألفت لجنة الاستفتاء من المستر كرين والمستر كينغ وبعض المستشارين والملحقين الفنيين، وقدمت إلى سورية في حزيران سنة 1919، وخرجت من الاستفتاء الذي قامت به بنتيجة لم تشذ عن قرار المؤتمر السوري، وهو: الاستقلال التام لسورية بحدودها الطبيعية، على أن تكون ملكية نيابية لا مركزية. وإذا كان لا بد من وصاية على الرغم من أهلها، فلتكن تلك الوصاية أميركية، وإلا فبريطانية. ورفضوا فرنسة رفضا باتا، كما رفضوا مطاليب الصهيونيين بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
ولم تسمح الحكومة البريطانية للجنة بالدخول إلى العراق، كما رفضت هي والحكومة الفرنسية قبول قرار لجنة الاستفتاء، ورجع الأمير فيصل إلى سورية وأعلن للناس نوايا الغربيين، وأن بريطانية ترفض الانتداب على سورية، وأنها قررت سحب جنودها من سورية وإحلال الجنود الفرنسيين محلهم.
ثم اجتمع مجلس الصلح الأعلى في مدينة «سان ريمو» ما بين 19 و26 نيسان سنة 1920، فأبرم اتفاقا بين فرنسة وبريطانية بتقسيم الانتدابات في دول الشرق الأدنى، فكانت سورية ولبنان وقليقية من نصيب فرنسة، وكانت فلسطين والأردن والعراق من نصيب بريطانية؛ وأن تتنازل فرنسة لإنكلترة عن ولاية الموصل.
ولما أبرمت هذه الاتفاقات رأى الأمير فيصل أن الدول الغربية قد خانت العهود، وأن أميركا لا يمكنها أن تقوم بنصرة العرب، فاتصل مجددا بالبريطانيين فأفهموه بوجوب اتصاله بالفرنسيين، ومهدوا له سبيل المفاوضة مع الرئيس كليمنصو، فسافر إلى باريس واجتمع إلى كليمنصو، وبعد جلسات عديدة ومحاولات كثيرة تم التفاهم بينهما على مشروع اتفاق علق فيصل إبرامه على قبول الشعب السوري له، ولما عرضه على أعضاء المؤتمر السوري الذين يمثلون البلاد السورية واللبنانية والفلسطينية أصدق تمثيل، رفضوه بالإجماع في كانون الثاني سنة 1919م؛ لأنه كان مشروعا استعماريا لم يعترف لسورية باستقلالها المطلق، ولا لسكانها بالسيادة التامة، بل اعترف «للأهلين الناطقين بالعربية والقاطنين في أرضها من جميع المذاهب، أن يتحدوا ويحكموا أنفسهم بأنفسهم على أنهم أمة مستقلة!» كما ينص على أن السلطات الفرنسية تشرف على إدارة البلاد فعليا بتسمية مستشارين في كافة دوائر الدولة يصرفون أمورها، ولا يعترف المشروع لسورية بالتمثيل السياسي، ولا يحق لها بموجبه قبول الممثلين السياسيين، ولا أن تكون حرة في برامج التعليم، بل تطبق البرامج التي تسميها السلطات الفرنسية، ويكون تدريس اللغة الفرنسية إجباريا.
ولم يرد في المشروع شيء عن الساحل السوري؛ لأن فرنسة كانت تنوي فصله عن الداخل، كما لم يرد فيه شيء عن حدود لبنان؛ لأن فرنسة كانت تنوي اقتطاع أجزاء من سورية وضمها إليه.
1
وصفوة القول أن هذا المشروع كان صك انتداب، بل استعمار لو قبل به فيصل أو الساسة السوريون لطوقوا بلادهم بطوق من الحديد والعار، ولما رأى الفرنسيون أن فيصلا وأحرار سورية يأبون الخضوع لهم، أتموا مؤامرتهم مع بريطانية، فسحبت هذه قواها من سورية، وسمت فرنسة الجنرال غورو حاكما عسكريا لدول الشرق، وأمدته بالمال والسلاح والجند، ورجع فيصل إلى سورية واجتمع إلى أعضاء المؤتمر السوري، وتذاكروا في الأمر فأقروا الأمور الآتية: (1)
استقلال البلاد السورية بحدودها الطبيعية، ومنها فلسطين، استقلالا تاما. (2)
تكون الحكومة مدنية نيابية، لا مركزية ضامنة لحقوق الأقليات. (3)
ينادى بسمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك حسين ملكا دستوريا على سورية، ويلقب بصاحب الجلالة الملك فيصل الأول. (4)
تراعى أماني اللبنانيين الوطنية في إدارة شئون لبنان ضمن حدوده المعروفة قبل الحرب العامة، على أن يكون في معزل عن كل تأثير أجنبي فيه. (5)
ترفض مزاعم الصهيونيين في جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود أو محل هجرة لهم. (6)
بالنظر إلى ما بين الشام والعراق من الصلات والروابط اللغوية والتاريخية والاقتصادية والجنسية والطبيعية، مما يجعل أحد القطرين لا يستغني عن الآخر، فالمؤتمر يطلب استقلال العراق استقلالا تاما، على أن يكون بين القطرين الشقيقين اتجاه سياسي اقتصادي.
وقد أعلنت هذه المقررات في الثامن من آذار سنة 1920م، الموافق ليوم 17 جمادى الثانية سنة 1338ه، وبويع الملك فيصل على عرش سورية، ورفع العلم الجديد، وهو علم الثورة السورية ذو الألوان الثلاثة، يجمع بينها مثلث أحمر، وأضيفت إليه نجمة، واتخذ السوريون هذا اليوم عيدا قوميا. وما إن بلغت هذه الأخبار مسامع الفرنسيين حتى جن جنون الجنرال غورو، فأمر قواته بالسير إلى بيروت لاحتلال رياق وبعلبك وشتورة، ثم جهز جيشا قويا وبعث بإنذار شفهي إلى الملك فيصل يوم 11 تموز سنة 1920م طالبه فيه بقبول الانتداب الفرنسي على سورية بلا قيد ولا شرط، وإيقاف التجنيد الإجباري ، وقبول العملة الورقية التي أصدرها جيش الاحتلال الفرنسي في لبنان، والسماح للجيش الفرنسي القادم من قليقية باحتلال حلب. ولم ينتظر جواب الملك على إنذاره، بل أمر جنده بالزحف على دمشق، وبعث إلى الملك فيصل إنذارا مكتوبا يوم 14 تموز، فجمع الملك أعضاء وزارته فرآهم منقسمين إلى قسمين: قسم يرى قبول الإنذار، وقسم يرى وجوب إهماله. وبعد مذاكرات طويلة قر رأيهم على قبول الإنذار؛ لأن مقاومتهم تكون ضربا من العبث لعدم تكافؤ الجانبين، ولكن غورو لم يكتف بقبول الإنذار، بل أصر على تنفيذ مطاليبه، ثم أمهل الحكومة السورية إلى منتصف ليلة 20 تموز سنة 1920م، وإلا زحف الجيش على دمشق، فقبلت الحكومة هذا الإنذار، وسرحت جيشها، وأعطى الملك فيصل في الساعة السادسة من بعد ظهر يوم 20 تموز كتابا مطولا يشتمل على طريقة تنفيذ الإنذار، وسلم هذا الكتاب إلى ضابط الارتباط الفرنسي «كوس»، فأبرق هذا إلى الجنرال غورو بقبول الحكومة للإنذار، ولكن البرقية لم تصل إلى غورو؛ لأن موظف البرق رفض استلامها بحجة انقطاع الخطوط، فزحفت جيوشه إلى دمشق صباح يوم 20 تموز، واضطرت الحكومة السورية إلى الدفاع عن العاصمة، فلم تستطع أن تجمع أكثر من بضع مئات من الجند النظامي وألفين من المتطوعين، مع أن الجيش الفرنسي كان مؤلفا من لواءين من جنود السنغال، ولواء من الفرسان المراكشيين، وأربعة من أفواج من المشاة الجزائريين، وسبع بطاريات من المدفعية. وجرت بين الطرفين معركة في «عقبة الطين» غربي ميسلون يوم 24 تموز سنة 1920م، فاستشهد وزير الدفاع يوسف العظمة، وارتدت القوات السورية، ودخل الجيش الفرنسي، ثم زحف نحو حمص وحماه وحلب واستولى على البلاد السورية استيلاء تاما.
ثم طلب غورو من الملك فيصل أن يغادر البلاد، فتركها وهو آسف، وسرح الفرنسيون فلول الجيش السوري واستولوا على أسلحته وألغوا وزارتي الحربية والخارجية، وأقاموا في دمشق مندوبا عن المفوض السامي الفرنسي المقيم في بيروت ومستشارين في كل الوزارات والدوائر، فكانوا هم الحكام الحقيقيين، ثم قسموا دوائر الدولة إلى قسمين: قسم جعلوه تحت إشرافهم المباشر كالجمارك، ومراقبة الشركات الأجنبية، وأحوال المدارس والمعاهد الأجنبية، ومصالح الحدود والبادية، ودوائر الأمن العام، وشئون السياسة الخارجية، ودوائر الجوازات، والجيش، ودوائر البارود والمفرقعات، والمحاجر، والمخترعات. والقسم الثاني سلموه للسوريين وجعلوا في دوائره مستشارين يشرفون على تنظيمه، وهي: دوائر الداخلية، والمالية، والمعارف، والعدل، والأشغال العامة، والأوقاف، والاقتصاد الوطني، والصحة، والإسعاف، والبيطرة، والزراعة، والشرطة، والدرك، والبرق والبريد، والمصالح العقارية، وأملاك الدولة، والقضاء الشرعي.
وأقاموا في البلاد إلى جانب الجهاز الحكومي «جهاز المفوضية العليا ودوائرها»، جعلوا مركزه الرئيسي في بيروت، وأقاموا له فروعا في دمشق وحلب وسائر المحافظات والأقضية. وكانت دوائر هذا الجهاز هي دوائر الحكام الحقيقيين، وقد تبع هذه الدوائر عدد كبير من التراجمة، تسلطوا على الأهلين تسلط الجلادين القساة، وأذاقوهم الأمرين طوال فترة الانتداب الفرنسي البغيض.
وحين غادر الملك فيصل سورية عهد برئاسة الوزارة إلى علاء الدين الدروبي، على أن يختار هو وزراءه، ولما بلغ الملك حوران أبرق إليه الدروبي بوجوب مغادرته البلاد فورا، وإلا ضربت الطيارات مدن حوران، فاضطر جلالته إلى السفر إلى الأردن فالعراق.
أما الأردن فقد جعل إمارة تشتمل على بلاد عجلون والصلت وعمان ومعان، وعلى رأسها الأمير عبد الله بن الحسين، وقد دعيت: «إمارة الشرق العربي».
وأما فلسطين فجعلت بريطانية لها حكومة مختلفة يرأسها مندوب سام بريطاني: هو هربرت صموئيل، على أن يكون له الإشراف أيضا على إمارة المشرق العربي. وشكلت الحكومة البريطانية في فلسطين مجلسا أسمته مجلس الشورى، مؤلفا من عشرين عضوا؛ نصفهم من رجال دوائر الحكومة، ونصفهم من الأهلين، وهم أربعة من المسلمين وثلاثة من كل من النصارى واليهود، وعمل هذا المجلس استشاري بحت.
وأما العراق فقد وضع تحت الانتداب البريطاني بموجب مقررات مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو بنيسيان سنة 1920م، وأخذت قوى الاحتلال البريطاني تحكمه حكما مباشرا، فاضطرب أحراره وأعلنوا الثورة على بريطانية، وتزعم الحركة شبان «جمعية العهد» و«جمعية حرس الاستقلال»، والتهب العراق كله - وبخاصة القسم الجنوبي - وفتك بالجيش البريطاني في عدة معارك اضطرت بعدها بريطانية أن تنظر إلى الشعب العراقي نظرة تقدير. وقرر المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس بعد مشاورة حكومة ملكه في 20 حزيران سنة 1920م تأليف مجلس شورى، والاعتراف للعراق بالسيادة الوطنية وبكونه عضوا في جمعية الأمم، على أن تنوب عنه بريطانية ويكون الجيش البريطاني هو المسئول عن أمن العراق. فلم يرض أحرار العراق بهذا الحل الهزيل، وظلت البلاد مضطربة، إلى أن اعتلى عرشها الملك فيصل في 22 آب سنة 1922م، فبدأ شكل الحكم يتغير تغيرا ملموسا نحو السيادة القومية، وكانت حكومة العراق حكومة ملكية ديموقراطية برلمانية تتألف السلطة التشريعية فيها من مجلسين، هما: مجلس النواب، ومجلس الأعيان. وتضمنت المادة الأولى المعاهدة الموقعة بين ملك العراق وملك بريطانية، ما يضمن العمل على إنشاء حكومة مستقلة ذات سيادة تامة في العراق، وكان من أبرز هذه السيادة الاعتراف بمبدأ التمثيل الخارجي في حواضر العالم ولدى جمعية الأمم.
الفصل الخامس
الحالة العامة في مصر والسودان
لما ظهرت الحركة الوهابية في جزيرة العرب وقوي أمرها - على ما بيناه سابقا - خشيت الدولة العثمانية من امتداد نفوذها إلى الشام والعراق، والقضاء على النفوذ العثماني فيهما، فطلبت الدولة من واليها على العراق أن يقف أمام الخطر الوهابي، فحاول ذلك مرات ولكنه فشل، فطلبت إلى واليها على الشام أن يعمل على محاربة الوهابيين فلم يفلح كذلك، وطلبت الدولة من واليها على مصر أن يقوم بهذه المهمة، فبعث ابنه طوسون، ثم كتب إلى الدولة يطلب إليها أن تضم إليه ولاية الشام؛ ليستعين بها في حرب الوهابية، ولأن الشام قريبة من «الدرعية» عاصمة الوهابية. ولكن الدولة تنبهت إلى أن طلب محمد علي هذا يخفي وراءه التوسع، فأبت عليه ذلك إلى أن أتم السيطرة على الجزيرة العربية كلها.
وكان محمد علي قد أوجد في مصر جيشا قويا أثبت وجوده في الحملة على جزيرة العرب، وإنما أعد محمد علي هذا الجيش المصري لينفذ به مآربه في إقامة دولة كبيرة تنتظم بلاد العرب كلها، ولكن الدول الغربية وفي طليعتها بريطانية الطامعة بالشرق العربي كله، قد وقفت أمام فكرة محمد علي تحاربها سرا وجهرا.
ولما مات محمد علي سنة 1264ه/1848م خلفه حفيده عباس بن طوسون بن محمد علي، فاستكان للدولة العثمانية، ووضع جيشه تحت تصرفها، وبخاصة في الحرب التي جرت بينها وبين روسية، وقد تلف فيها من أبناء مصر عدد كبير.
ولما مات، خلفه سعيد بن محمد علي في سنة 1270ه/1854م، وكان آخر من ثار سكان الفيوم في عهده لما لاقوه من رجاله من العنف، ففتك بهم شر فتكة، وكانت حركة أهل الفيوم هذه نواة انبعاث الوعي في الشعب المصري ضد حكامه.
ولما مات سعيد، خلفه إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي في سنة 1279ه/1863م، وفي عهده ساءت حالة البلاد اقتصاديا لفساد إدارته وتبذيره، واستولى الفرنسيون والإنكليز على ثروة البلاد، وقبل باستيلائهم على أمور المالية والأشغال العامة وتوليتهما إلى رجلين منهما، ثم استدان من اليهودي روتشيلد مبلغ ثمانية ملايين جنيه ونصف المليون ليعدل ميزان البلاد التجاري، فاستشرى الفساد في مصر، وثار الشعب المصري، ولم تهدأ الثورة الشعبية العارمة إلا بعد أن تخلى عن العرش، فخلفه ابنه محمد توفيق سنة 1296ه/1879م، ولم يكن أحسن سيرة من أبيه، فازداد الوضع الاقتصادي سوءا على سوء، وتعمق تدخل الأجانب في سياسة البلاد والسيطرة على أوضاعها العامة، فكانت الثورة القومية الكبرى التي تولى زعامتها البطل أحمد عرابي؛ وهو فتى قروي أزهري دخل في سلك الجندية، وما يزال يرتقي فيها حتى بلغ رتبة أميرالاي في عهد محمد توفيق، ولما رأى مصالح الأمة قد ديست، وأن روح الاستبداد قد تفشت، وأن الجنود الشراكسة قد استولوا على مقاليد الأمور في مصر عسكريا ومدنيا، وأن وزير الحربية الشركسي (ناظر الجهادية رفقي باشا) قد سلمهم ناصية البلاد، وتعاون معهم على تنحية العناصر الوطنية عن رتب الجيش، ثارت ثائرته هو وإخوانه وتقدموا من محمد توفيق بأمور، منها:
عزل عثمان رفقي من نظارة الجهادية.
وتأليف مجلس نيابي دستوري يعمل على رعاية مصالح الأمة المداسة، ووقف تيار الاستبداد.
ولكن محمد توفيق ورئيس النظار رياض باشا غضبا على أحمد عرابي وإخوانه، فقبض عليهم وقرر محاكمتهم، فهاج إخوانهم في الجيش وخارجه، وأحدقوا بديوان ناظر الجهادية، فاضطر عثمان رفقي إلى أن يفر منه، واضطر محمد توفيق أن يعهد إلى محمود سامي البارودي بنظارة الجهادية، فسكنت الأحوال فترة، ثم ما لبث أن عزله فعادت الثورة من جديد، واضطر محمد توفيق إلى إقالة وزارة رياض باشا وتأليف وزارة برئاسة شريف باشا كان البارودي وزير الدفاع فيها، وأحمد عرابي وكيله. ولم يلبث محمد توفيق أن أقال هذه الوزارة، فعمت البلاد روح الثورة، واضطر محمد توفيق إلى إعادة أحمد عرابي إلى وزارة الجهادية، إلى أن وقعت في الإسكندرية مذبحة كبرى اصطنعها الإنكليز ليتخذوها ذريعة إلى التدخل في شئون البلاد، فضربوا الإسكندرية سنة 1299ه/1882م، واستولوا على التل الكبير بعد عدة معارك بينهم وبين الجيش المصري، ثم دخلوا القاهرة وحلوا الجيش ونفوا أحمد عرابي إلى جزيرة سيلان في سنة 1300ه/1882م حيث مكث 19 عاما، ولم يؤذن له بالعودة إلى أرض الوطن إلا في عهد عباس الثاني في سنة 1319ه، إلى أن توفاه الله سنة 1329ه/1911م بعد أن قام بواجبه القومي خير قيام، وبعث في أمته روح التضحية والإباء على العار والاستكانة.
ولما أعلنت الحرب العامة الأولى، ورأى أبناء مصر تحرك إخوانهم العرب في الجزيرة العربية والشام والعراق للمطالبة بالاستقلال التام، وعانوا من بريطانية أشد الويلات بعد أن أعلنت الحماية في مصر، وأصبح المندوب البريطاني في مصر الحاكم المطلق، وجعلها قاعدة حربية للجيوش الوافدة من أسترالية وأفريقيا الجنوبية، والهند، وكان على تربة مصر أن تقدم المئونة لكل هذه الجيوش بينما يجوع أهلها، ورأوا نحوا من مليون فتى من أبنائها يساقون إلى الخدمة في المعسكرات البريطانية مكرهين، كما رأوا عددا كبيرا من رجالاتهم يساقون إلى النفي والتشريد وفي ظهورهم حراب بريطانية لاعتقالهم في سجون مالطة طوال فترة الحرب، فلما انتهت وانتصر الحلفاء وأعلن الرئيس الأميركي ولسن تأييده لمطالب الشعوب بالحرية وحق تقرير المصير، ورأى الشعب المصري أن حقوقه ما تزال مهضومة، على الرغم من كل تضحياته التي قدمها للحلفاء، أعلن ثورته العارمة الكبرى سنة 1919م، واشتعل القطر المصري كله بنيران الثورة ضد الاحتلال الإنكليزي الظالم، وظلت البلاد في كفاح ونضال؛ حتى عقدت معاهدة سنة 1936م، ولكنها لم تخل من قيود استعمارية ظالمة؛ لأنها: تسلم بوجود قوات أجنبية ترابط في أرضها، مع أن هذا مناف لروح السيادة القومية، وتلزمها ببناء الثكنات والمنشآت للقوى البريطانية.
وتضطرها إلى وضع موانئها البحرية والجوية وجميع طرق مواصلاتها تحت تصرف القوى البريطانية.
إنها لا تنص على شيء يبدل الأوضاع السياسية العامة في السودان، على الرغم من عودة الجيش المصري إلى السودان؛ فقد اعترفت المعاهدة بالوضع الناشئ عن اتفاقية السودان، وهو الوضع الذي جعل من السودان مستعمرة بريطانية من الناحية الواقعية،
1
وواصل الشعب المصري جهاده، ورفعت مصر قضيتها إلى مجلس الأمن الدولي سنة 1947م، ولكنها لم تظفر بتحقيق آمالها القومية، حتى قامت ثورة 23 تموز 1952م وتسلم سكان القيادة جمال عبد الناصر، وكان من أعماله الباهرة في تحقيق الأهداف القومية ما هو معروف. •••
السودان معقل من معاقل القومية العربية تسربت إليه القبائل العربية بعد فتح العرب لمصر في مطلع فجر الإسلام، وازدادت هجرة القبائل العربية إليه بكثرة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر للميلاد، فغدا كله عربي النجار ما عدا القسم الجنوبي منه.
وكان السودان ممتعا باستقلاله تحكمه شيوخ القبائل وزعماء المقاطعات، الذين كانوا يخضعون لحكومة محمد علي في مصر ويحكمون البلاد باسمها، ويذيقون الأهلين الويلات، ويرهقونهم عسفا؛ إلى أن ظهر المهدي محمد بن عبد الله الذي ولد في مقاطعة دنقلة حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وكان شديدا في دينه، قويا في دعوته، فانضوى تحت لوائه جمهرة كبيرة من مريديه، وشد عضده في حركته صديقه وخليفته من بعده الشيخ عبد الله بن محمد الفقيه التعايشي، وجاب المهدي السودان من أقصاه إلى أقصاه، فرأى سوء وضعه من النواحي الاقتصادية والإدارية، ورأى الفساد المستشري في مقاطعاته، وشكا الأهلون ما يلاقونه من الجباة الذين يتقاضون الضرائب الباهظة من الشعب السوداني باسم الأسرة العلوية حاكمة مصر، فلفت المهدي أنظار رءوف باشا إلى هذا العسف، ولكن رءوفا لم يلتفت إليه وأمره في مطلع عام 1881م أن يمثل بين يديه في الخرطوم، فرفض المهدي طلبه وأعلنها ثورة عارمة ونادى بنفسه سيدا على السودان، ودحر قوات رءوف باشا واستولى على السودان كله بسرعة خاطفة.
وفي سنة 1883م حاولت الحكومة البريطانية - وكانت قد احتلت مصر في سنة 1882م كما أسلفنا - السيطرة على السودان أيضا، ولكنها لم تفلح فتظاهرت بأنها تعطف على حركة المهدي. ولما مات المهدي وخلفه التعايشي سنة 1885م، عزمت على احتلال السودان بالقوة، وبعثت حملة قوية باسم مصر قادها اللورد كتشنر، وتم لها القضاء على التعايشي في سنة 1889. وعقدت الحكومة المصرية اتفاقا سنة 1899م تقرر بموجبه أن تحكم الدولتان المصرية والبريطانية السودان حكما ثنائيا مشتركا،
2
ولكن الحكومة البريطانية استبدت بالحكم إلى أن كانت حادثة قتل «سر دارها» في سنة 1924م، فتخلص نهائيا من السيطرة المصرية، ولم تبق لمصر فيه إلا رسوما شكلية، وعزلت المديريات الثلاث الجنوبية عن شمالي السودان؛ محاولة بذلك فصل الجزء العربي عن الجزء غير العربي، ومنعت نشر الدين الإسلامي في هذه المديريات، وسهلت للمبشرين الأجانب بنشر المسيحية، ولكن الوعي القومي في جميع السودانيين من عرب وغيرهم وقف بالمرصاد أمام المطامع الاستعمارية حتى استقل السودان على ما هو معروف.
الفصل السادس
الحالة في شمال أفريقيا
رأينا في الفصل الخامس بتاريخ شمال أفريقيا من «عصر الانحدار» أن المغرب العربي كان قبل سنة 1261ه تحت سلطان دولة الموحدين القوية التي وحدت بلاد المغرب كلها من حدود برقة إلى المحيط الأطلسي، ولما أن انحلت عراها قام مقامها في المغرب دويلات صغيرة ضعيفة متنابذة في الجزائر وتونس ومراكش وليبيا، وكانت هذه الدول الصغيرة تتناحر تناحرا أطمع دول الاستعمار الغربي فيها. وكان الإسبان والبرتغال أنشط تلك الدول الاستعمارية في مد يدهم إلى المغرب العربي، وقد حاول المغاربة وقف سيل الاستعمار المنحدر نحوهم من الساحل الأوروبي، فلم يستطيعوا وقفه، وتمكن الإسبان من الاستيلاء على أكثر ثغور تونس والجزائر وطرابلس، كما تمكن البرتغال من الاستيلاء على بعض ثغور المغرب الأقصى في مراكش، وأخذ الإسبان والبرتغال يسيئون معاملة الأهلين، فاستغاثوا ولا مغيث، ولمع في تلك الفترة نجم أخوين مغربيين كانا يمتهنان القرصنة في البحر الأبيض المتوسط، وهما خير الدين باربروس (أي ذو اللحية الحمراء) وأخوه عروج، ولما قوي نفوذهما، وكثرت أموالهما من أعمال القرصنة في السواحل الإيطالية والإسبانية والبرتغالية، وقويت شوكتهما عمدا إلى الاستقرار وأسسا إمارة غنية قوية، ثم مات عروج وانفرد باربروس، فالتف الناس من حوله وألف جيشا قويا استطاع أن يهزم به الإسبان من قلاع الجزائر، ووطد ملكه فيها، ثم أخذ يتوسع نحو الشرق والغرب في شمال أفريقية.
ثم رأى أن يتصل بالسلطان سليمان العثماني، ووضع بلاد الجزائر التي كان يسيطر عليها تحت حماية السلطان العثماني، ثم شجعه على الاستيلاء على تونس، وإنقاذها من تخبط الأسرة الحفصية فيها، وتمكن من فتحها بسهولة في سنة 1534م، واستغاث مولاي الحسن الحفصي بالإمبراطور شارل الخامس، فأمده بأسطول إسباني قوي استطاع به أن يفتح مدينة تونس سنة 1535م، وعاد مولاي الحسن الحفصي على العرش التونسي بعد أن وقع مع الإمبراطور شارل الخامس معاهدة كأنها اتفاقية حماية، وغادر الإمبراطور تونس بعد أن ترك فيها ألف جندي إسباني كحامية في البلاد، وفي سنة 1574م تمكن القائد التركي سنان باشا من الاستيلاء على تونس وأدخلها نهائيا في أملاك الدولة العثمانية.
وخضعت الجزائر وتونس للباشاة الأتراك الذين توفدهم الآستانة، ولما وقعت الفتنة بين الأسرة العلوية حاكمة مصر وآل عثمان، انتهز الفرنسيون ضعف الطرفين، فاستولوا على الجزائر أولا ثم على تونس.
وفي شهر نيسان سنة 1827م جرت حادثة تاريخية في قصر القصبة الباشا التركي (الداي) بالجزائر، حين لطم الداي حسين باشا الجزائري وجه المسيو دوفال قنصل فرنسة على أثر مشادة عنيفة جرت بينهما، فغضب القنصل الفرنسي وكتب إلى بلاده فثار ثائرها واتخذت ذلك ذريعة للاحتكاك بالجزائر في سنة 1830م، فجيشت جيشا عظيما، وأسطولا ضخما، واستطاعت أن تنزل في ميناء الجزائر بعد معارك دامية، وقد دار رحى الحرب سنوات عديدة بين الجيش الفرنسي القوي والقادة الجزائريين وفي طليعتهم الأمير عبد القادر الحسيني، الذي ظل يقاومهم سبعة عشر عاما، إلى أن اضطر إلى الاستسلام في سنة 1847م. ولم يقف جهاد الجزائريين لفرنسة طوال فترة احتلالها للبلاد، وكانت أعنف معارك الجهاد هذه معركة سنة 1871م التي قتل فيها الأحرار الجزائريون عددا كبيرا من الفرنسيين؛ لأن فرنسة كانت ضعيفة في تلك الفترة؛ لخروجها هزيلة من الحرب الألمانية، وما إن تمكن الفرنسيون من القضاء على القوى الجزائرية حتى أمعنوا في أهلها ذبحا وتقتيلا، وأدمجوا البلاد نهائيا بالبلاد الفرنسية.
أما تونس، فإنها بعد أن خضعت للدولة العثمانية وتعاقب على الحكم فيها جماعة من الحامية الانكشارية التركية إلى أن ظهر من بينهم حسن بن علي، فاتخذ لنفسه لقب «باي تونس» وتعاقب أبناؤه على البلاد من بعده.
وحدث في سنة 1881م أن اعتدت بعض القبائل التونسية على أجزاء من بلاد الجزائر، فاتخذت فرنسة ذلك ذريعة لإرسال حملة عبرت بها الحدود وحاصرت العاصمة التونسية، ولم تفك الحصار عنها إلا بعد أن أملت على الباي محمد الصادق شروط معاهدة الحماية (معاهدة باردو)، فوقعها الباي مرغما، ولكن الشعب التونسي ظل يقاوم الحماية الفرنسية، وكانت أولى الحركات الوطنية القوية في مقاومة الاحتلال الفرنسي حركة سنة 1905م، ثم حركة «علي باش حميه» في سنة 1908م.
ولما انتهت الحرب العالمية الأولى ظن أحرار تونس أن الحكومة الفرنسية ستنصفهم وتقدر الجهود التي بذلوها في هذه الحرب، وظنوا كما ظن المصريون والسوريون والعراقيون أن الحلفاء قوم يعرفون معنى الوجدان والحرية والعدالة، ولكن خاب ظنهم، وكان نصيب عبد العزيز الثعالبي زعيم حزب الدستور التونسي النفي والتشريد، كما نفي وسجن عدد كبير من أحرار البلاد وفي طليعتهم الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية الحالي. •••
وأما مراكش، فهي الدولة المغربية الوحيدة التي استطاعت - على الرغم من ضعفها - أن تحافظ على استقلالها، وتنجو من الحكم التركي، كما نجت من الضغط الإسباني والبرتغالي طوال القرن التاسع عشر. فلما كان القرن العشرون، أخذت فرنسة تتقرب من سلاطين مراكش زاعمة أنها تريد تدريب جيشها وتقويته، وانخدع مولاي الحسن 1873-1894 بذلك، فسمى بعض الفرنسيين مدربين في جيشه. وفي سنة 1904م اتفقت بريطانية وفرنسة على أن تترك الأولى للثانية حرية التصرف في مراكش بشرطين: أولهما؛ أن تكون المنطقة الشمالية الغربية المواجهة لجبل طارق تحت حكم إسبانية، والثاني؛ أن تكون طنجة ميناء دوليا محايدا. وفي سنة 1908م اتفقت فرنسة وإسبانية على اقتسام النفوذ في مراكش، وجعلت منطقة الريف تحت النفوذ الإسباني، وقد شجعت هذه الاتفاقات فرنسة على أن تتجاهل احتجاجات ألمانية، إلى أن تولى السلطنة مولاي عبد الحفيظ سنة 1908م، فثارت عليه القبائل، فاستعان بفرنسة على إخماد ثورتهم. ولكن الجنود الفرنسيين كانوا جنود احتلال لا جنود نجدة، ودخلت قواتهم مدينة فاس سنة 1911م، وقامت أزمة عنيفة بعدئذ انتهت بتسليم ألمانية مركز فرنسة في مراكش.
وفي سنة 1912 اضطر مولاي عبد الحفيظ إلى أن يوقع معاهدة حماية مع فرنسة، فرضت فرنسة بموجبها سلطانها على البلاد وسمت الجنرال ليوتي مقيما عاما، وظلت البلاد تقاسي ويلات الاستعمار الفرنسي إلى أن تولى السلطنة مولاي محمد بن يوسف بن عبد الحفيظ، فأخذ يناوئ الاستعمار الفرنسي إلى أن اعترفت فرنسة باستقلال البلاد.
وأما المنطقة التي تحتلها إسبانية من مراكش، فقد ظهر فيها المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، وقاد ثورة ضد الإسبان في سنة 1923م، وأوقع بالعدو خسائر عظيمة حتى كاد أن يجلوه عن البلاد، ولكن الفرنسيين خافوا أن يصل حد سيفه إلى رقابهم، فتعاونوا والإسبان على سحق قواه، واضطروه إلى الاستسلام، فاستسلم ونفوه إلى جزيرة «رينيون» في المحيط الهندي ثم لجأ إلى مصر. •••
وأما ليبية، فقد كانت تحت سلطة الأسرة السنوسية التي اتخذت مدينة بنغازي مقرا لها، وكان زعيمهم السيد محمد علي السنوسي ذا نفوذ قوي وسلطان عظيم، وقد وضع نظاما لإدارة البلاد منذ عام 1851م، ولما مات سنة 1859م خلفه ابنه المهدي، وكان ذا نشاط كبير، فعمت الطريقة السنوسية في إقليمي برقة وطرابلس الغرب، والسودان الغربي، فخافته الدولة العثمانية على نفوذها وأخذت تحاربه، واضطر إلى اللجوء إلى واحة جغبوب، ثم اضطر إلى مغادرتها في سنة 1894م إلى واحة الكفرة، وازدادت الحركة السنوسية في الجنوب حتى بلغت أعالي السودان، وأخذ الاستعمار الفرنسي يحاربها بعنف حتى مات المهدي السنوسي في سنة 1902م، فأخذ خلفاؤه يجمعون قواهم إلى أن أراد الإيطاليون احتلال ليبية، فوقفوا في وجههم وقفات أثبتت صدق وطنيتهم، واستطاعوا أن يحصروا الاحتلال الإيطالي في الساحل.
ولما وقعت الحرب العالمية وانضمت إيطالية إلى الحلفاء، أعلن الليبيون تأييدهم للدولة العثمانية ضد الحلفاء، وجاءتهم المؤن والذخائر من الدولة بوساطة الغواصات الألمانية، وتحرج موقف الإيطاليين، ولكن لم تمض فترة حتى انقسم السنوسيون إلى فريقين: فريق يتزعمه السيد أحمد الشريف السنوسي الذي كان يرى وجوب تأييد الدولة العثمانية على الطليان والحلفاء عامة.
وفريق ثان يترأسه السيد محمد بن المهدي السنوسي الذي كان يقول بوجوب البقاء على الحياد وعدم تأييد فريق على آخر؛ لأن للإنكليز فضلا على السنوسيين بحمايتهم من ضربات الفرنسيين.
وكان سواد الناس مع الفريق الأول، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى اضطر السيد أحمد الشريف إلى اللجوء لتركية ثم للحجاز، وخلفه على زعامة السنوسيين السيد إدريس الملك الحالي.
الباب الثالث
الفصل الأول
حالة العالم العربي الفكرية في القرن التاسع عشر
اختلفت أوضاع الحالة الفكرية في العالم العربي حوالي نهاية القرن الثامن عشر وفجر القرن التاسع عشر اختلافا كبيرا؛ فالعراق والشام غارقان في سبات، إلا ما كان من أثر بعض الإرساليات الدينية التي كان طلابها يتعلمون - إلى جانب الثقافة المدرسية الحديثة - بعض اللغات الأوروبية من إيطالية، وإفرنسية، وإنكليزية، وألمانية. والجزيرة العربية وشمالي أفريقية كانت تتخبط في دياجير الجهالة، إلا ما كان من أثر نور التعليم الديني البحت مع شيء من التعليم الأدبي، ومصر - وحدها - كانت أرقى حالا؛ لأنها أخذت من فجر القرن التاسع عشر تنشئ المدارس الحديثة المعتمدة على الأساليب العلمية الأوروبية؛ هذا بالإضافة إلى الحركة العلمية التي كان الجامع الأزهر محور نشاطها.
وقد استعان محمد علي بشبان الأزهر في تجديد النشاط العلمي، فاختار منهم نفرا استعان بهم لتأسيس بعض مدارسه الحديثة، كما أوفد نفرا منهم إلى مدارس الغرب يتلقون العلم فيها من طب وحكمة وفلسفة وطباعة وفنون، وإلى جانب الأزهر الذي كان يرعى الثقافة الفكرية والحركة الدينية والأدبية، كانت المدارس العلمية التي أنشأها محمد علي وجعل التعليم فيها باللغة العربية، وكان أقدمها إنشاء مدرسة الموسيقى العسكرية؛ فقد أحدثت سنة 1824م، وهذه المدارس هي: مدرسة الموسيقى، والتجهيزية، والمشاة، والفرسان، والمدفعية «الطبجية»، والبحرية؛ وهذه كلها مدارس عسكرية. وأما المدارس المدنية، فهي مدارس الطب، والصيدلة، والكيمياء العملية، والطب البيطري، والتعدين، والهندسة، والزراعة، والولادة، والإدارة الملكية، والحسابات، والألسن، والترجمة، والصنائع، والفنون.
وكان عدد الطلاب في هذه المدارس نحو عشرة آلاف طالب في سنة 1839م، وكانت الحكومة المصرية هي التي تنفق على طعامهم وكسوتهم ودراستهم.
وظل التعليم مزدهرا طوال عهد محمد علي، ثم وقفت في عهد عباس الأول وسعيد، فأقفل جميع المدارس المدنية وبعض المدارس العسكرية بحجة عدم الحاجة إليها لوجود عدد كبير من المثقفين، ووجود عدد كبير منهم لا يجدون العمل الحكومي، كأن التعليم كان لإيجاد موظفين وحسب.
ولما تولى إسماعيل أعاد بعض المدارس المدنية؛ إذ لم يكن في عهده إلا مدرسة ابتدائية واحدة ومدرسة عسكرية ومدرسة طبية وصيدلية، وقدم إلى مصر في عهده عدد كبير من مثقفي البلاد العربية التي ضاقت بالظلم العثماني، وبخاصة من لبنان وسورية، فكان قدومهم عاملا على إيجاد حلقات علمية وفكرية على ما سنبينه بعد.
ولما احتل الإنكليز مصر أقفلوا بعض المدارس ، كمدرسة الألسن والترجمة، وحالوا دون إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وجعلوا التعليم غير مجاني كما كان قبلا، وقلت العناية باللغة العربية، وفرضت اللغة الإنكليزية حتى ثارت الصحف وطالبت بالعودة إلى النظام القديم، واضطرت حكومة الاحتلال إلى الاهتمام بأمر التعليم وإنشاء المدارس الابتدائية والثانوية وبعض المدارس العالية.
ولكن على الرغم من هذا، فقد ظلت اللغة العربية تتعثر بأذيالها؛ بسبب الاحتلال من جهة، وعدم عناية الأسرة العلوية بها وانصرافهم إلى اللغة التركية والأدب التركي ثم الأدب الفارسي من جهة ثانية، فقد عنيت بهاتين اللغتين منذ زمن محمد علي وإسماعيل، وطبعت كثيرا من دواوينهما وكتبهما النثرية. يقول المستشرق بروكلمان: «وفي مصر كانت الطبقة الحاكمة من أسرة محمد علي وأتباعها تعنى بالأدب التركي أكثر مما تعنى بالأدب العربي، ومن مميزات هذه الفترة أن المطابع التي أنشأتها الحكومة في القاهرة لم تطبع الأنظمة العسكرية باللغة التركية فحسب، بل طبعت سلسلة كاملة من الأدب التركي الكلاسيكي، قبل أن تفكر في إسباغ هذا الشرف على الأدب العربي.»
1
ولكن على الرغم من هذا كله انصرف الشعب إلى العناية باللغة العربية، فازدهرت بفضل الجامع الأزهر ومعاهده المتعددة في القطر، وسار المستوى الفكري صعدا برغم كل العقبات التي وضعتها حكومة الاحتلال، واندفع الشبان نحو المعاهد الأوروبية حتى غدت مصر في طليعة الدول العربية ثقافة ورقيا عقليا، وبلغ عدد المدارس في القطر المصري سنة 1913م خمسة آلاف مدرسة وعدد طلابها نحو أربعمائة ألف طالب، وكان سكان القطر المصري في تلك السنة اثني عشر مليون نسمة، فتكون نسبة الطلاب إلى مجموع السكان نحو 3,5٪.
وضارعت بلاد العراق والشام ديار مصر في تقدمها العلمي، وكان الفضل بذلك إلى الحلقات العلمية التي كانت تعقد في الجامع الأموي بحلب، والجامع الأموي بدمشق، ومدارس النجف وكربلاء والكوفة، وبعض المدارس الدينية الإسلامية الأخرى في القطرين، وبعض المدارس المسيحية الملحقة بالكنائس والإرساليات التبشيرية. وقد كان هؤلاء المبشرون نشيطين في حركتهم الدينية والثقافية منذ فجر القرن السابع عشر، وكانت مدينة حلب أول مراكز الإشعاع الفكري في ديار الشام، كما كانت الموصل أول مراكز الإشعاع في العراق؛ قال جرجي زيدان: «من أكثر المدائن السورية في أثناء تلك الظلمة مدينة حلب، فإنها زهت بنبوغ طبقة من رجال العلم والأدب رغم ما أقفل من مدارسها، أو نالها من الخراب باستيلاء المغول أو التتر عليها.»
2
وذكر من هؤلاء الرجال: السيد مكاريوس البطريرك الأنطاكي لطائفة الروم الأرثوذكس، وكان من الأفاضل المصلحين الذين عنوا بتثقيف أبناء طائفتهم عناية خاصة، وألف بعض الآثار الدينية والاجتماعية، ومن أجلها: «رحلته إلى القسطنطينية وبلغارية وروسية»، وقد ألفها سنة 1652م، «أخبار المجامع السبعة الكبار» و«أخبار بطاركة الدنيا على الكراسي الأربعة» و«التاريخ الرومي العجيب من عهد آدم إلى أيام قسطنطين السعيد» و«كتاب النحلة»، وقد عربه عن اليونانية.
والسيد جرمانوس فرحات الماروني مطران حلب ونابغة عصره، ترهب في سنة 1693م وله من العمر 17 عاما، وكان يتقن العربية والسريانية واللاتينية والإيطالية، وقد طوف في العالم القديم، وأقام في دير القديسة مورا بإهدن، وزار معاهد إيطالية وإسبانية وصقلية، وبحث فيها عن المخطوطات العربية، ولما استقر به المطاف في مطرانية حلب للموارنة سنة 1725م، ألف أول مجمع علمي عربي جمع فيه فضلاء أهالي حلب من المسلمين والمسيحيين، وكلفهم بترجمة بعض الكتب العلمية والأدبية، وبالعناية بمخطوطاتهم العربية وعدم التفريط بها. ورأى أن لغة الإنجيل المعرب غير فصيحة، فأعاد ترجمته ترجمة صحيحة مقفاة؛ ليعرف أبناء الملة عذوبة لغة الضاد. وانكب على التأليف، ومن أجل آثاره: «ديوانه الشعري» و«بحث المطالب» في العربية، و«بلوغ الأرب» في تاريخ الأدب العربي، و«تاريخ الرهبنة المارونية»، و«أحكام الإعراب عن لغة الأعراب» وهو معجم لغوي دقيق، ولعله أول معجم وضع للغة العربية في فجر النهضة الحديثة، وقد طبع في مرسيلية سنة 1849م. وقد انتقد المطران قاموس الفيروزآبادي وأتى بنحو مائتي كلمة يتداولها أهل اللغة، وقد فاتت صاحب القاموس.
3
وممن كان لهم أثر في الحركة الفكرية الشامية «اليسوعيون»، وقد ابتدءوا نشاطهم في سورية منذ عام 1625م، واضطروا أمام ضغط الحكومة العثمانية أن يوقفوا نشاطهم عام 1773م، ولم يتمكنوا من العودة إلا في سنة 1831م حين أذنت الدولة للمبشرين الأميركان البروتستانت (البروسبيتيريون) بالعمل في ديار الشام سنة 1820م. وتنافس اليسوعيون والبروسبيتيريون، وكان عام 1834م عام نشاط عظيم لكلا الفريقين، وكان من نتائج هذا التنافس أن عني الجانبان بأمر اللغة العربية ونشر مخطوطاتها، وتأليف الكتب العلمية والدينية بها. كما عنوا بتأسيس المطابع والمدارس الثانوية والعالية للبنين والبنات في شتى أنحاء لبنان خاصة، وسورية عامة.
وهكذا أخذ التعليم الحديث ينتشر في أنحاء سورية، كما أخذ الكتاب العربي يصدر عن المطبعة «الأميركية أو اليسوعية» ويحتل مكانه في خزائن دور الكتب أو دور السكن، واستطاع الجانبان المتنافسان أن يصدرا في فترة قصيرة عددا ضخما من الأشعار القيمة، وقد استخدم المبشرون البروسبيتيريون (الأميركان) عالمين لبنانيين جليلين لتأليف الكتب وتصحيح ما يطبع منها، وهما: «الشيخ ناصيف اليازجي» و«المعلم بطرس البستاني».
وعمد الأمريكان إلى إقامة «الكلية السورية البروتستانية» في بيروت عام 1866م التي ما لبثت أن غدت جامعة مستوفية الكليات والفروع، وعهد بإدارتها إلى القس الفاضل دانيال بلس، ثم خلفه ابنه هوارد بلس. كما عمد اليسوعيون في سنة 1875م إلى نقل مدرستهم في «غزير» إلى بيروت وجعلها جامعة على اسم القديس يوسف.
وفي سنة 1842م اقترح اليازجي والبستاني على الإرسالية الأميركية تأليف جمعية علمية عربية على نمط المجامع العلمية في أوروبة وأميركا للسعي في نشر العلم الصحيح، وتقريب الثقافة الأوروبية من الجمهور العربي، فقبلت الفكرة، وكان من أبرز أعضائها بالإضافة إلى صاحبي الاقتراح نفر من علماء النصارى في البلاد، والمستشرقين المقيمين فيها، مثل: إيلي سميث، وكورنيليوس فانديك، والكولونيل تشرشل، وجعلوا لهذه الجمعية خزانة كتب حوت الذخائر والمجلات، وأصدرت نشرة عن أعمالها كتبها العالم المعلم بطرس البستاني، وكانت هذه ثاني جمعية علمية في البلاد العربية بعد الجمعية التي كان المطران جرمانوس فرحات قد أسسها في حلب. وقلد اليسوعيون الأميركان، فقاموا بتأسيس «الجمعية الشرقية»، وعهدوا برئاستها إلى العالم الفرنسي الأب دو برونيير، وسلكت مسلك شقيقتها الأميركية، فعنيت بالبحوث العلمية وإحياء المخطوطات القديمة ونشرها، وكان جميع أعضائها أيضا من النصارى.
4
وتتابعت الجمعيات العلمية في سورية، وكان من أشهرها وأكثرها نشاطا «الجمعية العلمية السورية» التي أسست عام 1857م، وضمت نخبة مختارة من رجالات البلاد على اختلاف أديانهم، وفي طليعتهم: الشيخ حسين بيهم، والأمير محمد أرسلان، والشيخ إبراهيم اليازجي، والأساتذة: حنين الخوري، وسليم البستاني، وسليم رمضان، وموسى فريج، وحبيب جلخ، ورزق الله الخضرا، وجرجي تويني، وجرجس فياض، وحنا أبكاريوس، وحبيب بسترس، ومحمد بيهم، وعبد البديع اليافي، ونقولا مدور ... وغيرهم.
ثم تتابعت الجمعيات العلمية والنوادي الأدبية في لبنان وسورية، وفي طليعتها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وجمعية المعارف الدرزية، وجمعية يقظة الفتاة العربية، وجمعية إحياء التمثيل العربي، والنادي الأهلي.
ولم يقل نشاط العراق الثقافي في هذه الفترة - وبخاصة في البصرة وبغداد والنجف والكوفة والموصل - عن نشاط القطر الشامي، بفضل معاهده الدينية سواء الإسلامية منها والمسيحية، كما قامت فيه نخبة صالحة من أهله تعمل في حقلي الأدب واللغة، والتعليم.
وكانت جمعية التفيض الأهلية، من أنشط الجمعيات في بلاد الرافدين، وكان لحلقات آل الآلوسي في جامع مرجان، وآل الكيلاني في مسجد الشيخ عبد القادر، ومسجدي الإمام الأعظم أبي حنيفة والإمام الكاظم،
5
وبعض المدارس الملحقة بالأديرة والكنائس، وفي طليعتها دير الآباء الكرمليين - أثر واضح في هذه الحركة الفكرية.
الفصل الثاني
مظاهر الحضارة في العالم العربي
أخذ العالم العربي يسير صعدا في طريق الحضارة والعمران التي ابتدأ يسير عليها في القرن الثامن عشر، فازدهرت البلاد العربية وأخذت مجالي الحضارة الأوروبية تتجلى في معالمها، وقد كان تأثير الحضارة الأوروبية جد واضح في كافة مرافق الحياة من: تعليم، ومعيشة، ومسكن، وملبس، ونظام إداري. ولا غرو؛ فإن الحضارة الغربية بصورة عامة، والأوروبية منها بصورة خاصة، قد دخلت في كافة مرافق الحياة عن طريق الإرساليات، والمدارس، والبعثات، والكتب، ونشر اللغات الأجنبية، ولو رحنا نستقصي مجالي الحضارة في العالم العربي نجدها ظاهرة في الأمور الآتية: (1) الصحافة
لم يعرف العرب الصحافة قبل اتصالهم بالحضارة الأوروبية، وكانت رواية الأخبار والقصائد والأشعار في حلقات المنتديات العامة، والمجالس الخاصة هي الوسيلة الوحيدة التي يتناقل بها الجمهور الأخبار العامة.
ومعلوم أن إيطالية ومدينة البندقية بصفة خاصة، هي مركز أول صحيفة أوروبية ؛ ففي سنة 1566م وبعد انتشار فن الطباعة، وجدت أول جريدة، ولم تلبث الصحافة أن انتقلت إلى بلدان أوروبة فسائر بلاد الغرب، ولم تصل الصحافة إلى دنيا العرب إلا بعد سنة 1799م حينما أسس نابليون في مصر أول جريدة. ثم أنشأ المبشرون الأميركان في بيروت أول مجلة عربية بعنوان مجموع فوائد في سنة 1851م، وكان للشاميين فضل نشر الصحافة في العالم العربي والإسلامي؛ فهم الذين ساهموا في إنشاء الصحافة في المغرب العربي، والجزيرة العربية، ومصر، وبخاصة حين زاد ضغط الدولة العثمانية على الشام، واضطر نفر من رجالاته المثقفين إلى الهرب منه واللجوء إلى بعض الأقطار المجاورة . لقد هبط مصر نفر منهم ساهموا مساهمة فعالة في تكوين الصحافة المصرية الحديثة، فأنشئوا عددا من المجلات والصحف، وفي طليعتها جريدة الأهرام التي أنشأها سليم وبشارة تقلا سنة 1875م، ومجلة الهلال التي أنشأها جرجي زيدان، وما تزالان تصدران، وهناك عدد من المجلات والصحف التي ظهرت ثم توقفت، كالمقطم والمقتطف والمنار والزهراء والإخاء.
وقد عمت الصحافة العربية اليوم كافة أقطار العروبة، من صحف يومية ومجلات دورية في كافة حقول العلم والسياسة والاجتماع، وصحافة مصر اليوم هي التي تحتل مكانة الصدارة في الصحافة العربية لعناية أصحاب صحفها بانتقاء أفاضل الكتاب، والإغداق عليهم بالمرتبات الجيدة، ومسايرة تطور فن الصحافة العالمي. (2) الطباعة
لا ريب في أن رقي الصحافة العربية متوقف على رقي الطباعة، وقد سارت المطبعة جنبا إلى جنب مع الجريدة والمجلة، فحينما كانت الطباعة راقية مزدهرة كانت الصحافة كذلك. ومن المعلوم أن بلاد الشام - وبخاصة لبنان منها - كانت أول البلاد العربية التي وجدت الطباعة فيها؛ ففي سنة 1610م أنشئت أول مطبعة في لبنان أهداها البابا إلى الرهبنة اللبنانية في دير قزحيا، وفي سنة 1698م أنشأ الآباء المارونيون أول مطبعة في حلب، ثم أنشئت مطبعة الشوير في لبنان بعناية الراهب عبد الله زاخر سنة 1732م، ثم أنشئت مطبعة القديس جاورجيوس في لبنان سنة 1753م.
ومن الطبيعي أن مطبوعات هذه المطابع لم تكن إلا دينية. وفي سنة 1820م أنشئت المطبعة الأميركية في مالطة، ثم نقلت إلى بيروت في سنة 1832م.
وأول مطبعة أنشئت في مصر هي المطبعة البولاقية التي أنشأها محمد علي في سنة 1821م، وأنشئت مطبعة الإرسالية اليسوعية في بيروت سنة 1848م. وكانت هذه المطابع الثلاث تطبع الكتب العلمية والأدبية إلى جانب الكتب الدينية. ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذت المطابع تنتشر في الشام ومصر والعراق وشمال أفريقية وبخاصة في فجر القرن العشرين.
ولا ريب في أن الطباعة قد لعبت دورا هاما في تقريب وجهات النظر العربية، وفي توحيد الأهداف ونشر التراث العربي القديم، وكانت المطبعة الوسيلة القوية التي لجأ إليها المصلحون في هذه الديار لنشر أفكارهم من نثر وشعر، وفي طليعتهم: بطرس البستاني، وناصيف اليازجي، وأحمد فارس الشدياق، وجمال الدين الأفغاني، ومحمود الألوسي، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وعبد المحسن الكاظمي، ومعروف الرصافي، وجميل الزهاوي، وجرجي زيدان، ويعقوب صروف، وشبلي الشميل، وأحمد زكي باشا، وأحمد تيمور باشا، ومحمد عبد المطلب، وأحمد الإسكندري، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، ومصطفى عبد الرازق، وأحمد لطفي السيد، وعلي يوسف، وأمين الريحاني. (3) الفنون الجميلة
رأيت شيئا من أوضاع الفنون الجميلة، من موسيقى، وتمثيل، ونقش، وتصوير، وبناء، وفصاحة في تاريخ «عصر الازدهار»، وقد استمر بعض هذه الفنون مزدهرا في العصور التي تلته.
فلما كان عصر النهضة، واتصل العالم العربي بالغرب، انبعثت هذه الفنون بعثا جديدا.
فأما الموسيقى العربية القديمة، فقد بقي طرف منها في بعض مدن العالم العربي: كبغداد، والموصل، وحلب، ودمشق، والقاهرة، وطغت عليها الموسيقى التركية في العصر العثماني. ثم جاءت الموسيقى الغربية في فجر القرن العشرين، فلونتها ألوانا حديثة منها الجميل الحسن المقبول، ومنها السخيف الثقيل المقبوح.
وأما التمثيل: فما كان العرب يعرفونه على الشكل الذي جاءت به مسارح أوروبة، وإنما كانت للعرب حلقات لهو ورقص، تجري فيها بعض الحركات التمثيلية، والرقص فن قديم عند العرب كالغناء، وقد اشتهر رقص السماع «أو السماح»، وهو رقص إيقاع إجماعي تغنى فيه الموشحات الموروثة الجميلة. ويظهر أن فن التمثيل بالشكل الذي كانت المسارح الأوروبية تقوم به، لم يبدأ في العالم العربي إلا على يدي الفنان السوري أحمد أبو خليل القباني الدمشقي، وقد أنشأ مسرحا للتمثيل، وكان يؤلف الروايات التمثيلية ويلحنها ويقوم هو ونفر من الفنانين بتمثيلها للنظارة، ولما انتقل إلى مصر تقبله الناس وشجعوه، ثم تتابع الناس بعده يمثلون ويؤلفون في هذا.
وأما النقش والتصوير: ففنان ازدهرا ازدهارا رائعا في العصر العباسي والعصور التي تلته، ويختص كل قطر من الأقطار العربية بطابع فني خاص، وطراز مستقل سواء في النقش، أو في التلوين، أو الزخرفة، أو التصوير. وقد تجلى هذا الفن الجميل في الأبنية وزخارفها، وفي الكتب وتصويرها وتجليدها، وفي الثياب والمواعين والحلي.
ولما اتصلت الحضارة الأوروبية بالفن العربي وبخاصة بعد حملة نابوليون، تطور الفن التصويري والزخرفي العربي تطورا ملموسا.
وأما البناء: فقد استمر طوال العصور العربية مزدهرا جميلا، سواء في حالتي بساطته وتعقيده. وطبيعي جدا أن تختلف طرز البناء في أقطار العالم العربي، كما اختلفت فنون الريازات
Architecture ؛ لأن لكل إقليم طبيعة جوية تختلف اختلافا واضحا.
وقد كان للفنون العمرانية التي جاء بها الصليبيون إلى بلاد الشام ومصر أثر واضح في طبع البناء العربي بطابع أبنية العصور الوسطى الأوروبية، وبخاصة الإيطالية من حصون وقلاع.
وأما فنون الفصاحة: من شعر ونثر وما إليهما، فقد سارت في فجر هذا العصر سيرا منسجما مع التقدم العام، وانصرف الناس إلى الفنون اللفظية والمحسنات البديعية التي طغت في القرنين الماضيين، وصار «المعنى» الحسن، و«الأسلوب» العربي الفصيح، ودقة الأداء في التعبير هو غاية الأديب الفنان.
ونبغ في الأمة العربية جيل رفيع المكانة في نهاية القرن الثامن عشر، وطوال القرن التاسع عشر كانوا الركيزة القوية التي ترتكز عليها حركتنا الأدبية اليوم. (4) التعليم
أطل عصر النهضة على العالم العربي، وفيه نوعان من معاهد التعليم:
أولهما:
التعليم الديني، وكان محصورا في المدارس الإسلامية القديمة، وبعض المساجد والجوامع، وكان هدف هذا التعليم تثقيف الفرد ثقافة إسلامية قويمة، يتقن فيها المرء علوم اللغة وآلاتها من «نحو وصرف وبلاغة»، والفقه، والحديث، والكلام، والسيرة النبوية، والمنطق على الأسلوب القديم، وبعض المعلومات الأولية الساذجة في علوم الكون وما وراء الطبيعة والحساب. وهناك تعليم ديني مسيحي يهدف إلى تعليم الفتى المسيحي أحكام دينه، وإلى جانب ذلك تعليم بعض اللغات الأجنبية من إفرنسية وإيطالية وألمانية وإنكليزية ولاتينية ويونانية وسريانية.
وقد أدت هذه المعاهد الدينية بشطريها خدمة جليلة، وبخاصة في عصور الانحطاط، وحين عمدت السياسة العثمانية إلى وقف حركة التعليم على ما أشرنا إليه في حديثنا عن تاريخ فترة السلطان عبد الحميد الثاني.
وثانيهما:
التعليم المدني، وكان الرواد فيه هم بعض رهبان الأميركان أو اليسوعيين، على ما بيناه فيما سبق. ولما رأى المسلمون هذه المدارس المدنية التي يشرف عليها المسيحيون، أخذوا ينشئون مدارس على نمط حديث، كالمدرسة الأهلية في بيروت، ومدارس المقاصد الخيرية في مصر والشام، ومدارس الجمعية الخيرية في حلب، وعمدت الحكومة التركية إلى إيجاد بعض المدارس الابتدائية في حلب ودمشق وبيروت والقدس وبغداد والموصل وبعض مدن شمالي أفريقية الخاضعة لنفوذهم. وكان للوزير التركي المصلح مدحت باشا أثر واضح في إيجاد هذه المدارس المدنية الحديثة، حينما تولى دمشق سنة 1295ه.
وقد سار التعليم المدني صعدا، وانتشر التعليم الابتدائي الثانوي في مصر والعراق والشام وشمالي أفريقية والجزيرة. أما التعليم الجامعي العالي فما يزال محدودا. (5) التجارة والاقتصاد
أطل القرن التاسع عشر وتجارة البلاد العربية عادية محدودة، وكان كل قطر من أقطار العروبة يعيش بوضع اقتصادي متأخر، ولا رابط يربط بين أجزاء الأقطار العربية، فلا طرق مواصلات قوية منتظمة، ولا تبادل اقتصادي منظم، بل كان كل قطر يعيش منطويا على نفسه، مكتفيا بمنتوجاته وفتوحات البلاد المتاخمة له، على عكس ما كانت عليه الحالة في البلاد الأوروبية والأميركية. ولكن ما لبثت الحضارة الأوروبية أن امتدت إلى العالم العربي بإنشاء بعض الخطوط الحديدية، وبتعبيد كثير من الطرق البرية، وكان في طليعة المواصلات التي أجريت الخط الحديدي الحجازي الذي أذن السلطان لبعض الشركات الألمانية بمده ما بين المدينة المنورة ودمشق، كما حاول الألمان ربط العاصمة الإسلامية إستانبول بالخليج العربي بوساطة خط حديدي، وهدفهم الرئيسي من ذلك هو ضرب معقل الاستعمار البريطاني في ذلك الخليج العظيم، وتمكن الفرنسيون من إقناع الخديوي محمد سعيد بفتح قناة السويس، فأذن لهم بذلك في سنة 1854م. وحاولت بريطانية عرقلة هذا المشروع فاستطاعت عرقلته، فلما تولى مصر الخديوي إسماعيل تمكن المهندس دلسبس الفرنسي من البدء بمشروع القناة، وتم له ذلك في سنة 1869م، ثم أخذت الحكومة العثمانية بإصلاح الموانئ في العالم العربي لتصلح لرسو البواخر الضخمة كميناء غزة، وحيفا، ويافا، وعكا، وصيدا، وصور، وطرابلس، وبيروت، والإسكندرونة، واللاذقية. وأذنت بمد خط حديدي بين حلب والموصل وبغداد والبصرة، وبين بيروت ودمشق، وبين دمشق وحمص وطرابلس، وبين دمشق وحيفا والعريش والقطر المصري، وهكذا اتصل العراق بالشام ومصر.
واهتمت الحكومة الخديوية بإنشاء شبكة من الخطوط الحديدية، وشبكات طويلة من الطرق في القطر المصري، كما عملت الحكومة التركية على فتح طريق تصل بين أجزاء العراق والشام والأناضول. وعنيت حكومة الاحتلال الفرنسي في شمال أفريقية بإصلاح الموانئ، وفتح الطرقات بين أجزاء الشمال الأفريقي الذي تحتله.
وكان من نتائج هذه الشبكات الحديدية، والموانئ والدروب والمسالك؛ أن اتصل العالم العربي اتصالا قويا، وتبادل أهله السلع والتجارات، وقويت الصلات المالية والاقتصادية بين أجزاء البلاد العربية، فتمكنت أواصر الاتصال بينها لتشابك مصالحها التجارية. (6) الأخذ بأسباب الرقي والتمتع بمخترعات الحضارة الأوروبية
أخذ العالم العربي عن المدنية الأوروبية الحديثة كل ما أنتجته معاملها، وما جادت به قرائح مخترعيها من الآلات البخارية والأوائل الصناعية، والمصانع التجارية والعدد الزراعية، والسفن البحرية، والذخائر والآلات الحربية، والملابس والرياش، وكافة أسباب الحضارة ومتع الحياة وملذاتها، مما لم تعرفه البلاد العربية. وطبيعي أن يمتنع بعض المتعصبين والمتزمتين المتشددين عن قبول ذلك، أو يبيحوا لأنفسهم أو للآخرين استعمال تلك الآلات الأوروبية، ولكن ما لبثوا أن جرفهم التيار وغزت مخترعات أوروبا كل قطر من أقطار العالم العربي، بل كل بيت فيه.
Shafi da ba'a sani ba