وفي يوم 3 فبراير سنة 1838 حضر إلى دنجان رجال من البوير وفي مقدمتهم بير ريتيف، ومعهم البهائم المسروقة والسارق سينكويولا، فشكرهم على عملهم وحدد لهم يوم 5 فبراير للتوقيع على المعاهدة القاضية بإعطائهم الأراضي التي طلبوها للإقامة فيها، وفي اليوم المذكور عقد مجلسا ضم أقرباءه وأمراء قبيلته وانتظم به البوير، وصار التوقيع على المعاهدة، ولكن بعد التوقيع عليها ظهرت على دنجان علامات الارتباك كأنه ندم على ما حصل. وكان هذا الملك من دهاة قومه قد اشتهر بالغدر والخيانة، فأخذ يثني على البوير كثيرا وأظهر لهم التودد الصادر عن التملق، وكان حديثه الحلو حجابا لفكره المر، فظنوا أنفسهم في مقام صديق ودود لا يغيره الدهر. ولما أرادوا الانصراف منعهم ودعاهم إلى مأدبة شائقة قد أعدها لهم أمام منزله، فلبوا دعوته وذهبوا إليها، فوجدوا مقاعد مصطفة على شكل دائرة في صدرها مقعد مرتفع، جلس عليه دنجان، وأجلس البوير بالقرب منه، ثم أمر خدمه بإحضار الشولا
1
وأمر رجاله بأن يغنوا ويرقصوا، وبعد مضي نصف ساعة قام دنجان منتصبا على قدميه، وغنى نشيدا بلغته لم يفهمه البوير، قال في آخره ما معناه: «اشربوا اشربوا حتى لا يمكنكم شربه بعد.» وكان غناؤه بصوت جهوري أفزع البوير وانقبضت قلوبهم منه، وبينما هم كذلك صرخ صرخة اهتز لها المكان، وقال: إلي يا رجالي، هيا اقتلوهم عن آخرهم. فما أتم كلماته هذه حتى هجم كل عشرة من الزنوج على رجل من البوير، وذبحوهم ذبحا، فذهب هؤلاء المساكين شهداء الخيانة والغدر، وفي أثناء هذه المذبحة كان دنجان يصيح برجاله؛ لكي ينزعوا كبد وقلب بير ريتيف فنزعوهما وقدموهما لدنجان، فأمر بإلقائهما على الطريق المؤدي إلى الناتال. وبعد ذلك تفاوض في الأمر مع اثنين من رجاله أحدهما يدعى أشلالا والثاني تامبوسا، فأشارا عليه بإرسال حملة إلى الجهة المقيم بها البوير، فقبل مشورتهما، وفي 16 فبراير سنة 1838 أرسل دنجان عشرة آلاف رجل إلى نهر بوشمن فهجموا على البوير القاطنين بالقرب من النهر المذكور، وأهلكوهم عن آخرهم.
يوم الباغي دنجان
وبعد واقعة نهر بوشمن عزم الزنوج على مواصلة القتال والهجوم على باقي البوير، وانقسموا إلى جملة فرق سارت كل منها في جهة، وأكبر فرقة قصدت نهر بلوكرنتز، حيث كان بوتجيتر وجاكوبيس هيز وموريتسن، ولما بدءوا بالهجوم كان البوير جميعا في استعداد تام للقائهم، فهزموهم شر هزيمة، وقتلوا منهم ما ينوف عن الستمائة رجل، عدا الذين غرقوا في النهر عند عبوره، فرجعوا متقهقرين إلى بلادهم، ولم يكتف البوير بذلك، بل أرادوا أن يهاجموا بلاد الزولس ليأخذوا بثأر إخوانهم ، ولو دفعهم ذلك إلى الموت عن بكرة أبيهم، ولكن قلة عددهم وعددهم كانت حائلا دون مشتهاهم، فاستغاثوا بالإنكليز سكان الناتال، وطلبوا منهم المساعدة فلم يضنوا عليهم بها، وساروا لمحاربة دنجان. ولما علم هذا بقدومهم جمع رجاله تحت قيادة أخيه المسمى بندا. وانقسم جيش الأمازولس إلى ثلاثة أقسام، بقي قسم منها بالعاصمة للمحافظة عليها، وسار القسمان الآخران لمقابلة البوير؛ فالتقى الجيشان في 16 أبريل سنة 1838، واحتدمت نيران الوغى بينهما، وكان يوما هائلا شابت فيه لمم الأطفال، وفنيت فيه أبطال الرجال، وما غربت شمسه إلا والبوير عائدون بخفي حنين، يقطرون بدل الدمع دما، ويصعدون بدل التنفس نارا؛ لشدة الحقد والغيظ والندم على ما قتل منهم؛ خصوصا على فقد أحد قوادهم بيتر وابنه، فضلا عن عودتهم بالخيبة والخزلان؛ ولذلك كانت كبارهم تبكي كصغارهم، وسميت النقطة التي كسروا فيها ونين؛ أي: محل البكاء. وظلوا عاكفين على الجمر إلى ديسمبر من السنة نفسها، وقد ضاقت بهم الدنيا على رحبها، فطلبوا المساعدة من الناتال مرة ثانية، وكان حاكم الكاب في ذاك الوقت اسمه جورج نابير، فأصدر أمره بعدم مساعدتهم بالكلية، ومنع عنهم الأسلحة والبارود، وأعلنهم بأن يعودوا إلى مستعمرة الرأس، ويعيشوا كما كانوا، فأبوا أن يقبلوا ذلك، واكتفوا بما عندهم من الميرة والذخائر، وهاجروا جزء عظيم منهم بلاد الناتال تحت قيادة بريتوريوس. فأرسل الحاكم المذكور في أثرهم مائة عسكري بقيادة الميجر شارتر لإرجاعهم، فما قدروا عليهم، ورجعوا مخذولين. وكان بندا ينظر لأخيه دنجان بعين الحسد، ولما علم هذا الأخير بذلك خاف منه أن يسعى في خلعه أو قتله، فأراد قتله ليكتفي شره. ولما أحس بندا بما يضمره له أخوه من السوء؛ هرب من عنده ومعه كثير من رجال القبيلة المخلصين له، وتقابل مع البوير، وانضم معهم وسار في مقدمتهم لمقاتلة أخيه، فما شعر دنجان إلا والبوير على حدود بلاده بالقرب من نهر الجاموس، وكان ذلك في 14 ديسمبر سنة 1838، فجمع من رجاله خمسة وثلاثين ألف مقاتل، وخرج بنفسه لقتالهم، فعلموا البوير بذلك، وكان عددهم وقتئذ لا يتجاوز الألفين غير رجال بندا.
وفي صباح 15 ديسمبر سجدوا جميعا وصاروا يصلون ويتضرعون إلى الله بخضوع طالبين منه القدرة على إذلال عدوهم، ونذروا جميعا أنه إذا تم لهم النصر يشيدون كنيسة عظيمة تذكارا لذاك اليوم، ويجعلونه يوما سعيدا يحتفلون به سنويا، وبعد انقضا صلاتهم برزت الغزالة من خدرها بثوبها الوردي، كأنها تخاطبهم قائلة: صلواتكم صعدت أمام الله فقوبلت بالقبول! وبينما هم كذلك تقدمت طليعة جيش الزولس فقابلتهم البوير بالمدافع والبنادق وظل القتال مشتغلا النهار بطوله، وثبت الفوز فيه للبوير، وفي اليوم الثاني؛ أي: يوم 16 ديسمبر جدوا في القتال، وكانت يد الله معهم؛ فما غربت الشمس حتى مدت أشعتها إليهم تصافحهم وتبشرهم بالنصر. ولما رأى دنجان عجز رجاله أمرهم بالهجوم دفعة واحدة، فهجموا كقطيع بلا راع، وقد أوقع الله الرعب في قلوبهم لأمر دبره بحكمته، فكانوا يختبئون وراء الصخور وألقى الكثيرون منهم بنفوسهم في نهر الجاموس ورصاص البوير يتساقط عليهم، وبلغ عدد القتلى أربعة آلاف تقريبا. ولما عجز دنجان عن المقاومة أشعل النار في عاصمة بلاده وفر هاربا مع بعض رجاله إلى قبيلة البازوتس، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقتلوه أشر قتلة. أما البوير فإنهم وصلوا العاصمة في 19 ديسمبر ووفوا بنذرهم وشيدوا كنيسة بيتر ماري تزبرج تذكارا لانتصارهم هذا. وظلوا يحتفلون بمثل هذا اليوم من كل سنة ويسمونه عيد يوم دنجان. وفي 13 يناير سنة 1839 قامت حملة من البوير من بيتر ماري تزبرج للبحث عن دنجان ورجاله مؤلفة من 300 بويري و400 رجل من قبيلة الكفرة وقبيلة الهوتنتو، وأخذوا معهم ما يلزمهم من الذخيرة والمؤنة، وساروا خمسة أيام حتى وصلوا إلى نهر توجلا، وكان ذلك في مدة فيضانه، فقاسوا كثيرا في عبوره، وعسكروا على الضفة المقابلة منتظرين المدد من الغرب، ومكثوا في الانتظار يومين قضوهما في مطالعة التوراة والترانيم الروحية. وفي 21 منه وصل المدد فقاموا جميعا وعبروا نهر كليب، وتطوع لهم عدد عظيم من قبيلة الماتانيا، وبعدما استراحوا جملة أيام قاموا وعبروا نهر أم شيناتي. وفي 31 منه، عبروا نهر أم فيلوس، وفي 2 فبراير وصل إليهم مدد آخر مؤلف من 150 بويريا بقيادة القومندان لومبار. وبعد البحث الطويل اتضح لهم موت دنجان، ولكنهم التقوا برجاله فهزموهم، فاكتفى بريتوريوس بذلك وولى بندا ملكا على قبيلة الأمازولس، بعد أن أقسم له أن يعيش خاضعا للبوير ومسالما لهم. ثم أعلن برتوريوس أن الأراضي الكائنة ما بين نهر توجلا ونهر أم فيلوس صارت من أملاك البوير، فقطن كثير منهم تلك الأراضي وأسسوا فيها مدينة ميدلبرج. وهذه كانت أول حرب أظهر فيها البوير ما يدهش العقول من الشجاعة في القتال.
المهاجرة من الناتال
لم تطل مدة إقامة البوير في الناتال؛ وذلك أن بريطانيا العظمى أرادت ضم الناتال إلى أملاكها، فألغت القرار الذي أصدره استوكنستروم حاكم مستعمرة الرأس قبلا، القائل فيه بأن نفوذ جلالة الملكة وسلطتها تنبسط إلى درجة 29 من العرض، وطلبت احتلالها احتلالا حربيا، فاعترض البوير عليها، وجاهروا بالعصيان والاستقلال. وفي 20 مايو سنة 1842 أرسلت إنكلترا من بلاد الرأس إلى مينا الناتال 350 جنديا بقيادة الكابتن سميث ومعهم خمسة مدافع وخمسة وستون عربة تحمل المؤنة والذخيرة. ولما وصلوا أخذوا في إقامة الحصون، فأرسل إليه بريتوريوس يطلب منه الكف عن العمل، فلم يعبأ بكلامه وأعلنه بأنه تعين حاكما للناتال، ويأمره بأن ينجلي عن بلدة كونجيلا الواقعة شمال المينا، فما أجاب طلبه؛ وعلى ذلك أخذ الكابتن المذكور مدفعين و115 عسكريا وسار بهم قاصدا كونجيلا لطرد البوير، فأرسل إلى بريتوريوس يطلب منه المقابلة للمفاوضة في الأمر قبل استفحاله، فأجاب الطلب، ولكنهما افترقا على غير اتفاق.
وطلب بريتوريوس مرة أخرى من الكابتن سميث إيقاف بناء الحصون فأبى الكابتن ذلك؛ وحينئذ ابتدأ القتال بين الطرفين وظل مستمرا إلى 23 مايو، فلم يتمكن الإنكليز من فتح كونجلا، فعولوا على المسير إليها ليلا ليفتحوها عنوة، فقامت فرقة ثانية في الساعة الحادية عشرة مساء، وكان سيرهم سرا، ولكن غاغة المدافع والعربات هتكت السر وأيقظت البوير، فاختبأ منهم 80 رجلا في غابة عظيمة بطريق الإنكليز، فبينما هم سائرون لا يحسبون للعدو حسابا تساقط عليهم الرصاص كالبرد، ولشدة الظلام لم يتمكن الإنكليز من مشاهدة البوير، فتقهقروا، وكانت خسارتهم 23 قتيلا و45 جريحا، وظلت الحرب سجالا بينهما حتى 15 يونيو سنة 1842، حتى تمكنت إنكلترا من التغلب عليهم، وامتلكت بلاد الناتال، ونظمت بها حكومة شوروية، ورتبت لها القوانين اللازمة. وفي أواخر سنة 1845 ذهب برتوريوس إلى الكاب ليعترض على هذا الاحتلال فأبى حاكم الكاب وقتئذ هنري بوتجيتر مقابلته، فرجع إلى الناتال. وبعد مدة قليلة استبدلت إنكلترا هذا الحاكم بآخر يسمى هاري سميث، فذهب هذا الأخير بناء على أمر حكومته للنظر في مطالب البوير، وتدبير الطرق المسهلة لراحتهم، فخولهم كل ما تتوق إليه أنفسهم، فمكثوا بعد ذلك صامتين مدة من الزمن، ولكن في نفوسهم صوت يدعوهم إلى الشر. فأخذ بريتوريوس يدس الدسائس ويوعز الصدور ضد الإنكليز، إلى أن حمل إخوانه على محاربتهم في نقطة أخرى غير الناتال، وجعل مركز قصده بلاد الأورنج، وبعدما جمع من أطاعه سار برجاله وعبر نهر أورنج، ووصل إلى بلوم فنتين، ولم يكن بها غير ضابط إنكليزي وقليل من الجند، وعدد قليل من البوير الخاضعين لبريطانيا العظمى، فعلمت بذلك إنكلترا وأرسلت مددا من مدينة الرأس، فعجز بريتوريوس عن محاربتهم، وانسحب إلى جهة بلومباتز، وكان ذلك في شهر أغسطس سنة 1848.
الأورنج
Shafi da ba'a sani ba