Tarihin Tamaddun Musulunci
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
Nau'ikan
مقدمة (1)
مقدمة (2)
مقدمات تمهيدية
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
انتشار الإسلام
الخلفاء الراشدون
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
دولة بني أمية
بنو العباس
Shafi da ba'a sani ba
الدولة الأموية في الأندلس
الدولة الفاطمية
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
الدولة الإسلامية
مناصب الدولة الإسلامية
الخلافة
مبايعة الخلفاء
علامات الخلافة
شارات الخلافة
ولاية الأعمال
Shafi da ba'a sani ba
الوزارة وما يتبعها
الجند وتوابعه
ديوان الجند
بيت المال
البريد
القضاء
ديوان الإنشاء
الحجابة
النقابة
مشيخة الطرق الصوفية
Shafi da ba'a sani ba
مقدمة (1)
مقدمة (2)
مقدمات تمهيدية
الدولة الإسلامية ... كيف نشأت؟
الروم والفرس عند ظهور الإسلام
انتشار الإسلام
الخلفاء الراشدون
الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
دولة بني أمية
بنو العباس
Shafi da ba'a sani ba
الدولة الأموية في الأندلس
الدولة الفاطمية
سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم
الدولة الإسلامية
مناصب الدولة الإسلامية
الخلافة
مبايعة الخلفاء
علامات الخلافة
شارات الخلافة
ولاية الأعمال
Shafi da ba'a sani ba
الوزارة وما يتبعها
الجند وتوابعه
ديوان الجند
بيت المال
البريد
القضاء
ديوان الإنشاء
الحجابة
النقابة
مشيخة الطرق الصوفية
Shafi da ba'a sani ba
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
تاريخ التمدن الإسلامي (الجزء الأول)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة (1)
لا مشاحة في أن تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى، أو هو حلقة موصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث، فيه انتهى التمدن القديم، ومنه أشرق التمدن الحديث، وقد علقنا بدرس هذا التاريخ منذ أعوام، وكنا نغتنم ساعات الفراغ من إنشاء «الهلال» ونعلق ما يبدو لنا من حقائقه على أمل التفرغ لتأليف تاريخ مطول فيه، وقد أعلنا عزمنا على ذلك غير مرة، ولا نزال على هذا العزم بعون الله.
ونظرا لما نعتقده من افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم - لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم - وما فتئنا نختلس الفرص لنشر ما يسهل تناوله وتدعو الحاجة إليه في حينه مما يتعلق بهذا التاريخ، وأخذنا نهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعا في «الهلال»، لأن مطالعة التاريخ الصرف تثقل على جمهور القراء وخصوصا في بلادنا، والعلم لا يزال عندنا في دور الطفولة، فلا بد لنا من الاحتيال في نشر العلم بيننا بما يرغب الناس في القراءة، والروايات أفضل وسيلة لهذه الغاية.
وقد صدر من تلك السلسلة إلى الآن ست حلقات تتضمن وصف أهم وقائع التاريخ الإسلامي إلى مقتل ابن الزبير وخلوص الخلافة لعبد الملك بن مروان،
1
وقد آنسنا من جمهور القراء شوقا إلى التوسع في هذا التاريخ واستطلاع كنه التمدن الإسلامي، ورأينا في أفاضل كتابنا تطلعا إلى البحث في هذا التمدن والنظر في علاقته بالتمدن الأوربي الحديث، وكتب إلينا غير واحد من أهل الأدب يسألوننا رأينا في ذلك، فرأينا أن نجعل تتمة السنة العاشرة من الهلال كتابا في هذا الموضوع نبين فيه تاريخ هذا التمدن ونستطرد مع الكلام إلى علاقته بالتمدن الإفرنجي.
Shafi da ba'a sani ba
وتاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها، لا تاريخ حروبها وفتوحها، وخصوصا على ما تعوده مؤرخو العرب في تاريخ الإسلام، فإنهم يسردون الوقائع على علاتها، وقلما يشيرون إلى الأسباب التي تربط تلك الوقائع بعضها ببعض بحيث يرتاح العقل إلى تعليلها والنظر فيها وترسخ في ذهنه حقيقة تلك الأمة، على أننا نظنهم معذورين في ذلك باعتبار ما كانت تدعوهم إليه الحال من تجنب الخوض في أسباب تلك الوقائع، وأكثرها لا ينجو الباحث فيه من الانتصار لأحد الجانبين وهم يتجنبون ذلك، ولعل لهم عذرا آخر.
أما الآن فليس هناك ما يمنعنا من الخوض في هذا العباب، وقد حاول غير واحد من المستشرقين - من الإفرنج وغيرهم - استطلاع كنه ذلك التمدن، فلم يجدوا في كتب القوم ما يشفي غليلا، لتشتت تلك الحقائق وتبعثرها، ولذلك لما نشرنا في العام الماضي عن عزمنا على تأليف هذا الكتاب، كتب إلينا جماعة من هؤلاء الأفاضل يستغربون إقدامنا على ركوب هذا المركب الخشن.
والحق يقال إننا أعلنا هذا العزم ونحن لا نتوقع العثور على ما يزيد على صفحات تتمة السنة العاشرة من مجلة «الهلال» (160 صفحة) فشمرنا عن ساعد الجد وبذلنا جهد المستطاع في مطالعة ما كتبه العرب في الأدب والتاريخ والسياسة وسائر العلوم فيما وفقنا إليه من الكتب المطبوعة والمخطوطة ...
ومن أمثلة ما قرأناه من كتب التاريخ والفتوح والتقاويم مؤلفات البلاذري والمسعودي وابن الأثير وابن خلكان وأبي الفدا وابن خلدون وابن طاطبا والسيوطي والمقري من المؤرخين، وابن خرداذبة والأصطخري وياقوت الحموي من الجغرافيين، ومن كتب الأدب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكشكول، والمستطرف، للإبشيهي، وسراج الملوك للطرطوشي، وغيرها، ومن كتب التفسير والحديث والفقه تفسير الرازي والزمخشري وصحيح البخاري ومشكاة المصابيح والهداية وغيرها.
ومن كتب السياسة والإدارة كتاب الخراج لأبي يوسف، وكتاب الخراج وصنعة الكتابة لقدامة بن جعفر، والأحكام السلطانية للماوردي والعقد الفريد للملك السعيد، ومقدمة ابن خلدون، وغير ذلك من الكتب في موضوعات أخرى لا يخطر للمطالع أنها تفيد في هذا الموضوع، وقد عثرنا فيها على فوائد جمة، مثل حياة الحيوان للدميري، وعجائب المخلوقات للقزويني، وغيرهما، فضلا عن المعاجم والفهارس مثل كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وكتاب كشف الظنون لحاجي خليفة، وكليات أبي البقاء، وغيرها، وكل ذلك في اللغة العربية ...
ثم طالعنا ما يستطاع الوصول إليه مما ألفه الإفرنج في الإسلام وتاريخه وآدابه في اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية، مثل كتاب جستاف لوبون الفرنسي في تمدن العرب
2
وكتاب ليبو في تاريخ الدولة الرومانية الشرقية المعروفة بالبيزنطية
3
ومقالات في المجلة الآسيوية الفرنسية،
Shafi da ba'a sani ba
4
وكتاب فون كريمر بالألمانية في تاريخ تمدن المشرق،
5
وكتاب مولر الألماني في تاريخ الإسلام في الشرق والغرب،
6
وكتاب ستانلي لين بول الإنجليزي في الدول الإسلامية
7
وكتاب إدوارد جيبون الإنجليزي في اضمحلال الدولة الرومانية وسقوطها
8
وغيرهم.
Shafi da ba'a sani ba
وقد زاد عدد ما طالعناه من الكتب العربية والإفرنجية على مائتي مجلد ... عدا ما راجعناه من القواميس العامة والموسوعات على اختلاف اللغات والموضوعات، مع ما رسخ في ذهننا من مطالعة تاريخ المشرق بتوالي الأعوام، فوفقنا بعد كل ما تقدم إلى ما يملأ أضعاف الكتاب المطلوب من الأبحاث الفلسفية في تاريخ ذلك التمدن العجيب، من الوجوه السياسية والإدارية والعلمية والأدبية والأخلاقية، فلم نر بدا من تقسيم الموضوع إلى أجزاء نصدر الجزء الأول منها الآن، ثم نصدر ما يليه من الأجزاء تتمة للسنين التالية من الهلال إن شاء الله.
فالجزء الأول، وهو هذا، أساس ما يليه من الأجزاء، وقد صدرناه بمقدمات تمهيدية في العرب والتمدن وحال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة قبيله، والحكومة في الجاهلية وتاريخ الكعبة وقريش إلى ظهور الدعوة الإسلامية وكيفية ظهور هذه الدعوة، وانتشار الإسلام والفتوح الإسلامية إلى قيام الدولة الأموية فالعباسية فالأموية الأندلسية فالفاطمية فغيرها، وقد نظرنا في كل ذلك نظر الناقد، فلم نذكر حادثة إلا أسندناها إلى عللها وأسبابها وبينا ما نتج عنها وذكرنا علاقتها بما بعدها ... وخصوصا فيما ساعد العرب على فتح المملكتين الفارسية والرومية (البيزنطية) مع قلة عددهم وضعف معداتهم، وهو بحث فلسفي لم يستوفه أحد في لغة من اللغات على ما تعلم - إلا ما قد تراه في كتب الباحثين من الإفرنج وأكثره مختصر لا يروي غليلا - ولا يعابون في ذلك والموضوع بعيد عنهم ولا علاقة له بأحوالهم ولا بأديانهم ولا بآدابهم ولا بتاريخهم إلا قليلا - وإنما اللوم علينا نحن أبناء هذا اللسان - وقد سبقنا الإفرنج إلى البحث في تاريخ بلادنا وأمتنا وآدابنا وأخلاقنا.
وعمدنا بعد تلك المقدمات إلى النظر في المملكة الإسلامية في إبان عزها وفي إحصائها، ثم في الدولة الإسلامية وإدارتها وكيف نشأت وتشعبت إلى الوظائف المتعددة كالخلافة وما يتبعها والوزارة وولاية الأعمال وبيت المال والجند وسائر الدواوين، ثم ذكرنا تاريخ كل هذه الإدارات والوظائف وما تفزع منها أو ألحق بها، وقد عانينا المشاق الكبرى في استخراج حقائق تلك التواريخ من كتب القوم، فربما قرأنا المجلد الضخم فلا نستفيد إلا فقرة أو فقرتين، وقد لا تتم الحقيقة الواحة إلا بمطالعة المجلدين أو الثلاثة.
ومن أمثلة ما اتفق لنا من هذا القبيل أننا بعدما كتبنا تاريخ ولاية الأعمال وتاريخ القضاء في الدولة الإسلامية، عمدنا إلى البحث عن رواتب العمال ورواتب القضاة في زمن الخلفاء الراشدين، فوجدنا في فتوح البلدان للبلاذري أن عمر بن الخطاب «بعث عمار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة وجيوشهم، وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، إلخ» لكنه لم يذكر مقدار عطاء أحد منهم، ثم وجدنا في كتاب سراج الملوك للطرطوشي في باب سيرة السلطان في الإنفاق من بيت المال وسيرة العمال قوله «ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار فأجرى على عمار ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه، وعبد الله بن مسعود مائة درهم كل شهر، إلخ» ولم يذكر منصب عمار ولا منصب ابن مسعود، ولكننا جمعنا بين الروايتين فاستنتجنا منهما أن راتب من يتولى الجيوش والصلاة في عمل من الأعمال، كان على عهد عمر بن الخطاب ستمائة درهم، وراتب القاضي مائة درهم في الشهر، وعلمنا من قرائن أخرى أن الذي يتولى الصلاة والجيوش في أيام عمر هو العامل، ومن قرائن أخرى أن عمارا كان عاملا لعمر على الكوفة، فتحققنا من مجموع ما تقدم أن راتب العامل كان على عهد عمر ستمائة درهم وراتب القاضي مائة درهم - وقس على ذلك.
وسنبحث في الجزء الثاني عن ثروة المملكة الإسلامية وغنى أهلها وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء في مجالسهم وألعابهم واهتمامهم بالعلم والعملاء والشعر والشعراء والدخول عليهم وجلوسهم للناس وقصورهم وبذخهم وركوبهم وضيافتهم وكرمهم والأبنية الإسلامية والمدن الإسلامية إلخ ...
والجزء الثالث يبحث في العلوم والآداب والشعر والصناعة وحالها في الشام والعراق قبل الإسلام، وكيف ارتقى إليها المسلمون وتاريخ ذلك الارتقاء ومقداره.
والجزء الرابع يبحث في الآداب الاجتماعية في تلك العصور الزاهرة على ما يقتضيه المقام.
9
وسنختم المقام ببيان نسبة التمدن الإفرنجي الحديث إلى التمدن الإسلامي، ويكون الكلام في ذلك جليا واضحا بعد تفصيل عوامل هذا التمدن في الأجزاء السابقة.
10
Shafi da ba'a sani ba
فترى مما تقدم أن الموضوع شاق ووعر، فضلا عن حداثته في عالم التأليف مع قصورنا في هذا الشأن، وفي ذلك تمهيد للعذر على ما قد يشوب هذا الكتاب من النقص، ونتقدم إلى أهل الفضل أن يؤازرونا بملاحظاتهم وآرائهم للانتفاع بها فيما سيصدر من الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.
مقدمة (2)
ظهر هذا الكتاب منذ بضع عشرة سنة، فتناوله الأدباء والعلماء بالتقريظ والانتقاد في الصحف العربية وغيرها، وجاءتنا كتب أهل العلم من أقطار العالم الإسلامي ينشطوننا ويستحثوننا، وفيهم من جاهر صريحا أنه لم يكن يظن تأليف مثل هذا الكتاب ممكنا، لقلة المآخذ المساعدة على ذلك، فزادنا تنشيطهم ثباتا على هذا العمل حتى ظهر الكتاب في أجزائه الخمسة.
وكان له وقع خاص عند أدباء اللغات الأخرى، فأخذوا في نقله كله أو بعضه إلى ألسنتهم، فنقل إلى أهم اللغات الشرقية - نعني الفارسية والأوردية والتركية، ظهر مطبوعا فيها كلها - ونقل إلى أهم لغات أوربا - نعني الإنجليزية والفرنسية - وقد ظهر جزؤه الرابع في الأولى وسيظهر جزؤه الأول في الثانية، وتضاعف الإقبال على الطبعة العربية حتى نفذت نسخ هذا الجزء منذ بضعة أعوام، ونحن نتحين الفرص لإعادة طبعه، فلم نتمكن من ذلك إلا الآن.
وما برحنا منذ صدور الطبعة الأولى ونحن نجمع ما يمر بنا من الفوائد التي يحسن إدخالها في هذا الكتاب عند إعادة طبعه، فاجتمع لدينا من ذلك شيء كثير أضفناه إلى هذه الطبعة، ونظرنا فيما وصل إلينا من انتقادات المنتقدين أو ملاحظات الملاحظين مما نشر في الصحف أو الكتب أو جاءنا في الكتب الخصوصية، وتدبرناها كلها بإخلاص وروية فأصلحنا ما صح عندنا وأغفلنا الباقي - وهو الأكثر - وإنما توهم المنتقدون خطأه، لأنهم نظروا فيه من وجه غير الذي نظرنا منه نحن، أو أننا اطلعنا عليه في مصادر لم يطلعوا عليها، فاكتفينا في هذه الحال يذكر المصدر الذي عولنا عليه في ذيل الصفحة.
فجاءت هذه الطبعة أكبر من الأولى وأوفر مادة وأحسن ترتيبا وأكثر صورا وأشكالا، وفي ما أضفناه له من الصور أو الخرائط ما يزيد البحث إيضاحا، فعسى أن يقع عملنا هذا موقع الاستحسان، وحسبنا أننا قمنا ببعض الواجب في سبيل آداب هذا اللسان.
مقدمات تمهيدية
البحث في تمدن الأمة يتناول النظر فيما بلغت إليه من سعة الملك والعظمة والثروة ووصف ما رافق تمدنها من أسباب الحضارة وثمارها، ويدخل في ذلك تاريخ العلم والأدب والصناعة ولوازمها، كالمدارس والمكاتب والجمعيات، وبسط حال الدولة ومناصبها وما انتهت إليه من الرخاء، وما هو مقدار تأثير ذلك في هيئتها الاجتماعية، وذلك يستلزم وصف عادات الأمة وآدابها الاجتماعية ومناحيها السياسية وإسناد ذلك إلى أسبابه وبواعثه.
غير أن النظر في هذا التمدن على هذه الصورة، لا يكون واضحا وافيا إلا إذا تقدمه البحث عن حال تلك الأمة في بداوتها، وكيف تدرجت إلى الحضارة وما هي العوامل التي ساعدتها على ذلك، والبحث المشار إليه ضروري خصوصا في تاريخ التمدن الإسلامي، لأن فيه عوامل خاصة به لا وجود لها في تمدن الأمم الأخرى.
وبناء على ذلك لم نر بدا من تصدير هذا الكتاب بمقدمات تمهيدية، نبسط فيها حال العرب قبل الإسلام ونسبتهم إلى التمدن وما تقدم الدعوة الإسلامية من أحوال تلك الأمة ... وكيف كانت جزيرة العرب عند ظهور الدعوة، وكيف كانت حال الروم والفرس يومئذ ... وما الذي ساعد هؤلاء العرب على فتح تينك المملكتين مع قلة عددهم وضعف معداتهم ... وكيف نشأت الدولة الإسلامية وارتقت من حالها الدينية في أيام الراشدين إلى حالها السياسية في أيام الأمويين فالعباسيين فالفاطميين فغيرهم.
Shafi da ba'a sani ba
فإذا فرغنا من ذلك، عمدنا إلى الكلام في سعة المملكة وتاريخ إداراتها ومناصبها وغير ذلك.
فنبدأ بوصف حال العرب قبل الإسلام. (1) العرب والتمدن
زعم بعض الكتاب من الإفرنج أن العرب لا فضل لهم في تمدنهم الإسلامي، لأنهم أنشأوه على أنقاض التمدنين البيزنطي والفارسي، فالتمدن الإسلامي عندهم عبارة عن مزيج من ذينك التمدنين، مع بعض التعديل، وأن العرب من فطرتهم بعيدون عن الحضارة، لأنهم لم ينشؤوا تمدنا من عند أنفسهم في عصر من العصور الجاهلية ولا الإسلامية، وعندنا أن العرب أكثر الأمم استعدادا للحضارة وسياسة الملك، لا يقلون في ذلك عن سواهم من الأمم التي تمدنت قديما أو حديثا وإليك البيان. (1-1) قدماء العرب
المشهور عند المؤرخين أن العرب يقسمون إلى قسمين كبيرين العرب البائدة كعاد وثمود، والعرب الباقية، وأن العرب الباقية يقسمون إلى القحطانية سكان بلاد اليمن وما جاورها، وهم ينتسبون إلى قحطان أو يقطان بن عامر وينتهي بأرفخشاد إلى سام، والإسماعيلية أو العدنانية وهم سكان الحجاز ونجد وما جاورهما من أواسط جزيرة العرب، وينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل من امرأته هاجر، ويسمون أيضا مضرية ومعدية لمثل ذلك السبب.
وقد بينا في كتابنا «العرب قبل الإسلام» ما كان للعرب من الدول القديمة فيما بين النهرين قبل الميلاد ببضعة وعشرين قرنا ... نعني دولة حمورابي واضع أقدم الشرائع الإنسانية التي وصلت إلينا، وقد أتينا من هناك بالأدلة التي ترجح كون دولته عربية، وبينا أن تلك الأمة كان لها تمدن عظيم وآداب راقية، وكانت للمرأة فيها منزلة وحرية، حتى تقلدت المناصب السياسية والقلمية
1
وتفرع من الحمورابيين بعد ذهاب دولتهم دول العمالقة المختلفة، ومن فروعهم عاد وثمود والأنباط وعرب تدمر وغيرها.
ويلي الحمورابيين عرب اليمن وهم القحطانية، وقد تمدنوا قبل العرب الإسماعيلية، لأن بلادهم أقرب إلى الخصب والرخاء من بلاد هؤلاء، فنشأت منهم دول قديمة عاصرت الفراعنة وملوك بابل وأشور، وقد ظهروا بعد الحمورابيين بعدة قرون، ذكرنا منهم الدول المعينية والسبئية والحميرية، أصحاب مأرب وصنعاء وغيرهما.
أما العرب الإسماعيلية وهم أهل الحجاز ونجد فأكثرهم أهل البادية، وقد ظهر منهم دول قبل الميلاد وبعده، أشهرها دول القبائل صاحبة الوقائع التي جرت بينهم قبيل الإسلام والتي تعرف بأيام العرب.
ثم إن العرب ليس في أرومتهم ما يمنع استعدادهم للحضارة، لأنهم إخوان الأشوريين والكلدانيين والفينيقيين ولهم استعدادهم وأهليتهم ... فالذين أقاموا منهم في بلاد مثل بلاد ما بين النهرين أدهشوا العالم بمدنيتهم، والمقيمون في جزيرة أكثر بقاعها جرداء لا أنهر فيها ولا جداول، وإنما يستقون من مياه المطر، قضوا قرونا في البداوة ... فلما أتيحت لهم الإقامة في البلاد الخصبة بعد الإسلام، لم يكن تمدنهم فيها يقصر عن تمدن أولئك.
Shafi da ba'a sani ba
حمورابي ملك بابل واقفا بين يدي إله الشمس.
فالتمدن الإسلامي ليس أول عهد العرب بالحضارة فقد كان المعينيون والسبئيون والحميريون واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، لتوسط بلاد اليمن بين الممالك المتمدنة في ذلك الحين فكانت تجارات الهند تحمل في البحر الهندي إلى بلاد اليمن وحضرموت، فيحملها أهل اليمن إلى الحبشة ومصر وفينيقية وبلاد الأدوميين والعمالقة وبلاد مدين وبلاد المغرب، وكذلك كان الإسماعيليون ينقلون التجارة من اليمن ومواني بحر العرب إلى بلاد الشام.
زينوبيا (الزباء) ملكة تدمر.
وساعد العرب على التوسع في وسائل التجارة - فضلا عن توسط بلادهم - أنهم كانوا يتكلمون لغة قريبة من لغات أكثر الأمم المتمدنة في ذلك الحين، لأن اللغات السامية كانت يومئذ لا تزال متقاربة لفظا ومعنى، فالعربي والكلداني والأشوري والعبراني والحبشي والفينيقي كانوا يتفاهمون بلا واسطة، لقرب عهد تلك اللغات بالتشعب بما يشبه حال اللغات العامية العربية المتشعبة من اللغة الفصحى الآن، فكان العربي من حمير أو مضر إذا جاء العراق لا يحتاج في مخاطبة الكلداني أو الأشوري إلى ترجمان، وكذلك إذا يمم فينيقية أو الحبشة فإنه يفهم لسان أهلهما كما يفهم الشامي لسان أهل مصر اليوم، ويؤيد ذلك ما جاء في التوراة عن إبراهيم الخليل فإنه نزح من بلاد الكلدان في نحو القرن العشرين قبل الميلاد واجتاز سوريا وفينيقية وبلاد العرب وخالط أهلها ولم يفتقر في مخاطبتهم إلى مترجم، وكذلك بنو إسرائيل في تيههم حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فإنهم قضوا أربعين سنة في أعالي جزيرة العرب ولم يحتاجوا إلى مترجم بينهم وبين أهلها.
والمسافر في بلاد العرب اليوم يجد أكثرها رمالا قاحلة، لكنه لو نقب تحت تلك الرمال في بعض المواضع، لوقف على آثار القصور وغيرها من بقايا المدنية، روى مؤرخو العرب البائدة عما خلفه العاديون من الأبنية الفخمة هناك ما نعده من الخرافات، لخروجه عن المألوف عندنا، مثل حديثهم عن مدينة إرم ذات العماد التي زعموا «أن شداد بن عاد بناها في الأحقاف في بقعة مساحتها عشرة فراسخ في عشرة، فجعل جدرانها من الجزء اليماني وغشاها بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وبنى داخل المدينة مائة ألف قصر على عمد من الزبرجد واليواقيت، طول كل عمود مائة ذراع، وأجرى في وسطها أنهارا وعمل فيها جداول إلى تلك القصور، وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت، إلى غير ذلك مما يفوق طور الإمكان، لكنه يشف عن حقيقة مهما قيل في تحقيرها، فإنها تدل على أن بعض أبنية العرب البائدة كانت مرصعة في بعض جدرانها أو أساطينها بالحجارة الكريمة، وهذا غاية ما يمكن أن يصل إليه البذخ والترف، ولا يكون ذلك إلا في إبان المدنية. (1-2) عرب اليمن
أما عرب اليمن القحطانية، فقد تمدنوا تمدنا لا تزال آثاره مطمورة تحت الرمال في حضرموت ومهرة واليمن، وأشهر دولهم عند العرب حمير وسبأ وكهلان، وتاريخ هذه الدول أقرب عهدا من عاد وثمود، وقد اكتشف البحاثون بعض آثارهم، وأكثر ما اكتشفوه أنقاض بعض الأبنية في صنعاء وعدن وحضرموت، فاستخرجوا منها ألواحا مكتوبة بالقلم الحميري «المسند» أكثرها دعاء ديني أو نحوه، ولم يتمكنوا من التنقيب عن الدفائن المهمة في داخلية البلاد لمشقة الوصول إليها، ناهيك بما ذكره مؤرخو العرب عن أبهة تلك الدول وكانت قد انحلت قبل الإسلام، لكن أخبارها كانت إلى ذلك العهد لا تزال مألوفة وفيها ما يدل على تمدن قديم لا يقل عن تمدن الأشوريين والمصريين والفينيقيين، فقد أنشأوا المدن وعمروا القصور وغرسوا الحدائق ونحتوا التماثيل وحفروا المناجم ونظموا الجند وفتحوا البلاد ووسعوا التجارة وأتقنوا الزراعة، وقد ذكرهم هيردوتس الرحالة اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد فقال «إن في جنوبي بلاد العرب وحدها البخور والمر والقرفة والدار صيني واللاذن» وعدها من أغنى ممالك العالم في زمانه.
الحروف الحميرية «المسند» وما يقابلها في العربية.
ومن آثار العرب في اليمن، ما لا يزال التاريخ يلهج بذكره ويعد من عجائب الأبنية، نعني بذلك السد المشهور بسد مأرب، بنوه نحو القرن الثاني قبل الميلاد كما بنى محمد علي «باشا» القناطر الخيرية في رأس الدلتا، وكما بنت الحكومة المصرية خزان أسوان.
سد مأرب
وسد مأرب هذا، عبارة عن حائط موصل بين جبلين يحجز الماء الذي يسيل بينهما، فيرتفع ويروي السفحين إلى أعلاهما، جعلوا فيه شعبا وأقنية وساقوا إليه سبعين واديا تصب مياهها فيه، فمثل هذا السد العظيم يحتاج إلى مهارة في الهندسة وهمة عالية، وهو أقدم خزان للماء ذكره التاريخ، وعرب اليمن أسبق الأمم إلى هذه الهندسة، وكان بناؤه متينا صبر على صدمات الماء وتأثيرات الهواء بضعة قرون، ولما ضعفت الدولة عن تجديده وأحسوا بقرب تهدمه أخذوا في المهاجرة من جواره، في أواسط القرن الثاني للميلاد، وتفرقوا في البلاد، والمشهور عند العرب أن الغساسنة في الشام، والمناذرة في العراق، والأوس في المدينة، والأزد في منى وخزاعة بجوار مكة منهم «أي من عرب الجنوب»، ثم انفجر السد وطغت المياه فهاجر من بقي، وذلك ما يعبرون عنه بسيل العرم.
Shafi da ba'a sani ba
وذكر إسترابون الرحالة اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، أن مأرب كانت في زمانه مدينة عجيبة، سقوف أبنيتها مصفحة بالذهب والعاج والحجارة الكريمة، وفيها الآنية الثمينة المزخرفة مما يبهر العقول، وذلك يهون علينا سماع ما ذكره العرب عن إرم ذات العماد.
وفي اعتقادنا أنهم لو بحثوا في أنقاض مأرب وصنعاء وغيرهما من عواصم ملوك سبأ وحمير لعثروا على أحافير ثمينة تكشف للعالم عن تاريخ جديد كما كشفت آثار وادي النيل عن تاريخ الفراعنة، وكما كشفت آثار وادي الفرات عن أخبار ملوك أشور وبابل، ولا يتأتى ذلك إلا بإرسال البعثات العلمية للحفر والتنقيب. (1-3) الأنباط
ومن الأمم العربية التي تمدنت قبل الإسلام الأنباط أصحاب مدينة بطرا
بين فلسطين وشبه جزيرة سيناء وقد امتدت سيطرتهم على تلك الجزيرة وما جاورها من جزيرة العرب إلى الحجاز، وكان الأنباط واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، وقد عاصروا الرومان في إبان مجدهم وكثيرا ما كانوا عونا لبعض قوادهم في الحروب حتى تأتى لأحدهم وهو الملك الحارث الثالث أن يتولى دمشق برهة قصيرة في القرن الأول للميلاد قبل عهد الغساسنة بأجيال، وقد ضرب النقود باسمه واسم الحاكم الروماني هناك، وما زالت دولة الأنباط سائدة إلى أوائل القرن الثاني للميلاد فدخلت في حوزة الروم وضاعت فيها ولا تزال أنقاضها في بطرا وعليها الكتابة النبطية يقرأونها كما يقرأون الكتابة الحميرية.
2
نقود الحارث الثالث وأسكاوروس.
ومن الأمم العربية التي تمدنت قديما العمالقة، وقد تفرعوا من الحمورابيين على ما نظن وهم مشهورون بشدة البطش، ومنهم الملوك والرعاة الذين فتحوا مصر وتولوها عدة قرون، غير مستعمرات العرب في مشارف الشام والعراق ومن مدنهم بصرى في حوران للغساسنة، والحيرة في العراق للمناذرة ...
أيقال بعد ما تقدم أن العرب بعيدون بفطرتهم عن الحضارة؟ (1-4) التمدنان اليوناني والفارسي
مسكوكات نبطية.
على أننا لا ننكر أن التمدن الإسلامي قام على أنقاض التمدنين اليوناني والفارسي، لكن شأن العرب في ذلك مثل شأن اليونان والرومان والفرس وسائر الدول العظمى ... لأن اليونان اقتبسوا أكثر عوامل تمدنهم من المصريين وزادوا فيها ووسعوها على مقتضى مؤثرات الطبيعة، حتى صار تمدنا معروفا بهم، فأخذ عنهم الرومان وعدلوا فيه تعديلا طفيفا جدا، وكذلك الفرس فإن تمدنهم قام على أنقاض تمدن الأشوريين والبابليين والكلدانيين قبلهم وأخذوا أيضا عن اليونان.
Shafi da ba'a sani ba
على أن تلك الأمم لم تستطع الظهور في عالم الحضارة إلا بعد أجيال متوالية، أما العرب فلم يمض على نشوء دولتهم قرن حتى ظهر تمدنهم وبانت ثمار عقولهم، وفي القرنين الثاني والثالث الهجري ملأوا الأرض علما وأدبا ومدنية وحضارة.
وزد على ذلك أن الجرمان الذي نشأ منهم فيما بعد عدد من أعظم دول الأرض، قضوا أجيالا متطاولة وهم يغيرون على الدولة الرومانية قبل الإسلام وبعده، وفتحوا كثيرا من مدنها ودخل بعضهم رومية نفسها ولم يكن من ثمار فتوحهم في القرون الأولى غير النهب والقتل، واعتبر ذلك في غزوات الهون في القرن الخامس للميلاد، فإنهم اكتسحوا شمالي الدولة الرومانية وشرقيها، وفتحوا المجر ورومانيا وسائر شرق أوروبا، وأنشأوا هناك دولة عرفت بدولة الخاقانات حكمت مائتي سنة - كما فعل العرب باكتساح سوريا ومصر والعراق - لكن الهون لم ينشؤوا تمدنا ولا خلفوا حضارة مع أنهم أقرب إلى مركز التمدن اليوناني من العرب. وغزا الصقالبة في القرن السادس للميلاد الدولة الرومانية الشرقية حتى طرقوا أبواب القسطنطينية ثم عادوا ولم يتمدنوا. ألا يدل ذلك على أن في العرب استعدادا خاصا للحضارة؟ (2) الحجاز في العصر الجاهلي
لجاهلية العرب عصران الجاهلية الأولى في عهود من ذكرنا من أمم العرب البائدة ومن خلفهم في اليمن وغيرها، والجاهلية الثانية نريد بها حالة جزيرة العرب ولا سيما الحجاز قبل الإسلام بعدة قرون، وللحجاز شأن خاص في ذلك، ففي الجاهلية الثانية تمدن العرب في جنوبي جزيرة العرب وفي شماليها وظل أهل الحجاز في أواسطها على بداوتهم، لجدب أرضها وجفاف تربتها مع بعدها عن الاحتكاك بالدول المتحضرة، لتوسطها في الصحراء ووعورة المسالك إليها، حتى امتنعت على الفاتحين العظام مثل رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبله، وإيليوس غالوس على عهد يوليوس قيصر في القرن الأول للميلاد، وامتنعت أيضا على ملوك الفرس في إبان دولتهم فآل امتناعهم هذا إلى اطمئنانهم وسكونهم، والإنسان لا ينزع إلى الإصلاح إلا مضطرا، بخطر أو نحوه، ولكنه مفطور على الأثرة والمنافسة، فقامت المنازعات بين العرب أنفسهم وأصبحت مصادر الارتزاق فيها الغزو والنهب ... فشغلهم ذلك عن الالتفات إلى المصادر الأخرى.
على أنهم كانوا على جاهليتهم أهل أنفة وذمام وكرم ووفاء، مما يدل على استعدادهم لمستقبل عظيم.
قضى أهل الحجاز في جاهليتهم الثانية قرونا لا يعلم مقدارها إلا الله وهم في حال البداوة، إلا ما اقتبسوه ممن هاجر إليهم من جالية اليمن جيرانهم، أو من لجأ إلى بلادهم من اليهود، وخصوصا في القرون الأخيرة قبل الميلاد والأولى بعده، فرارا من اضطهاد حكامهم الرومانيين ولا سيما بعد خراب بيت المقدس، وربما هاجر إليهم أيضا قوم من الأنباط وهم أهل تمدن كما تقدم، فجعلوا مكة والمدينة والطائف دار هجرتهم بعد استبداد الرومان بهم، أما اليهود فكانوا يقيمون في يثرب على الأكثر. (2-1) مكة
وكان لليهود تأثير عظيم على عرب الحجاز من حيث الآداب الدينية وطقوسها، فاقتبس العرب منهم أمورا كثيرة كانوا يجهلونها، كالحج والذبائح والزواج والطلاق والكهانة والاحتفال بالأعياد ونحوها، وعلموهم بعض أقاصيص التوراة وفصولا من التلمود، ونشروا بينهم كثيرا من تقاليدهم وعاداتهم، وقد يكون بعض تلك الآداب أو الطقوس متسلسلا إليهم مما كان عند أسلافهم في الجاهلية الأولى، فضلا عمن هاجر إلى الحجاز من أهل اليمن وغيرهم من الأمم التي كانت تحيط بجزيرة العرب، كالكلدان والمصريين والأحباش وغيرهم، فأصبح أهل الحجاز بعد ذلك الاختلاط فئتين أهل البادية الباقين على الفطرة وهم العرب الرحل، وأهل المدن المقيمين في مكة والطائف والمدينة وهم الحضر.
مكة ومسجدها وفي وسطه الكعبة في القرن الثامن عشر للميلاد.
وكانت مكة أشهر مدن الحجاز لاتخاذها محجا يؤمه الناس من أقاصي البلاد لزيارة الكعبة، فأصبحت بتوالي الأجيال مركزا للتجارة لمن يتوافد إليها من الحجاج في المواسم كل عام، فطمحت إليها أنظار أهل السلطة من القبائل القوية، وكانت في أوائل أزمانها في حوزة الحجازيين بني إسماعيل وهم سدنة الكعبة أي حجابها، ثم نزح إليها بنو خزاعة من اليمن بعد سيل العرم نحو القرن الثاني للميلاد وتسلطوا عليها، وغلبوا الحجازيين عليها بما تعودوه من السيادة في عهد دولتهم باليمن، وكان الإسماعيليون (أو العدنانيون) يومئذ ضعافا لا يقوون عليهم، ولكن ناموس الاجتماع قضى عليهم كما قضى على سواهم فدارت الدائرة بعد عدة أجيال على بني خزاعة وضعف أمرهم، وقوي أمر العدنانية، فتفرع منهم كنانة وتشعب من كنانة قريش.
قصي بن كلاب والكعبة
ففي نحو القرن الخامس للميلاد كان سيد قريش ورئيسها قصي بن كلاب بن مرة، وكان حكيما عاقلا ذا سياسة ودهاء، فتزوج ابنة ولي الكعبة (وهو من خزاعة)، طمعا في السدانة، فولد له أولاد اعتز بهم، واشتغل بالتجارة حتى صار غنيا، ولما اقترب أجل حميه أوصى بسدانة الكعبة لابنته زوجة قصي فاعتذرت بأنها لا تستطيع فتح الباب وإغلاقه - وهو عمل سادن البيت عندهم - فأوصى بالولاية لابن له اسمه المحترش أو أبو غبشان، وكان ضعيفا فابتاع قصي ذاك المنصب منه بزق من الخمر.
Shafi da ba'a sani ba
3
فشق ذلك على خزاعة، وحدثت بسببه حروب بينهم وبين قريش ثم تداعوا إلى الصلح والتحكيم، فحكموا بينهم رجلا من قريش فقضى لقصي، وما زالت سدانة الكعبة في قريش حتى جاء الإسلام.
وكانت سدانة الكعبة تستلزم السيادة على مكة، فجمع قصي أهله من قريش في مكة، وحولها فملكوه عليهم، فقسم مكة أرباعا بينهم، فبنوا المساكن وعمرت بهم وأصبح هو سيدهم في كل شيء، وخلفه بعده ابنه عبد مناف، وكان في جملة أولاد عبد مناف ولدان هاشم، وعبد شمس، فلما دنت وفاة عبد مناف أوصى بالسدانة لهما ثم انفرد بها هاشم، وكان لعبد شمس ابن اسمه أمية (جد بني أمية) حسد عمه على الرئاسة، فآل ذلك إلى المنافرة، فكره هاشم أن ينافر ابن أخيه فلم تتركه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشرين سنة، فرضي أمية وجعلا الكاهن الخزاعي حكما بينهما، فاستفتياه فقضى لهاشم بالغلبة فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها وغاب أمية عن مكة بالشام عشرين سنة على حسب الشرط، وكانت تلك أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وتوارثها أعقابهما إلى أيام الإسلام، وتولى الكعبة بعد هاشم ابنة عبد المطلب جد النبي صاحب الشريعة الإسلامية.
وكانت منزلة قريش من سائر قبائل العرب مثل منزلة اللاويين من بني إسرائيل، ولهم مثل امتيازاتهم، وهي تشبه امتيازات الكهنة في النصرانية، وكانوا لا يؤدون إتاوة ولا يتكلفون دفاعا ... يحكمون على الناس ولا يحكم عليهم أحد ... وكانوا يتزوجون من أية قبيلة شاءوا ولا شرط عليهم في ذلك، وكانوا لا يزوجون أحدا إلا اشترطوا عليه أن يكون متحمسا لدينهم - «التحمس التشدد في الدين»
4 - وقد فرضوا فروضا ألزموا الناس باتباعها. (3) حكومة العرب في الجاهلية
ونريد بالعرب خاصة عرب الحجاز وبالأخص قريش، لأن منها ظهر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
والحكومة في الجاهلية متشابهة عند سائر أهل البادية، فإن المناصب التي تعد عند أهل العالم المتمدن بالعشرات، تجتمع عندهم في شخص شيخ القبيلة، فالشيخ هو الملك، والقاضي، وصاحب بيت المال، وقائد الجند وكل شيء، وكانوا يختارون لهذه الرياسة أقواهم عقلا وأكثرهم دهاء وسياسة بلا تواطؤ أو تعمد، وإذا تساوى عدة منهم في القوة والدهاء اختاروا أكبرهم سنا وأوسعهم جاها، وإذا اجتمعت عدة قبائل في محالفة على حرب واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعا، اقترعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرج سهمه رأسوه، كبيرا كان أو صغيرا.
ذلك كان شأن العرب الرحل أهل الغزو والسطو، أما الحضر وهم أهل مكة فقد كانت السيادة فيهم لسادن الكعبة، ولما أفضت السدانة إلى قريش، صارت السيادة لهم في كل شيء. (3-1) الكعبة والتجارة وقريش
كانت قريش كما قدمنا حضرا أهل تجارة، وتجارتهم قائم أكثرها على الحجاج الذين يردون مكة في المراسم، فكان من مقتضيات مصلحتهم تسهيل طرق القدوم وترغيب الناس في الحج، وفي جملة ما بعث القبائل على زيارة الكعبة، أنه كان لكل قبيلة منها صنم خاص بها، تأتي في المواسم لزيارته والذبح له حتى زاد عدد الأصنام في الكعبة على ثلثمائة صنم وفيها الكبير والصغير، ومنها ما هو على هيئة الآدميين أو على هيئة بعض الحيوانات أو النباتات.
Shafi da ba'a sani ba
سوق عكاظ
وكان على مقربة من الطائف سوق يجتمع إليها الناس في الأشهر الحرم، فينصبون خيامهم بين نخيله، يبيعون ويشترون ويتبادلون، وهي سوق عكاظ المشهورة، وكان للعرب أسواق أخرى في أماكن أخرى، ولكن هذه كان يجتمع فيها أهل البلد المجاور لها ... وأما عكاظ فكان يتوافد إليها العرب من كل جهة، وزادت قريش في بواعث الاجتماع إليها بأنهم جعلوها مسرحا للأدب والشعر، تتسابق فيه القبائل إلى إظهار نوابغها من الشعراء والخطباء، فيتناشدون ويتحاجون ويتفاخرون، ومن كان له أسير سعى في فدائه، وكان لعكاظ في أيام الموسم رجل يولونه الحكومة للفصل في ما قد يقع من الخلاف أو نحوه، وكان الغالب أن يكون ذلك الحاكم من بني تميم، ومتى فرغ الناس من سوق عكاظ، وقفوا في عرفة، ثم يأتون مكة فيقضون مناسك الحج ويرجعون إلى موطنهم.
وكان رجال قريش يرحلون للتجارة رحلتين في العام رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى في حوران بضواحي الشام، فكانت مكة وسط عقد التجارة، بين اليمن والشام، وكانت طرق التجارة خطرة، إلا عليهم، لحفظ العرب حرمتهم، لأنهم ولاة الكعبة، وكانوا كثيرا ما يسافرون إلى بلاد فارس أو إلى الشام، فيأتون من الشام بالأنسجة والأطعمة، ويحملون من فارس السكر والشمع وغيرهما.
فالكعبة كانت مصدر رزق أهل مكة، ولولاها لما استطاعوا المقام في ذلك الوادي وهو غير ذي زرع، على أن أسفارهم ومخالطتهم العالم المتمدن في أطراف العراق والشام، جعلتهم أوسع العرب علما، وأكثرهم خبرة ودراية، ونظرا لعلاقة الكعبة بأسباب معائشهم بذلوا العناية في القيام على شؤونها، وسهلوا على الناس القدوم إليها، فأنشأوا فيها أماكن للسقاية وأخرى للطعام وجعلوا ما يجاورها حرما لا يجوز فيه القتال، وتولى بعضهم السقاية وبعضهم الرفادة وبعضهم غير ذلك، وما زالت تلك المناصب تتعدد حتى أصبحت قبيل الإسلام بضعة عشر منصبا، هي عبارة عن مناصب الدولة في ذلك العهد اقتسمتها قريش في بطونها، وأشهرها عشرة أبطن هاشم وأمية ونوفل وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم، لكل من هذه البطون منصب أو أكثر، وإليك هي:
مناصب القرشيين (1)
السدانة:
وهي الحجابة وصاحبها يحجب الكعبة وبيده مفتاحها ... يفتح بابها للناس ويقفله، ولها المقام الأول عندهم، ومثل هذا المنصب قديم عند اليهود فقد كان عندهم كاهن خاص لحراسة الهيكل يسمونه حافظ الباب، وقد جعل صاحب «العقد الفريد» السدانة والحجابة منصبين. (2)
السقاية:
وصاحبها يتولى سقاء الحجاج لقلة الماء في مكة فينشئ حياضا من الجلد، توضع في فناء الكعبة تنقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب، وما زال ذلك شأنهم حتى حفرت زمزم وكانت السقاية في بني هاشم. (3)
الرفادة:
Shafi da ba'a sani ba
وهي خرج كانت تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى صاحب الرفادة فيصنع منه طعاما يأكله الفقراء، وأول من أشار بالرفادة قصي المتقدم ذكره، وكانت الرفادة في بني نوفل ثم في بني هاشم. (4)
الراية:
كانت لقريش راية تسمى «العقاب» فكانوا إذا أرادوا الحرب أخرجوها، فإذا اجتمع رأيهم على واحد سلموه إياها وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها وكانت الراية لبني عبد الدار. (5)
القيادة:
وهي إمارة الركب، وصاحبها يسير أمام الركب في خروجهم للقتال أو التجارة، وكانت القيادة في بني أمية، وصاحبها منهم في أول الإسلام أبو سفيان والد معاوية. (6)
الأشناق:
وهي الديات والمغرم وصاحبها إذا احتمل شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه فيه، وكانت لتيم. (7)
القبة:
هي قبة كانوا إذا خرجوا إلى حرب ضربوها وجمعوا فيها ما يجهزون الجيش به، أشبه بما يسمى عندنا بالمهمات الحربية. (8)
الأعنة:
Shafi da ba'a sani ba
وهي أعنة الخيل وصاحب هذا المنصب يتولى خيل قريش ويدبر شؤونها في الحرب. (9)
الندوة:
وهي دار بناها قصي بجانب الكعبة للشورى فيجتمع فيها كبار قريش للمشاورة، ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين من عمره، وكان لا يتزوج رجل ولا امرأة إلا في تلك الدار، ولا يعقد لواء الحرب إلا فيها ولا تدرع جارية من قريش إلا فيها فيشق صاحب الدار درعها ويدرعها بيده، وكانوا يفعلون ذلك في بناتهم إذا بلغن الحلم، وكانت دار الندوة في أيدي بني عبد الدار. (10)
المشورة:
وصاحبها يستشار في الأمور الهامة، وكانت في بني أسد، فلم تكن قريش يجتمعون على أمر حتى يعرضوه عليهم. (11)
السفارة:
هي أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم من القبائل حرب، وأرادوا المخابرة بشأن الصلح بعثوا سفيرا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوا السفير منافرا ورضوا به، وكان آخر سفراء قريش في الجاهلية عمر بن الخطاب قبل أن يسلم. (12)
الأيسار:
وهي الأزلام التي كانوا يستقسمون بها للاستخارة ونحوها إذا هموا بأمر عام من سفر أو قتال، فكانوا يستقسمون بالأزلام بما يشبه سحب القرعة عندنا، وكان يتولى ذلك رجل من بني جمح. (13)
الحكومة:
Shafi da ba'a sani ba
وهي عندهم الفصل بين الناس إذا اختلفوا، وتشبه القضاء في الإسلام أو التحكيم. (14)
الأموال المحجرة:
وهي أموال كانوا يسمونها لآلهتهم، وفيها النقد والحلي وربما أشبهت بيت المال، وكانت ولايتها في بني سهم. (15)
العمارة:
ويراد بها أن لا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته.
5
فترى مما تقدم أن بعض هذه المناصب لا أهمية لها على الإطلاق، ولكن يظهر أنهم أكثروها ليرضوا كل بطون قريش، خوفا من التحاسد وإجلالا لقدر الكعبة والمبالغة في تعظيمها.
وترى أيضا أنهم جمعوا بها بين السياسة والدين والإدارة والحرب، ولكنهم اقتسموها فيما بينهم بما يشبه الجمهورية، أو هو نوع من الحكومة لا ترى له شبيها بين الأمم المتمدنة، وربما أشبهت الحكومة الشورية من بعض الوجوه، إلا أن للشورى رئيسا كالملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية وليس في هذه شيء من ذلك إلا ما قد يكون لصاحب دار الندوة أو السدانة من الرياسة. (3-2) النهضة العربية قبل الإسلام
إذا تدبرت تاريخ العرب قبل الإسلام على غموضه وإبهامه، تبين لك أمور تدعو إلى الاعتبار وإعمال الفكرة، منها أن العرب على اختلاف القبائل والبطون، قلما نبغ فيهم شاعر أو خطيب أو حكيم أو كاهن في عصورهم الجاهلية الثانية إلا بعد دخولهم في القرن الأول قبل الهجرة، ولا يعترض بضياع أخبار من ظهر منهم قبل ذلك التاريخ، فقد حفظوا أخبار عاد وثمود وصالح وهود قبل ذلك يقرون متطاولة، وذكروا بضعة شعراء ظهروا قبل القرن الأول المذكور، فلو نبغ غيرهم من الشعراء أو الخطباء لما ضاع ذكرهم ضياعا تاما، وأما تاريخهم في جاهليتهم الأولى وهم في بابل أو اليمن، فلم يصلنا منه ما يشفي الغليل.
فتكاثر الشعراء والخطباء والحكماء في القرن الأول قبل الإسلام دفعة واحدة هو ما عبرنا عنه بالنهضة العربية أو الأدبية، على أنها لم تكن تقتصر على الأدب والشعر ولكنها شملت الدين أيضا، فقد كان هناك نهضة دينية اضطربت فيها الأفكار واختلطت الاعتقادات، وأصبح أهل الجاهلية لا يعرفون لمن يصلون ولا إلى من يتوسلون، يذبح أحدهم للصنم ويدعو إلى الله، وفيهم عبدة الحجارة وعبدة النار وعبدة الأصنام، وفيهم الموحدون والمشركون وغير ذلك من أنواع العبادات المتضاربة، وقد ظهر في أثناء ذلك الاضطراب من حرم الخمر ورفض الأصنام، وأصبح الناس يتوقعون الفرج من باب النبوة، وكان ذلك حديث الناس في مجالسهم، فادعى النبوة غير واحد من قبائل مختلفة وهم بعضهم بادعائها مما يدل على تنبه الأذهان إلى أمر الدين والتفكير في عواقب الأعمال.
Shafi da ba'a sani ba