Tarihin Jaridun Larabawa

Filib Di Tarrazi d. 1375 AH
95

Tarihin Jaridun Larabawa

تاريخ الصحافة العربية

Nau'ikan

من كان في نكت البلاغة أوحدا

جابت «جوائبه» البلاد بأسرها

وغدت لها غرر المعاني سجدا

عرف الجميع علو رتبة علمه

وبفضله اعترف الأحبة والعدى

هو فارس بن يوسف بن منصور بن جعفر بن فهد الشدياق، من سلالة المقدم رعد ابن المقدم خاطر الحصروني الذي تولى جبل كسروان سبعا وثلاثين سنة في أوائل القرن السابع عشر.

ولد سنة 1804 في عشقوت بلبنان من أسرة مارونية تتسلسل منها فروع عيال شهيرة أتحفتنا برجال عظماء خدموا العلم والوطن، وحسبنا أن نذكر منهم السيد يوسف سمعان السمعاني صاحب «المكتبة الشرقية» وسائر العلماء السمعانيين، ومنهم المطران جرمانس فرحات الحلبي الطائر الشهرة، ثم البطاركة الموارنة يعقوب عواد، وسمعان عواد، وبولس مسعد، ويوحنا الحاج، وغيرهم من المطارنة والكتبة. ومن عائلته اشتهر أخوه أسعد، وأخوه الآخر طنوس مؤلف كتاب «أخبار الأعيان في جبل لبنان»، وأخيرا سليم فارس الشدياق ابن صاحب الترجمة.

لما بلغ فارس من العمر أشده تلقى الآداب العربية والسريانية في مدرسة «عين ورقة» فنال قصب السبق على أقرانه، وبعد ذلك سافر إلى القطر المصري فكتب في جريدة «الوقائع المصرية» وأكب على إتقان اللغة العربية حتى صار من أكبر جهابذة عصره فيها، ثم دعاه المرسلون الأميركان سنة 1834 إلى جزيرة مالطة حيث عهدوا إليه إدارة مطبعتهم وتصحيح مطبوعاتها، فأقام عندهم 14 سنة وعلم في مدارسهم ثم تبع مذهبهم البروتستاتني، وطبع هناك كتبا شتى من تآليفه وهي: «الواسطة في معرفة مالطة» ثم كتاب «اللفيف في كل معنى طريف» ثم «الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية»، وأخيرا «المحاورة الأنسية في اللغتين العربية والإنكليزية» ثم جال مدة عشر سنين في أوروبا وهو محافظ على لباسه الوطني ولم يغير منه شيئا، وعرب حينئذ «ترجمة التوراة» وصنف كتابين أحدهما «كشف المخبا عن فنون أوروبا» والآخر «الساق على الساق فيما هو الفارياق» طبع في باريز، والفارياق لفظ مقتطع من اسمه فارس الشدياق. وبعد ذلك كلفه باي تونس إلى خدمة مملكته وأرسل له سفينة مخصوصة لتقله إلى بلاده، فلبى الدعوة، وهناك ترك مذهب البروتستانت وتبع دين الإسلام؛ وصار يعرف بالشيخ أحمد فارس الشدياق.

وفي السنة 1857 اتخذ الآستانة محلا لسكناه فأنشأ فيها بعد ثلاث سنين جريدة «الجوائب» التي سبق وصفها، ثم ألف كتبا شتى مبتكرة في بابها نذكر منها: كتاب «سر الليال في القلب والإبدال» في مجلدين، وهو يحتوي على تبيين معاني الألفاظ وانتساق وضعها ، ثم كتاب «الجاسوس على القاموس» الذي انتقد فيه قاموس الفيروزآبادي، وكتاب «المرآة في عكس التوراة» لم يزل غير مطبوع، وهو يشتمل على أكثر من سبعمائة صفحة كبيرة، وكتاب «لا تأويل في الإنجيل» لم يزل غير مطبوع أيضا، وكتاب «الأجرومية»، وكتاب «النفائس في إنشاء أحمد فارس»، وكتاب «الروض الناضر في أبيات ونوادر»، وكتاب «غنية الطالب ومنية الراغب» في الصرف والنحو، وكتاب «السند الراوي في النحو الفرنساوي»، وكتاب «منتهى العجب في خصائص لغة الغرب» أتلفه الحريق قبل أن يطبع. وله ديوان شعر كبير الحجم بحيث إنه أعظم من كتاب الجاسوس، وكتاب «السلطان بخشيش» مع ترجمته للمسيو أرنو الترجمان الأصلي، وكتاب «التقنيع في علم البديع» وغيرها، وله أيضا عدة رسائل أدبية وردود على انتقادات الشيخ إبراهيم اليازجي اللغوية. وبهمته برزت من مطبعة الجوائب كتب شتى قديمة في التاريخ والشعر والأدب والمنطق والفقه استخرجها من مكاتب الآستانة وغيرها، ولا غرابة في ذلك فإنه كان أشهر من نار على علم بمآثره العلمية التي تنطق بأفصح بيان عما اتصف به من سمو المدارك وسعة المعارف ومضاء العزيمة في إحياء اللغة العربية. وقد ورد وصف قلمه في كتاب «تراجم مشاهير الشرق» فنقلنا عنه الفقرة الآتية: «امتاز المترجم بإتقان فني النظم والنثر والإجادة في كليهما؛ فتراه إذا نظم أو نثر إنما يفعل ذلك عن سعة وارتياح كأنه وعى ألفاظ اللغة في صدره وأخذ عليها عهدا أن تأتيه صاغرة حالما يحتاج إليها، فإذا خطر له معنى سبكه في قالب من اللفظ لائق به بغير أن يتكلف في ذلك مشقة أو ترددا؛ فترى كتاباته طلية طبيعية، ليس فيها شيء من التكلف أو التقعر على كونها بليغة فصيحة، والسبب في ذلك حدة ذهنه وقوة ذاكرته وسعة اطلاعه وكثرة محفوظه مع حرية قلمه، وكان يطلق لقلمه العنان غير محاذر، وأظنه السبب فيما نراه ببعض مؤلفاته من المجون الذي تنفر منه طباعنا وتمجه أذواقنا، على أن المجون إذا لم يتجاوز حده كان إحماضا أو هو بمثابة الملح للطعام، وذلك كثير في كتابات المترجم ؛ مما يرغب المطالع في المطالعة فلا يمل منها وإن طالت. ومن خصائص كتابة الشيخ أحمد فارس السلاسة وارتباط المعاني بعضها ببعض وانتساقها مع التوسع في التعبير وتتبع الموضوع إلى جزئياته مع مراعاة الموضوع الأصلي والعود إليه، وترى ذلك واضحا في كتابه «كشف المخبا» فإذا أراد وصف عادة من عادات أهل باريس مثلا فإنه يتطرق منها إلى ما يماثلها من عادات العرب أو الأتراك، فيذكر وجه الخطأ هنا أو هناك وما هو سبب هذه العادة، وربما جاء بتاريخها ومن جاء بها حتى يخال لك أنه خرج عن الموضوع، ثم لا تشعر إلا وقد عاد بك إليه بغير تكلف، وكل ذلك بغاية السلاسة والطلاوة مع البلاغة. وترى في مؤلفاته كثيرا من الألفاظ العربية جاء بها للتعبير عن معان حديثة إفرنجية لم تكن عند العرب وهي في الغالب تدل على حسن اختياره. ومن الأدلة على اقتداره في التعبير أنه مغال، فإذا مدح بلغ ممدوحه عنان السماء، وإذا هجا أنزل مهجوه دركات الجحيم، وترى كتاباته على بلاغتها وحسن سبكها تتجلى فيها البساطة والسهولة كأن كاتبها كان يكتب كل ما يمر بذهنه على غير تكلف أو مراعاة لخطة الكتاب قبله، وهو استقلال في الرأي واعتماد على النفس.»

ولم يفتر عن معاناة العلوم والمطالعة والتأليف حتى ضعف بصره وأثقلت الشيخوخة كاهله، فأوقف الجريدة وهبط مصر سنة 1885 حيث أكرم الوزراء والعلماء وفادته، وأثناء إقامته هناك نال شرف المثول لدى الخديو توفيق الأول الذي أثنى على خدمه الطويلة في سبيل إعلاء شأن اللغة العربية، ثم عاد إلى القسطنطينية ولم يفارقها حتى حل به القضاء المحتوم في 20 أيلول 1887 وهو في السنة الرابعة والثمانين من عمره، فأذاعت شركة روتر التلغرافية نبأ وفاته في أطراف المعمور ورثته جرائد الشرق والغرب بما يستحقه من الثناء، وبعد تسعة أيام شيعت جثته من الآستانة لتنقل إلى جبل لبنان مسقط رأسه، فجرى له مشهد فخيم اشترك فيه وزراء السلطنة وسفراء الدول الأجنبية والأمراء والعلماء والأطباء والتجار والأعيان وأرباب الجرائد، وقد دفنت جثته في الحازمية بغاية التعظيم والتكريم إلى جانب قبور المتوفين من حكام جبل لبنان، وقد جمع يوسف آصاف في كتاب عنوانه «هو الباقي» ترجمة الفقيد مع بعض ما ورد في رثائه من أقوال الجرائد وقصائد الشعراء التي أجمعت بأسرها على إكبار الخطب بفقده، فمن ذلك ما كتبته جريدة «الوطن» في القاهرة: «فالجرائد العربية بهديه اهتدت وبمثاله اقتدت ... فكان كالبحر الزاخر، الذي لا أول له ولا آخر، بل كان آية من آيات الله الكبرى في نثره ونظمه وتآليفه وتصانيفه.»

Shafi da ba'a sani ba