بعد فتح مكة بسنتين استولى الوهابيون على المدينة، وكانت الدعوة أثناء ذلك؛ أي دعوة التوحيد دينا وسياسة تنتشر في عسير واليمن حتى كادت تعم تهامة بأسرها. وكان الزعيمان عبد الرحمن أبو نقطة وطامي بن شعيب من أكبر حلفاء سعود هناك، فبايعته اللحية ثم الحديدة وبيت الفقيه، وكانت قد بايعته أشد القبائل بأسا، منها رجال ألمع في عسير وعرب اليام في نجران.
بعد فتح المدينة اتجهت أنظار أهل نجد إلى الشمال فوصلوا في غزواتهم إلى الجوف والبتراء (1220ه / 1805م)، واجتازوهما إلى حوران والكرك، فوقفوا منتصرين عند أبواب الشام وفلسطين. وقد أرسل الإمام سعود كتبا إلى الولاة هناك يدعوهم فيها إلى دين الله، ولكنه في طموحه إلى بلاد الشام لم يكن ذاك الرجل الذي دوخ البلاد العربية كلها فدانت له العرب حتى على حواشي الربع الخالي في نجران وعمان. ومع أنه حاول أن يتخذ له أنصارا من أولياء الأمر في سورية جريا على طريقته في الاستيلاء، فإن منعه للحج ومعاملة رجاله للحجاج أفسدا الأمر عليه. قال محمد كرد علي في كتابه خطط الشام: «خرج عبد الله باشا العظم (والي الشام يومئذ 1220ه) بالمحمل فحدثت بينه وبين الوهابيين أمور عظيمة، فهلك عسكره وانتهب الحاج.» وفي السنة التالية منع الإمام سعود الحجاج غير الموحدين عن الحج وأخرج من مكة من كان فيها من الترك. أضف إلى ذلك أنه لم يؤمن الأوروبيين الذين كانوا في جدة، فخرجوا منها سنة دخوله إلى مكة، وكانوا في مجرد عملهم ذاك حجة على حكمه.
أما الدولة العثمانية، وقد أصبح العدو على أبواب أغنى وأجمل ولاياتها، فلم تستطع في فساد أحوالها أن تقوم مباشرة بعمل خطير، ولكنها بعد أن كسر الوهابيون الجيوش التي أرسلها عليهم ولاتها في العراق والشام أدارت بنظرها إلى مصر، فطلبت من محمد علي باشا أن يتولى بنفسه إنقاذ الحرمين وإخراج أهل نجد من الحجاز.
قد تردد محمد علي في بادئ الأمر؛ لا لأنه لم يكن ليرغب فيه أو يستطيعه؛ بل لأن المماليك كانوا يومئذ مسيطرين وكان يخشى أن يترك البلاد وشئونها في أيديهم. أعاد الباب العالي الطلب مرارا وقد هدد الباشا إذا كان لا يذعن للأمر، والباشا راغب فيه، إلا أنه كان يتحين الفرص، وقد رأى في الإذعان ثلاث فوائد كبرى لنفسه؛ الأولى: أنه يبعد جيشه الألباني غير المنظم الكثير التمرد فيتمكن أثناء غيابه من تنظيم جيش مدرب على الطريقة الغربية، والثانية: أنه يأخذ من الدولة الأموال التي كان في حاجة إليها بحجة لزومها لنفقات الحرب المقدسة، والثالثة: أن هذه الحرب تجمع عواطف المسلمين في العالم على حبه وولائه بصفته منقذ الحرمين ومعيد مناسك الحج.
وفي هذه الأثناء كان الإمام سعود يحج ورجاله كل عام ويكسو الكعبة «بالقيلان الفاخر»، وكأنه تصالح والشريف غالب فآذنه بالعودة إلى مكة، وكان الاثنان يتزاوران ويتبادلان الهدايا. أما المؤرخ ابن بشر فهو لا يحسن الظن بالشريف، وقد قال في هذه المهاداة: «وأعطاه غالب مثل ذلك خدعة والمؤمن غر كريم.» هي كلمة لا تخلو من حق، فقد كان الشريف غالب مستمرا في سعيه الخفي لإخراج سعود وجماعته من الحجاز.
في خريف هذه السنة بعد قتل المماليك وإنجاز أسطول من السفن في السويس (1226 / 1811)، لبى محمد علي طلب الباب العالي، فأرسل ابنه طوسون الذي كان لا يزال في السابعة عشرة من سنه، يقود ثمانية آلاف من الجنود. جاءوا بحرا وبرا
9
إلى ينبع، ومعهم ضباط أوروبيون وعدد من المجازفين المسترزقين الذين كانوا في عسكر بونابرت، زحف هذا الجيش من ينبع بمعداته ومدافعه، وكان أهل نجد قد استعدوا للقائه، فخرج ثمانية آلاف منهم بقيادة عبد الله ابن الإمام سعود إلى مكان يدعى الخيف بوادي الصفرى قرب المدينة. هناك التحم الجيشان في العشر الأواخر من ذي القعدة، وكانت الغلبة بعد ثلاثة أيام من القتال الشديد لأهل نجد، فانهزم المصريون تاركين وراءهم الخيام والمدافع والذخيرة والأرزاق وعددا كبيرا، قيل: خمسة آلاف من القتلى والجرحى والشاردين ما عدا الخيل والرواحل. أما العرب فقد قتل منهم نحو ستمائة، وإذا فرضنا المبالغة في العددين فوقعة الصفرى تظل مع ذلك أكبر وقعات الحرب الوهابية حتى ذاك الحين.
تقهقر طوسون بما تبقى من جيشه المهزوم إلى ينبع، فأرسل منها يطلب النجدات.
وفي هذه السنة التي هي خاتمة المجد لآل سعود الأولين حج الإمام سعود للمرة السادسة أو السابعة وكسا الكعبة على عادته بالقيلان والديباج الأسود، ثم طاف رجاله في أسواق مكة يردعون الناس عن الخبائث، وينهون عن المنكر، فمن رأوا منه عملا مخالفا للشرع أدبوه في الحال بموجب الأحكام الشرعية. وقد أدت هذه الشدة إلى الردة في بعض البوادي كما سيلي.
Shafi da ba'a sani ba