وقد انتصر أهل التوحيد انتصاراتهم الأولى في البلدان المجاورة لهم بوادي حنيفة؛ أي في العيينة والجبيلة وحريملة وقراها، ثم استمروا غازين متقدمين حتى وصلوا شمالا إلى الزلفى وجنوبا إلى الخرج. على أن المناوئين في وسط البلاد، في الوشم وسدير ظلوا يقاومونهم أكثر من عشرين سنة وهم يحالفون أعداءهم الكبار مثل الدواس والعريعر عليهم.
قد كان سعود الأول إذا أخذ بلدا يولي عليه أحد أبنائه؛ أي أبناء ذاك البلد المتوجهين، كما فعل في العيينة التي كان عثمان بن معمر متوليا الإمارة فيها لصاحب الحساء. فقد تذبذب عثمان وتردد بين صاحبه وبين الموحدين، فقتل في المسجد بالدرعية فولى سعود ابنه مشاري بن معمر مكانه. وذلك برأيه كما يقول ابن بشر: «لا برأي الناس الذين أرادوا انقراض بيت معمر.» وهذه الخطة التي اتخذها سعود الأول هي خطة الملك عبد العزيز اليوم.
قلت: إن أهل الوشم وسدير لم يقبلوا في أول الأمر التوحيد بل ظلوا يقاتلون أهله، ويعيثون في بلدانهم فيغرونهم على الردة. لولا ذلك لما تمكن ابن دواس من محاربة آل سعود ثلاثين سنة، فكان إذا ضاق في الجنوب ذرعا يشغلهم بالدسائس في الشمال.
ولم تكن الوقعات في بادئ الأمر كبيرة، واشتد القتال في وقعة دلقة في قلب الرياض أمام القصر فقتل من الفريقين عشرون رجلا. ولم تكن الغارات كلها ويلا وثبورا . شن ابن سعود ورجاله الغارة على دهام في قصره بالرياض فرموه بالرصاص في عليته وخرجوا سالمين، كأنهم خرجوا إلى الصيد، وإن هي إلا نزهة في بعض الأحايين.
إلا أنها حرب في تأثيرها بالناس وفي أعم نتائجها، حرب متقطعة طويلة العهد، وقد كانت الوقعات تزداد شدة والقتلى يزدادون عددا كلما توسعت سيادة ابن سعود. بيد أنه لم يقتل في مدة ثلاثين سنة غير أربعة آلاف من العرب؛ ألف وسبعمائة من الموحدين وألفان وثلاثمائة من أعدائهم؛ أي مائة وثلاثة وثلاثون رجلا كل سنة. وقد لا يخلو حتى هذا العدد من المبالغة، خصوصا إذا كانت الوقعات أو أكثرها مثل التي يصفها ابن بشر في قوله:
وفي هذه السنة سار المسلمون وأميرهم عبد العزيز إلى الرياض وجرت وقعة عظيمة على أهل الرياض تسمى وقعة أم العصافير قتل فيها أربعة من أهل الضلال ولم يقتل من المسلمين غير واحد، ثم انقلب المسلمون إلى بلادهم بعد تحصيل مرادهم. «وقعة عظيمة» قتل فيها «أربعة من أهل الضلال»، هذا الذي يحملني على الإعجاب بابن بشر. فهو المؤرخ العربي الوحيد - على ما أظن - الذي لا تصعد أرقامه في عد الجيوش والقتلى إلى الآلاف، إلا في الفتوحات الكبرى التي سيجيء ذكرها.
بعد محمد بن سعود وإخوانه الأنصار ظهر عبد العزيز بن محمد الذي شرع في عهد أبيه بشن الغارات، فحمل رايات التوحيد إلى أقصى الأقطار العربية، وزرع بذور السيادة السعودية في البوادي والحضر، ولكنه على تعدد غزواته واتساع مجال جولاته، لم يكن غير ممهد السبيل لابنه سعود الفاتح الأول الأكبر.
وصل عبد العزيز في غزواته الغربية الجنوبية إلى وادي الدواسر (1178ه / 1764م)، فخرج عليه أهل نجران، فتقهقر إلى بلاد الخرج فتبعوه. وقد اصطدم الجيشان في حائر سبيع، فكانت الغلبة لأهل نجران الذين قتلوا أربعمائة من الموحدين. أما الفاجعة الأخرى في هذه الوقعة فهي أن دهام بن دواس الذي كان قد حالف آل سعود خذلهم، بل خانهم فانضم بجيشه إلى أهل نجران. ولما رجع عبد العزيز من هذه الوقعة الكبيرة عزاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب قائلا: لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
في السنة التالية لوقعة حائر سبيع توفي الأمير محمد فبويع على الإمامة ابنه عبد العزيز الذي ظل يغزو الغزوة تلو الأخرى وأكثرها على الرياض حتى تمكن من فتحها بعد خمس سنوات من إمامته؛ أي في السنة السابعة والثمانين والمائة والألف، ففر ابن الدواس هاربا.
ولم يأت بعد ذلك بحركة تزعج أهل التوحيد أو غيرهم من أهل نجد. مات دهام في الدلم على حاشية الربع الخالي المحرقة، وهو بعد هذه السنين الطوال يستحق الرحمة، فقد كان - رحمه الله - ثابتا في النضال والضلال، ثابتا في تصلبه وتقلبه.
Shafi da ba'a sani ba