الباب الأول: عهد الدولة العثمانية
1 - الفتح العثماني لمصر
2 - نبذة في تاريخ الدولة العثمانية
3 - حكم العثمانيين في مصر
ملخص بأهم الحوادث التاريخية الواردة في الباب الأول
الباب الثاني: تاريخ مصر من الحملة الفرنسية إلى انتهاء عهد محمد علي
1 - الحملة الفرنسية على مصر
2 - محمد علي باشا
3 - الطريق البري بين الهند وأوروبا
ملخص لأهم الحوادث التاريخية في الباب الثاني
الباب الثالث: تاريخ مصر بعد عهد محمد علي باشا
1 - عباس باشا الأول وسعيد باشا
2 - قناة السويس
3 - إسماعيل باشا
4 - المسألة المالية وانتهاء حكم إسماعيل باشا
5 - أوائل حكم توفيق باشا
6 - الحوادث العرابية
7 - عهد الاحتلال البريطاني
ملخص لأهم الحوادث في الباب الثالث
الباب الأول: عهد الدولة العثمانية
1 - الفتح العثماني لمصر
2 - نبذة في تاريخ الدولة العثمانية
3 - حكم العثمانيين في مصر
ملخص بأهم الحوادث التاريخية الواردة في الباب الأول
الباب الثاني: تاريخ مصر من الحملة الفرنسية إلى انتهاء عهد محمد علي
1 - الحملة الفرنسية على مصر
2 - محمد علي باشا
3 - الطريق البري بين الهند وأوروبا
ملخص لأهم الحوادث التاريخية في الباب الثاني
الباب الثالث: تاريخ مصر بعد عهد محمد علي باشا
1 - عباس باشا الأول وسعيد باشا
2 - قناة السويس
3 - إسماعيل باشا
4 - المسألة المالية وانتهاء حكم إسماعيل باشا
5 - أوائل حكم توفيق باشا
6 - الحوادث العرابية
7 - عهد الاحتلال البريطاني
ملخص لأهم الحوادث في الباب الثالث
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر
تأليف
عمر الإسكندري وسليم حسن
مراجعة
أ. ج. سفدج
محمد علي باشا رأس الأسرة المحمدية العلوية (عن صورة بدار الكتب السلطانية).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقص الحق من أنباء ما قد سبق، والصلاة والسلام على محمد أفضل من صدق فيما نطق، وعلى آله ضياء الغسق، ونظام النسق، وبعد؛ فهذا الكتاب يعتبر كجزء ثان لأول، هو «تاريخ مصر إلى الفتح العثماني»؛ غير أن السابق - لتطاول عصوره وتعدد أجياله - كان مجمل العبارة لطيف الإشارة، وهذا اللاحق - لتقارب العهد بحوادثه، وتعاظم العبرة بوقائعها - صار مسهب القول في جملة أغراضه عامة، وفي حوادث مصر الهامة خاصة.
وهو باتباعه هذه الخطة يطابق منهاج دراسة التاريخ لتلاميذ السنة الثانية من المدارس الثانوية المصرية، ملما بوقائع يحتمها المقام ويوجب سردها المنهاج إجمالا وإن لم يصرح بها تفصيلا، كما أنه بمزاياه المعهودة النظير في صنوه يفسح الرجاء لأن يقبل عليه غير التلاميذ من القراء.
وقد استقى هذا الكتاب من أوثق كتب التاريخ المعتبرة عربية وفرنجية، أهمها: تاريخ ابن إياس، تاريخ القرماني، تاريخ الإسحاقي، دولة المماليك للأستاذ السير وليم ميور، تاريخ تركيا للأستاذ استانلي لينبول، تاريخ أوروبا «مجموعة رفنجتون»، الترك العثمانيون تأليف كريسي، اضمحلال الدولة الإغريقية واستيلاء الترك على القسطنطينية تأليف إدون پيرز، دائرة المعارف البريطانية، القاهرة وبيت المقدس ودمشق للأستاذ مرجوليوث، دليل دار الآثار العربية، تحفة الناظرين للشيخ الشرقاوي، حقائق الأخبار عن دول البحار لصاحب السعادة إسماعيل باشا سرهنك، قصة القاهرة للأستاذ استانلي لينبول، مصر في القرن التاسع عشر تأليف كمرون، نابليون في مصر تأليف الحاج براون، الانقلاب المصري تأليف پيتن، تاريخ الجبرتي، البحر الزاخر لمحمود باشا فهمي، مذكرات عن محمد علي تأليف مري، محمد علي ومصر تأليف سنت جون، خطط علي باشا مبارك، بعض كتابات ألسن فلب، «الخديوية» تأليف ديسي، «مصر» تأليف البارون دي ملزتي، مصر والخديوي تأليف إدون ديليون، تكوين التاريخ الأوروبي تأليف هلند روز، دليل دار الآثار المصرية، مصر الحديثة للورد كرومر، الاقتصاد السياسي للطلبة المصريين تأليف الأستاذ طد، تاريخ القناطر الخيرية تأليف الماجور براون، تكوين مصر الحديثة للسير أوكلند كلفن، إنجلترا في مصر تأليف ملنر، تقارير معتمدي بريطانيا العظمى في مصر.
هذا، وإن عظيم الشكران وجزيل الثناء لمن كان لهم آثار مساعدة في تجميل رونق هذا الكتاب بالصور البديعة، وأجدرهم بالذكر حضرة البارع الدقيق علي أفندي يوسف الموظف بتنظيم القاهرة.
وفي نية المؤلفين إعداد كتاب في جزءين في تاريخ أوروبا الحديثة وآثار حضارتها، وفي الرجاء أن ينتهي الجزء الأول منهما قريبا إن شاء الله تعالى.
وحرر بالقاهرة في 8 ذي القعدة سنة 1334 الموافق 6 سبتمبر سنة 1916.
الباب الأول
عهد الدولة العثمانية
الفصل الأول
الفتح العثماني لمصر
كانت الدولة العثمانية منذ استتب سلطانها بآسيا الصغرى على تصادق ومصافاة لدولة المماليك الجراكسة المصرية، تدور بين سلاطينهما رسائل الوداد وعقود المهادنة. وابتدأ ذلك من عصر السلطان الظاهر برقوق المصري ومعاصره السلطان يلدرم «بايزيد» العثماني.
وبقيت هذه الحال مرعية إلى زمن السلطان «بايزيد الثاني» ابن محمد الفاتح؛ إذ نازعه أخوه الأمير «جم» في الملك، فقاتله بايزيد وهزم جيوشه، وفر جم إلى الأشرف قايتباي سلطان مصر ملتجئا فأجاره، وطلب بايزيد تسليمه إليه، فلم يجبه قايتباي، فحقد عليه. وانضم ذلك إلى النزاع القائم بينهما على إمارة أبناء ذي الغادر
1 - التي كانت في حماية مصر، ثم تدخلت الدولة العثمانية في شئونها وادعت حمايتها - وإلى ما بلغ بايزيد من أن قايتباي أخذ من رسول ملك الهند هدايا كان أرسلها إلى السلطان بايزيد؛ فاتخذ بايزيد من كل ذلك ذريعة إلى إعلان الحرب على الدولة المصرية، فجهز جيشا عظيما توغل في البلاد الشامية إلى قرب حلب؛ حيث التقى به جيش للمصريين؛ فكانت الهزيمة على العثمانيين، فأتبعه بجيش آخر كانت عاقبته كسابقه. وزحف الجيش المصري على البلاد العثمانية فالتقى بجيش جرار عثماني، فكانت الحرب بينهما سجالا مدة انتهت بالصلح والمصافاة، إلا أنها صارت سببا لتجسيم التنافس والتزاحم بين الدولتين على الاستئثار بالعظمة وبسط النفوذ والزعامة على الممالك الإسلامية.
من أجل ذلك لم يدم هذا الصلح طويلا؛ إذ أخذ العثمانيون من جهة يحرضون القبائل والإمارات التابعة لمصر على التخلص من سيادتها، ويضعون العراقيل في سبيل تجارتها مع غربي آسيا وأواسطها؛ مما جعل ورود الصوف ومنسوجاته وأنواع الفراء الفاخرة والمماليك الجراكسة إلى البلاد المصرية نادرا جدا، بل ممتنعا في أواخر أيام الغوري، وكان أشدها على المصريين امتناع ورود الرقيق من المماليك؛ إذ هم مادة الجيش ورجال الحكومة. ومن جهة أخرى أخذ سلاطين مصر يجيرون كل من التجأ إليهم من أبناء السلاطين العثمانيين والأمراء الفارين من وجه الدولة العثمانية، ثم استرسلوا في الأمر وهبوا يوادون من عادى العثمانيين من سلاطين الدول المجاورة لهم، مثل «أوزون حسن» سلطان العراق، ثم بعده الشاه إسماعيل الصفوي «المؤسس الثاني لدولة إيران الحالية» وغيرهما، ولم تزد هذه الموادة على أكثر من تبادل المراسلات، مع أن الشاه حاول جعلها محالفة دفاع وهجوم فلم يفلح لبعد ما بين الأمتين في المذاهب؛ وذلك من أغلاط الغوري. واستطار شرر هذه الإحن والأحقاد بسماح الغوري بأن يمر بطريق الشام الوفد الذي أرسله الشاه إسماعيل إلى مملكة البندقية ليعرض عليها أن يتحدا معا على محاربة العثمانيين، وبإجارة السلطان الغوري للأمير قاسم ابن أخي السلطان سليم الأول العثماني، وإجارة الشاه إسماعيل للأمير مراد أخي قاسم، وكان السلطان سليم أراد قتلهما، فطلبهما منهما فلم يجيباه؛ فكان ذلك - إلى خوفه من استفحال دولة الفرس الجديدة أو تحول المودة القليلة بين مصر وفارس إلى حلف سياسي وتناصر حربي - سببا لإعلان سليم الحرب على الفرس أولا ثم على مصر ثانيا.
ولما زحف السلطان سليم على بلاد الشاه إسماعيل وهزمه هزيمة منكرة أراد أن يكتسح جميع بلاده ويقضي على البقية من دولته، فوجد الشاه أتلف كل ما خلفه في مدنه وقلاعه من المئونة والذخائر، وانتظر سليم ورود غيرها من بلاده، فعلم أن قبائل التركمان وإمارة الغادرية التابعة لمصر قد أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه؛ فقلت الأقوات في معسكره واضطرب الجيش، فحرمه ذلك ثمرة انتصاره.
هذه كل المساعدة التي قامت بها مصر للشاه، مع أنها لو سيرت جيشا يقطع خط الرجعة على العثمانيين لكان التاريخ على غير ما هو عليه. فاضطر سليم إلى الرجوع إلى بلاده منتقما في طريقه من إمارة الغادرية؛ فقتل أميرها علاء الدين وضم بلاده إلى ملكه، وولى غيره من أبناء أسرته الغادرية، واحتج الغوري على ذلك، فقابل سليم احتجاجه بإرسال رأس علاء الدين إليه؛ وحينئذ علم الغوري أن الحرب واقعة لا محالة؛ فاستعد لملاقاته بتجهيز جيش عزم على أن يقوده بنفسه، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإن الشاه إسماعيل لم يعد في القوة التي كانت له قبل؛ فقد هلكت أبطاله، وتشتت شمل رجاله، وخربت بلاده، فأمن السلطان سليم غائلته وتفرغ لحرب مصر. ومع كل هذا كان من الممكن انتفاع الغوري بما بقي للشاه من القوة، ولكنه لم يفعل أو لم يقنع الشاه بضرورة ذلك.
أراد الغوري أن يستجمع كل ما عنده من قوة العدد والعدة، وكانت موارد الثروة قد نضبت بمصر لقطع البرتقال طريق التجارة الهندية عليها، فلم يكد يهم بجمع المماليك حتى تخاذلوا وتعللوا عليه بقلة النفقة المصروفة لهم وما هم فيه من العسر. وكان الفساد قد دب في أخلاقهم، وقلت وطنيتهم، وجرأهم على ذلك ميل الغوري إلى مماليكه الخاصة الذين جلبهم لنفسه واتخذهم عدة له يتقوى بهم على المماليك القدماء إذا هموا به، وبعد تساهل من الطرفين أمكن الغوري أثناء شتاء سنة (1515م/922ه) إعداد جيش يخرج به إلى حدود آسيا الصغرى، فجمع في هذا الجيش - على قلته - أكثر من في مصر من رجال القوة الحربية والأدبية؛ فخرج فيه الخليفة العباسي، وقضاة المذاهب الأربعة، ورؤساء مشايخ الطرق الصوفية، وكبار العلماء والأعيان، ورؤساء المغنين والموسيقيين والمضحكين وأرباب الصناعات وغيرهم، وترك بمصر حامية من المماليك تقدر بنحو ألفين، وأناب عنه الدوادار الكبير «طومان باي» ابن أخيه، وبلغه أن الأسطول العثماني يقصد الإسكندرية؛ فعزز حاميتها، وحصن قلاعها بنحو مائتي مدفع، وخرج من القاهرة بموكب عظيم تتقدمه الطبول والزمور وتدق أمامه الكئوس. خرج بهذا الجيش في شدة حمارة الصيف على غير عادة الملوك في خروجهم؛ فقاسى الجنود الأهوال والشدائد في اجتياز صحراء طور سيناء وأودية فلسطين، ودخل كل مدينة في الشام بموكب عظيم وخاصة مدينة دمشق وحلب وحماة.
السلطان الغوري في حاشيته - وهو الجالس على يمين الباب - (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الآثار العربية).
وخرج السلطان سليم من القسطنطينية بجيش عظيم مدرب على الحرب، ذكر بعضهم أنه يبلغ 150 ألف مقاتل مسلحين بكثير من المكاحل والمدافع والبندقيات، فلما صار على حدود الشام أراد أن يكيد للمصريين بمكيدتين، نجح في إحداهما وأخفق في الأخرى؛ ففي الأولى تمكن من أن يستميل إليه «خير بك» نائب حلب من قبل مصر و«جان بردي الغزالي» نائب حماة، ووعد الأول بولاية مصر والآخر بولاية الشام، ومع أن نائب الشام وغيره أخبروا السلطان الغوري بخيانة خير بك، لم يعبأ بكلامهم لما يرى من شدة تواضعه وإخلاصه.
وفي الثانية أراد أن يخدع الغوري بصرفه عن القتال وأخذه على غرة؛ فأرسل إليه أولا أثناء بروزه من القاهرة بتوسط الخائن نائب حلب رسالة يعتذر فيها عما فرط منه في شأن البلاد التابعة لمصر، ويعده بأن يعيدها إليه ويفتح طريق تجارة الرقيق والصوف والفراء، وبالجملة يفعل كل ما يطلبه الغوري؛ وكاد الغوري وأمراء عسكره يخدعون بذلك لولا مراعاتهم جانب الحيطة بالخروج إلى الشام. وأرسل إليه ثانية وهو بحلب رسلا عليهم أحد قواده وقاضي «عسكر الروم إيلي» يصرفون الغوري عن قصده، ويؤكدون إخلاص سلطانهم له وشدة رغبته في المهادنة والصلح، بشرط أن لا يتدخل الغوري بينه وبين الشاه إسماعيل الذي لم يقصد سليم بخروجه غيره، والذي أفتى علماء القسطنطينية بجواز حربه وقتله لرفضه وخروجه عن شعائر أهل الملة. فأكرمهم الغوري وسيرهم معززين إلى معسكر سليم، وأرسل إليه رسله صحبة أمير كبير من المصريين يعرض عليه توسطه في الصلح بينه وبين الشاه؛ فغضب سليم وهم بقتل الرسول، فشفع فيه فأطلقه مهانا مشعثا، وقال له قل لأستاذك: إن إسماعيل الصفوي خارجي وأنت مثله، وسأبدأ بك قبله، وموعدنا «مرج دابق» - على بعد يوم شمالي حلب - فخرج الغوري في نحو ثلاثين ألف مقاتل، وخلف أمواله وذخائره في قلعة حلب الحصينة في حامية لها. فلما كان صبيحة يوم الأحد 25 رجب سنة 922ه - وهو اليوم الذي سقطت فيه الدولة المصرية من عالم الدول المستقلة العظيمة - دهمه العثمانيون بجيش يربو على الجيش المصري بأضعاف، فعبأ الغوري كتائبه. وكان من غلطاته الكبرى في خرجته هذه أنه آثر مماليكه الخواص - الذين اشتراهم بماله - بكل كرامة ورعاية وإنعام، وقصر في استجلاب مودة المماليك القدماء من عتقى السلاطين والأمراء، حتى شاع بينهم أن السلطان يريد أن يجعلهم أمام مماليكه الخواص ليكونوا دريئة لهم من مدافع العثمانيين التي تفوق مدافع المصريين عظما وسرعة قذف وبعد مرمى؛ ففسدت نيات بعضهم، وانضم ذلك إلى خيانة «خير بك» و«جان بردي الغزالي».
فلما التقى الجمعان حملت الميمنة والقلب حملة أزالوا بها العثمانيين من مواقفهم، وقتلوا منهم بضعة آلاف، واستولوا على كثير من أعلامهم ومدافعهم، وكادت الغلبة تكون للمصريين، وهم السلطان سليم بالهرب، لولا أن خير بك انهزم بكتيبته - وكان على الميسرة - وتبعه جان بردي الغزالي؛ فاختل نظام الجيش المصري، واتفق أن وصل للعثمانيين في ذلك الوقت مدد من المدفعية، وظهر كمين لهم أحاط بالجيش المصري، ورأى المماليك القدماء من المصريين أن المماليك الخواص لا يقاتلون؛ ففترت هممهم ووهنت عزائمهم وتخاذلوا ولم يصبروا على نيران المدافع العثمانية، فركنوا إلى الفرار، وبقي السلطان الغوري في جماعة قليلة يناديهم ليعودوا فلم يلتفتوا إليه، ففلج لساعته، وسقط عن جواده. ولما شاع موته في العسكر تفرقوا واستولى العثمانيون على معسكرهم وغنموا منه ما لا يحصى، ولم يوقف للغوري على أثر، واستمرت الواقعة من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر. ولما رجع المنهزمون إلى حلب انقلب عليهم أهلها واستولوا على ودائعهم عندهم وفتكوا بهم، فلاقوا منهم شرا مما لاقوا من العثمانيين. وانتظر أهل حلب قدوم السلطان سليم فسلموه المدينة، واستولى على قلعتها بدون قتال، وغنم منها ألوف الألوف من الأموال والذخائر، وخطب باسمه في مسجدها، وانضم إليه خير بك وغيره من المماليك الخونة، وحلقوا لحاهم أو قصروها، وتزيوا بزي العثمانيين، ثم ذهب السلطان سليم إلى دمشق فاستولى عليها، ودانت له جميع مدن الشام بلا منازع، ومكث بها مدة ثلاثة أشهر يرتب نظامها، ويحكم أمورها.
أما بقية المنهزمين من المصريين فرجعوا إلى مصر في حالة يرثى لها، ورجع معهم جان بردي الغزالي، وكأنه قصد برجوعه إلى مصر أن يفت في عضد المصريين، ويكون عونا وجاسوسا للعثمانيين، وكانت أفعاله كلها في مصر ترمي إلى ذلك؛ لأنه خرج عقب دخوله مصر بحملة إلى الشام لينقذ غزة من العثمانيين، ففرق عساكره في البلاد، ولم يلاق العثمانيين إلا بفئة قليلة لم تلبث أن انهزمت، وكانت هزيمتهم سببا في فشل طومان باي - الذي خلفه الغوري سلطانا على مصر - في تأليف جيش عظيم آخر يدافع عن القاهرة؛ فقد كابد في جمعه مشقات عظيمة، وتخاذل المماليك واشترطوا عليه شروطا أشد مما اشترطوا على الغوري، وبقوا في خلاف: هل يحاربون العثمانيين على حدود جزيرة الطور وهم منهوكو القوى من قطع الصحراء أو في شمالي القاهرة، حتى دهمتهم جيوش العثمانيين وصارت على مقربة من القاهرة؛ فخرج طومان باي في جيش مختلط من جميع أجناس المحاربين، وأسرع في حفر الخنادق ونصب المدافع في ظاهر الريدانية - صحراء العباسية وعين شمس إلى بركة الحج - وكان يظن أن الجيش العثماني يقابله وجها لوجه فيها، فكان غير ما ظن؛ إذ لم يكد الجيشان يتلاقيان يوم 29 ذي الحجة سنة 922ه حتى افترق الجيش العثماني لكثرته إلى ثلاث فرق: فرقة كانت وجهتها المصريين بالريدانية، وفرقة سارت تحت الجبل الأحمر والمقطم وأحاطت بهم من اليمين إلى الخلف، وفرقة سارت إلى جهة بولاق وأحاطت بهم من الشمال.
وصبر المماليك ساعة قتل فيها عدد عظيم من العثمانيين وقوادهم، منهم سنان باشا أكبر القواد والوزراء للسلطان سليم، ولم يدم ذلك إلا ريثما تمت حركة الالتفاف، وعندها وجهت المدافع والبنادق على المصريين من كل صوب، ولم يكن لهم نظيرها، فلم يسعهم إلا الفرار، وصبر طومان وجماعة صبر الأبطال، ولكنهم اضطروا أخيرا إلى الفرار إلى الجيزة، وسار العثمانيون إلى القاهرة فدخلوها فرقا ونزل السلطان سليم بمعسكره الخاص على ساحل بولاق والجزيرة الوسطى
2
ولم يدخل المدينة، وبقي كذلك إلى يوم الثلاثاء رابع المحرم سنة 923ه، فلما كانت ليلة الأربعاء خامس الشهر لم يشعر السلطان سليم بعد صلاة العشاء إلا وقد هجم عليه في معسكره السلطان طومان باي بمن التف حوله من المماليك؛ فاختل نظام المعسكر واختلط الحابل بالنابل، وساعد المماليك كثير من العامة والغوغاء ونوتية بولاق، فما بزغ الفجر حتى قتل من العثمانيين خلق كثير، ثم جاءت فرقة أخرى مددا للمماليك بقيادة الدوادار الأمير علان من جهة الناصرية، وحمي وطيس القتال بين الفريقين من بولاق إلى الناصرية، وملك المماليك أكثر المدينة بعد أن قتلوا الألوف في شوارعها وحاراتها من العثمانيين المتفرقين، ثم جمع العثمانيون شملهم وطردوا المماليك من حي بولاق إلى قناطر السباع - السيدة زينب - حتى تحصنوا - المماليك - بحي الصليبة وحفروا الخنادق حولهم من جميع الجهات. وخطب يوم الجمعة للسلطان طومان باي على منبر جامع شيخون وغيره، واستمر القتال كذلك أربعة أيام بلياليها من ليلة الأربعاء إلى صبيحة يوم السبت 8 المحرم، فحاصر العثمانيون حي الصليبة من كل جهاته، واشتد الأمر على المماليك؛ فتخاذلوا وتسللوا عن السلطان طومان باي، فبقي يقاتل في نفر من المقدمين الأمراء وبعض العبيد، حتى إذا لم يبق للدفاع فائدة فر إلى بركة الحبش - بين الساحل القبلي بمصر القديمة وبين معادي الخبيري - وعدى من ساحل طرة إلى ضفة النيل الغربية بالجيزة، واستولى العثمانيون على المدينة مرة أخرى، وطلع السلطان سليم إلى القلعة بعد ذلك بعشرة أيام، واستحوذ على ما فيها من الأموال والذخائر، وبقي بالقلعة نحو شهر شاع في خلاله أن طومان باي صار في عسكر عظيم ممن تراجع إليه من المماليك والتف حوله من عرب الصعيد، وأنه قادم إلى القاهرة.
وبعد أيام جاءت رسل من عند طومان باي إلى السلطان يعرضون عليه الصلح بأن تكون مصر تحت سيادة العثمانيين في الخطبة والسكة والخراج، وأن يكون طومان باي نائبا عن سلطان العثمانيين في مصر؛ فقبل ذلك السلطان سليم، وأرسل إليه وفدا من قضاة مصر وأعيانها وبعض المقدمين، فلما وصلوا إلى السلطان طومان باي بجهة البهنسا ثار المماليك بطومان باي ولم يرضوا بالصلح وقتلوا بعض رجال الوفد، فلم يسع طومان باي إلا مجاراتهم مكرها، وتقدم إلى بلاد الجيزة لينازل العثمانيين في موقعة فاصلة، فاجتاز السلطان سليم إليه النيل بجيوشه. والتقى الجيشان بقرب «وردان» يوم الخميس (10 ربيع الأول سنة 923ه/1517م)، فدارت الدائرة أولا على العثمانيين وقتل منهم مقتلة عظيمة، إلا أن نيران المدافع والبندقيات العثمانية مزقت جيش المصريين المختلط - الخالي يومئذ من أكثر المعدات الحربية - كل ممزق، فكانت هذه الموقعة الخامسة هي ختام الوقائع الحربية التي دافع بها المماليك المصريون عن بلادهم، ولم يقم لهم بعدها قائمة إلا ما كان من استبداد بعض سلائلهم بشأن مصر كما سيأتي.
أما السلطان طومان باي، فإنه لما فر من وجه السلطان سليم ذهب إلى أحد رؤساء الأعراب بالبحيرة المدعو «حسن بن مرعي» وكان له عليه أياد عظيمة، فاختفى عنده واستحلفه أن لا يخونه، ولكنه نقض الحلف وكاشف السلطان سليما بأمره، فأرسل إليه عسكرا قبضوا عليه منتكرا في زي الأعراب، وجاءوا به إلى السلطان سليم، فحين رآه قام له وعاتبه ببعض الكلام وبقي معه في معسكره سبعة عشر يوما يحضر مجلسه ويسائله السلطان سليم عن شئون مصر وإدارتها وسياسة أهلها وكيفية ريها وجباية خراجها وبقية أمورها؛ مما جعل طومان باي يطمئن إليه ويظن من إقباله عليه أنه سيكون نائبا عنه في ملك مصر.
غير أن ذلك الأمر كان استدراجا من السلطان سليم؛ إذ بعدما وقف منه على كل ما أراد أمر في يوم الاثنين (21 ربيع الأول سنة 923ه/1517م) بأن يعودوا بطومان باي إلى القاهرة، فدخلوا به وهو بزي الأعراب من جهة شارع أمير الجيوش إلى البرقوقية، حتى إذا صار تحت باب زويلة أنزلوه عن فرسه، وكان لا يدري ماذا يصنع به، فلما رأى الحبال مدلاة من حلقة الباب على أنه مشنوق، فتشهد وقرأ الفاتحة وسأل الناس أن يقرءوا له الفاتحة، وشنق بين ضجيح الناس عليه بالبكاء، وبقي مصلوبا ثلاثة أيام، ثم أنزل ودفن خلف مدرسة الغوري - جامع الغوري - وكان له من العمر نحو 44 سنة، ولم يشنق ممن حكم مصر - من الخلفاء والسلاطين - سلطان غيره.
أما السلطان «سليم»، فإنه أقام بمصر نحو ثمانية أشهر؛ فكان معسكره أول الفتح ببولاق والجزيرة الوسطى، ثم أقام بالقلعة نحو شهر، ثم بمدينة الجيزة وإمبابة قريبا من شهر، ثم أقام بجزيرة الروضة والمقياس مدة، ثم توجه بجنده إلى مدينة الإسكندرية، فكانت مدة غيابه وإيابه 15 يوما، ثم رجع وأقام بجزيرة الروضة وبني له بها بجانب المقياس في طرف الجزيرة الجنوبي جوسق من الخشب أقام به بقية المدة إلا زمنا يسيرا أقامه ببيت الأشرف قايتباي المطل على بركة الفيل.
السلطان سليم فاتح مصر (رسم علي أفندي يوسف).
وفي أثناء إقامته بمصر سن لها بعض أنظمة إدارية، ونقل إلى القسطنطينية أكثر ما في القلعة ومنازل الأمراء والسلاطين والمساجد والزوايا والأربطة من النفائس والذخائر والكتب حتى أعمدة الرخام ومركباته.
ونفى من مصر إلى القسطنطينية كل أبناء السلاطين وأكثر المقدمين والأمراء والخليفة العباسي بعدما تنازل له عن الخلافة وأكثر العلماء والقضاة وكل من له نفوذ وإمرة بمصر.
ثم أمر بجمع رؤساء الصناعات المشهورين بإجادة العمل فيها من كل الطوائف؛ فجمعوا منهم نحو ألف صانع ونقلوهم إلى الأستانة ليذيعوا الصناعات الدقيقة فيها، فرجع بعضهم إلى مصر بعد عهده وبقي آخرون. قيل إنه بطل في مصر بذلك نحو 50 صناعة؛ فكان كل ذلك سببا في تأخر مصر في الصناعات.
أما ولاية مصر فاختار لها السلطان سليم أثناء إقامته أكبر وزرائه «يونس باشا» واليا عليها، ثم رجع عن ذلك قبيل سفره من مصر وولى عليها ملك الأمراء «خير بك»، وولى على الشام «جان بردي الغزالي».
وباستيلاء السلطان سليم على مصر صارت البلاد جزءا من الدولة العثمانية.
ويجدر بنا قبل الكلام على حكم العثمانيين في مصر أن نذكر شيئا عن منشئهم ونهوضهم، وأهم الحوادث في تاريخهم أيام حكمهم في مصر، حتى نكون على علم بأهم الأحوال التي أحاطت بمصر في ذلك العهد.
وهي إحدى الدول التركمانية التي أسست على أنقاض دول التتار ورأسها قراجا بن ذي الغادر، وقد استولت على أكثر أرمينية وكردستان وديار بكر، وخضعت أخيرا للمصريين؛ فكان لا يتولى أمير منها إلا بإذن صاحب مصر.
ثم إن أحد أمرائها التجأ إلى العثمانيين مستنصرا فنصروه وولوه الإمارة افتياتا على المصريين، بل أمدوه بما انتصر به على ولاة مصر؛ فكان ذلك سببا للنزاع بين الدولتين المصرية والعثمانية.
هي الجزيرة التي أمام قصر النيل.
الفصل الثاني
نبذة في تاريخ الدولة العثمانية (1) منشأ العثمانيين ونهوضهم
العثمانيون جيل من الأجيال التركية المتشعبة من الجنس المغولي المعتبر من أعظم الأجناس البشرية عددا، وأصل منشئه «بلاد منغولية»، ومنها انتشر غربا وشمالا وتشعبت منه في آسيا أمم وقبائل استقلت بنفسها وصار لبعضها ملك كبير: مثل أمة «الهون» المفتتحة شرقي أوروبا يقودها زعيمها «أتيلا»، ومثل دولة الأتراك السلاجقة
1
المستبدة بملك العباسيين، ومنهم الدولة المعروفة بسلطنة الروم السلجوقية، وقد سبق ذكرها في الكلام على الحروب الصليبية.
2
وفي أوائل القرن السابع الهجري - الثالث عشر المسيحي - قامت للمغول دولة وثنية قوية بقيادة زعيمهم العظيم «جنكيزخان» ثم حفيده «هولاكو»، فاكتسحت ممالك آسيا الوسطى والغربية، وقوضت عرش الخلافة العباسية، وأتت من فظائع التقتيل والتخريب ما لا ينساه التاريخ، وكانت القبائل التركية الإسلامية تفر من وجوههم مؤثرين الهجرة على الخضوع لجورهم. ومن هذه القبائل قبيلة صغيرة تدعى «الأغوز»، خرجت من ديارها في أواسط آسيا وغربت حتى وصلت إلى آسيا الصغرى التي بقي جزء منها وقتئذ في حوزة السلاجقة؛ تلك هي القبيلة التي نشأت منها الدولة العثمانية.
وبينما تتجول هذه القبيلة في آسيا الصغرى يرأسها كبيرها «أرطغرل» إذ وجدت جيشين يقتتلان، أحدهما من المغول والآخر من السلجوقيين؛ فانضمت إلى الجيش الذي كاد ينهزم، وهو السلجوقي، فانتصر بها على المغول وطردهم من بلاده، فرأى السلطان السلجوقي «علاء الدين» وجوب مكافأة «أرطغرل» على معونته له، فأقطعه قطعة من الأرض قرب مدينة «بروسة» على تخوم أملاك الدولة الرومانية الشرقية تسمى «إسكي شهر» - سلطانوني - فكانت مهد الدولة العثمانية، وفيها ولد «عثمان» بن «أرطغرل» الذي تنسب الدولة إليه.
ولد عثمان سنة (656ه/1258م) فنشأ مولعا بالحرب مظفرا فيها، فانتزع في صباه من دولة الروم الشرقية مدينة «قره حصار» وغيرها، فمنحه سلطان «قونية» لقب «بك» ورقاه إلى مرتبة الأمراء.
وفي سنة (699ه/1300م) قضى المغول على البقية الباقية من الدولة السلجوقية، ولكنهم لم يستطيعوا أن يحكموا تلك البلاد بأنفسهم، فاستقلت فيها عشر إمارات تركية؛ إحداها إمارة «عثمان» الذي اعتبر من ذلك الحين المؤسس للدولة العثمانية وأول حاكم مستقل فيها، أما باقي الإمارات التركية فاندمجت في هذه الإمارة على توالي الأيام، وسموا أنفسهم عثمانيين أيضا.
وأخذ عثمان ينظم أملاكه ويوسع نطاقها في الجهة الغربية؛ فاستولى على كثير من أملاك الدولة الرومانية الشرقية. وقبل وفاته فتح ابنه «أرخان» مدينة «بروسة» بعد حصار طويل، فصارت بعد حاضرة للدولة.
وفي سنة (726ه/1326م) خلف عثمان ابنه «أرخان» (726-761ه/1326-1359م)، فواصل الحرب على الدولة الرومانية الشرقية، فافتتح منها «نيقوميدية» و«نيقية» - أزنيق - وكثيرا من البلاد الآسيوية التي كانت لم تزل في حوزتها. ثم جنح «أرخان» إلى السلم، فقضى نحو 20 عاما بلا طعن ولا نزال، عني فيها بتثبيت دعائم ملكه في البلاد التي فتحها، وإصلاح الحكومة وتنظيم الجيش. وقد كان لعمله الأخير أكبر أثر في اتساع رقعة المملكة وتأييد مجدها؛ وذلك بفضل إنشاء طائفة «الإنكشارية» - العسكر الجديد - التي كونها وعني بتدريبها حتى صارت أهم فرقة في الجيش.
ومنشأ هذه الطائفة أن الدولة كانت تأخذ كل عام نحو ألف صبي من أبناء النصارى الذين قتل آباؤهم في الحرب، وتلقنهم الدين الإسلامي، وتربيتهم تربية عسكرية منظمة، منطبقة على أدق القواعد الحربية التي امتاز بها الترك في ذلك الزمان، حتى صارت هذه الطائفة لا مثيل لها في القوة والإقدام والمرانة على الحرب، وكان يفتح أمامهم طريق الرقي إلى أكبر المناصب في الدولة؛ فعد ذلك أكبر مشجع لهم على الطاعة وخوض غمار الحروب، وبقي هذا النظام متبعا نحو ثلاثة قرون. غير أنه تسوهل فيه أخريات هذه المدة؛ فكانت الجنود الجدد تجمع من الأسرات التركية، ومن أبناء الإنكشارية أنفسهم. ولما طال عليهم الأمد استأثروا بالسلطة وأساءوا استعمالها، وأصبحوا منبع الشغب والقلاقل في الدولة، فقضى عليهم السلطان محمود الثاني أوائل القرن التاسع عشر سنة (1241ه/1826م).
بعض ضباط الإنكشارية (رسم علي أفندي يوسف).
ولما أتم «أرخان» تنظيم الجيش وإصلاح الشئون الداخلية عاد إلى العمل على توسيع نطاق أملاكه، فأغار على الشاطئ الأوروبي، واستولى فيه على مدينة «غليبولي» وغيرها من المدن شمالي مضيق الدردنيل (758ه/1357م)؛ فكان ذلك مبدأ الفتوح العثمانية في أوروبا، التي أخذت من وقتئذ تزداد وتعظم ويقفو بعضها بعضا.
ولما تولى الملك «مراد الأول» ابن أرخان (761-792ه /1359-1389م) هم بمواصلة تلك الفتوح؛ فأخضع معظم بلاد «الروملي» - الروم إيلي - واستولى فيها على «أدرنة» - التي أصبحت عاصمة جديدة للدولة - و«فلبو بوليس » - فلبة - وغيرهما من المدن العظيمة، فضاق بذلك نطاق أملاك الدولة الشرقية وهال هذا الفوز الكبير أمراء أوروبا؛ فعزموا على رد الترك إلى بلادهم في آسيا، فخرج لذلك الوجه ملوك «البوسنة» - البشناق - و«المجر» و«الصرب» بجيش عظيم ساروا به إلى «أدرنة»، فهزمهم الترك شر هزيمة سنة (765ه/1363م) ثم قفوا على أثر ذلك بإخضاع «بلغاريا»، وضمها إلى أملاكهم سنة (791ه/1388م) فعاود الفزع إمارات أوروبا الشرقية، وتحالفوا على قهر مراد، فسار إلى الصرب ليردهم، فالتقى بهم في واقعة «قوصوة» الشهيرة سنة (792ه/1389م)، فاصطلم جيوشهم اصطلاما، إلا أنه قتل على أثر الموقعة؛ طعنه صربي ثار به من بين القتلى، وكانت نتيجة تلك الواقعة أن دخلت «الصرب» أيضا في حوزة الدولة العثمانية.
ولم تكن غزوات مراد قاصرة على أوروبا، بل كان سيل جيوشه يتدفق على آسيا؛ فاستولى في أوائل حكمه على مدينة «أنقرة»، وواصل بعد فتوحه فيها، فاندرجت أربع من الإمارات العشر التي قامت على أنقاض دولة السلاجقة في سلك الأملاك العثمانية.
ثم خلفه ابنه «بايزيد الأول» (792-805ه/1389-1402م)، فلم يقل عن أبيه مهارة وإقداما؛ فأخضع باقي الإمارات التركية في آسيا، ووطد أركان دولته في أوروبا، وزاد عليها كثيرا من مدن الروملي، التي كانت لم تزل بعد في يد المسيحيين.
من أجل ذلك عم الهول والفزع معظم الأوروبيين، من كثرة فتوح العثمانيين وسرعة تقدمهم في أوروبا، وقامت بها ضجة دينية للحض على غزاتهم؛ فقام البابا يدعو الناس باسم الدين إلى مقابلتهم، وخرج لذلك جيش أوروبي عظيم بقيادة «سجسمند» ملك المجر، ضم بين كتائبه كثيرا من فرسان فرنسا وألمانيا، وكان بايزيد إذ ذاك غائبا في آسيا؛ ففاز الأوروبيون في بادئ الأمر، واستردوا من الترك كثيرا من المدن، ثم شرعوا في حصار مدينة «نيقوبوليس»، وهي من أمنع المدن على نهر «الطونة»، فلما علم بايزيد بذلك أسرع للقائهم، فهزمهم هزيمة تعد من أنكر الهزائم التي دونها التاريخ؛ بحيث لم ينج من جيوشهم إلا النزر اليسير، سنة (799ه/1396م).
وشرع بايزيد بعد واقعة نيقوبوليس هذه في غزو بلاد اليونان؛ فأخضع منها «تساليا» و«أبيروس»، وكان على وشك التأهب لفتح القسطنطينية، التي طالما تاقت نفسه ونفس الفاتحين من المسلمين لغزوها، لولا أن داهمته غارة التتار على أملاكه الآسيوية بقيادة الجبار الشهير «تيمورلنك»، فخرج بايزيد لصده، وتقابل الجيشان في «أنقرة» سنة (805ه/1402م)، فكانت الهزيمة على العثمانيين، وأخذ بايزيد أسيرا،
3
فبقي في أسره حتى مات كمدا بعد ذلك بثمانية أشهر.
وقد كادت هذه الهزيمة تكون قاضية على العثمانيين لولا أن هلك «تيمورلنك» وتشتت شمل دولته إثر وفاته، وكان لبايزيد أربعة أولاد، بقوا عشر سنين يقتتلون من أجل العرش.
ثم انتهى الأمر بتغلب أحدهم «محمد الأول» (816-824ه/1413-1421م)، فكان من خيرة سلاطين آل عثمان؛ لم شعث الدولة بعد أن مزقها «تيمورلنك»، وكبح جماح الإمارات التي كانت أخذت تتمرد على الدولة لما رأته من انهزامها الشنيع، وأصلح ما أفسدته الفتن التي حدثت بينه وبين إخوته قبل خلوص الملك له. ولم يمض عليه ثمانية أعوام حتى استرجع للدولة كل ما كان لها قبل واقعة أنقرة؛ فكان ذلك من أمجد ما وعاه التاريخ للدولة العثمانية.
ومات السلطان «محمد الأول» سنة (824ه/1421م) في الثالثة والثلاثين من عمره، فخلفه «مراد الثاني» (824-855ه/1421-1451م)، فعمل على مواصلة الفتوح التي وقفتها غارة تيمورلنك، وكان إمبراطور دولة الروم الشرقية قد مالأ أحد المطالبين بالملك من أبناء مراد؛ فقابل ذلك مراد بمحاصرة القسطنطينية، وقد كاد يفتحها لولا أنه اضطر إلى فض الحصار عنها لإخماد ثورة أثارها عليه في آسيا أحد إخوته.
ثم قامت بأوروبا نهضة جديدة لإخراج العثمانيين من هذه القارة؛ فخرج لذلك جيش جرار، جمعت كتائبه من ممالك أوروبية عديدة، يقوده «هونياد» القائد المجري العظيم، الذي لم ير الترك قبل ذلك أحدا من المسيحيين في بأسه وبطشه؛ فاكتسح الجيش كل شيء أمامه حتى اجتاز البلقان، فاضطر السلطان مراد إلى عقد مهادنة مع المسيحيين لمدة عشر سنوات، على أن يتنازل عن الصرب ويعطي «بلاد الأفلاق» للمجر - معاهدة إزجدن سنة 848ه/1444م.
هونياد المجري (عدو الترك العنيد).
ثم رأى مراد أن يستريح من عناء الملك، فتنازل عن العرش لابنه «محمد الثاني» - وكان حديث السن - وأقام بآسيا يطلب الراحة، فلما رأى المسيحيون ذلك طمعوا في الدولة، فنقضوا عهدهم، وزحفت جيوشهم بقيادة «هونياد» على الأراضي العثمانية، واستولت على كثير من حصون بلغاريا، فلما علم مراد بذلك رجع إلى الملك وسار بجيش إليهم، وكانوا قد استولوا على «ورنة»، فالتقى بهم خارج المدينة في معركة فاصلة، انتهت بانهزام المسيحيين هزيمة شنيعة، وقتل فيها بعض ملوكهم وأمرائهم (سنة 848ه/نوفمبر سنة 1444م)، وكان العثمانيون أثناء الموقعة يحملون في جملة أعلامهم لواء معلقة عليه صورة من المعاهدة، تذكرة للأعداء بغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق، ثم أتم مراد إخضاع البوسنة والصرب، ومات عام (855ه/1451م)؛ فترك لابنه محمد الثاني ملكا واسعا ثابت الأركان.
تولى «محمد الثاني» الشهير بمحمد الفاتح (855-886ه/1451-1481م) وهو في الحادية والعشرين من عمره، فبادر بالتأهب لفتح القسطنطينية، وأعد لذلك المعدات العظيمة، وفي سنة (857ه/1453م) تم له فتحها بعد أن أعيا كثيرا من ملوك المسلمين قبله؛ فقضى بذلك على دولة الروم الشرقية القضاء الأخير، ويعد فتح القسطنطينية من أهم الحوادث التاريخية، كما يعتبر عام فتحها (857ه/1453م) مبدأ التاريخ الحديث. (2) اضمحلال الدولة البوزنطية
4
وسقوط القسطنطينية في يد العثمانيين
ذكرنا في كتاب «تاريخ مصر إلى الفتح العثماني» أن قسطنطين الأكبر نقل عاصمة الدولة الرومانية إلى مدينة «بوزنطة» على شواطئ البوسفور سنة 330م، وأنها سميت من ذلك الحين بالقسطنطينية منسوبة إليه، وفي سنة 395م تم تقسيم الدولة إلى قسمين: الدولة الغربية، وعاصمتها رومية، والدولة الشرقية، وعاصمتها القسطنطينية.
فلم تعمر الدولة الغربية طويلا لكثرة غارات الأمم المتبربرة عليها؛ إذ استولى عليها القوط سنة 476م.
أما الدولة الشرقية فلبثت نحو 1000 سنة تمكنت فيها - بفضل مناعة موقعها - من رد غارات الأمم المتبربرة الأوروبية من القوط والسلاف وغيرهم، كما صدت غارات الفرس والعرب عن حاضرتها نفسها، وعن معظم أوروبا، ولكنها لم تستطع الدفاع عن أكثر أملاكها خارج أوروبا؛ فقد رأينا كيف نزع العرب من يدها شرقي آسيا الصغرى وسورية وفلسطين ومصر وبرقة وإفريقية وجزائر البحر الأبيض الشرقية.
أنهكت كل هذه المكافحات قوى الدولة وفتت في عضدها، إلى أن دخلت عليها عوامل فناء أخرى شديدة كان فيها القضاء على البقية الباقية منها. وهذه العوامل الجديدة ترجع إلى ثلاثة حوادث عظيمة، وهي: (1)
غارة الصليبيين على القسطنطينية في إحدى حروبهم الصليبية التي شنوها على المسلمين، وتأسيسهم دولة لاتينية بها استمرت نحو 60 عاما (600-660ه/1204-1261م). (2)
مهاجمة الترك لأملاكها من كل جانب. (3)
انتشار الوباء العظيم المعروف بالموت الأسود.
أما غارة الصليبيين على القسطنطينية فبيانها أن حملة صليبية كبيرة خرجت من غربي أوروبا سنة (600ه/1204م) للإغارة على مصر - قلب الدولة الإسلامية في ذلك الحين - ومرت الحملة في طريقها على القسطنطينية، فطمعت في ثروتها العظيمة وأملاكها الشاسعة، ورأى رجالها من ضعف الدولة الرومانية ما شجعهم على ذلك؛ فنسوا غرضهم الأصلي، واستولوا على القسطنطينية، وأسسوا بها دولة تعرف بالدولة اللاتينية نسبة إلى لغتهم، وبقوا بها نحو ستين عاما خربوا فيها كثيرا من البلاد، ونهبوا معظم نفائسها القديمة، ونقلوها إلى بلادهم، ولم يحدثوا في البلاد أي إصلاح أثناء إقامتهم بها، لجهلهم نظام الملك وإدارة شئون حكومة منتظمة مشيدة على أساس مكين مثل حكومة الدولة الرومانية، وكانت البلاد في أيامهم - لاختلافهم في الرأي وتنافسهم فيما بينهم - ميدانا للفتن والقلاقل الدائمة، أما إمبراطور الروم فإنه انحاز إلى آسيا الصغرى، وجعل مقر ملكه في «نيقية» التي ما زالت حاضرة للروم حتى انتهزوا فرصة ضعف الصليبيين في سنة (660ه/1261م) واستردوا القسطنطيينة، وأعادوا إليها مقر ملكهم.
على أن الدولة لم تتخلص من كل ما لحقها من أذى هذه الحادثة، فإن تشتت شملها أثناء حكم اللاتين كان قد ذهب برجالها الملمين بالقوانين وأنظمة الحكومة؛ فلاقت صعوبة كبيرة في تشييد ما هدمه الصليبيون من جديد. وإن انتشار الفتن في البلاد هذه المدة حمل الكثيرين على المهاجرة من الأرض فباتت خرابا بلاقع بعد أن كانت من أخصب بقاع الدنيا، واضطر أيضا أصحاب المتاجر التي كانت تمر بين الشرق والغرب عن طريق البسفور إلى تحويل متاجرهم إلى جهات أخرى أكثر مأمنا وأقل اضطرابا.
ثم لما رجع مقر الدولة إلى القسطنطينية، وحاول قياصرتها إصلاح ما فسد منها، وجدوا من المنازعات الدينية والاضطرابات الداخلية بين أهل الدولة أكبر عقبة في تحقيق أمنيتهم؛ فإنهم لما علموا أن الصليبيين عازمون على إعادة الكرة عليهم لجئوا إلى التودد إلى «البابا» ليدفعهم عنهم، فوعدهم هذا بمد يد المساعدة في ذلك، وفي رد غارات الترك عن دولتهم إذا عملوا هم على توحيد الكنيستين: الشرقية بالقسطنطينية، والغربية برومية، واعتراف الأولى للبابا بالسيادة؛ فجد القياصرة في ذلك ما استطاعوا وعزلوا من خالفهم فيه من البطارقة؛ فكان ذلك سببا في ظهور أحزاب متضادة، بعضها يؤيد البطريق، وبعضها يعاضد الإمبراطور. وما زال الأمر كذلك حتى تم توحيد الكنيستين في سنة (843ه/1439م) عقب انعقاد مجلس ملي بإيطاليا دعا البابا إليه القيصر وممثلي بطريقية الأستانة؛ فثار غضب أهل القسطنطينية لذلك، ولما رآه بعضهم بنفسه عند انعقاد المجلس من قلة نفوذ البابا بين دول أوروبا الغربية وعدم مقدرته على مساعدة دولتهم بشيء، وازداد حنقهم عند إعلان توحيد الكنيستين. ومن ذلك العهد استفحل خطب الفتن الدينية.
على أن الفتن الداخلية في الدولة لم تكن قاصرة على الأمور الدينية، بل كان عرش الملك نفسه منشأ فتن مستمرة منذ عاد مقر الدولة إلى القسطنطينية؛ فإن أول إمبراطور انتزع هذه العاصمة من اللاتين - وهو ميخائيل الثامن - كان نفسه مغتصبا للملك؛ اغتصبه من طفل كان وصيا عليه، فأشعل الشرارة الأولى من نار المنازعة في شأن العرش، وبقيت هذه النار مستعرة حتى آخر أيام الدولة.
وقد كان لغارة اللاتين على القسطنطينية ضرر آخر لا يقل عن جميع ما تقدم؛ وذلك أن الشعوب القاطنة في البلقان بعد أن كانت خاضعة للدولة، وملتئما بعضها ببعض - لعظم سلطانها وشدة بأسها - وجدت من ضعف الدولة اللاتينية باعثا على استقلال كل منها بنفسها دون مراعاة لما يعود عليها من النفع من اتحادها. ثم استطار الشر بينها وصار بعضها يستعين بالأتراك وغيرهم على اقتناص ما تصل إليه يده من أملاك الدولة؛ وبذلك كثرت غارات البلغار والصرب والمجر والتتار على أملاكها، حتى صارت من أكبر العوامل على فنائها.
وأما ثاني الأمور الأساسية التي أدت إلى سقوط الدولة الرومانية الشرقية، فهو مهاجمة الترك لها من كل جانب بلا انقطاع، مقتلين الكثير من سكان تلك الجهات، ومشردين الباقين أمامهم إلى الفلوات والأطراف القاصية؛ مما خرب البلاد وذهب بغالب أهليها.
وزاد هذا النقص وباء عظيم انتشر في أوروبا نحو قرن من الزمان حتى أفنى ألوف الألوف من أهلها؛ ذلك هو الوباء الهائل المعروف في التاريخ ب «الموت الأسود». ظهر في شرقي أوروبا عام (747ه/1347م)، ثم اطرد إلى باقي أنحاء القارة، فكان أنى انتقل يفتك بالناس فتكا ذريعا، حتى زادت نسبة من ماتوا به في بعض الممالك على النصف،
5
وقد وجد هذا الوباء منبتا خصبا له في مدن الدولة الرومانية الغاصة بالسكان، والتي لم تلق من حكومتها المشتغلة بالفتن الدينية والقلاقل السياسية العناية اللازمة لاتخاذ التدابير الصحية التي تكفي لمقاومته أو لنقص فتكه، حتى أصبح عدد سكان البلاد لا يكفي لجمع الجيوش التي تقوم بالدفاع عن الدولة.
6 (3) الدولة العثمانية في أوج عظمتها (857-974ه/1453-1566م)
هكذا كانت حال الدولة الرومانية عندما جلس محمد الثاني على عرش آل عثمان، فعمل في الحال على تحقيق أمنية بيته، وهي فتح القسطنطينية وجعلها مقرا له؛ فأعد لذلك جيشا عظيما سار به لفتح المدينة في ربيع عام (857ه/1453م).
أما شكل المدينة فسهل التصور؛ إذ هي أشبه بمثلث متساوي الساقين محاط بالأسوار من كل جانب، رأسه بارز شرقا في مياه البسفور، والضلع الشمالية يحدها الميناء المسمى «القرن الذهبي»، والضلع الجنوبية يحدها بحر مرمرة، أما قاعدة هذا المثلث فهي الأسوار الغربية التي تفصل المدينة عن باقي القارة الأوروبية.
فبدأ السلطان بمهاجمة الأسوار الغربية، وكانت تمتد من القرن الذهبي إلى بحر مرمرة، ثم رأى على ضخامة مدافعه
7
أنه لا يستطيع التغلب عليها لمناعتها وعظم سمكها؛ فعول على مهاجمة المدينة من أضعف جهاتها وهي الجهة المشرفة على القرن الذهبي، وكان الروم قد احتاطوا لذلك، ومدوا سلسلة عظيمة على مدخل القرن الذهبي حتى لا تدخله سفن الأعداء لتهاجم الأسوار من تلك الجهة، فلم يثن ذلك من عزم العثمانيين، واحتالوا على نقل سفنهم إلى القرن الذهبي بطريقة صعبة لا تزال من أعجب ما حدث في التاريخ؛ وذلك أنهم مهدوا طريقا بريا بين البسفور والقرن الذهبي يبلغ طوله نحو الفرسخين، ووضعوا عليه عوارض ضخمة من الخشب تتدحرج عليها أسطوانات طويلة من الخشب أيضا «بكر»، وسيروا فوقها 80 سفينة صغيرة من أسطولهم الذي كان بالبسفور؛ فجرت عليها السفن والريح تدفع في شراعها كأنها تجري على الماء، حتى بلغت القرن الذهبي، فنزلت فيه بلا عناء، وكان السلطان محمد أثناء نقل هذا الأسطول يضلل حامية المدينة بالإلحاح على ضربها بالمدافع من باقي الجهات الأخرى؛ وعندئذ اشتركت السفن والجيش البري في ضرب الأسوار، فلم تقو على احتمال هذه النيران. وحمل العثمانيون على المدينة حملة صادقة، فدخلوها بعد قتال عنيف قتل فيه إمبراطور الروم «قسطنطين باليولوغوس»، وكان ذلك في أواخر عام (857ه/1453م)، وبه سقطت دولة الروم الشرقية.
ودخل السلطان محمد عاصمته الجديدة في موكب حافل، وسار توا إلى كنيسة «أياصوفيا»، فصلى فيها ظهر ذلك اليوم، وبقيت مسجدا إسلاميا إلى الآن. وهذا البناء من أجمل آثار دولة الروم الشرقية، ومن أحسن النماذج لفن المباني البوزنطية.
استولى السلطان محمد الفاتح على عاصمة الروم وهو لا يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، فلم تقف فتوحه عند ذلك، ولم يلبث أن تم له إخضاع معظم «المورة» و«الصرب» و«البوسنة»، وأراد الإغارة على إيطاليا وألبانيا، فحال دونها وقوف «إسكندر بك الألباني» و«هونياد المجري» في طريقه إليهما.
وذلك أن أولهما كان أول أمره في خدمة مراد الثاني، ثم نصبه واليا على ألبانيا - موطنه الأصلي - فخرج على الدولة وأراد أن يستقل بألبانيا، وساعدته طبيعة تلك البلاد الجبلية على صد الجند العثمانية سنة بعد أخرى، فلم يقم للسلطان إخضاع ألبانيا إلا بعد عشرين عاما، أي بعد وفاة إسكندر بك في عام (871ه/1467م)، ولم يعش محمد الثاني لتحقيق أمنيته في إيطاليا.
أما «هونياد» فإنه وقف للسلطان في «بلغراد» عام (860ه/1456م) عندما أراد الإغارة على المجر وألبانيا، وهزمه هزيمة كبيرة اضطرته إلى الرجوع من تلك المدينة بعد أن خسر من جيوشه نحو 25000 مقاتل، فانصرف عن تلك البلاد الشمالية.
جامع أياصوفيا.
على أن صد جيوشه في هذين الموضعين لم يمنعه من مواصلة فتوحه في الجهات الأخرى؛ فاستولى في آسيا على «طربزون» - أطرابزندة - من بقية أملاك الروم، وأخضع إمارة «القرمان» التركية إخضاعا نهائيا، وفي سنة (879ه/1475م) دانت له بلاد «القرم» فبقيت خاضعة للدولة نحو ثلاثة قرون من الزمان. ثم كان عاقبة تغلبه على ألبانيا أن أزال أكبر عقبة في سبيل توسيع أملاكه من الغرب؛ فتوغل في أملاك البندقية توغلا فزع منه البنادقة، ولم يسعهم إلا أن عقدوا معه محالفة لتسلم لهم مدينتهم، سنة (882ه/1477م).
محمد الفاتح (رسم علي أفندي يوسف).
أما إيطاليا فلم يبرح أمرها قط من ذهن محمد الثاني، وكان جل أمانيه فتحها ورفع لواء الإسلام على رومية في الغرب، كما رفعه على القسطنطينية في الشرق.
ورأى أن يمهد الطريق لذلك بانتزاع جزيرة «رودس» من أيدي «فرسان القديس يوحنا»، فسير عليهم أسطولا عظيما، وضيق الحصار على جزيرتهم ثلاثة أشهر، ولكنه لم يقو عليهم، وفترت همة جنود الإنكشارية لما علموا أن السلطان منع استيلاءهم على شيء من غنائم الجزيرة، فاضطر محمد إلى فض الحصار، وأبرم مع الفرسان صلحا عام (885ه/1480م).
ثم عاد فوجه همه لفتح إيطاليا، فأرسل جيشا استولى على مدينة «أترنتو» سنة (885ه/1480م).
وكان في العام التالي يشتغل بإعداد حملة عظيمة لإتمام فتح تلك البلاد، فمات فجاءة عام (886ه/1481م)؛ وبموته انصرف العثمانيون عن هذه الجهة، وفي أيام خلفه أخلى العثمانيون «أترانتو» ذاتها، ولم يحتلوا بعدها شيئا من الأراضي الإيطالية.
ثم خلفه ابنه «بايزيد الثاني» (886-918ه/1481-1512م)، فكان أضعف سلاطين آل عثمان إلى ذلك الوقت، ولم يكد يجلس على العرش حتى خرج عليه أخوه الأصغر «جم» مطالبا بالملك، وكان قوي البأس، فلاقى بايزيد صعوبة كبيرة في مكافحته، إلى أن اضطره إلى الفرار إلى مصر. وكان بايزيد محبا للسلم، لا يدخل الحروب إلا مدافعا، ولم يزد في أملاك الدولة إلا بضع مدن في مورة، وقد علمنا ما كان من أمره مع مماليك مصر وانتصارهم على جيوشه في الشام. على أن قوة الأسطول عظمت في عهده، وصارت من ذلك الحين موضع خطر على الممالك الأوروبية، فلم يلبث أن اشتبك مع أسطول البنادقة في موقعة هائلة هي فاتحة الانتصارات البحرية العثمانية على ممالك البحر الأبيض، وكانت جنود الإنكشارية لا يعجبهم انكماش بايزيد وضعفه، فالتفوا حول أصغر أولاده «سليم»، وأرغموا بايزيد على التنازل عن العرش سنة (918ه/1512م).
فتولى السلطان «سليم الأول» (918-926ه/1512-1520م)؛ فكان من أعظم سلاطين العثمانيين وأكثرهم انتصارا وفتحا، وكان مجيدا لقيادة الجيوش والسياسة، كثير الاطلاع، ولوعا بالأدب، إلا أن شيئا يخالطه من القسوة والميل إلى سفك الدماء، وقد قيل إنه قتل من أقاربه وعماله ما لم يقتله أحد قبله ولا بعده من ملوك آل عثمان. ورأى السلطان سليم أن يقف فتوح الدولة في أوروبا فترة، وأن يستعيض عن ذلك بالاستيلاء على شيء من ممالك الشرق النفيسة.
فبدأ بدولة فارس، وكان على عرشها حينئذ الشاه إسماعيل الصفوي، وكان قد ذاع صيته بفتوحه في المشرق، وأصبح لا يبالي بنشر مذهب الشيعة - الذي يمقته العثمانيون - في آسيا الصغرى، ويحرض أمراء تلك الجهة على الخروج على العثمانيين؛ فعزم السلطان سليم على غزو فارس، وعجل ذلك إيواء الشاه إسماعيل لابن أخي سليم، الفار من وجهه.
ففي سنة (920ه/1514م) خرج السلطان سليم بجيش عظيم يريد غزو الفرس، مارا في طريقه على «ديار بكر» و«كردستان»؛ فتراجع الفرس إلى داخل بلادهم وخربوا كل ما في طريق الترك من المرافق كي تضمحل جيوشهم جوعا وتعبا، ولما التقى الفريقان في وادي «جلديران» قرب «تبريز» كانت الجنود العثمانية في شدة التعب، إلا أن الفرس لم يقووا على مقاومة قوة الإنكشارية والمدافع العثمانية، فانهزموا شر هزيمة؛ فدخل السلطان سليم «تبريز» - حاضرة الفرس في ذلك الوقت - وأمر بإرسال ألف من أمهر صناعها إلى القسطنطينية، ثم اضطر بعد أيام إلى الانصراف إلى بلاده، لتمرد جنود الإنكشارية عليه. وكانت نتيجة تلك الحرب استيلاء العثمانيين على «ديار بكر» و«كردستان».
وبعد عامين (1922ه/1516م) خرج السلطان سليم لفتح مصر، ففتحها كما أوضحنا في غير هذا المكان، وجنى بيت آل عثمان من فتح مصر فائدة لم يجنها من فتح غيرها من البلدان؛ إذ إنه بتنازل الخليفة العباسي بمصر عن الخلافة للسلطان سليم الأول سنة (923ه/1517م) صار له ولسلاطين آل عثمان من بعده زعامة على العالم الإسلامي لم تكن لهم من قبل. وكان السلطان يتأهب بعد ذلك لفتح «رودس»، فمات قبل أن يتم عمله، بعد ثمانية أعوام من حكمه.
فتولى ابنه السلطان «سليمان القانوني» (926-974ه/1520-1566م)، وهو أعظم سلاطين آل عثمان، وعصره أزهر عصر في تاريخهم؛ إذ كانت للدولة في أيامه مكانة لم تحزها قبله أو بعده؛ صادفت أيامه تلك النهضة العلمية العظيمة التي انتشرت في أنحاء أوروبا في القرن السادس عشر من الميلاد المسيحي، وحدت بالغربيين إلى تلك الاستكشافات العلمية والجغرافية - التي أسست عليها المدنية الحديثة، والتي كانت سائرة حينئذ بسرعة لم يسبق لها مثيل - فلم يقتصر العثمانيون على السير بجانبهم في ذلك المضمار، بل فاقوهم فيه في عدة أمور، ولا سيما الفنون الحربية. ولم يكن بين ملوك أوروبا في عصر سليمان من يفوقه غزوا أو سياسة أو إدارة.
أما فتوح سليمان فلم تكن بأقل من فتوح سليم أو محمد الفاتح؛ إذ تم له في العامين الأولين من حكمه ما استعصى عليهما قبله؛ ففي سنة (927ه/1521م) استولى على «بلغراد»، وفي قابل فتح «رودس»، انتزعها من فرسان القديس يوحنا بعد حصار أظهر فيه من الكفاءة والدراية بالعلوم الحربية ما عظم به شأن الدولة في أعين الأوروبيين.
على أن معظم غزوات سليمان كانت موجهة إلى الغرب للتغلب على النمسا والمجر، ولا سيما الأخيرة التي طالما وقفت في وجه العثمانيين، ومنعتهم من الزحف في أوروبا إلى ما وراء الصرب والبوسنة؛ ففي سنة (932ه/1526م) غزا بلاد المجر، فلما التقى بجيوشهم في موقعة «موهاكر» الفاصلة لم يثبت جيش المجر أكثر من ساعة واحدة قتل فيها ملكهم «لويس الثاني» وكثير من الأمراء، وفتح السلطان معظم المدن والقلاع التي بالأقاليم الجنوبية، ثم ولى على البلاد ملكا من أهلها وهو «جان زابولي»، وغادرها ومعه أكثر من مائة ألف أسير.
وبعد خروجه من البلاد أغار عليها «فردنند» ملك النمسا، واستولى على مدينة «بودا»، وخلع الأمير الذي نصبه سليمان؛ فاستغاث الأمير بالسلطان، فخرج في جيش عظيم مؤلف من 250000 مقاتل و300 مدفع، فاسترد «بودا» وأعاد «زابولي» إلى عرشه، ثم اتخذ عمل «فردنند» ذريعة للإغارة على النمسا، فسار نحو «ويانا» - فينا - وكان فصل الشتاء قد أقبل وكثر المطر، فاضطر العثمانيون لترك مدافعهم الضخمة بالمجر، فلما وصل سليمان إلى «ويانة» ألقى عليها الحصار عشرين يوما سنة (935ه/1529م)، ثم وجد أن الجو وقلة المدافع يحولان دون الاستيلاء على المدينة، فرجع عنها. وكان هذا أول نزال فشل فيه، فلم ينسه طول حياته.
وبقيت الحرب إلى سنة (940ه/1533م)، فتم الصلح على تقسيم بلاد المجر بين زابولي وفردنند. ولما مات الأول عام (946ه/1539م) أغار فردنند على البلاد جميعها، فغزا السلطان سليمان بلاد المجر كرة أخرى، وكان هذه المرة يترك حامية في كل مدينة يفتتحها، لجعلها من الأملاك العثمانية، ثم تم الصلح بين الفريقين؛ فاعترف فردنند للسلطان بسيادته على المجر وترنسلوانيا، وتعهد أن يدفع له جزية سنوية. وربما كان خذلانه أكبر لو لم يشغل سليمان عن تلك الجهات بحروبه مع فارس وغيرها من بلاد المشرق. ومما فتحه السلطان في المشرق جزء كبير من أرمينية وأرض الجزيرة والعراق وفيه مدينة بغداد العظيمة.
وفي عصر هذا السلطان تقدمت البحرية العثمانية تقدما عظيما حتى صارت تهابها الأمم في جميع البحار، من البحر الأبيض فالبحر الأحمر، إلى المحيط الهندي. وظهر في الدولة إذ ذاك من مهرة الملاحين وأمراء البحر من تفتخر بهم أعظم دولة بحرية، وفي مقدمتهم «أسرة بربروس» الشهيرة، ورأسها «خير الدين بربروس» أكبر قواد أوروبا البحرية في عصره. ولد في جزيرة «لسبوس»، ثم اتخذ هو وأخوه قطع طريق البحر مهنة لهما، وكانت منتشرة وقتئذ في البحر الأبيض المتوسط، ثم عظم شأنه في هذه المهنة وصارت له سطوة عظيمة، واستولى على كثير من ثغور شمالي إفريقية، إلى أن صار صاحب الكلمة العليا في بلاد الجزائر؛ وعند ذلك قدم ولاءه للباب العالي، فنصبه السلطان سليم الأول حاكما عاما للجزائر سنة (926ه/1519م)، وأجزل له العطاء، وأمده بألفي جندي من الإنكشارية، وفي سنة (941ه/1533م) اختاره السلطان سليمان قائدا للأسطول العثماني الذي سيره لمحاربة أساطيل «شارل الخامس » «شرلكان» ملك إسبانيا، وكانت بقيادة أندريادوريا» الجنوي، فقهره «بربروس» وانقض على سواحل إيطاليا فسلب ونهب منها شيئا كثيرا، ثم ولى وجهته شطر تونس يريد الاستيلاء عليها، وكان يحكمها وقتئذ أحد ملوك الدولة الحفصية من بقايا الموحدين؛ فلجأ إلى شارل الخامس المذكور، فذهب شارل بنفسه إلى إفريقية في جيش عظيم، فلم يقدر بربروس على مقاومته وانجلى عن المدينة. ثم وقع خصام بين الدولة والبندقية لاعتداء بعض لصوص البحر من البنادقة على سفير الدولة في وقت السلم؛ فخرج «بربروس» إلى البحر الأدرياتي للانتقام من البندقية؛ فاستغاثت بالبابا وشارل الخامس، فساعداها بأسطوليهما، ولكن بربروس هزم الأساطيل الثلاثة في موقعة «برويزة» سنة (945ه/1538م) وقد حط ذلك كثيرا من شأن البنادقة.
وفي عام (948ه/1541م) أغار «شارلكان» على بلاد الجزائر، فصده بربروس، وساعده الحظ بأن عصفت الرياح على سفن شارلكان فحطمتها، وبقي بربروس مصدر الرعب والفزع في البحر الأبيض إلى أن أرسله سليمان القانوني عام (950ه/1543م) لمساعدة حليفه ملك فرنسا في الإغارة على الأملاك الإسبانية، فاستولى بربروس على «نيس»، وبقي بفرنسا إلى أن خشي بأسه الفرنسيون أنفسهم، وأجزلوا له العطايا والهدايا، حتى جلا عن بلادهم وذهب إلى الأستانة حيث قضى بقية أيامه في هدوء متقلدا منصب قبودان باشا .
سليمان القانوني (رسم علي أفندي يوسف).
ومن أعظم أفراد هذا العصر أيضا «بيري ريس» و«سيدي علي»، وكانت لهما اليد الطولى في بسط نفوذ الدولة على شواطئ بلاد العرب وفارس والهند.
ومنهم «بيالة باشا»، فإنه حارب القائد الجنوي «دوريا» وانتصر على أساطيله انتصارا مبينا عند جزيرة «جربة» من أعمال تونس عام (967ه/1560م).
ومن أشد رجال هذا العصر بأسا «دراغوت» - طرغود - كان مثل بربروس في أول أمره مشتغلا بقطع الطريق في البحر، ولما علم بربروس بما له من الصيت الهائل في ذلك ضمه إليه ونصبه وكيلا له، ومن ذلك العهد أخذ يبدي من المهارة البحرية ما جعله أكبر قواد عصره، وانتصر على «دوريا» في عدة مواقع. ومن أهم أعماله أنه فتح مدينة «المهدية» عاصمة بلاد تونس في ذلك الوقت.
على أن الأساطيل العثمانية على قوتها وشدة بأسها لم تقدر على التغلب على «فرسان القديس يوحنا» أصحاب جزيرة مالطة. وكانت هذه الجزيرة قد أعطاها لهم الإمبراطور شارل الخامس عندما طردهم العثمانيون من جزيرة «رودس» سنة (928ه/1522م)، فبقوا محافظين على مالطة من ذلك العهد، وصدوا عنها العثمانيين مرارا، وفي أواخر أيام سليمان أرسلت الدولة إليها أسطولا عظيما سنة (973ه/1565م) بقيادة مصطفى باشا بيالة ودراغوت، فحاصروها أربعة أشهر ثم اضطروا للجلاء عنها بعد قتال عنيف؛ وذلك لما أبداه فرسان القديس يوحنا من الشجاعة والصبر. ولم يبق من حاميتها بعد هذا الصحار إلا ستمائة فارس، بعد أن كان بها تسعة آلاف.
ومات السلطان سليمان عام (974ه/1566م) أثناء غارته الأخيرة على المجر، وكانت سنه إذ ذاك ستا وسبعين سنة. (4) ابتداء اضمحلال الدولة العثمانية (974-1049ه/1566-1640م)
أجمع المؤرخون على أن عصر سليمان الأكبر هو العصر الذي بلغت فيه الدولة العثمانية أقصى مجدها وعظمتها؛ ففي مدة ثلاثة قرون تسنى لقبيلة آل عثمان الصغيرة أن تبسط سلطانها ونفوذها على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والبحر الأحمر، وتمد فتوحها من مكة المكرمة إلى بودا من جهة، ومن بغداد إلى الجزائر من جهة أخرى؛ فكان كل من الشاطئين الشمالي والجنوبي للبحر الأسود في قبضة يدهم، وجزء عظيم من مملكة النمسا والمجر الحالية يعترف بسلطانهم، وقد دان لسلطانهم أيضا شمالي إفريقية، من أطراف بلاد الشام إلى حدود بلاد مراكش.
وبعد موت سليمان ابتدأت الدولة في الانحطاط المستمر، اللهم إلا فترات كانت تنتعش فيها وتظهر بعض مجدها العسكري القديم. وترجع أسباب الانحطاط إلى عوامل خارجية وأخرى داخلية؛ فإن نمو الأمة الروسية، وظهور طائفة من أكابر القواد في المجر وبولندا والنمسا، لمن أهم الأسباب الخارجية التي أفضت إلى اضمحلال الدولة التركية، وأدت إلى انتقاصها إلى مساحتها الحالية.
ثم كانت ثمة جراثيم داخلية تفت في عظام الدولة، وتثل عرش مجدها وعظمتها الأثيلين؛ إذ إن حكم ولايات الدولة العثمانية المختلفة الأديان والمذاهب والأجناس، وحفظ نفوذها فيها، يحتاجان إلى نشاط وحكمة يفوقان مثلهما في إدارة شئون الدول الأخرى المؤلفة غالبا من عنصر واحد ودين واحد؛ لأن نفوذ الأتراك المستمد من القوة العسكرية، والذي يتحكمون به في رقاب كثير من الشعوب الأجنبية المختلفة في كل شيء لم يكن ليدوم طويلا إلا بعناية خاصة بإعداد الجيش لكل طارئ فجائي من جهة، وبإرضاء تلك الشعوب المختلفة والتوفيق بينها واكتساب احترامها للدولة من جهة أخرى.
وذلك ما لم يتهيأ للحكومة العثمانية بعد سليمان؛ لأنها لم تعر كل هذه الأمور شيئا من الالتفات؛ إذ بعد أن نهض الملوك السالفون من آل عثمان بالدولة إلى ذروة مجدها - بما أوتوه من الذكاء والحذق - خلف من بعدهم خلف أضاع تلك الأملاك الشاسعة التي نالها أجداده بحد السيف وحافظوا على كيانها بحسن إدارتهم، ولم يكن لهؤلاء السلاطين الضعفاء هم إلا الانغماس في اللذات، غير مكترثين بتضعضع ملكهم.
فلما أصبح الجنود بلا سلطان شجاع يقودهم إلى ساحة الوغى وسقطت هيبة السلاطين من أعينهم، أخذوا يشعرون بما لهم من الحول والقوة، وابتدءوا يعزلون ويولون من السلاطين من يشاءون، مبتزين الأموال الكثيرة والأعطية الجزيلة من كل سلطان يقيمونه على العرش؛ فأدى استئثارهم بالسلطة الواسعة التي كانوا يستعملونها حسب أهوائهم إلى الانغماس في الترف والفساد، ففقد جنود الإنكشارية منهم بالتدريج ما كان لهم من الصفات الحربية القديمة، وأصبحوا لا يوثق بهم في ساحة القتال؛ فكان ما يبذل لهم من العطايا عند تولي كل سلطان تفوق قيمته في أعينهم أعظم انتصار لهم في ساحة القتال.
هذا إلى أن الجيش لم يدخل فيه من الإصلاحات ما يجاري به جيوش الممالك الأوروبية الأخرى من استخدام آلات القتال الجديدة والتفنن في الطرق الحربية التي كانت آخذة في التحسن عندهم.
على أن أعظم نقص ظهر في الجيش كان في قواده وضباطه؛ فلم تكن ترقية القواد بحسب الكفاءة الشخصية، بل بحسب ما يبذلونه من الرشوة لولاة الأمور وبطانة السلطان.
وليس غرضنا هنا أن نذكر بالتفصيل حوادث انحطاط الدولة وتدهورها التي هي في الجملة عبارة عن سلسلة هزائم يتخللها بعض انتصارات، وعدة معاهدات صلح تخسر الدولة في كل منها شيئا من أملاكها، ثم سير ملوك وحكام ضعفاء منهمكين في الشهوات، عمي البصيرة، إلا نفرا قليلا نهضوا بالدولة فترات يسيرة؛ وإنما غاية ما نستطيعه هنا هو أن نذكر بالإيجاز أهم الحوادث التي من أجلها انكمشت الدولة الدولة التركية وأصبحت في حجمها الحالي:
بعد سليمان الأكبر تولى الملك ابنه «سليم الثاني» (974-982ه/1566-1574م) وكان ضعيفا لاهيا سكيرا؛ ولذلك لقب بالمجنون.
ولكن النظام الباهر الذي وضع أساسه سليمان ورجال دولته لم يتلاش دفعة واحدة على يد خلفه؛ إذ كان كثير من عمال سليمان لا يزالون بعد أحياء، يدب في نفوسهم ذلك الروح العظيم الذي بثه فيها مولاهم، ونخص بالذكر منهم وزيره «صقلي محمود» الذي لم يأل جهدا في حكم البلاد على طريقة سيده؛ فكان من أعماله أنه أمر «سنان باشا» فأخضع بلاد العرب عام (978ه/1570م).
وبعد ذلك ابتدأ فتح جزيرة «قبرس» وانتزاعها من يد البنادقة، وقام بأمر هذه الحملة «لالا مصطفى» أحد نظراء «صقلي»، وقد كلف فتح هذه الجزيرة الدولة خمسين ألف مقاتل، أحفظت مصارعهم قائدهم مصطفى، فلم يشتف لهم في ساعة النصر إلا بالانتقام من قائد حامية الجزيرة شر انتقام؛ إذ سلخ جلده حيا .
وبهذا الفتح قويت شوكة العثمانيين في البحر، إلا أن ذلك لم يدم طويلا حتى اتحدت عليهم إسبانيا والبابا والبندقية وغيرها - واشترك معهم فرسان القديس يوحنا - في مايو سنة (979ه/1571م)، وكان غرض البندقية من هذا الاتحاد استرداد جزيرة قبرس فقط، غير أن «فليب» ملك إسبانيا أبى إلا أن يجعله تحالفا عاما؛ فتم الاتفاق على أن تكون إسبانيا والبابا والبندقية متحدة جميعا على مغاربة تونس وطرابلس والجزائر والترك، وأن تحمي كل منها أملاك الأخرى، وألا تعقد إحداهن صلحا على انفراد، وأن تعين كل من دول التحالف قائدا لأسطولها، وأن توكل القيادة العامة إلى «دون جون» النمسوي.
ظهر أسطول الحلفاء في 16 سبتمبر سنة 1571 في مياه «مسيني»، ولما وصل إلى «كرفو» بلغه أن الأسطول العثماني في خليج «ليبنتو». وفي سابع أكتوبر كان الأسطولان على مقربة بعضها من بعض في هذا الخليج، وكان أسطول الحلفاء يشمل 264 سفينة ذات حجوم مختلفة بعضها مسلح بأضخم المدافع، تحمل 26000 جندي و50000 مجذف وبحري. أما الأسطول التركي فكان يحتوي على 300 سفينة، وما لا يقل عن 120000 جندي ومجذف، وكان غرض أمير البحر التركي «بيالة باشا» في الموقعة التي نشبت أن يشتت جناحي أسطول خصمه، غير أن هذه الحركة لم تفلح؛ لأن «بربريجو» قائد سفن البندقية في الجناح الأيسر و«أندريا دوريا» في الجناح الأيمن احتميا بالشاطئ، وبعد ذلك نشبت معركة عنيفة خسر فيها الحلفاء خسارة عظيمة. غير أن البنادقة تمكنوا أخيرا من صد عدوهم بعد جرح قائدهم «بربريجو» جرحا مميتا، وقتل القائد التركي محمود «سيركو» - شلوك - الذي كان يهاجمه. وفي غضون ذلك كان قلب الأسطول بقيادة «دون جون» منتصرا بعد كفاح شديد أشبه بالحرب البرية منه بالحرب البحرية، قتل فيه القائد التركي «بيالة باشا» وسلم معظم المراكب التركية أو حطم. أما «علي الألوج» - داي الجزائر - الذي كان متغلبا على ما أمامه من سفن «جنوة»، فإنه لما رأى ما حل بالترك ولى هاربا؛ فتم بذلك النصر للمسيحيين.
ويمكن معرفة ما لهذه الموقعة التي لم تستغرق أكثر من أربع ساعات من الأهمية إذا علمنا أن الترك لم تكن هزمت في البحار إلى ذلك اليوم. أما الخسائر فلا يمكن تقديرها بالتحقيق، غير أنه من المؤكد أن خسائر الترك كانت ضعفي خسائر الخلفاء، وأن ما نجا من سفنهم لم يتجاوز الخمسين.
وكان المنتظر بعد هذه الهزيمة المنكرة أن تفقد الدولة سيادتها على البحار، إلا أن ذلك لم يكن، وغاية ما أثرت أنها برهنت لدول أوروبا أنه يمكن التغلب على الترك. أما تأثيرها في سيادة الترك في البحر الأبيض خاصة فكان ضئيلا جدا؛ إذ إنهم بعد الهزيمة بمدة وجيزة أنشئوا لهم أسطولا بلغ عدد سفنه 250. ومما يبرهن على قلة تأثيرها أيضا أن البندقية نقضت عهودها مع حليفتيها، وطلبت إلى الباب العالي أن يعقد معها صلحا على انفراد، وقبلت أن تبقى قبرس في قبضة الباب العالي، وأن تدفع له الثمن الذي كلفه فتحها إياه.
بقيت بعد ذلك الدولة ربع قرن في مسالمة مع البندقية ، وذلك لا يرجع إلى تأثير المعاهدة فقط، بل إلى تأثير نفوذ بعض أزواج السلطان؛ إذ لما تولى مراد الثالث (982-1003ه/1574-1595م) الملك بعد موت أبيه سليم الثاني - وكان ضعيفا - ترك مناصب الدولة تباع لمن يدفع فيها أكبر قيمة، وكان طوع إرادة نسائه وخاصة حظيته «صفية»، وأصلها من سبي البندقية؛ فتسلطت عليه في مصلحة وطنها.
ولما مات هذا السلطان خلفه ابنها محمد الثالث (1003-1012ه/1595-1603م)، وهو واحد من أبناء مراد الثالث البالغ عددهم 102، وقد قتل منهم محمد هذا ثمانية عشر عند توليته عرش الخلافة، ولم تضعف في أيامه سلطة «صفية»، وبقيت هي صاحبة النفوذ والسلطان.
وكان أكبر مساعد لها في هذه المدة «سيكالا»، وهو من عنصر جنوى؛ تزوج بإحدى حفيدات سليمان الأكبر، وارتقى في الجيش العثماني بما كان له من الذكاء والحظوة، ولقد أدى خدمة عظيمة للترك في عام (1004ه/1596م)؛ وذلك أنه بعد أن حارب الترك جنود النمسا وترنسلوانيا واستولوا على «إرلو»، قضوا في مكافحتهم في سهل «كرزت» ثلاثة أيام بانت الهزيمة بعدها في الترك، وفكر السلطان مرتين في الهرب، فحمل سيكالا على جيوش الأعداء، وشتت شملها وأفنى من رجالها خمسين ألفا.
على أن هذا النصر لم يخلص الدولة من الثورات العسكرية والحروب الخارجية، وما كانت تشعر به البلاد من الاستياء العام، وأوضح دليل على وهن نفوذها أن النمسا حينما عقدت معها صلحا في عهد السلطان أحمد الأول (1012-1026ه/1603-1617م) وكان يناهز الرابعة عشرة من عمره؛ لم تعاملها إلا معاملة النظير للنظير، لا الضعيف للقوي، ومنعت ما كان مفروضا عليها من الجزية السنوية.
ثم سادت السكينة في الأصقاع التركية الشمالية؛ لأن يدي إمبراطور النمسا كانتا مغلولتين في حرب الثلاثين سنة،
8
وكان من مصلحته أن يكون على وفاق تام مع الترك، على حين أن الدولة نفسها لم تر فائدة من مهاجمته؛ لأنها كانت إذ ذاك قد استرجعت كل فتوحها.
وفي سنة 1032ه تولى السلطان «مراد الرابع» أريكة الملك (1032-1049ه/1623-1640م)، وكان شديد البأس، ولوعا بالحرب، إلا أنه رأى أن يبرم عقد صلح من جديد مع إمبراطور النمسا ليضمن به بقاء السكينة والهدوء في أجزاء الدولة العثمانية مدة النصف الأول من القرن السابع عشر، حتى يتمكن من توجيه كل قواه إلى الفرس.
كان مراد الرابع آخر ملوك آل عثمان الحربيين، وأول حرب أثارها كانت على مملكة فارس، وسببها أنه في مدة مراد الثالث قامت حرب مع الشاه كان النصر فيها حليف الترك، وعقد الصلح في عام (998ه/1590م)، فضمت الترك إلى أملاكها بلاد «جرجيا» و«تبريز» وبعض الأقاليم المتاخمة لجنوبي بحر قزوين، إلا أن الفرس ما زالت تنازع الترك هذه الأقاليم حتى استرجعتها في عام (1028ه/1619م)، وأرجعت حدود الدولة من هذه الناحية إلى ما كانت عليه في عهد «سليم الأول»، فعزم مراد على فتح هذه الأصقاع ثانية، فلاقى في سبيل ذلك أهوالا عظيمة.
فإنه لما تولى عرش الخلافة - وهو في الحادية عشرة من عمره - كانت البلاد في حاجة إلى رجل يقبض على زمامها بيد من حديد، لتوالي المصائب عليها وهبوب عواصف الفتن والثورات فيها؛ فكانت الفرس منتصرة، وآسيا الصغرى في ثورة، وولاة الأقاليم متمردين، وأصبحت بلاد المغرب مستقلة، والخزينة خالية، والجيش ثائرا.
مراد الرابع (رسم علي أفندي يوسف).
إلا أنه رغم كل هذه الصعوبات العظيمة تمكن بمساعدة أمه من حفظ كيان الدولة بعد انهزامات مؤلمة؛ ففي التاسعة من حكمه ثارت الإنكشارية وطلبوا رأس وزيره الأول «حافظ باشنا»، فسلم هذا نفسه إليهم فداء لمليكه، إلا أن السلطان انتقم له بعد من هذه الفئة الضالة شر انتقام؛ إذ تمكن من قتل الثوار في كل إقليم وخصوصا الإنكشارية، حتى تكدست رءوسهم على ضفاف البسفور. وقد قيل إن من قتلوا في هذا الحادث يبلغون مائة ألف أو يزيدون.
ومن ذلك العهد قبض السلطان مراد الرابع على زمام الأمور بكل يقظة؛ فانتشر العدل وساد النظام في كل مكان بحالة لم ير مثلها منذ أيام سليمان الأكبر.
ولما استتب الأمن في نصابه سار مراد الرابع قاصدا حدود الدولة الآسيوية ينشر فيها السكينة؛ ففي عام (1045ه/1635م) أعاد فتح «أريوان»، وعاقب ولاة آسيا الصغرى على تمردهم. وفي عام (1048ه/1638م) قصد «بغداد» ليسترجعها من يد الفرس، فأخذها عنوة بعد أن أظهر في فتحها ضروب الشجاعة، وبعد أن فنيت كل حاميتها إلا ثلاثة آلاف، وتم بعدها عقد الصلح مع الشاه، وكانت نتيجته أن استردت الفرس بلاد «أريوان»، أما بغداد فبقيت من هذا الوقت في يد الأتراك، ودخل «مراد» القسطنطينية دخول المنتصر الظافر.
وفي العام التالي وافته منيته وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وبموته مات آخر سلطان حربي من ملوك آل عثمان. (5) عهد سلطة الوزراء - أسرة كبريلي (1049-1103ه/1640-1691م)
تولى شئون الملك بعد مراد الرابع السلطان «إبراهيم الأول» (1049-1058ه/1640- 1648م)، فلم يكن قوي العزيمة كسابقه؛ فدب في أيامه روح الفساد وسوء الإدارة في داخلية البلاد؛ ولذلك لم يفلح في فتح جزيرة إقريطش «كريت» بعد أن جهز لها أسطولا في عام (1055ه/1645م)، ولم يمكث طويلا حتى عزل وقتل.
وتولى بعده «محمد الرابع» (1058-1099ه/1648-1688م)؛ ففي العام الثاني من حكمه هزم الأسطول التركي في بحر الأرخبيل، وقامت الثورات الداخلية في آسيا الصغرى ، وأصبحت الحال في العاصمة أسوأ حال؛ إذ كان الوزراء يولون ويعزلون تباعا حسب إرادة نساء القصر، وطبقا لرغبات الجنود، واحتل الدردنيل عام (1066ه/1656م) أسطول للبنادقة هدد القسطنطينية نفسها. وقصارى القول أن الدولة في هذه الآونة كادت تتمزق شذر مذر؛ لعدم وجود رجل قوي الشكيمة يدير شئونها، حتى قيضت لها المقادير رجلا شديد البأس، حفظ كيانها هو وأفراد أسرته من بعده، ذلك الرجل هو «محمد كبريلي» رئيس أسرة كبريلي الشهيرة، وهي من عنصر ألباني استوطن القسطنطينية من زمن، وكان محمد هذا وقت ظهوره قد ناهز السبعين من عمره، وكان محترما من الصغير والكبير لقوة عقله وحسن أخلاقه. ولهذه الصفات اختارته أم السلطان «محمد الرابع» - الذي كان لا يزال فتى - صدرا أعظم، فقبل ذلك بشرط أن يطلق له العنان في إدارة شئون البلاد؛ فكانت نتيجة ذلك أنه أظهر شدة بأس مقرونة بعدل؛ فأعاد النظام في كل أصقاع الدولة.
وقضى في ذلك خمسة أعوام على أشد ما يكون وزير يقظة لكيد الكائدين، وضربا على أيدي المفسدين، فلم تر الدولة في كل عصورها رجلا مطاعا مثله، ذلك على شدة فيه ، وقد قتل في أيام وزارته بأمره 36000 شخص في سبيل توطيد السكينة.
وكان هو ومن خلفه من أفراد أسرته هم القابضين على زمام الأمور في البلاد العثمانية، ولهم يرجع كل الفضل في انتعاش الدولة في النصف الأخير من القرن السابع عشر؛ فكان همهم الأكبر أن يعيدوا للدولة مجدها القديم وأن يحيوا في سبيل حكمها السنة التي سار عليها محمد الفاتح ومن قبله من السلاطين. وقد ظهرت ثمرة حكم محمد كبريلي في مدة وجيزة جدا؛ إذ انمحت آثار الفوضى وعاد النظام إلى نصابه، وفي العام الثاني من توليته طرد أسطول البندقية عن الدردنيل بعد قتل قائده «موسنيجو»، واسترجعت الدولة جزيرة «لمنوس» و«تندوس»، ثم ضيق الحصار على جزيرة «إقريطش»، وأعد المعدات لتجديد الفتوح العثمانية في أوروبا. ولما مات «محمد كبريلي» في عام (1072ه/1661م)، كانت كل أجزاء الدولة متحدة الكلمة منبثا فيها روح النشاط، متوجهة بكل قواها لمنازلة عدوها العنيد إمبراطور النمسا.
لبس أحمد كبريلي حلة أبيه، وقبض على زمام الأمور بعده، فكان مثله في الحزم، وحذا حذوه في سياسة البلاد، وكان مبدأ توليه شئون الدولة هو أجل انفراط عقد المحالفة مع النمسا، فسار على رأس جيش يبلغ 200000 جندي، وانقض به على بلاد النمسا والمجر عام (1074ه/1663م)، فعبر نهر الطونة عند «جران» واستولى على قلعة «نيوهوزل» وخرب من «مرافيا» حتى أسوار مدينة «أولمتز»، إلا أن «لويس الرابع عشر» مد إلى الإمبراطور يد المساعدة نكاية بالترك الذين أهانوا سفيره في بلادهم؛ فأعد جيشا يبلغ 30000 مقاتل، ولما وصل هذا الجيش إلى «منتكوكيولي» قائد الجيوش النمساوية أحس أنه يمكنه تهديد جناح الجيش التركي إذا زحف عليه من جهة «فينا»، إلا أن أحمد تقهقر إلى الجنوب نحو «بودا» فتقابل الجيشان عند «سنغوتار» على نهر الراب سنة (1075ه/1664م)، فلم يقو أحمد على عدوه وانهزم أمامه. ورأى الإمبراطور أن يعقد صلحا حتى يتخلص من تدخل فرنسا في شئونه، فتم ذلك بمعاهدة «فزفار» في أغسطس سنة 1664م، وقد اعترف فيها بسيادة السلطان على «ترنسلوانيا»، وبعدئذ وجه الصدر عنايته إلى محاربة البنادقة، واشترك هو بنفسه في حصار «إقريطش» - كريت - وهي من خيرة أملاكهم، فسقطت في يد الأتراك بعد حرب عوان في (17 سبتمبر سنة 1669م/1080ه).
وعقب فراغه من حرب البنادقة دخل مع بولندا في حرب عوان؛ وسبب ذلك يرجع إلى عسف البولنديين وظلمهم لقبائل «القوزاق» القاطنين مقاطعة «أوكرين»، وكان البولنديون يعتبرونهم من رعاياهم، ثم زاد غضب القوزاق وسخطهم على البولنديين حينما تولى «ميخائيل» ملك بولندا؛ إذ كانوا يرون في توليته ابتداء عصر لاضطهادهم؛ لأنه هو ابن أكبر ملك أجحف بحقوقهم وسامهم الخسف وسوء العذاب؛ فثاروا في عام (1081ه/1670م) وآذنوا بالحرب ذلك الملك الطاغي، إلا أنهم هزموا على يد قائده الشهير «جون سوبيسكي».
فلما ضاقت بهم الحال، وأيقنوا أن لا مناص من الخسف والظلم، طلبوا إلى الباب العالي أن يكونوا تحت سيادته ليحميهم من هذا الملك الغشوم؛ فاغتنم «أحمد كبريلي» هذه الفرصة وأعلن الحرب على بولندا بحجة حماية رعاياها المظلومين.
ففي عام (1803ه/1672م) ظهر السلطان بنفسه ومعه «أحمد كبريلي» أمام حصن «كامنيك» المنيع، وهو مفتاح مقاطعة «بادوليا» - في بولندا - فسقط الحصن في يد الترك في أقل من شهر، فجبن عند ذلك ميخائيل ملك بولندا، وعقد صلحا مع الترك كان من أهم شروطه أن يتنازل لهم عن «بادوليا» و«أوكرين» ويدفع جزية سنوية للباب العالي.
إلا أن مجلس الأعيان البولندي رأى من العار قبول هذه المعاهدة، وجمع كل من يستطاع تجنيدهم من الجند بقيادة «جون سوبيسكي» ليقاوم بهم عدوهم حتى النهاية. وبالرغم من عدم مساعدة الدول الأخرى له، والدسائس التي كانت تكاد له في بلاده وتمرد الجنود عليه، تمكن بحذقه ومهارته الحربية وقوة شكيمته من استدامة الحرب بينه وبين الترك أربعة أعوام؛ فوقف تقدمهم في «بادوليا» و«غليسيا» وانتصر على أعظم قوادهم انتصارات باهرة في موقعتي «شكزم» سنة (1084ه/1673م) و«لمبرغ» سنة (1086ه/1675م)، وشتت شمل الجيوش التركية إلى أن اجتاز نهر «الطونة».
جون سوبيسكي (عدو الترك اللدود).
وفي عام (1085ه/1674م) - وحينما كانت الحرب في منتهاها من الشدة - مات الملك ميخائيل؛ فانتخب البولنديون بطلهم «جون سوبيسكي» مليكا عليهم، ولكنهم خذلوه مع حبهم له؛ فبعد توليته بيومين وجد نفسه وجيشه محاطين بالترك عند «زرانو» على نهر الدنيستر، ولم ينجده البولنديون. ومع ذلك كانت هيبته وشهرة اسمه سببا في خلاصه من هذه الورطة؛ إذ فضل القائد التركي إبراهيم أن يعقد صلحا رابحا على أن ينازل الأسد في عرينه، وفعلا تم عقد صلح «زرانو» (سنة 1087ه/أكتوبر سنة 1676م)، وأهم شروطه أن تتنازل بولندا عن «كامنيك» و«بادوليا» وجزء من «أوكرين». وبعد مضي سبعة أيام من تاريخ معاهدة «زرانو» مات أحمد كبريلي، إلا أن سياسته لم تقبر معه.
خلف أحمد كبريلي في منصب الصدارة العظمى صهره «قره مصطفى»، وكانت أمانيه وأطماعه لا تقل عن سلفه، ولكنه لم يعط نصيبا وافرا من المقدرة وحسن التدبير؛ فهدم ما بناه محمد وأحمد كبريلي بجدهما ونشاطهما بكبريائه وانغماسه في الشهوات وافتخاره الكاذب. وكان في بادئ أمره يشعر بحسن المستقبل، فعزم عزما أكيدا على أن يخترق قلب البلاد الأوروبية ويقضي عليها القضاء المبرم بفتح «ويانة».
فابتدأ يتأهب سرا بما لم يسمع بمثله من قبل، وجدد علائقه الودية مع «فرنسا»، وعقد صلحا مع «الروسيا»، ووثق صلته ببولندا، وكان غرضه من ذلك أن يترك الإمبراطور وحيدا، وأوشك أن يتم له فعلا ما أراد؛ إذ كان المجر أيضا ناقمين منذ سنتين على الإمبراطور «ليبولد» لتضييقه عليهم في معتقداتهم الدينية والسياسية؛ فثاروا عليه سنة (1085ه/1674م) بقيادة «توكولي»، ثم انضم إليهم بعد أمير «ترنسالوانيا»، فتمكنوا في عام (1092ه/1681م) من إجبار الإمبراطور أن يعيد إليهم ما سلبهم من الحقوق السياسية، ويمنحهم الحرية الدينية.
إلا أن «توكولي» لم يكتف بذلك، بل رغب في أن يكون هو واليا على المجر؛ ولذلك صفا إلى «قره مصطفى» الذي مناه بولاية المجر إذا انضم إليه على الإمبراطور؛ وبذلك تم كل شيء «لقره مصطفى» بعد أن وثق من عدم مساعدة «لويس الرابع عشر» للإمبراطور، ومن منعه ألمانيا أيضا من مؤازرة النمسا.
أماط «قره مصطفى» اللثام عن أغراضه سنة (1093ه/1682م)، وأعلن في (ربيع 1094ه/1683م) أن المجر ولاية عثمانية، وعبر نهر الطونة على رأس جيش يبلغ 150000 جندي. فلما رأى الإمبراطور حرج موقفه، وأن فرنسا تقف سدا أماه في كل باب يطلب منه المساعدة، يئس من مقاومة الترك.
إلا أن «جون سوبيسكي» نكث العهد وأقنع أمته بضرورة مساعدة الإمبراطور، وفي 31 مارس أبرمت محالفة بين الدولتين تعهدت فيها بولندا بتجريد 40000 مقاتل للدفاع عن النمسا.
وكانت الجيوش التركية في هذه الأثناء متابعة الزحف نحو «فينا» حتى اضطر الإمبراطور «ليبولد» إلى الانتقال بحاشيته إلى «بساو»، وفي 9 يوليو خفقت الأعلام التركية على مقربة من أسوار فينا، وفي 14 منه حوصرت المدينة وحفرت خنادق الحصار.
وكانت حالة المدينة سيئة جدا، غير متأهبة للحصار، وكان عدد حاميتها 14000 مقاتل فقط، وهي غاصة بالقرويين اللاجئين إليها من الأرياف، وكانت أسوارها قديمة متداعية إلى السقوط، على حين أن المهندسين من الترك ورجال مدفعيتهم كانوا من أمهر رجال أوروبا في ذاك العصر.
ومع كل هذا لم ينتفع قره مصطفى بهذه الفرصة، وأضاعها بتلكئه وتوانيه؛ فإنه بعد أن شتت شمل رجال الإمبراطور وأنزلهم من معاقلهم، وأصبحت المدينة ممكنة الفتح معورة من كل جهاتها، لم يقدم على مهاجمتها، بل تردد، وكان غرضه أن تسلم المدينة بلا حرب، ويأخذ ما فيها من الخيرات لقمة سائغة لنفسه.
وكان جون سوبيسكي في هذه الأثناء يجمع جموعه بكل سرعة عند «كركاو» لإنقاذ المدينة. وكان «الدوق لورين» قائد قوات الإمبراطور قد بعد عن المجر وعسكر شرقي «فينا» على مسافة منها، ووكل أمر الدفاع عنها إلى الكونت استهرمبرج قائد الحامية، ولم يجرؤ على الزحف لتخليص المدينة حتى أتاه «جون سوبيسكي» في 2 سبتمبر سنة 1683م وتسلم قيادة الجيش، ثم زحف نحو المدينة وصار على مقربة من معسكر الجيش التركي حين كانت الحاجة ماسة إليه جدا؛ إذ كانت الأتراك قد نقبوا أسوار المدينة، وتفشى المرض في أهليها، فلما رأت الحامية طلائع النجدات دب في نفوسهم روح الأمل، وأيقنوا أن النصر أصبح منهم قاب قوسين أو أدنى، وتمت لهم أمانيهم بهجوم «جون سوبيسكي» على مقدمة الجيش التركي، ثم باشتباكه معه في معركة عنيفة شتت فيها شمل الأتراك وأنقذ المدينة، وقد نجا «قره مصطفى» بحياته بعد أن يئس من الخلاص، وجمع شتات جيشه المنهزم عند «بلغراد».
ومن هذا الحين ابتدأ نجم الأتراك يأفل في أوروبا. أما «قره مصطفى» فإن الترك باعوه ذلك النصر المضيع بضرب عنقه، على أن خلفه إبراهيم كان نصيبه القتل والهزيمة أيضا؛ إذ اندحرت الترك في نفس العام في شهر أكتوبر عند «بركاني» على يد «جون سوبيسكي»، فأجلاهم عن كل بلاد المجر.
وفي العام التالي (1095ه/1684م) انضمت جيوش البندقية إلى جيوش «جون سوبيسكي» لاقتفاء جيوش الترك المنهزمة. وفي هذا العام عقد «الحلف المقدس» بين الإمبراطور وبولندا والبندقية على الترك، ولم تمض إلا فترة يسيرة حتى ظهرت ثمرته؛ لأنه بالرغم من اعتزال «جون سوبيسكي» قيادة الجيش في (1097ه /1685م) لاعتلال صحته وشيخوخته، بقيت فتوح الحلف المقدس تمتد على نهر الطونة برا، وفي البحر الأبيض المتوسط بحرا.
ولم تمض هذه السنة حتى استرد «دوق لورين» جميع المجر التركية عدا «بودا»، واستولى الأسطول البندقي على عدة بلاد على ساحل «ألبانيا». وفي العام المقبل سقطت «بودا» في يد «لورين»، وأخضع لورين جميع المجر، وفي عام (1099ه/1687م) دحر الصدر الأعظم عند مدينة «موهاكز» التاريخية، واسترجع القائد «لورين» «كرواتيا» و«سلافونيا» وأخضع «ترانسلوانيا»، ثم عبر نهر «الطونة» وأخذ «بلغراد» عنوة، واستمر في الزحف حتى وصل إلى «نيش» عام (1100ه/1688م).
وكان مرسيني أمير البحر البندقي في الوقت نفسه يظهر نشاطا عظيما في البحر الأبيض المتوسط؛ إذ أخضع في عام (1098ه/1686م) أهم بلاد المورة، ولم يأت عام (1106ه/1694م) حتى خسرت الترك كل أملاكها في بلاد «اليونان» وعلى الساحل «الأدرياتي».
وكانت قد قامت ثورة في عام 1688 في القصر السلطاني، كانت نتيجتها عزل محمد الرابع وتولية ابنه سليمان الثاني (1098-1102ه/1687-1691م)، فعهد هذا أمر الصدارة العظمى إلى «مصطفى كبريلي» أخي أحمد كبريلي؛ فأظهر ما هو مشهور عن رجال هذه الأسرة من شدة البأس وسعة الخلق؛ فاتبع سياسة التسامح الديني في كل أنحاء الدولة، وأعاد النظام في الجيش، فلم يمض عامان من توليته زمام الأمور حتى أصبح النصر حليف الترك؛ ففي عام (1102ه/1690م) استرجع مصطفى كبريلي «نيش» و«بلغراد» وغزا «المجر»؛ ولكنه هزم وقتل في سنة (1103ه/1691م) في واقعة «سلانكمن» على يد حاكم «بادن».
وبموت هذا الرجل قضي على آمال الترك المرجوة. واستمرت الحرب بعد مدة ثمانية أعوام كان النصر فيها سجالا، إلا أن جيوش الإمبراطور وجيوش البندقية بقيت محافظة على «المجر» و«ترانسلوانيا» وبلاد «المورة»، وفي عام (1108ه/1696م) انتصرت الجيوش النمسوية بقيادة البرنس «يوجين» نصرا مبينا على السلطان «مصطفى الثاني» (1106-1115ه/1695-1703م) الذي كان يقود الجيش بنفسه عند «زنتا».
وابتدأ يظهر شأن بطرس الأكبر - قيصر الروس العظيم - فدخل في هذه الآونة الحرب وأخذ من العثمانيين بلدة «آزاق». فلما رأى السلطان حرج موقفه، وأن لا فائدة من امتداد أمد الحرب - إذ أيقن أنه بانقراض أسرة كبريلي قد انقضى عصر الفتوح - عقد صلح «كارلوتز» سنة (1110ه/1699م)، وكان أهم شروطه أن يسترجع الإمبراطور كل بلاد «المجر» - ما عدا تمسوار - والجزء الأعظم من كرواتيا و«سلافونيا»، وأن تكون له السيادة على «ترانسلوانيا». أما بولندا، فإنها استرجعت «بادوليا» وفيها «كامنيك»، وتنازلت الدولة أيضا عن آزاق ل «الروسيا». وأما البندقية، فإنها بقيت في بلاد المورة. ومنذ هذه المعاهدة سقطت هيبة الدولة من أعين دول أوروبا سقوطا نهائيا. (6) الدولة العثمانية وحروبها مع الروسيا والنمسا في القرن الثامن عشر
أخذت الدولة العلية تضعف شيئا فشيئا خلال القرن الثامن عشر؛ وذلك يرجع إلى سببين عظيمين؛ الأول: نهوض الأمة الروسية وتحالفها مع النمسا على الأتراك لبسط سلطانها وطرد الأتراك من أوروبا، والثاني: اختلال النظام وسوء الإدارة في البلاد العثمانية وثوران من فيها من الشعوب المختلفة في وجه الدولة.
ولما ظهرت علامات الضعف والاضمحلال في الدولة أخذت دول أوروبا تنظر فيما سيئول إليه أمرها، ومن يكون الوارث لأملاكها، وتعرف هذه المسألة عندهم «بالمسألة الشرقية»، ويرجع تاريخها إلى عام (1108ه/1696م) عندما استولى الروس على مدينة «آزاق» التي تنازلت عنها الدولة للروسيا رسميا في معاهدة «كرلوتز»، كما تنازلت أيضا عن بعض ممتلكاتها إلى النمسا؛ وبذلك دخلت سياسة الشرق الأدنى في طور جديد.
وبعد هذه المعاهدة وقف تيار تقدم الروس في الجنوب فترة؛ وذلك لما تنازلوا للترك عنه في معاهدة «بروث» الآتي ذكرها سنة (1123ه/1711م) بعد أن انهزمت الروسيا هزيمة منكرة. ولكن ما لبثت هذه الفترة أن انقضت وعادت الروسيا إلى مناوأة الترك طول القرن الثامن عشر بلا انقطاع.
وكان ضعف الدولة المستمر في خلال هذا القرن سببا لمشاكل جديدة وارتباكات شديدة بين دول أوروبا؛ فبينما كانت الروسيا تبذل جهدها لبسط سلطانها على البحر الأسود، كانت النمسا - من جهة أخرى - تعمل طاقتها لمد أملاكها على نهر الطونة، إلا أن عمل كل من الروسيا والنمسا كان داعيا لقلق فرنسا وتدخلها، وفي سنة (1188ه/1774م) ابتدأت مقاصد الروسيا تظهر جليا بعد معاهدة «كجوك قينارجة» - كتشك كينارجي - التي سيأتي ذكرها، ففطنت إنجلترا للأمر، وأخذت تخاف انحلال عرى الدولة العثمانية، كما أخذت أوروبا من ذلك الحين تهتم أيضا بالمسألة الشرقية وتنظر إن كان بقاء الدولة وحفظ كيانها في أوروبا خيرا من ضمها إلى الروسيا أم لا.
وأول من عمل على توسيع نطاق الدولة الروسية وجعلها في مصاف دول أوروبا العظمى هو قيصرها بطرس الأكبر (1100-1137ه/1689-1725م)، وكانت قبل عهده بعيدة عن الحضارة الأوروبية، منزوية عن العالم المتمدين. فلما تولى هذا القيصر الملك عام (1100ه/1689م) خطا بها خطوات واسعة في سبيل العمران؛ إذ غير أنظمتها وسياستها الداخلية دفعة واحدة؛ فاتخذ «بتروغراد» مقرا لملكه بعد أن كان مدينة «مسكو»، وأدخل العادات ووسائل المعيشة الغربية في بلاده، وضرب بيد من حديد على سلطة الأشراف، ووضع الكنيسة والجيش - الذي دربه على الأنظمة الأوروبية - تحت مراقبته نفسه. أما سياسته الخارجية فلم تقل حزما وبعد نظر عن سياسته الداخلية؛ إذ رأى أنه لا يتسنى للروسيا أن تكون مملكة تجارية إلا إذا أرسخ قدمها على البحرين البلطي والأسود، وكان الأول في قبضة السويد والثاني في يد الترك؛ فجعل همه ابتداء منأواة السويد، وبعد حروب طويلة تم له مقصده في معاهدة «نيستاد» سنة 1721م؛ إذ تنازلت السويد للروسيا عن ليفونيا، وإيثونيا، وإنجريا، وكرليا، وغيرها.
أما الترك فأخذ منها آزاق في معاهدة «كرلوتز» كما سبق، إلا أن العثمانيين استردوها ثانية في عهد أحمد الثالث (1115-1143ه/1703-1730م)؛ وذلك أن الروس لما هزموا «شارل الثاني عشر» ملك السويد في موقعة «بلطاوا» لجأ شارل إلى الترك وطلب منهم المساعدة، فلبت الترك دعوته إذ وجدت في ذلك فرصة لاسترداد ما خسرته، فشنت الحرب على الروسيا. وبعد مواقع عنيفة تمكن القائد التركي «بلطجي باشا» من حصر الجيش الروسي ووشك القبض على قيصر الروس عند نهر «بروث»، ولكنه نجا من الأسر بما قدمته زوجته «كترين» من الرشوة إلى الخائن «بلطجي باشا»، فأفلت بطرس وجيشه - بل روسيا الجديدة كلها - من براثن الفناء، واضطرت الدولة بعد هذه الغلطة الشنيعة إلى عقد صلح «بروث» عام 1171م الذي استرجعت به من الروسيا ميناء «آزاق». ويعتبر عقد الروس لهذه المعاهدة - على ما نالهم فيها من الخسائر الطفيفة - من أكبر سعودهم؛ إذ لو لم تتقيد بها الترك وواصلت عليهم الحرب، لقضت - لا محالة - على دولتهم وهي في إبان نهضتها.
بطرس الأكبر.
وبعد مضي خمسة عشر عاما على معاهدة «كرلوتز» أراد «قومرجي علي» الصدر الأعظم أن يمحو العار الذي لحق بالدولة في هذه المعاهدة باسترداد بلاد المجر والمورة. وكانت الفرصة سانحة له؛ إذ كانت الدولة قد انتصرت على بطرس الأكبر - كما أسلفنا - وكانت «الإمبراطورية» - النمسا - قد أنهكتها الحروب الأوروبية، ولم يكن للبنادقة من القواد مثل «مروسيني» وأمثاله حتى يقودها إلى الظفر، فضلا عن أن بلاد المورة نفسها عندما غزيت لم تظهر أي مقاومة جدية؛ فكانت النتيجة أن تمكن قومرجي بزحف واحد من استرجاع بلاد المورة سنة (1127ه/1715م).
على أنه لم يتم له في المجر ما أراد؛ فإنه هزم عند «بيتر وردن» هزيمة منكرة على يد الأمير «يوجين» في أغسطس سنة (1128ه/1716م)، وقتل الصدر الأعظم في هذه الموقعة، فاضطر الباب العالي إلى عقد صلح «بساروتز» عام (1130ه/1718م)، وكان أهم شروط هذا الصلح أن أبقت الدولة للنمسا مقاطعة تمسوار وبلغراد، وبقي معها المورة.
وبعد معاهدة «بساروتز» لم تفكر الترك في منازلة الروس، بل وجهوا همهم نحو «فارس»؛ إذ كانت نار الثورة متأججة فيها؛ ففي عام (1135ه/1722-1723م) لجأ «الشاه طهماسب» إلى الروسيا والدولة ليساعداه على منازع له في الملك، فانتهز الباب العالي هذه الفرصة واستولى على بعض جهات فارس، وساعده على ذلك خروج الأرمن على الفرس.
وفي عام (1136ه/1724م) عقدت معاهدة بين الترك والروس على أن تستولي الروسيا على الأقاليم المحيطة ببحر قزوين، وتستولي الترك على إقليمي «جورجيا» و«أذربيجان»، إلا أن هذا الأمر لم يدم طويلا؛ إذ ظهر في فارس عام (1141ه/1729م) زعيم قوي يدعى «نادر شاه» عمل على تخليص بلاده من نير الأجانب، وما زال بالترك حتى أجلاهم عن البلاد الفارسية عام (1148ه/1735م) بعد حروب طويلة.
وكانت الروسيا تريد امتداد الحرب بين الترك والفرس حتى تحقق غرضها في مسألة الوراثة البولندية - وهي تنصيب أمير من قلبها على هذه البلاد - لذلك تنازلت للفرس عما أخذته في عام (1136ه/1724م) وأمدتهم بالذخائر، وبهذه الحروب الفارسية ضيعت الدولة فرصة عظيمة بعدم مهاجمتها للروسيا أثناء حرب الوراثة البولندية؛ والسبب في ضياعها يرجع إلى السلطان «أحمد الثالث» ووزيره «إبراهيم»؛ إذ كانا لا يميلان إلى منأواة الروسيا والنمسا، على حين كانت الروسيا تسعى جهدها دائما في منأواة الدولة.
وفي عام (1138ه/1726م) عقدت روسيا محالفة مع النمسا نعلم منها سر سياسة كلتا الدولتين في القرن الثامن عشر. وأهم شروطها أن تتعهد كل للأخرى أن تمدها بنحو 30000 مقاتل إذا هاجمها غير الترك، أما إذا كانت الدولة العثمانية هي المهاجمة فيجب على كلتا الدولتين أن تحارباها معا بكل ما لديهما من القوة.
وبعد أن نجحت النمسا والروسيا في تنصيب أمير على «بولندا» من قبلهما لم يكن أمامهما عائق من مهاجمة الدولة والسعي في تقسيمهما بينهما، وقد كانت الفرصة سانحة للروسيا في هذه الآونة لمحو أثر معاهدة «بروث»؛ إذ إن بولندا التي كان يطمح بطرس الأكبر أن يجعلها الطريق الموصل إلى بلاد الترك قد خضعت لنفوذ الروسيا، والترك مغلولو الأيدي في حربهم مع نادر شاه، والنمسا أيضا كانت تطمح إلى الزحف على نهر الطونة لتعويض ما فقدته من الممتلكات في جهات أخرى من أوروبا. هذا إلى أن نادر شاه كان أكد للروسيا قبل صلحه مع الدولة أن لا يمسها بمكروه إذا دارت رحى الحرب بينها وبين الترك، وإلى أن الروسيا فوق ذلك كان لها أعوان وجراثيم فتن في قلب المملكة العثمانية من الشعوب المسيحية التي كانت شديدة الميل إلى الروسيا، حتى أنه لما أشيع خبر نشوب الحرب في عام (1148ه/1735م) ثارت كل الرعايا المسيحيين العثمانيين آملين الخلاص من حكم الدولة، ومن هذا الوقت أخذت الروسيا تستعمل أطماع هؤلاء الرعايا الدينية والوطنية في تمزيق أحشاء الدولة العثمانية وتبديدها.
كل هذه الأمور تدل على أن الروسيا كانت تتأهب لمحاربة الدولة وتنتظر حدوث أي شيء تتمسك به لشهر الحرب عليها، وفي عام (1148ه/1735م) وجدت لذلك فرصة مناسبة، وهي زحف جيوش من التتار على بلاد «القوقاس» - القبجاق - وأرمينية. وكان هؤلاء التتار خاضعين للدولة العثمانية، فخرجت الجيوش الروسية لصدهم وغزوهم في ديارهم، ثم أخذت تتأهب لملاقاة الترك، فعهدت بالقيادة العامة إلى «ميونخ»، وضم هذا إليه غيره من الضباط الأجانب المستأجرين.
وكان «ميونخ» هذا من أكبر قواد القرن الثامن عشر، ولد في ألمانيا وحارب في الجيوش النمساوية والبولندية والروسية، وبهر بطرس الأكبر بما له من الصفات الحربية العظيمة؛ فسعى في استخدامه.
وأول ما عزم عليه في هذه الحرب استرجاع «آزاق»، فأخذ يستعد في (شتاء 1735-1736م)، وفي (ربيع 1148ه/1736م) انقض على «القرم» وناط حصار «آزاق» بالقائد «لاسي» الأرلندي، وفي شهر مايو وصلت أخبار الحملة الروسية إلى القسطنطينية؛ فأعلنت الدولة الحرب على الروسيا في 28 منه، وكان ميونخ وقواده قد توغلوا في شبه جزيرة القرم واحتلوا كثيرا منها، إلا أنهم تكبدوا في ذلك خسائر فادحة، واضطروا للجلاء عنها والتراجع إلى «أوكرين» في 25 أغسطس سنة 1736م بعد أن ارتكبوا في القرم من الفظائع والمنكرات ما لا يوصف.
ثم دخلت الحرب في طور جديد لتجديد تحالف الروسيا مع النمسا في (سنة 1149ه/9 يناير 1737م) تأكيدا لمعاهدة 1726م؛ فأثارت النمسا الحرب أيضا على الدولة العثمانية التي قابلتهما بمقاومة أدهشت أوروبا بأسرها؛ فاضطرت ميونخ إلى التقهقر عن أوكرين، وردت النمسويين مقهورين حتى إقليم «بنات»، فأحجموا عن الحرب وأخذوا يفاوضون الدولة سرا في عقد الصلح معهم على انفراد؛ فغاظ ذلك ميونخ غيظا شديدا، وكانت له آمال كبيرة في القضاء على الترك؛ من ذلك أنه عرض على قيصرة الروسيا في ذلك العهد أساس ذلك المشروع الخطير الذي يسمى «المشروع الشرقي» وفحواه أن الروسيا ترى أن لها الحق الطبيعي في الزعامة على المسيحيين من رعايا الدولة، فيجب عليها أن تعمل على نشر الدولة «البوزنطية» بالقسطنطينية؛ ولذلك كان جل أماني «ميونخ» مواصلة الحرب، وبالفعل أغار على «ملدافيا» - البغدان - وهزم جيوش الدولة في «شكزم» سنة (1152ه/18 أغسطس 1739م)، إلا أن توالي هزائم النمسويين وعقدهم وحدهم الصلح مع الدولة قضى على أمانيه، وخاصة بعد أن علم بعزم السويد على محاربة الروسيا وبقيام بعض الفتن في داخلية بلاده؛ ولذلك رضيت الروسيا بعقد الصلح وأبرمت مع الدولة معاهدة بلغراد الشهيرة في سبتمبر سنة 1739م؛ ففي المعاهدة التي عقدت مع النمسا على انفراد أخذت الدولة العلية بلغراد و«أرسوفا» وجيمع بلاد الصرب والبوسنة وبلاد الأفلاق والبغدان.
أما الروسيا فإنها لم تأخذ مما فتحته سوى آزاق بعد هدم قلاعها، واشترطت عليها الدولة ألا تدخل أساطيلها في البحر الأسود؛ بأن يكون بحيرة عثمانية بحتة.
وهذه هي آخر معاهدة رابحة عقدتها الترك مع الدول الأوروبية، وقد لقيت الدولة في إبرامها مساعدة عظمى من فرنسا؛ لأنها كانت تخشى اتساع سطوة الدولتين: الروسية والنمسوية.
بعد ذلك ساد السلام بين الروسيا والدولة مدة طويلة مات في أثنائها السلطان «محمود الأول» (1143-1168ه/1730-1754م)، وخلفه السلطان «عثمان الثالث» (1168-1171ه/1754-1757م)، ولم يحصل في عصره شيء جدير بالذكر. ثم تولى بعده السلطان «مصطفى الثالث» (1171-1187ه/1757-1773م)، وكان ولوعا بالحروب، فلما رأى أن ازدياد نفوذ الروس في بولندا يتعاظم بهمة قيصرتهم العظيمة «كترين الثانية» التي تولت الملك سنة (1176ه/1763م) خشي على بلاده، ورأت ذلك أيضا الحكومة الفرنسية بالنسبة لبلادها فوافقته على رأيه؛ ولذلك عزم الباب العالي على منازلة الروس، وقوى عنده هذا العزم أن الروس كانوا منذ (1179ه/1765م) يحرضون اليونان و«الجبليين» و«البوسنيين» على الخروج على الدولة. وفي سنة (1182ه/1768م) اشتد حنق الباب العالي؛ إذ دخلت الجنود الروسية أملاك الدولة أثناء مطاردتهم لبعض البولندية الفارين من وجوههم، وأحرقوا «بلطة» التابعة لخان القرم أحد ولاة الدولة؛ فأعلن الباب العالي الحرب على الروسيا في 6 أكتوبر سنة 1768 لذلك وبحجة الدفاع عن حرية البولنديين.
ابتدأت الحرب بين الدولتين، فلازم سوء الطالع الدولة من أول نشوبها؛ فلم تلبث أن انهزمت أمام الروس على نهر دنيستر واحتلت الروسيا «ملدافيا» - البغدان - وبلاد «الأفلاق» و«بساربيا» و«القرم». وفي خلال هذه المدة كان الأسطول الروسي ظافرا في البحر؛ فانتصر على أسطول الدولة عند ثغر «جشمة» - شزمي - في يوليو سنة 1770م، ولولا ما أبداه القبودان حسن باشا الجزائرلي من الشجاعة لأحدق الخطر بالقسطنطينية، وما زالت الجيوش الروسية تجد في فتح بلاد الدولة بقيادة القائدين العظيمين «رومانوف» و«سوفاروف» وغيرهما، حتى خشيت الدولة العلية العاقبة وطلبت الصلح في سنة 1774م، وكانت «كترين» مشغولة أيضا بحزب بولندا وبثورة داخلية أثارها قوزاق نهر الدون. وكانت إنجلترا أيضا قد استرجعت قوادها من الجيوش الروسية لما رأته من توالي هزائم الترك، فلم تر «كترين» بدا من إيقاف الحرب مع الدولة مع كثرة انتصاراتها فيها، وأبرمت معها معاهدة كجوق قينارجة - كتشك كينارجي - سنة (1188ه/1774م)، وهي أهم معاهدة عقدت بين الدولة والروسيا وأول طور جدي في المسألة الشرقية. على أن الروسيا لم تنل بهذه المعاهدة أملاكا شاسعة؛ إذ كان ما أخذته قاصرا على «كنبورن» و«كرتش» و«آزاق» والأقاليم المجاورة لها؛ مما ثبت قدمها على شمالي البحر الأسود، ولكنها نالت بها حقوقا سياسية كبيرة كان لها شأن عظيم في المستقبل؛ لأن الدولة قبلت في هذ المعاهدة أن تضمن للروسيا حكومة عادلة وحرية دينية للرعايا المسيحيين، وجعلت للروسيا الحق في المطالبة بحقوقهم كلما رأت حاجة إلى ذلك. وهذا حق كبير لا يستهان به؛ إذ أخذته الروسيا بعد ذريعة للتدخل في شئون الدولة كلما رأت ذلك من مصلحتها، وقد كان ذلك أكبر مكدر لصفو الدول الأوروبية على الدوام.
كترين الثانية.
سادت السكينة بعد ذلك فترة بين الدولة والروسيا، ولكن «كترين» كانت لا تزال متشبثة ب «المشروع الشرقي» وتمني نفسها بإنفاذه متى سنحت الفرصة. وفي عام (1197ه/1783م) نقضت العهد وضمت القرم إليها بالرغم من تهادنها مع الدولة؛ فخشيت فرنسا وإنجلترا من توغل كترين في الأملاك العثمانية ، ونصحت للباب العالي بالتنازل عن «القرم» و«كوبان»؛ فتم ذلك بمقتضى معاهدة القسطنطينية (سنة 1198ه /يناير سنة 1784م).
على أن الروسيا لم تقف عند هذا الحد، ودأبت على إنفاذ مشروعها الشرقي وتوسيع نطاق أملاكها من الأملاك العثمانية؛ فأخذت تعمل منذ عام (1200ه/1786م) على دس الدسائس في كل ولايات الدولة، فنجحت دسائسها فعلا في مصر (راجع ظهور علي بك الكبير في الفصل التالي)، وفي اليونان والبغدان؛ فشرعت الدولة تستعد للحرب إلى أن أرغمتها روسيا على خوض غمارها بتعدد إهاناتها.
وآخر ما حدث من ذلك أن «كترين» خرجت إلى القرم في موكب حافل، ولما وصلت في طريقها إلى «خرسون» كتبت على أحد أبوابها: «الطريق إلى بوزنطة» إشارة إلى أنها عما قريب ستفتح القسطنطينية؛ عند ذلك ثارت خواطر مسلمي الدولة، واضطر الباب العالي إلى إعلان الحرب على الروسيا سنة (1201ه/1787م)، فأسرع القائد حسن باشا إلى مهاجمة «كنبورن»، ولكنه رد عنها بعد أن تكبد خسائر فادحة لوقوف القائد العظيم «سوفاروف» في وجهه، وكانت الروسيا قد عقدت معاهدة جديدة مع النمسا على الدولة العثمانية، ولكن النمسا لم تقدر على القيام بمساعدة تذكر في هذه الحرب لاشتغالها بالاضطرابات القائمة في الأراضي الواطئة - وكانت من أملاكها - ثم اضطرت إلى إبرام معاهدة «سستوفا» مع الدولة (سنة 1206ه/أغسطس سنة1791م)؛ وبذا انسحبت من الحرب. أما الروسيا فإنها بقيت قادرة على مواصلة الحرب بفضل مهارة «سوفاروف»، فاستولى على جهتي «أوخاكوف» و«إسماعيل» سنة (1205ه/1790م)، وانضم إلى ذلك انتصارات الجيوش الروسية في «القوقاس» و«كوبان». وأخيرا انتبهت أوروبا إلى أطماع «كترين»، ورأت أن لا بد من وقوفها عند حد؛ فتدخلت إنجلترا وبروسيا وهولندا في الأمر، ولم تبد الروسيا معارضة؛ لأنها أخذت توجه أنظارها نحو فرنسا التي كانت نار الثورة تتأجج فيها وينتظر اشتباك النمسا وبروسيا معها في حرب؛ وبذلك يخلو الجو للروسيا في بولندا؛ لذلك رضيت كترين بمهانة الدولة وأبرمت معها معاهدة «ياسي» (سنة 1206ه/يناير سنة 1792م)، وأهم شروطها أن اعترف الباب العالي بكل مواد معاهدة «كينارجي» وترك للروسيا أيضا القرم وباقي الأراضي العثمانية إلى نهر الدنيستر؛ وبذا صارت الروسيا صاحبة السيادة المطلقة على شمالي البحر الأسود.
هذا ما وصلت إليه الدولة في أواخر القرن الثامن عشر من جراء السياسة الروسية، وقد خسرت أملاكا أخرى في القرن التاسع عشر، ولكن دول أوروبا العظمى لم تسمح للروسيا إلى الآن بتنفيذ ما يرمي إليه المشروع الشرقي الذي كان تحقيقه جل أمانيها، وإن يكن سمحت لغيرها بالتصرف في كثير من أملاكها.
سموا السلاجقة نسبة إلى «سلجوق»، رئيس القبيلة التي نشئوا منها.
كتاب تاريخ مصر إلى الفتح العثماني (صحيفة 221).
من الأقاصيص المتداولة أنه وضع في قفص من حديد.
أي الدولة الرومانية الشرقية. سميت البوزنطية نسبة إلى بوزنطة؛ الاسم القديم لمدينة القسطنطينية. وتعرف أيضا بالدولة «الإغريقية» لانطباع المسحة الإغريقية فيها قبل نقل العاصمة إليها بمدة طويلة.
كان عدد سكان إنجلترا في ذلك الحين بين 3000000 و4000000، فمات به أكثر من نصفهم.
لم يفتك الوباء بالترك فتكا ذريعا، ولعل السبب الأول في ذلك راجع إلى إقامتهم في الخلوات.
قيل إنها كانت أضخم مدافع عرفت إلى ذلك العهد، وكانت تقذف نحو 12 قنطارا من الحجر على مسافة ميل.
حرب دارت بين كثير من دول أوروبا من سنة 1618 إلى 1648م. وأصلها أسباب دينية.
الفصل الثالث
حكم العثمانيين في مصر
923-1213ه/1517-1798م
باستيلاء السلطان سليم على مصر في سنة (923ه/1517م) أصبحت جزءا من أملاك الدولة العثمانية، ودخلت في طور طويل دام نحو ثلاثة قرون (923-1213ه/1517-1798م) لم يكن لها فيه شأن سياسي يذكر في التاريخ، وقد كانت مصر في معظم ذلك العصر مشهدا للفتن والمشاحات؛ إما بين سلائل المماليك أنفسهم، وإما بنيهم وبين الولاة العثمانيين، وإما بين هؤلاء وجنود الحامية العثمانية. وكل هذه الحوادث متشابهة، ولم يكن لها أثر دائم في تاريخ مصر؛ لذلك نعدل عن تتبع أخبار فتن ذلك العصر، ونكتفي بالكلام على حالة البلاد فيه بوجه عام، فنقول: (1) نظام الحكومة
بعد أن تم للسلطان سليم فتح مصر وضع لإدارتها نظاما يكفل بقاء خضوعها وعدم استقلال أحد فيها بأمرها، فأودع مقاليد حكمها ثلاث سلطات، له من تنافس رجالها أكبر كفيل ببغيته : «السلطة الأولى» الوالي:
وأهم أعماله الأوامر التي ترد عليه من السلطان إلى عمال الحكومة ومراقبة تنفيذها. «والسلطة الثانية» جيش الحامية:
وقد كونه السلطان سليم من ست فرق - وجاقات - ونصب عليهم قائدا يقيم بالقلعة، وجعل على كل فرقة ستة من الضباط، وشكل من هؤلاء الضباط مجلسا - ديوانا - يساعد الوالي في إدارة شئون البلاد، وجعل لهذا الديوان الحق في رفض مشروعات الوالي إذا لم ير فيها مصلحة. «والسلطة الثالثة» المماليك:
نصب كل واحد منهم على سنجق - مديرية - من الأربع والعشرين مديرية التي تتكون منها البلاد. وكان هؤلاء الرؤساء من المماليك يعرفون «بالبيكوات» وتسمى مديرياتهم «سناجق».
ولما انقضى حكم السلطان سليم في (سنة 926ه/1520م) وخلفه السلطان سليمان القانوني أنشأ مجلسين آخرين يعرفان بالديوان «الأكبر» و«الأصغر»، يجتمع أولهما عند التحدث في الشئون الخطيرة، ويجتمع الثاني كل يوم، وأعضاء الأول من رجال الجيش والعلماء معا، وليس بالثاني أحد من العلماء ونحوهم، وأضاف سليمان أيضا فرقة سابعة إلى الجيش ضم إليها عتقى المماليك؛ فبلغ بذلك جيش الحامية نحو 20000.
1
ذلك هو النظام الذي وضعه العثمانيون لإدارة مصر، ولا غاية لهم منه سوى المحافظة على بقاء البلاد خاضعة للدولة، سواء أكان ذلك في صالحها أم لم يكن. وقد بقيت هذه السياسة ناجحة نحو قرنين من الزمان، إلى أن أخذت الدولة في أسباب التقهقر، وزحفت النمسا والروسيا على حدودها الشمالية، فضعف نفوذها في مصر، وانتقلت السلطة الحقيقية إلى أيدي المماليك. (2) الضرائب
لما فتح العثمانيون مصر في سنة (923ه/1517م) فرضوا عليها خراجا سنويا يرسل للسلطان، يجمع من ضرائب الأملاك وخاصة الأراضي، وكانت هذه الضرائب تسمى «الميري» - أي الأموال الأميرية - وكان لكل جهة ملتزم يتعهد بتوريد ما يخصها من الخراج، ومن أجل ذلك تعفى أرضه من الضريبة، ويكلف الفلاحون زرعها له بالمجان، علاوة على ضريبة أخرى يجبيها لنفسه منهم، وكانت حقوق هؤلاء الملتزمين ومناصبهم وراثية.
وكان جانب عظيم من الأرض موقوفا على المساجد والمدارس والأربطة وغيرها من الأمور الخيرية، وهو معفى أيضا من الضريبة، ويزرع بعضه - إن لم يكن كله - بالتسخير.
2
وأنشأ السلطان سليم بالقاهرة قلما يعرف بقلم «الأفندية» لتقرير الضرائب ومراقبة جمعها وتسلمها من الملتزمين، وجعل فيه دفاتر لحصر حساب الحكومة وأخرى لتدوين انتقال الملكية.
فيعلم مما تقدم أن كاهل الفلاح كان مثقلا بالضرائب وأعمال السخرة. وليت مصابه وقف عند ذلك الحد؛ فإن ما كان يبتزه منه بيكوات المماليك أنفسهم كان أدهى وأمر، فإن كل بيك من حكام المديريات كان يفرض على محصول الأراضي ضريبة لإدارة المديرية تسمى «كشوفية»، وكثيرا ما يفرض على السكان ضرائب أخرى إضافية كما احتاج إلى المال لمحاربة نظرائه من المماليك أو مكافحة الباشا أو السلطان.
بهذه الضرائب المضاعفة - التي لم يكن لها حد معلوم - تسرب الفقر إلى أهل البلاد حتى وصلوا في أواخر القرن الثاني عشر الهجري إلى درجة من الفاقة التي لم يسبق لها مثيل. (3) المباني
لم تعد مصر بعد أن فتحها العثمانيون دولة ذات أملاك عظيمة كما كانت من قبل، بل صارت ولاية لا ثروة لها إلا من داخلها، وهذه الثروة ذاتها أخذت في الاضمحلال بتسرب الإهمال في مرافق الزراعة والصناعة، ثم إن اهتداء البرتقال إلى طريق للهند حول جنوبي أفريقيا حول التجارة المارة بين أوروبا والهند من طريق مصر إلى المحيط الأتلنتي - كما سيأتي ذكره - كل ذلك أضعف كثيرا من ثروة البلاد فصارت لا تقوى على إنشاء الآثار العظيمة التي كانت تقام من قبل.
على أنه لم ينشأ عن هذه الحالة إهمال المباني جملة؛ فالقاهرة مملوءة بالجوامع التركية، وبها من السبل والأربطة - التكايا - والوكائل والربوع التي شيدت في هذا العصر شيء كبير، وإنما نشأ عنها توخي الاقتصاد في إقامة المباني وزخرفتها، فلم تعد الجوامع تبنى بتلك السعة العظيمة التي نشاهدها في أبنية القرون السالفة، ولم يصرف على زخرفتها من المال شيء يذكر بجانب ما كان ينفق على مثلها في تلك الأزمان. ومن نتائج الاقتصاد في مباني هذا العصر أيضا أن صارت السبل والمكاتب تبنى لها أبنية قائمة بذاتها بعد أن كانت من ملحقات الجوامع.
كذلك قلت الدقة في البناء ، لقلة الثروة من جهة، ولتقهقر الصناعات من أخرى، وليس من آثار هذا العصر ما يلاحظ عليه آثار الدقة إلا القليل، ومثل ذلك شيد في أوائل عهد العثمانيين في مصر. ومن أهم هذا النوع سبيل «خسرو باشا» بالنحاسين المشيد (945ه/1538م) وهو المجاور لقبة الصالح أيوب بالنحاسين.
وقصارى القول أن آثار العصر التركي في مصر - وإن كانت جميلة في بابها - هي أقل رونقا ودقة من آثار المماليك، وسواء في ذلك المباني أو الترميمات؛ فإن هذه الترميمات لم تتناسب في أي أثر رمم في هذا العصر مع جمال البناء الأصلي، وكثيرا ما تكون أشبه بالرقع الخلقة في الثوب الجميل.
واستحدث العثمانيون في بناء الجوامع بمصر الشكل التركي، وهو متخذ من شكل كنائس «بوزنطية» القديمة. وأهم شيء في أوضاعه اتخاذ القباب بدلا من السقف المستوية، فصارت القبة في كل جامع هي المركز الذي يدور عليه البناء بعد أن كانت إشارة إلى الأضرحة والترب في الزمن السابق، ومن مميزات هذه المباني أيضا اتخاذ «القاشاني»
3
المحلى بالأشكال الفرنجية دون العربية، وبناء المنائر الأسطوانية الشكل أو المنشورية الكثيرة الأضلاع جدا حتى تقرب من الأسطوانية، وتنتهي غالبا بمخروط أو هرم كثير الأضلاع يتخذ من الخشب.
فأول جامع بني في مصر على هذه الأشكال البوزنطية هو جامع سليمان باشا الشهير الآن بسارية الجبل الذي شيد داخل القلعة سنة (935ه/1528م)، ويليه جامع سنان باشا ببولاق المشيد سنة (979ه/1571م)، ثم جامع الملكة صفية بالداودية المبني سنة (1019ه/1610م).
وقد حوكيت الأوضاع العربية في بعض مباني هذا العصر، إلا أن هذه المحاكاة قلما كانت تامة، حتى في أقرب المباني إلى الوضع العربي مثل سبيل عبد الرحمن كتخدا المبني سنة (1157ه/1744م)، وهو في ملتقى شارعي النحاسين والجمالية، ويكفي للدلالة على أنه ليس عربي الشكل من كل وجه شكل شبابيكه ومصبعاتها النحاسية - قارن هذه بشبابيك خسرو باشا العربية الشكل.
ولم يكن الولاة وحدهم هم المشيدين لهذه الآثار، بل إن معظمها كان من عمل أمراء المماليك أنفسهم، وشيخ المشيدين والمرممين في ذلك العصر هو «عبد الرحمن كتخدا» من كبار المماليك الذين استحوذوا على جانب عظيم من السلطة في أواسط القرن الثامن عشر بعد الميلاد، فإن بالقاهرة من آثاره 18 جامعا ما بين منشأ ومجدد، وذلك عدا الكثير من الزوايا والأضرحة الصغيرة التي رممها، وعدا السبل الكثيرة التي أنشأها، وله أيضا قناطر - كبار - وأعمال أخرى هندسية، ومن أجمل آثاره سبيله الصغير، السالف الذكر، وإن كان في الحقيقة أصغر أعماله. ومن مبانيه جامع خارج باب الفتوح وآخر بالقرب من باب الغريب ملحق به صهريج وسبيل ومدرسة، وبنى صهريجا آخر للسقائين بالقرب من جبانة الأزبكية، وجدد ضريح السيدة زينب وضريح السيدة سكينة، وشيد غيرهما بالقرب من باب القرافة وبجهة عابدين وغيرها. ومن أهم آثاره تجديداته بالأزهر، فإن معظم ما جدد أو زيد في هذا الجامع حتى جعله في شكله الحالي؛ من عمل عبد الرحمن كتخدا، ذلك إلى ما أنشأه فيه من دور الكتب والمطابخ وغيرها تشجيعا لطلب العلم.
وآخر ما أقيم بمصر من الآثار التركية الجميلة المكتب والسبيل اللذان بناهما السلطان مصطفى الثالث (1173ه/1759م) تجاه مسجد السيدة زينب عند مدخل شارع الكومي الموصل للمدرسة السنية، والمدرسة والسبيل والمكتب التي بناها السلطان محمود الأول (1164ه/1750م) في شارع درب الجماميز في مدخل حارة الحبانية أمام قنطرة سنقر. والبناءان في قمة ما وصل إليه فن العمارة التركية البحتة من الإتقان.
يعلم مما تقدم أن الآثار العربية لم تهمل أثناء العصر العثماني في مصر، بل عني بصيانتها وزيد عليها بقدر ما تسمح به ثروة البلاد في ذلك الحين، وإن ما أصاب الآثار العربية من الإهمال - بل الإبادة - لم يبتدئ إلا منذ أوائل القرن الثالث عشر الهجري - التاسع عشر م - عندما استولت الحكومة على ريع الأوقاف التي كان يصرف منها على صيانتها. وزاد الطين بلة ما ابتدأ به ذلك العهد من إصلاح البلاد على النمط الأوروبي؛ إذ اقتضى ذلك إنشاء شوارع مستقيمة بالقاهرة، وغالى القائمون بهذا الإصلاح، فهدموا كثيرا من الآثار النفيسة لإيجاد فضاء للشوارع أو الميادين المراد إنشاؤها. وأوضح مثال لذلك «شارع محمد علي»، فإنه لم يتم إنشاؤه إلا بعد أن هدم لأجله الكثير من المباني الأثرية الفاخرة؛ من ذلك جامع بديع كان ب «ميدان باب الخرق» تلهج كتب التاريخ بفخامته،
4
وجامع «قوصون» - قيسون - وجامع أزبك - موضع العتبة الخضراء - وكان الأخيران من الجوامع الفخمة العظيمة. (1) سبيل ومكتب خسرو باشا، (2) وسبيل ومكتب عبد الرحمن كتخدا. (رسم علي أفندي يوسف).
وربما كان الخطب أعظم لو لم تؤلف «لجنة حفظ الآثار العربية»؛ ألفها الخديوي توفيق باشا سنة 1881 لمنع العبث بهذه الآثار وللمحافظة عليها، فكان لأعمالها أعظم ثمرة في ذلك. (4) المماليك وأهل البلاد
مماليك هذا العصر - كمن سبقهم من المماليك - لم يمتزجوا بالسكان الأصليين، بل عاشوا مترفعين في معزل عنهم. وقليل منهم من تزوج وكون له أسرة؛ إذ كان ديدنهم الحروب والفروسية، فلا يرضون بشيء يشغلهم عنها. ومعظمهم كان يموت في ساحة الوغي وسنه لا تتجاوز الخامسة والثلاثين، ومن عاش منهم عيشة هادئة ورضي بالزواج - وهو النزر اليسير - كان نسله يندمج على مدى الأيام في المصريين.
وقد غالى المماليك في أواخر العصر العثماني في ابتزاز الأموال من الأهلين، وانغمسوا في الترف في مسكنهم وملبسهم ومعيشتهم، على غير عاداتهم الأولى المبنية على الخشونة والسذاجة في كل شيء، وصارت حلة البيك منهم لا يقل ثمنها عما يعادل 600 جنيه الآن - مع عظم قيمة النقود في تلك الأيام - ولا يمتطون إلا خيول «نجد» العربية الأصيلة التي يبلغ ثمن أحدها نحو 300 جنيه.
ولم يكن ذلك قاصرا على البيكوات أنفسهم، بل إن مماليكهم الذين لم يرتقوا بعد إلى مراتب الرياسة كانت ركائبهم مزينة بأفخر الحرائر، ومرقشة من كل جانب بالذهب والفضة، على حين أن المصريين الأصليين لم يسمح لهم إلا بركوب البغال والحمير.
شكل مملوك (عن كتاب وصف مصر).
وصار أهل البلاد هم العبيد الحقيقيين، و«المماليك» هم السادة؛ إذ استولى المماليك على جميع الأملاك إلا ما كان منها موقوفا على الأعمال الخيرية في وصاية العلماء. وتشعثت حال الفلاح حتى صار رثا في ملبسه ومسكنه ومأكله؛ لا يكاد يفيق من دفع ضريبة شرعية أو غير شرعية حتى يطالب بدفع أخرى، وإذا امتنع عن الدفع - فقرا أو ادعاء - ضرب وعذب حتى يدفع، وربما قتل من أجل ذلك.
واختل الأمن في تلك الأيام، وكثرت مناسر اللصوص وقطاع الطرق؛ فتأخرت التجارة، وأهملت مرافق الزراعة، وانقرض معظم الصناعات، وكانت قد دخلت في طور تقهقر بعد أن نقل السلطان سليم أمهر الصناع إلى القسطنطينية، فقضى الفقر واختلال الأمن على البقية الباقية منها.
وفي أواخر القرن الثاني عشر ه - الثامن عشر م - كان تكرير السكر لا يزال جاريا في بعض أنحاء البلاد، وكذلك بقي أثر من صناعة الحرير والكتان التي كانت لمصر فيها شهرة فائقة من قبل، كما بقيت نماذج من صناعة الزجاج.
على أن الذي لطف هذه الحالة أن ما كان يجبى من البلاد كان يصرف في نفس البلاد؛ فالثروة التي كانت ترد متجزئة إلى خزائن الأمراء وتتجمع فيها، تنفق بعد متجزئة إلى التجار من الأهلين بعد دفع الخراج، الذي لم يكن كبيرا. ولم يكن ظلم المماليك وعسفهم ليمنعهم من الكرم وبذل الصدقات؛ فكان كبار القوم يعيشون في رخاء وسعة، وكانت بيوتهم مفتحة للقادمين في الغداء والعشاء، وكانوا في الأعياد يوزعون كثيرا من الأرز والعسل واللبن على الفقراء والمساكين، كما يوزعون عليهم الحلوى أيضا في أيام الجمعة والمواسم.
ولم يكن أمراء المماليك وحدهم هم أصحاب القصور الفاخرة، بل شاركهم في ذلك كثير من التجار، وكان من بين المنازل الكبيرة المطلة على بركة الأزبكية - حديقة الأزبكية الآن - منزل لتاجر شهير يدعى «أحمد الشرايي» غاية في الحسن، وكانت لهذه الأسرة ثروة طائلة، وبيتهم يؤمه العلماء من كل جانب لاشتماله على كل ما يرغبه الطالب من الكتب التي كانوا يعنون بجمعها من كل سوق، ولا يضنون على أحد بإعارتها.
وإن اهتمام هذه الأسرة وأمثالها بجمع الكتب وتسهيل إعارتها يدلنا بعض الدلالة على مقدار إقبال الناس على العلم في هذه الأيام. ويؤيد لنا ميل الناس إلى الانقطاع إلى طلب العلم ذكر ذلك العدد الكبير من أهل العلم والتأليف الذي عني «الجبرتي» بكتابة تراجمهم؛ من مشايخ الأساتذة والعلماء، والمؤرخين والشعراء، وغيرهم ممن ليس لهم نظير في زماننا، غير أن اشتغالهم كان قاصرا على مدارسة قواعد العلوم اللسانية والشرعية والرياضة النظرية، فلا هم تأثروا بالنهضة العلمية بأوروبا، ولا هم رجعوا إلى النهضة العربية القديمة التي جعلت عصر الرشيد والأمين والمأمون من أزهر عصور العلوم العملية. (5) تجارة مصر وشواطئ البحر الأبيض، وتأثرها بالاستكشافات البرتقالية في أفريقيا
كان سلاطين دولتي المماليك البحرية والبرجية في سعة عظيمة من المال، تدل عليها مبانيها الشاهقة وآثارهم النفيسة؛ لأن موارد ثروتهم لم تكن بالطبع قاصرة على الزراعة التي هي أساس ثروة مصر الآن، بل إن كثيرا منها كان من الضرائب المفروضة على التجارة الهندية العظيمة عند مرورها إلى أوروبا؛ وذلك أنه قبل الاهتداء إلى الطريق المؤدية من أوروبا إلى الهند حول جنوبي أفريقيا لم يكن للتجارة الهندية مع أوروبا إلا طريق البحر المتوسط؛ تنقل البضائع برا من الخليج الفارسي أو البحر الأحمر إلى إسكندرونة أو الإسكندرية على شاطئ البحر الأبيض، ومنهما تنقل بطريق هذا البحر إلى مدينة «البندقية» حيث توزع في أوروبا، وسواء أنقلت البضائع بطريق الخليج الفارسي أم بطريق البحر الأحمر - وهو الأغلب لموافقته - تمر لا محالة من أراضي المماليك؛ إذ هم المالكون في ذلك الوقت لمصر والشام معا؛ فانتفع المماليك بهذه المزية أيما انتفاع، وضربوا مكوسا كبيرة على التجارة عند دخولها في أملاكهم وعند خروجها منها؛ فكان ذلك يأتيهم بدخل لا يستهان به.
بقايا الصناعات المصرية: (1) مصنع نسيج (2) مصنع زجاج.
وقد كان لمرور التجارة الهندية من هاتين الطريقين أكبر أثر في ترويج تجارة البحر الأبيض المتوسط، وعظمت بسببها ثروة الدولتين اللتين اشتهرتا بالملاحة فيه؛ وهما: «جنوة» و«البندقية»، ولا سيما الأخيرة؛ فإن تجارها نالوا لدى المماليك حظوة كبيرة وصلت بهم في آخر الأمر إلى احتكار نقل هذه التجارة العظيمة.
ولم يتفق المؤرخون على تفاصيل مقدار المكوس التي كان يجبيها المماليك من هذه التجارة، ولكن المفهوم من تقدير معظمهم أنها لم تقل عن سدس ما تساويه البضاعة وقت وصولها إلى حدود الأملاك المصرية، وسدس ما تساويه أيضا عند خروجها من موانيها؛ فإذا فرضنا أن أحد تجار العرب اشترى من الهند بضاعة بما يعادل 10000 جنيه مثلا، وسلك طريق البحر الأحمر حتى رسا بها في السويس، أصبحت قيمتها بالطبع أعظم كثيرا مما اشتريت به من المواني الهندية، ولنفرض أنها صارت تساوي 18000 جنيه مثلا؛ فيكون ما يدفع عنها من المكوس حينئذ يعادل 18000 × = 3000 جنيه، ثم يشتريها تاجر آخر، فينقلها إلى الإسكندرية ليبيعها إلى أحد تجار البندقية، فتزيد قيمتها بالطبع بقدر ما دفع عليها من المكس وأجر النقل، وبقدر الربح الذي يريده التاجر الثاني، ولنفرض أنها صارت تساوي 30000 جنيه، فتكون مكوسها بالإسكندرية تعادل 30000 × = 5000 جنيه؛ أي إن مجموع ما دفع عليها من المكوس يبلغ 3000 + 5000 = 8000 جنيه، وذلك عدا ما يكون قد دفع عنها لعمال الحكومة على سبيل الهدايا أو الرشوة مما يقدر بألف جنيه أو ألفين؛ أي إن مجموع ما دخل الأراضي المصرية من المال بسبب مرور هذه البضاعة فيها «10000 جنيه تقريبا» يقرب من الثمن الأصلي الذي دفع عنها في الهند. زد على ذلك أن تجار العرب كانوا تحت رحمة المماليك؛ يصادرونهم أحيانا، ويقترضون منهم قهرا كلما احتاجوا إلى المال، ومن ذلك نعلم السر في بقاء دولتي المماليك البحرية والجراكسة على تلك الدرجة العظيمة من الثروة التي مكنتهم من حفظ أبهة الملك وتشييد القصور الشاهقة والمباني الفاخرة جيلا بعد جيل.
ولا يخفى أن البضاعة التي اشتراها تاجر البندقية من مصر بمقدار 35000 جنيه كانت تباع في أوروبا بأبهظ الأسعار، وربما بلغ ثمنها هنالك 70000 جنيه؛ فاشتغل الحسد في الممالك الأوروبية الأخرى من هذه الأرباح العظيمة، التي لا ينقطع تدفقها في جيوب البنادقة والمصريين بسبب احتكار التجارة الهندية؛ فدفعهم ذلك إلى التفكير في الاهتداء إلى طريق أخرى توصل إلى الهند، حتى ينالهم شطر من أرباح تلك التجارة العظيمة، وساعد على إثارة هذه الهمة قيام النهضة العلمية العامة التي ابتدأت في أوروبا بعد فتح القسطنطينية - نهضة إحياء العلوم - وولدت في تلك البلاد روح الاستطلاع والاستكشاف.
وأول من فكر من الأوروبيين في البحث عن طريق أخرى إلى الهند هم «البرتقال»، وهم أمة تسكن الجزء الغربي من شبه جزيرة الأندلس، كانوا إحدى الإمارات التي استولت عليها العرب في الأندلس، وانسلخوا عن حكمهم قبل إجلاء العرب من تلك البلاد في سنة (897ه/1492م) بقرنين تقريبا. ومن ذلك الحين أخذوا يدافعون عن استقلالهم من غارات مملكة «قشتالة» - كستيل - المجاورة لهم، حتى أمنوا شرها بانتصارهم عليها في واقعة «الجبروتا» سنة (787ه/1385م).
ثم تولى عرش البرتقال الأمير «هنري» - الشهير بهنري «الملاح» لكثرة استكشافاته البحرية وعظم ما أصلحه في الملاحة - فتم في أيامه من الاستكشافات ما نسخ آراء الأقدمين بشأن شكل العالم المعمور، وكانت عاقبته كشف طريق الهند والدنيا الجديدة.
شرع هذا الملك منذ سنة (821ه/1418م) في العمل على كشف طريق جديد للهند، فأقام بثغر «سجر» في الجنوب الغربي من البرتقال - وهو يكاد يكون أقصى نقطة في أوروبا من جهة الغرب - وأنشأ فيه مرصدا ومدرسة بحرية لتعليم الملاحة، ودعا إليها علماء الفلك وكبار الملمين برسم المصورات الجغرافية، وعني بصنع السفن العظيمة للاستكشاف خاصة، وأدخل فيها استعمال بيت الإبرة - البوصلة - ناقلا استعمالها عن العرب، وحسن آلة «الأسطرلاب» التي يعرف بها خط العرض بالتقريب.
ثم عول بعد استشارة من حوله من العلماء على تتبع شاطئ أفريقيا بقصد بلوغ الهند. وكان الشاطئ الغربي من أفريقيا لا يعلم منه حينئذ لأهل أوروبا شيء جنوبي «رأس بوجادور». وكانت المصورات الجغرافية التي رسمها الأقدمون بعضها يمثل بقية أفريقيا بنصف دائرة تمتد من الشمال الغربي - جهة مراكش - إلى جنوبي البحر الأحمر، وبعضها يتركه غير محدود إشارة إلى أنه لم يكشف بعد.
فرأى هنري أن يستكشف عن هذا الشاطئ، حتى إذا سار حوله إلى الشرق بحث عن طريق تؤدي إلى الهند من تلك الجهة؛ فأرسل لهذا الوجه بعوثا بحرية سنة بعد أخرى، فكان كل بعث يصل إلى وراء ما وصل إليه سالفه، حتى وصل آخر بعث في عهده إلى «جزائر الرأس الأخضر». وما زالت هذه الاستكشافات يتبع بعضها بعضا حتى بلغ «برتلوميودياز» الملاح البرتقالي الشهير إلى طرف أفريقيا الجنوبي، وسار حوله حتى وصل إلى خليج «ألجوا» سنة (891ه/1486م)، وسمي هذا الطرف «رأس الزوابع» - لهول ما لاقاه في السير حوله - ولكن ملك البرتقال «ابن هنري» أدرك قيمة هذا الكشف العظيم، ورأى أنه فاتحة خير لتحقيق أمنية دولته؛ وهي الاهتداء إلى طريق الهند، وعمل على مواصلة هذه الاستكشافات.
وفي هذه الأثناء كان المستكشف العظيم «خرستوف كلومب» قد خرج في بعث بحري أمده به ملك الإسبان، وسار به غربا يأمل الوصول إلى الهند من هذا الطريق الغربي اعتقادا منه بكروية الأرض، فوصل إلى إحدى جزائر الهند الغربية سنة (897ه/1492م)، فظن الناس أن هذه جزء من بلاد الهند، وأن «كلومب» قد كشف للإسبان طريقا إلى تلك البلاد أقصر وأسهل من الطريق الطويل الذي يعاني البرتقال كشفه، فوقفت الاستكشافات البرتقالية فترة من الزمن، إلى أن اتضح أن كلومب لم يهتد إلى طريق الهند ذاتها، وأن طريقه إن أدى إليها يكون أطول من الطريق حول أفريقيا؛ فرجع البرتقال إلى مواصلة استكشافاتهم، وفي سنة (901ه/1496م) أرسل ملكهم «إمانويل» بعثا لهذا الغرض برياسة الملاح العظيم «فاسكو دي جاما»، فوصل إلى رأس الزوابع الذي سماه تفاؤلا «رأس الرجاء الصالح»، وبعد أن كابد مصاعب جمة في المسير حوله، لشدة الرياح الجنوبية الشرقية، سار إزاء شاطئ أفريقيا الشرقي.
ومن ثم شرع يسأل من الثغور التي يمر عليها عن الطريق المؤدية إلى الهند، فكان كلما حل بثغر وجده مسكونا بالعرب، فكانوا يمتنعون عن إرشاده مخافة أن يجر عليهم ذلك منافسة تجارية لا طاقة لهم بها، وبعد أن أخفق سعيه في «مزنبيق» و«كلوة» و«منبسة» فاز في «ملندة»؛ حيث أخذ ما يلزمه من الزاد واصطحب معه أحد الهنود العالمين حق العلم بالطريق إلى «قليقوت» - على الشاطئ الغربي للهند - فوصلها «جاما» بهداية هذا الدليل في ثلاثة وعشرين يوما.
فاسكو دي جاما في حضرة الزامرين.
ولم يرحب به في بادئ الأمر ملكها الملقب «زامرين» - أي ملك البحار - بل زاد في تنفيره منه تجار العرب في تلك الجهات؛ إذ أفهموه أن البرتقال ليسوا إلا لصوص بحر لا عمل لهم إلا النهب والسلب في البحار، ولكن «جاما» - أول مستعمر أوروبي في الشرق - استعمل الملق والثبات ، وما زال بالزامرين يتملقه ويشرح له غرضه حتى استماله ورغبه في تبادل التجارة مع البرتقاليين، وعقد معه معاهدة تجارية كانت بعد ذلك سببا في زوال ملكه.
بذلك تم للبرتقال كشف طريق جديدة للهند؛ فكانت فاتحة لانقلاب عظيم في تجارة العالم بأسره؛ إذ أن نقل البضائع صار ينفق عليه بهذه الطريق ثلث ما كان ينفق بالطريق القديمة، فوق متاعبها ومضايقها؛ فكانت النتيجة أن تحول مجرى هذه التجارة العظيمة من مصر والشام والبحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأتلنتي حول شواطئ أفريقيا.
وقد وقع خبر كشف الطريق الجديدة وقوع الصواعق على مصر والأمم التجارية بالبحر الأبيض، ولا سيما البنادقة؛ لعلمهم أن فيه الضربة القاضية على أهم منابع ثروتهم. وكان البرتقال قد أخذوا في توسيع نفوذهم في بلاد الهند، غير مكتفين بالعلائق التجارية، بل استولوا بالسيف والمدفع على إمارة «قليقوت» وجعلوها في عداد مستعمراتهم.
وذلك أن السلطان الغوري اتحد سرا مع البنادقة ومع ملك «قليقوت» - الذي اتضح له سوء نية البرتقال - على أن يعملوا معا على نزع سيادة البرتقال من الشرق؛ فأنشأ الغوري أسطولا عظيما، وساعده البنادقة بجلب الأخشاب اللازمة لبنائه، فظهر الأسطول في البحار الهندية والتقى بسفن البرتقال بالقرب من شواطئ بمباي، فكانت الغلبة للمصريين، وقتل ولد الوالي البرتقالي «ألميدا» بالهند في تلك الموقعة، ولكن لم يلبث البرتقال أن جمعوا أسطولا آخر، وحاربوا المصريين في موقعة بحرية عظيمة بالقرب من جزيرة «ديو» أمام بمباي سنة (915ه/1509م) انتصروا فيها على المصريين في موقعة كانت هي الفاصلة في أمر التجارة الهندية.
فإنه لما خضعت مصر بعد للدولة العثمانية لم يصبح لها من الأمر شيء في مكافحة البرتقال. ولما اشتد عبث البرتقال بسفن غيرهم ممن حاولوا الاتجار في تلك البحار، بعث السلطان سليمان القانوني أحد ولاة مصر بأسطول لردعهم فلم يفلح. والحق أن العثمانيين لم ينتهزوا الفرص المناسبة لمنازلة البرتقال والاستيلاء على الثروة الهائلة التي كان يجنيها المماليك من مرور تجارة الهند من مصر والشام، فكان الواجب عليهم أن يتحدوا مع البنادقة - شركائهم في هذه الخسارة - ويستعينوا بهم في القضاء على أساطيل البرتقال، ولكنهم غفلوا عن ذلك، بل كانوا هم القاضين على قوة البنادقة بحروبهم التي شنوها عليهم واستيلائهم على كثير من أملاكهم.
ومن ذلك الحين كثر التلصص في البحر الأبيض، فقضى على البقية الباقية من التجارة التي كانت تمر من هذا البحر. (6) أشهر الولاة وأهم الحوادث
أول من ولى العثمانيون على مصر من الولاة «خير بك»؛ ولاه السلطان سليم مكافأة له على مساعدته في فتح مصر والشام، وبقي في منصب الولاية أكثر من خمس سنوات كان فيها مكروها من جميع الرعايا المسلمين؛ فقرب منه اليهود والنصارى وأخذ يناصرهم، فلم يغن ذلك عنه شيئا، ولما ازداد كربه من الحياة أفرج عن كثير من مسجوني القاهرة، ووزع كثيرا من المال والخيرات على المساكين وخدمة المعاهد الدينية، وقد أبدى أسفه الشديد وهو في سياق الموت على ما فرط منه، ودفن بمسجده الذي بناه بالتبانة بالقرب من باب الوزير بجهة الخيربكية المسماة بهذا الاسم نسبة إليه.
وخلفه «مصطفى باشا» زوج أخت السلطان سليمان القانوني، وهو أول من لقب بلقب باشا من ولاة مصر، وكان لا يعرف العربية، ولا يظهر شيئا من الحفاوة للوافدين عليه والمهنئين له من أهل البلاد.
ولم يمض عهد طويل بعد الفتح حتى ظهر فضل احتياط السلطان سليم لتقييد سلطة الوالي، فإن الوالي الثالث «أحمد باشا» هم بعمل ما كان يخشى منه؛ إذ أراد الاستقلال بملك مصر؛ فأمر بضرب السكة باسمه، والدعاء له في الخطبة، ولكنه لم يلبث أن قبض عليه وأرسل رأسه إلى القسطنطينية بعد أن علق على باب زويلة.
على أن تاريخ مصر في القرنين الأولين من الفتح العثماني ليس به شيء من الأخبار الممتعة، ولا يشتمل غالبا على غير سلسلة من الولاة لا يكاد الواحد منهم يعين حتى يعزل، منهم نفر قاموا بتشييد بعض المساجد والمدارس، ومنهم من لم يشتغل بشيء سوى التزود من المال قبل أن تنقضي مدة ولايته. ومع ذلك كان ولاة القرن الأول وأكثر الثاني في العدل وضبط الأمور خيرا ممن أتى بعدهم.
ومن أعظم الولاة العاملين في ذلك العصر «سليمان باشا»؛ نصب على مصر سنة (931ه/1525م)، فاهتم بالنظر في أحوال البلاد وإصلاح ما فسد منها، فعين مأمورا لمسح الأراضي، ورتب الضرائب على أحسن نظام، واستحدث دفاتر جديدة لأعمال الحكومة، وشيد كثيرا من المباني النافعة. وفي مدة ولايته كثر تعدي سفن البرتقال على بلاد البحر الأحمر وسواحل الهند حتى قطعت المواصلات التجارية بين مصر وتلك الجهات؛ فاستغاث «درشاه» حاكم «كجرات» بالسلطان سليمان القانوني، فأصدر السلطان أمرا إلى سليمان باشا بإنشاء أسطول بالديار المصرية والخروج به إلى البحر الأحمر لكسر شوكة البرتقال؛ فجهز سليمان باشا الأسطول وشحنه بالجيوش وأقلع به من السويس سنة (944ه/1538م)، فاستولى على «عدن»، ثم توجه إلى بلاد الهند، فالتحم مع البرتقال في المياه الهندية في موقعة عظيمة كان النصر فيها للبرتقال بالرغم مما بذله سليمان باشا من الجهد العظيم.
وكانت ولاية مصر قد أسندت أثناء اشتغال سليمان باشا بأمر حملة الهند إلى «خسرو باشا» سنة (941ه/1535م)، فأتم الإصلاحات التي بدأها سليمان باشا، ثم زاد في مقدار الجزية التي ترسل للدولة، فاستدعي إلى الأستانة مخافة أن يكون قد أحدث ضرائب جديدة تضر بالبلاد، ولما عاد سليمان باشا إلى مصر تسلم مقاليد الأمور ثانية، وبقي واليا عليها إلى ان استدعي إلى الأستانة وأسند إليه مسند الصدارة العظمى بها.
ثم تتالت الولاة على مصر حتى وليها «سنان باشا» سنة (975ه/1567م)، فأخذ يتصرف في شئون البلاد بحكمة وتدبر، وبعد تسعة أشهر وردت عليه الأوامر السلطانية بأن يستعد لفتح بلاد اليمن واستخلاصها من «الزيديين»
5
فجهز جيشا، وخرج به من مصر سنة (976ه/1568م) بعد أن أناب عنه في الولاية «إسكندر باشا»،
6
ولما عاد من فتح اليمن سنة (979ه/1571م) تسلم ولاية مصر ثانية وأخذ يشيد المباني؛ فأنشأ في بولاق سنة (979ه/1571م) رباطا - تكية - ومسجدا كبيرا لا يزال إلى الآن من أعظم الآثار العثمانية بمصر، وهو ثاني مسجد بني بها على الأشكال البوزنطية، وبقي سنان باشا بمصر سنتين كان أثناءهما موضع محبة الأهلين، لكثرة إصلاحاته وعظم مبراته.
ومن أفضل الولاة الذين ولوا مصر بعده «مسيح باشا» (982-988ه/1574-1580م)، وكان من أكثر الحكام عفة واستقامة، وأشدهم حرصا على نشر الأمن وإقامة العدل. إلا أنه تشدد في معاقبة المفسدين؛ فقتل منهم نحو عشرة آلاف، وشيد مدرسة وتربة له خارج القرافة بشارع نور الدين بعرب اليسار، ووقف عليهما أوقافا باسم الشيخ نور الدين القرافي.
ثم أخذ نفوذ الولاة في الاضمحلال، لعجز الكثير منهم وقوة شوكة الجنود بالبلاد وتدخلهم في كل شئونها، حتى صاروا هم الآمرين الناهين للولاة. فلما ولي «أويس باشا» على مصر (995-999ه/1587-1591م)، وأراد أن ينظم أولاد العرب من المصريين في سلك الجيش، اشتعل لهيب الفتنة بين الجنود، ولم يقبلوا أن يتشبه بهم غيرهم في لباسهم، وهجموا على أويس باشا وأهانوه (997ه/1589م)، فاضطر إلى الإذعان لمطالبهم. ومما يجدر ذكره بمنابسة ولاية أويس باشا أنه حدث في عهده زلزال عظيم سقط به عدة منارات وبيوت، وتفلق جبل المقطم قرب أطفيح إلى ثلاث فلق تفجر منها الماء.
جامع سنان باشا: (1) من الخارج، (2) من الداخل. (رسم علي أفندي يوسف).
وما زال روح الفتنة ينتشر في الجنود عاما بعد عام، ويشتد تطاولهم على الولاة، حتى ولي «قره مصطفى باشا» سنة (1032ه/1622م)، وكان قوي البأس ساهرا على توطيد السكينة، فأخذ يتجول بنفسه في الأسواق، وينظر في الشكاوى والأسعار، ويحكم في الجنايات بنفسه؛ فهابه الجند. وكان لأعماله وقع حسن في القلوب، وعظم في أعين الناس. ولما جلس السلطان مراد الرابع على عرش آل عثمان سنة (1032ه/1623م) عزل هذا الوالي من مصر ونصب مكانه «علي باشا الجشنجي»؛ فطلبت منه الأجناد الأعطية المعتاد توزيعها عند تولية الوالي الجديد، فلما لم يجب طلبتهم لم يعترفوا بعزل قره مصطفى باشا ، واضطروا علي باشا إلى العودة من حيث أتى، وعندما ركب البحر أطلقوا على سفينته بعض القذائف من قلعة منار الإسكندرية،
7
فلم ينج إلا بصعوبة. ثم أرسل الجنود مندوبا منهم إلى الأستانة، فنال لهم أمرا سلطانيا ببقاء قره مصطفى باشا في الولاية؛ فعاد الباشا إلى مصر سنة (1035ه/1625م)، وفي عهده ظهر بالبلاد وباء شديد، فصار يغتصب أموال المتوفين لنفسه كأنه الوارث للناس؛ فرفعت في حقه الظلامات لدار الخلافة، فعزله السلطان ثم قتل بعد بالقسطنطينية. ولقره مصطفى باشا من العمارات والمدارس التي شيدها بمصر شيء كثير.
ولم يكن الوباء الآنف الذكر الوحيد من نوعه في هذا العصر، بل حدث غيره طواعين كثيرة، وكانت تصحبها غالبا المجاعات - وتلك سنة معتادة في التاريخ. ومن أوبئة هذه المدة طاعون حدث سنة (1012ه/1603م) فتك بكثير من القرى والأمصار، وآخر تفشى بالبلاد سنة (1028ه/1619م) فاشتد بطشه حتى أقفلت الأسواق وتعطلت الأعمال. وفي سنة (1030ه/1621م) حدث غلاء عظيم أعقبه وباء آخر بقي يفتك بالبلاد نحو ثلاثة أشهر، ولم يكد ينسى هذا حتى حدث سنة (1035ه/1625م) وباء أنكى من السالف، وأعظم من هذا كله وباء حدث سنة (1052ه/1642م) لم يسمع بمثله من قبل، كثرت فيه الموتان حتى صارت الموتى تدفن بلا صلاة، وخربت به 230 قرية، وأعقبه قحط وغلاء.
وفي هذه الأثناء كانت الجنود العثمانية بمصر دائبة على جمع السلطة في قبضتهم، حتى جعلوا الولاة ألعوبة في أيديهم؛ فعجزوا عن ردعهم وتأمين الرعايا شر مفاسدهم، وصارت كل طائفة من الجند تأخذ في حمايتها جملة من التجار أو المزارعين أو الملاحين فيقتسمون معهم الأرباح، وفي نظير ذلك يحمونهم من أداء حقوق الحكومة. وما زالوا في شغب على الولاة، وهم معهم في مكافحات، حتى عظمت قوة البيكوات المماليك، فقضوا على نفوذ الطائفتين. (6-1) عودة النفوذ إلى المماليك البيكوات
أدت كثرة تنقل ولاة العثمانيين إلى عدم تأييد نفوذهم في مصر، وإلى استرجاع المماليك - الراسخة قدمهم بالبلاد - لكثير من قوتهم الأولى، وساعد على نمو هذه القوة طول أمد النزاع بين الولاة والجند، حتى اشتغل الطائفتان بمشاحاتهم عن كل ما سواها.
ومما ساعد المماليك على القبض على السلطة تمهيدهم الطريق لاتحادهم، باختيارهم زعيما من بينهم وهو حاكم القاهرة، المسمى إذ ذاك «شيخ البلد». وكان المماليك قد تعودوا من قديم الزمان جلب مماليك أحداث وتدريبهم ليكونوا لهم حاشية وأنصارا، فسمحت لهم الدولة بالسير على هذا النظام، فأصبح لزعمائهم من ذلك قوة لم يعد للولاة قبل بدفعها؛ وذلك أن المماليك الأحداث الذين يشرون بالمال كانوا يحررون عادة بعد بضعة أعوام، فيبقون الحرمة لأسيادهم، حتى إذا ولجوا أبواب الرقي وصاروا أنفسهم بيكوات، لا يألون جهدا في تلبية دعوة موالين الأولين متى استمدوا منهم المعونة؛ فكان يكون لشيخ البلد دائما عصبية من مواليه وعتقاه البيكوات يعظم بها شأنه، وصار للمماليك قوة لم يكتفوا باستخدامها في عزل من أرادوا عزله من الولاة، بل أخذوا يطمحون إلى التخلص من السيادة العثمانية جملة، وبخاصة عندما دخلت الدولة في طور التقهقر وشغلت بحروبها مع النمسا والروسيا - كما ذكرنا آنفا.
وتنبه بعض الولاة إلى ما يرمي إليه المماليك؛ فعملوا على دس الدسائس بينهم، وتفريق كلمتهم. وكان المماليك منقسمين إلى أحزاب - أعظمها «القاسمية»، و«الفقارية»
8 - ولم تسلم الطائفتان من عداوة بينهما، فلما عهد بولاية مصر إلى «حسين باشا كتخدا» سعى في تفريقهما، وتفاقمت العداوة بينهما حتى وصلت سنة (1119ه/1707م) إلى حد أثار بين الفريقين حربا استعرت نيرانها ثمانين يوما، وقيل إن المتخاصمين كانوا أثناء هذه المدة يخرجون من القاهرة نهارا للمحاربة، ثم يعودون إليها بالليل فيبيتون فيها كغيرهم من السكان.
وأسفرت هذه الفتنة الطويلة عن قتل شيخ البلد «قاسم بك إيواظ» زعيم القاسمية، فخلفه ابنه «إسماعيل بك»، فأصلح ما بين المماليك ووحد كلمتهم، وصارت لشيخ البلد الكلمة العليا على الوالي؛ فعمل الوالي سرا على تحريض الفقاريين عليه إلى أن قتله أحدهم «ذو الفقار»، فوهب له الوالي ثروة إسماعيل بك، وأسند منصب شيخ البلد إلى «جركس بك» بعد أن فتك بأتباع إسماعيل بك. ويعرف إسماعيل بك هذا بإسماعيل بك الكبير ، ومن آثاره بمصر سبيل ومكتب بجهة سوق العصر القديم بمدخل الداودية وحوش الشرقاوي كانا من أجمل مباني ذلك العصر، وبقي منهما الآن جزء خرب.
ثم استعان ذو الفقار بما آل إليه من الثروة في شراء المماليك وتدريبهم حتى صارت له قوة كبيرة؛ فانتزع السلطان من جركس بك، ووضع نفسه في منصب شيخ البلد، ولكنه لم يلبث أن ثار عليه المماليك وقتلوه، فقبض أحد قواده «عثمان بك» على السلطة، فصار شيخا للبلد بعد أن انتقم لسيده شر انتقام.
سبيل ومكتب إسماعيل بك الكبير (في أيام رونقهما).
وكان عثمان بك ذا مقدرة وبأس؛ فعمل على توطيد السكينة وسهر على حفظ الأمن وإقامة العدل، فحسنت سيرته وأحبه الأهلون، وبقي ذكره بعده زمنا طويلا، حتى إنه لما ثار عليه أعداؤه واضطروه إلى الهروب من مصر صارت الناس تؤرخ حوادثهم بسنة خروجه، فكانوا يقولون: «هذا الأمر حدث بعد خروج عثمان بك بكذا من السنين، وولد فلان في سنة كذا من خروج عثمان بك.»
وسبب فراره من مصر أن قوي في عهده شأن حزبين من المماليك، وهما: «الكردغلية» و«الجلفية»، فاتفق «إبراهيم بك» زعيم الحزب الأول و«رضوان بك» زعيم الثاني على توحيد كلمة حزبيهما، ونزع السلطة من عثمان بك، وجعلها في أيديهما معا، وبعد نزاع طويل بينهما وبين عثمان بك تغلبا عليه، ففر خوفا منهما إلى الشام.
ثم اقتسما السلطة بينهما، واتفقا على أن يشغلا منصبي شيخ البلد وأمير الحج بالتناوب سنة بعد أخرى. ولما رأى الولاة أن السلطة قد سلبت من أيديهم، عملوا على النكاية بإبراهيم بك ورضوان بك، ودبروا لقتلهما مكايد لم يفلحوا فيها، إلا أن البلاد لم تهدأ من الفتن بعد، وبقي أمراء المماليك في هيج على أنفسهم.
هكذا كانت حالة البلاد في هذا العصر الأخير، لا يكاد يفارقها الخلل والفوضى؛ تارة بثوران الجند ومكافحتهم للولاة، وطورا بتنازع المماليك مع الولاة مرة ومع أنفسهم أخرى. وما زالت الحال كذلك حتى قبض على أزمة الأمور أحد المماليك الأقوياء، وهو «علي بك الكبير»؛ فكان ذلك ابتداء حوادث جديدة ذات شأن آخر.
زوال ما كان للسلطان من القوة والنفوذ في مصر، على يد علي بك الكبير
كان «علي بك الكبير»
9
في أول نشأته مملوكا لإبراهيم بك السالف الذكر، فما زال يتقدم عنده لذكائه ومقدرته، حتى رقاه إلى رتبة «بك»، ومن ذلك الحين أخذ «علي بك» يعقد الآمال على أن يتقوى شيئا فشيئا حتى يصير يوما ما شيخا للبلد؛ فقضى ثمانية أعوام في شراء المماليك وتدريبهم، ولم يدخر في أثنائها وسعا في استجلاب مودة البيكوات الآخرين. وأخيرا تنبه شيخ البلد «خليل بك» إلى أفعاله، ورأى أن يقضي عليه قبل أن يستفحل أمره، فهجم عليه بجيوشه، فلم يقو عليه علي بك؛ فاضطر إلى الفرار إلى الصعيد، وهنالك التقى بكثير من الساخطين على خليل بك فانضموا إليه، وزحف الجميع على القاهرة، فدخلوها بعد أن انتصروا على خليل بك وأتباعه في عدة مواقع أظهر فيها علي بك مقدرة كبيرة؛ وبذلك تم له أمر شياخة البلد سنة (1177ه/1763م).
وكان سيده إبراهيم بك قد مات قتلا، فلما تولى علي بك شياخة البلد أمر بإعدام قاتله، فلم يرق ذلك في أعين بيكوات المماليك، وتألبوا عليه وألجئوه إلى الفرار إلى بيت المقدس، ثم وشوا به إلى السلطان، فأمر بطلبه إلى الأستانة، فاحتمى بأمير عكاء، فسعى هذا له لدى الباب العالي وأظهر براءته، فثبته السلطان في منصب شيخ البلد، فرجع إلى القاهرة وتسلم زمام الأمور بها مرة أخرى.
ولما استتب له الأمر سهر على إصلاح البلاد وتوطيد السكينة بها، ورأى أن يكثر من أتباعه كي يأمن غوائل المستقبل، فرقى ثمانية عشر من المماليك إلى رتبة البيكوية، ليكونوا هم وحاشيتهم أنصارا له إذا احتاج إلى مساعدتهم.
ثم طمحت نفسه إلى الاستقلال بمصر، فشرع يعمل على ذلك سرا وينتهز له كل فرصة.
ولما نشبت الحرب بين الدولة والروسيا في سنة (1182ه/1768م) طلب الباب العالي من مصر أن تمده باثنى عشر ألف مقاتل، فأذعن علي بك لمطالب الدولة، وشرع في جمع الجيش، ولكن الدولة شكت في إخلاصه، واعتقدت أنه يجمع هذا الجيش لمساعدة الروسيا عليها لتساعده على الاستقلال بمصر؛ فأرسلت بكتاب إلى الوالي بمصر تأمره فيه بقتل علي بك.
وكان لعلي بك عيون بالأستانة، فبادروا بتبليغه الخبر قبل وصول الكتاب إلى مصر؛ فتربص لحامل الكتاب وقتله قبل أن يصل إلى الوالي، ثم أعلن للمماليك أن الدولة أرسلت في هذا الكتاب أمرا إلى الوالي بذبح جميع المماليك. وكان «علي بك» خطيبا مؤثرا، فأثار حمية المماليك، ونفرهم من الباب العالي، وذكرهم بمجد سلاطين المماليك الأقدمين، وأن الدولة تريد القضاء على هذا المجد، وعليهم أنفسهم؛ فأوقد النار في قلوبهم، وقر قرارهم على خلع الباشا وإخراجه من مصر في الحال، والدفاع عن استقلال البلاد. ثم أعلن استقلال مصر وامتنع عن دفع الجزية للباب العالي سنة (1183ه/1769م).
ولاشتغال الدولة بمحاربة الروسيا لم تقدر على الالتفات إليه؛ فانتهز علي بك هذه الفرصة لتوطيد ملكه بمصر، ثم أرسل جيشا لفتح بلاد العرب، فاستولى على «جدة» لتكون له مركزا للتجارة الهندية وموضعا يراقب منه ملاحة البحر الأحمر، ولم يلبث أن أخضع باقي جزيرة العرب، وفي ذلك الحرمان الشريفان.
ثم وجه همته لفتح الشام، فأنفذ لذلك جيشا به 30000 مقاتل بقيادة «محمد بك أبي الذهب»، فكان حليفه النصر واستولى على كثير من مدن الشام.
وعند ذلك أكبر «أبو الذهب» على سيده هذا الملك العظيم فحسده، ورأى أيضا أن الدولة ربما التفتت لمصر وأرجعتها إلى سلطانها فيصبح علي بك وأتباعه في خطر، فخطب ود الباب العالي واتفق معه على أن ينزع الملك من علي بك، ويقبض هو على زمام الأمور بمصر، مع الخضوع للدولة. فقصد مصر بالجيش الذي كان معه بالشام، ولم يلبث أن استولى على البلاد، وفر علي بك إلى عكاء واحتمى بحاكمها مرة أخرى، وهنالك وجد أسطولا للروسيا، ففاوضه بشأن تحالفه معها، فأمده الأسطول بالذخيرة والرجال؛ وبذلك استرجع المدن السورية التي كان قد فتحها له أبو الذهب، وعادت إلى الدولة بعد رجوع أبي الذهب عن الشام.
مراد بك (عن كتاب وصف مصر).
ثم جاءته الأخبار من مصر أن الناس في استياء من حكم أبي الذهب، وأنهم يودون قدومه لإنقاذهم منه؛ فخرج إلى مصر بقوة صغيرة، فانتصر أولا على جيوش أبي الذهب بجهة الصالحية، ثم دس هذا على رجال علي بك من أوقع في قلوبهم الفتنة، فانقبلوا على «علي بك» وخذلوه، فانهزمت جيوشه وأخذ هو أسيرا إلى القاهرة، فمات بها بعد بضعة أيام بسبب الجراح التي أصابته وهو يدافع في الواقعة الأخيرة دفاعا شديدا.
ومن أعماله تجديد قبة الإمام الشافعي، وإنشاء سوق ببولاق.
وكافأ الباب العالي «أبا الذهب» على ذلك، فمنحه لقب «باشا» وولاه حكم مصر سنة (1186ه/1772م)، فلم يتمتع بذلك؛ إذا مات بعدها بعامين، ودفن بجامعه الذي شيده أمام الأزهر، وهو آخر جامع كبير أنشئ بمصر في عهد العثمانيين.
عند ذلك قبض على أزمة الأمور اثنان من المماليك، وهما: «إبراهيم بك» و«مراد بك»، واتفقا على أن يتوليا شياخة البلد وإمارة الحج بالتناوب كما حدث بين رضوان بك وإبراهيم بك من قبل. فوقع بينهما شيء من الاختلاف في أول الأمر، ثم صلح ما بينهما وبقيا قابضين على مقاليد الأمور من ذلك الحين إلى أن أغار الفرنسيون على البلاد سنة (1213ه/1798م)، ما عدا فترة (من 1786 إلى 1790م) عاد النفوذ فيها إلى العثمانيين.
وذلك أن الدولة أرسلت حملة لتوطيد السكينة وإطفاء الفتن التي انتشرت في البلاد في أوائل حكم إبراهيم بك ومراد بك، فوصلت الحملة في شهر يونيو سنة 1786م، واستولت على القاهرة بعد قتال لم يقو فيه المماليك على مقاومة المدافع التركية؛ ففر إبراهيم ومراد إلى الصعيد.
وعهد العثمانيون بشياخة البلد لأحد بيكوات المماليك المدعو «إسماعيل بك» وفي سنة (1205ه/1790م) حدث بالبلاد وباء شديد اكتسح أسرة إسماعيل بك، فعاد إبراهيم بك ومراد بك من الصعيد واستردا منصبهما، وأخذا يحكمان البلاد بحزم لا بأس به، إلا أنهما اشتطا في ابتزاز أموال الناس، وخصوصا التجار، حتى الفرنج منهم؛ فكثرت شكاوى هؤلاء إلى دولهم؛ مما لفت نظر أوروبا إلى مصر وجعله الفرنسيس ذريعة لإغارتهم عليها في (1213ه/1798م).
وقد أدخل الترك كثيرا من الألقاب في مصر، لا يزال كثير منها مستعملا إلى الآن، منها: لقب «باشا» الذي كان يطلق على الولاة المرسلين من القسطنطينية، ولقب «أغا» وكان يطلق على قائد الجيش أو الفرقة الواحدة، ولقب «كتخدا» أو «كخية» وهو وكيل الباشا، وكان يطلق أيضا على موظف خاص في كل فرقة بالجيش، أما لقب «البك» و«الأفندي» فكان لكل منهما معنى خاص في مبدأ الأمر فقد بالتدريج حتى صارا يستعملان في معنييهما الحاليين.
روي أن السلطان سليم لما هم بمغادرة الديار المصرية شاوره «خير بك» في إبقاء أوقاف المماليك أو حلها - وكانت نحو عشرة قراريط من أرض مصر، جميعها معفى من الضرائب - فأمر السلطان سليم بإبقائها، فاعترض عليه وزيره، فضرب عنقه.
القاشاني قطع من الخزف المطلي بالميناء، عليها أشكال هندسية أو نباتية ملونة.
هو جامع إسكندر باشا المتولى على مصر سنة 963ه، وهو غير إسكندر باشا الفقيه الجركسي الذي أنابه سنان باشا عند خروجه إلى اليمن، وسيأتي ذكره بعد.
وهم قوم من شيعة زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي كرم الله وجهه، وهم جملة فرق جمهرتهم الآن باليمن ولهم فيها إمام لا يزال خارجا على الخلفاء من العرب أو الترك.
اسمه إسكندر باشا الفقيه الجركسي، وهو مسلم طبعا.
المسمى الآن حصن قايتباي.
نسبة إلى زعيمين لهما، هما: قاسم وذو الفقار.
سمي «الكبير» لكثرة انتصاراته.
ملخص بأهم الحوادث التاريخية الواردة في الباب الأول (+) إشارة تدل على أن الحوادث خاصة بالدول المسيحية المعاصرة للدولة. (⋆)
إشارة تدل على أنها خاصة بمصر.
أهم الحوادث
هجريا
ميلاديا
منشأ الدولة العثمانية
627-857
1230-1453
أرطغرل
627-687
1230-1288 + حكم اللاتين بالقسطنطينية
600-660
1204-1261
علاء الدين السلجوقي يمنح أرطغرل «أسكي شهر»
مولد عثمان في أسكي شهر
656
1258
عثمان (تحت إمرة علاء الدين)
680-699
1288-1300
يفتح قره حصار وغيرها - يمنحه علاء الدين لقب بك
قضاء المغول على الدولة السلجوقية
699
1300
عثمان (مستقلا)
699-726
1300-1326
فتح بروسة على يد ابنه أرخان
أرخان
726-761
1326-1359
افتتاح نيقوميدية وإزنيق
20 عاما في السلم وتثبيت دعائم الملك
إنشاء طائفة الإنكشارية
ظهور الموت الأسود
747
1347
مبدأ الفتوح العثمانية بأوروبا (غليبولي)
758
1357
مراد الأول
761-792
1359-1389
إخضاع معظم الروملي (أدرنة، فلبة)
تحالف ملوك البوسنة والصرب والمجر عليه وقهره إياهم عند «أدرنة»
765
1363
إخضاع بلغاريا
791
1388
انتصاره على أمراء أوروبا الشرقية في واقعة قوصوة وإخضاع الصرب (عدا فتوحه في آسيا واندراج 4 إمارات تركية في سلك الدولة العثمانية)
792
1389
بايزيد الأول
792-805
1389-1402
إخضاع باقي الإمارات التركية في آسيا وكثير من مدن الروملي - توطيد أركان الدولة في أوروبا
تحالف المسيحيين على العثمانيين ثانية بقيادة سجسمند ملك المجر
قهر المسيحيين في واقعة نيقوبوليس
799
1396
غزو جزء من اليونان (تساليا وإبيروس)
قهر تيمورلنك لبايزيد وأخذه أسيرا في أنقرة
805
1402
أربعة أولاد لبايزيد يتنازعون الملك
805-816
1402-1413
محمد الأول «المتغلب عليهم »
816-824
1413-1421
لم شعث الدولة بعد تمزيقها في واقعة أنقرة
مراد الثاني
824-855
1421-1451
يعمل على مواصلة الفتوح العثمانية - يحاصر القسطنطينية + توحيد الكنيستين (برومية والقسطنطينية)
843
1439
نهضة جديدة لإخراج الترك من أوروبا
انتصار المسيحيين بقيادة هونياد ومعاهدة أزجدن
848
1444
يتنازل عن العرش لابنه محمد الثاني - الأوروبيون ينقضون العهد ويغيرون على أملاك الدولة بقيادة هونياد
مراد يرجع إلى الملك ويهزمهم في وارنة
848
1444
يتم إخضاع البوسنة والصرب
محمد الثاني
855-886
1451-1481
يتأهب لفتح القسطنطينية
الدولة العثمانية في أوج عظمتها
857-974
1453-1566
محمد الثاني يفتح القسطنطينية - سقوط الدولة البوزنطية - ابتداء التاريخ الحديث
857
1453
إخضاع معظم المورة والصرب والبوسنة
وقوف إسكندر بك وهونياد في سبيل فتح إيطاليا والمجر
هونياد يهزم السلطان عند بلغراد
860
1456
إخضاع ألبانيا
871
1467
فتح طربزون وإخضاع القرمان
إخضاع القرم
879
1475
قهر البنادقة وعقد محالفة معهم
882
1477
حصار رودس (لم يفلح لحسن دفاع فرسان القديس يوحنا)
885
1480
فتح أترنتو
885
1480 + وصول برتلوميودياز إلى طرف أفريقيا الجنوبي
891
1486 + وصول خرستوف كلومب إلى إحدى جزائر الهند الغربية
897
1492 + وصول فاسكو دي جاما إلى قليقوت
901
1496
بايزيد الثاني
886-918
1481-1512
أضعف سلطان إلى ذلك العهد - مكافحات مع أخيه جم ⋆
انتصار المماليك على جيوشه في الشام
زيادة قوة الأسطول العثماني - انتصاره على البنادقة ⋆
موقعة ديو
915
1509
الإنكشارية ترغمه على التنازل لأصغر أولاده سليم
918
1512
سليم الأول
918-926
1512-1520
تحويل تيار الفتوح إلى آسيا
غزو فارس (الاستيلاء على ديار بكر وكردستان)
920
1514 ⋆
فتح مصر (مواقع مرج دابق والريدانية ووردان)
922-923
1516-1517
تنازل الخليفة العباسي بمصر عن الخلافة للسلطان سليم
923
1517
سليمان القانوني
926-974
1520-1566
أزهر عصور في تاريخ آل عثمان - تقدم عظيم في العلوم واتساع كبير في أملاك الدولة
فتح بلغراد
927
1521
فتح رودس (من فرسان القديس يوحنا)
928
1522 ⋆
تنصيب «سليمان باشا» واليا على مصر
931
1525
غزو المجر - موقعة موهاكز - قتل ملكهم وتولية سليمان «جان زابولي» عليها
932
1526
غزو المجر ثانية لإغارة ملك النمسا عليها - الإغارة على النمسا وحصار ويانة
935
1529
عقد صلح مع النمسا على اقتسام المجر بين ملك النمسا وزابولي
940
1533 ⋆
إنابة خسرو باشا عن سليمان باشا لاشتغال هذا بحملة بحرية على البرتقال
941
1535 ⋆
خروج سليمان باشا بأسطول من مصر لصد البرتقال في الشرق واستيلائه على عدن
944
1538
إغارة ملك النمسا ثانية على المجر وعودة السلطان إلى غزوها
946
1539
اعتراف النمسا بسيادة السلطان على المجر وترنسلوانيا وتعهدها بدفع جزية سنوية له
فتح بغداد
تقدم القوة البحرية
استيلاء «خير الدين بربروس» على الجزائر وتنصيبه واليا عليها من قبل الباب العالي
926
1519
قهره أساطيل شرلكان
941
1533
قهره أساطيل شرلكان والبابا والبندقية في موقعة برويزة
945
1538
صده شرلكان عن بلاد الجزائر
948
1541
انتصار «بيالة باشا» على «دوريا» عند جزيرة جربة (تونس)
967
1560 «طرغود» يفتح المهدية عاصمة تونس
حصار مالطة وعدم مقدرة البحرية العثمانية على التغلب على فرسان القديس يوحنا
973
1565
ابتداء اضمحلال الدولة العثمانية
974-1049
1566-1640
سليم الثاني «كان ضعيفا لاهيا سكيرا»
974-982
1566-1574 ⋆
تنصيب سنان باشا على مصر
975
1567 ⋆
فتحه بلاد اليمن
976-979
1568-1571
انتزاع الترك جزيرة قبرس من البنادقة
979
1571
اتحاد أوروبا على الدولة وقهرها في موقعة «ليبنتو» البحرية
979
1571
مراد الثالث
982-1003
1574-1595
مسالمة البندقية
982
1574 ⋆
ولاية مسيح باشا على مصر
982-988
1574-1580 ⋆
خروج الجنود العثمانية على أويس باشا لتجنيده المصريين
997
1589
محمد الثالث
1003-1012
1595-1603
انتصار العثمانيين بقيادة سيكالا على النمسا وترنسلوانيا في سهل كرزت
1004
1596 ⋆
وباء في مصر
1012
1603
أحمد الأول
1012-1026
1603-1617
استمرار الثورات العسكرية وابتداء ظهور النمسا على الدولة ⋆
وباء آخر في مصر
1028
1619 ⋆
وباء آخر
1030
1621
مراد الرابع «من أعظم سلاطين العثمانيين»
1032-1049
1623-1640
يوطد العلائق مع النمسا ليوجه قواه إلى الفرس ⋆
تنصيب قره مصطفى على مصر
1032
1623 ⋆
صرفه بعلي باشا الجشنجي - تمرد الجند لذلك ⋆
إعادة قره مصطفى
1035
1625 ⋆
وباء شديد في مصر
1035
1626
أعاد السلطان فتح أريوان
1045
1635
استرجع بغداد من الفرس
1048
1638
عهد سلطة الوزراء - أسرة كبريلي
1049-1103
1640-1691
إبراهيم الأول
1049-1058
1640-1648 ⋆
وباء بمصر وغلاء
1052
1642
لم يفلح في فتح جزيرة إقريطش
1055
1645
عزل وقتل
1058
1648
محمد الرابع «ازدياد اضطراب الدولة»
1058-1099
1648-1688
انهزام الأسطول التركي في بحر الأرخبيل
1059
1649
أسطول البنادقة يهدد القسطنطينية
1066
1656
نهوض الدولة على يد محمد كبريلي
1067-1072
1657-1661
وزارة أحمد كبريلي
1072-1087
1661-1676
الإغارة على النمسا والمجر
1074
1663
انهزام الترك عند سنغوتار وعقد معاهدة فزفار
1075
1664
استيلاء الترك على إقريطش من البنادقة
1080
1669 + خروج القوزاق على بولندا وانهزامهم على يد جون سوبيسكي
1081
1670
غزو الترك لبوندة وفتحهم كامنيك وتنازل بولندا لهم عن بادوليا وأوكرين
1083
1672
رفض الشعب البولندي للمعاهدة وقهرهم الترك بقيادة جون سوبيسكي في شكزم ولمبرغ
1084-1086
1673-1675
صلح زرانو بين الترك وبولندا
1087
1676
وزارة قره مصطفى
1087-1094
1676-1683
تأهبه سرا للإغارة على النمسا بتوثيق صلته بفرنسا والروسيا وبولندا منذ تداول عهده + خروج المجر على النمسا
1085-1092
1674-1681
إغارة قره مصطفى على المجر
1094
1683
حصاره لمدينة فينا
1094
1683
فشل الحصار لنقض جون سوبيسكي العهد ومؤازرته لإمبراطور النمسا
قتل قره مصطفى لفشله
عقد الحلف المقدس بين النمسا وبولندا والبندقية على الترك
1095
1684
خسائر متوالية للترك برا وبحرا
1097-1100
1685-1688
سليمان الثاني
1098-1102
1687-1691
نهضة قصيرة على يد مصطفى كبريلي
1098-1103
1687-1691
موته في موقعة سلانكمن
1103
1691
مصطفى الثاني
1106-1115
1695-1703
انتصار الجيوش النمساوية على الترك في واقعة زنتة
1108
1696
معاهدة كارلوتز (بين الترك والنمسا والروسيا وبولندا)
1110
1699
الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر م + نهضة الروسيا على يد بطرس الأكبر
1100-1137
1689-1725
استيلاء بطرس على آزاق
1108
1696
أحمد الثالث
1115-1143
1703-1730 ⋆
تفاقم العداوة بين القاسمية والفقارية في مصر
1119
1707
انتصار الترك على الروس على نهر بروث وعقد معاهدة بروث
1123
1711
استرجاع قومرجي علي بلاد المورة من البنادقة
1127
1715
انهزامه في المجر على يد الأمير يوجين عند بيتروردن
1128
1716
معاهدة بساروتز
1130
1718
حرب الترك مع الفرس (انتهت بجلاء الترك عن فارس)
1135-1148
1722-1735 ⋆
قتل إسماعيل بك شيخ البلد وتولي جركس بك شياخة مصر
1136
1723
انتهاز الروسية فرصة اشتغال الترك بمحاربة الفرس وعقدها محالفة مع النمسا على الدولة
1138
1726 ⋆
تولي عثمان بك شياخة البلد بمصر
1142
1730
محمود الأول
1143-1168
1730-1754
إشهار الروس الحرب على الترك
1148
1735
دخول النمسا في الحرب وهزم الترك لها وللروسيا ومهادنة النمسا للترك على انفراد
1149
1737
غيظ ميونخ (قائد الروس) وعمله على تحقيق المشروع الشرقي
هزمه جيوش الترك في شكزم وعقد معاهدة بلغراد بين الترك والروسيا
1152
1739 ⋆
اتفاق إبراهيم بك ورضوان بك على عثمان بك بمصر وطردهما إياه إلى الشام واقتسام السلطة بينهما
1156
1743
عثمان الثالث
1168-1171
1754-1757
مصطفى الثالث
1171-1187
1757-1773 + تولي كترين الثانية عرش الروسيا
1176
1763 ⋆
تولي علي بك الكبير شياخة البلد بمصر
1177
1763
إعلان الترك الحرب على الروس لتعديهم على خان القرم
1182
1768 ⋆
الباب العالي يستنجد علي بك في حربه مع الروسيا
1182
1768 ⋆
إعلان علي بك الكبير استقلاله بمصر
1183
1769
انتصار الروس على الترك بحرا عند جشمة
1184
1770 ⋆
إرسال علي بك الكبير محمدا «أبا الذهب» للاستيلاء على الشام
1185
1771 ⋆
اتفاق أبي الذهب مع الدولة وتوليته واليا على مصر من قبلها
1186
1772 ⋆
وفاة علي بك
1187
1773
عبد الحميد الأول
1187-1203
1773-1789
معاهدة كجوق قينارجة بين الروس والترك
1188
1774 ⋆
وفاة أبي الذهب
1189
1775 ⋆
اقتسام السلطة بين مراد بك وإبراهيم بك
1189-1201
1775-1786
نقض كترين العهد وضم القرم إليها
1197
1783
معاهدة القسطنطينية بين الروس والترك
1198
1784
إعلان الترك الحرب على الروسيا لتعدد إهاناتها لهم
1201
1787 ⋆
رجوع السلطة إلى الباب العالي في مصر
1200-1205
1786-1790
سليم الثالث
1203-1222
1789-1807
استيلاء الروس بقيادة سوفاروف على أوخاكوف وإسماعيل
1205
1790
توسط إنجلترا وغيرها في إبرام معاهدة ياسي بين الروس والترك
1206
1792
رجوع السلطة في مصر إلى مراد بك وإبراهيم بك
1205-1213
1790-1798 ⋆
غارة الفرنسيس على مصر
1213
1798
الباب الثاني
تاريخ مصر من الحملة الفرنسية إلى انتهاء عهد محمد علي
الفصل الأول
الحملة الفرنسية على مصر (1212-1216ه/1798-1801م)
قضت مصر تحت حكم ولاة العثمانيين والأجناد والمماليك نحو ثلاثة قرون عانت فيها من أنواع الظلم وسوء الإدارة ما أضعف تجارتها وجعلها في معزل عن بقية العالم؛ فأصبحت لا تدري شيئا عن قوى الدول الأوروبية وأطماعها أو علاقة بعضها ببعض. وقد كان يقيم بمصر في ذلك الحين كثير من جالية الفرنسيين والإنجليز، ولكن المصريين لم ينتفعوا بإقامتهم بينهم، بل اكتفوا بالنظر إليهم بعين الازدراء والمقت؛ ظنا منهم أن دولهم ما زالت على الضعف الذي سمعوه عنهم أيام الحروب الصليبية، وفاتهم أن الزمن قد تغير، وأن أوروبا أصبحت على مبلغ من القوة وسعة العلم وعظم الدراية بالفنون الحربية بحيث لا يمكن مصادمته إلا بمثله.
وكانت دولة فرنسا قد قويت شوكتها بين دول أوروبا، وظهر فيها في أواخر القرن الثامن عشر - من التاريخ الميلادي - قائد حربي عظيم أخذ يتغلب على ممالك أوروبا، وبات كثير من دولها في خوف منه؛ ذلك هو البطل الشهير «نابليون بونابرت».
وفي أواخر سنة (1212ه/1798م) جرد «نابليون» هذا حملة على مصر، فامتلكها، ودخلت البلاد من ذلك الحين في طور يعتبر ابتداؤه مبدأ تاريخها الحديث. نعم، لم يلبث الفرنسيون بمصر أكثر من ثلاث سنين، ولكن فتحهم لها كان الحلقة الأولى من سلسلة حوادث، لعبت أوروبا أهم أدوارها، وأفضت عاقبتها إلى المركز الاجتماعي والسياسي الذي تشغله مصر الآن.
ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر فجائية أو من خواطر اللحظات، بل إن «ليبنتز» أحد وزراء لويس الرابع عشر ألح عليه سنة 1672م بوجوب غزو مصر، وبين له أن امتلاكها يجعل فرنسا سيدة العالم، وقد رأى ذلك غيره من وزراء فرنسا بعده، ولكن فرنسا لم تخط خطوة في هذه السبيل إلا في عهد «نابليون».
على أن نابليون نفسه لم يقدم على هذه الحملة إلا بعد تفكير طويل؛ فاستشار فيها العلماء، وقرأ لأجلها الكتب، وبعدئذ عرض اقتراحه على هيئة الحكومة الفرنسية مع إيضاح طويل.
أما أهم الأسباب التي حدت بنابليون إلى الإقدام على هذه الحملة واقتنعت بها الحكومة الفرنسية فهي؛ أولا: رغبته في زيادة نفوذ فرنسا في البحر الأبيض المتوسط، وضم وادي النيل إليها لما فيه من الخيرات الكثيرة التي تغني فرنسا عن كثير من المستعمرات البعيدة، ولما له من المكانة التجارية العظمى. وثانيا: تمهيد الطريق لقهر الإنجليز بطردهم من الهند واستيلاء الفرنسيين عليها؛ لأن مصر هي مفتاح الطريق إلى تلك البلاد. وفي الحقيقة كانت لنابليون أطماع كبيرة في الشرق بأسره، وكانت نفسه تتوق إلى أن يأتي فيه بمثل ما أتاه الإسكندر من قبله.
1
كل هذه الاعتبارات - إلى ما عسى أن يكون قد نال الفرنسيين المقيمين بمصر من عسف المماليك وظلمهم - جعلت فرنسا تقدم على تجريد تلك الحملة، مع ما فيها من المبادأة بالعدوان لسلطان آل عثمان الذي كان صديقها في ذلك الحين.
نابليون بونابرت.
ورأت الحكومة الفرنسية أن يكون إعداد هذه الحملة بغاية التستر والتكتم كي لا يعلم بمسيرها أحد، وخاصة إنجلترا أشد أعداء فرنسا في ذلك الحين؛ فسهر «نابليون» على إعداد ما يلزم لها من الجند والسفن الحربية والمراكب النقالة؛ فجهز لها نحو 40 ألف مقاتل، عليهم ضباط من نخبة قواد فرنسا، مثل: «كليبر» و«دييزيه» و«مينو» و«مورات»، وأعد لها أسطولا كبيرا جعل على رأسه القائد العظيم «بروي»، وسلحه بالكثير من المدافع والذخيرة، واصطحب معه كذلك من لا يقلون عن مائة رجل من أعظم علماء فرنسا؛ جمعهم من أكبر أساتذة كل علم وفن، وجهزهم بكثير من الكتب والآلات العلمية، مما رأى أن يكون له فائدة في الاستكشاف عن حالة مصر خاصة والشرق عامة. ومن أهم ما عني بإحضاره معهم مطبعة عربية كان للحملة منها فوائد كبرى.
وفي (اليوم الثاني من ذي الحجة سنة 1212ه/19 مايو سنة 1798م) أقلع نابليون بهذه القوة من ميناء طولون، وانضمت إليها بعض المراكب من الجهات الأخرى، وقصد جزيرة مالطة فاستولى عليها بلا عناء، وكانت إذ ذاك في يد «فرسان القديس يوحنا»، وترك أحد قواده حاكما عليها، ثم غادرها.
وكان إعداد هذه الحملة قد تم وعلمه بعض الدول، غير أنه لم يعلم بمقصدها أحد.
وأوجست إنجلترا منها خيفة، وظنت أنها ربما تقصد شواطئ «إرلندا» رجاء الإغارة على الجزائر البريطانية؛ فعهدت البحرية الإنجليزية إلى «نلسن» أمير البحر الإنجليزي العظيم بأن يقتفي أثر هذا الأسطول الفرنسي، وأن يلحق به كل ما أمكنه من الضرر، فتلقى «نلسن» هذه التعليمات، ولكنه لم يبحث عن نابليون غربي البحر الأبيض حيث ينتظر وجوده لو كانت وجهته الحقيقة إرلندا، بل أداه ذكاؤه الفطري أن يقصد «مالطة»، فلما وصلها وجد أن نابليون قد غادرها بجيشه منذ خمسة أيام، وأنه سار شرقا؛ فأدرك أن وجهة نابليون لا بد أن تكون مصر، ورأى أن يتبعه إليها، وبالفعل وصل بأسطوله الإنجليزي إلى الإسكندرية يوم (8 المحرم سنة 1213ه/21 يونيو سنة 1798م)، فلم يعثر للفرنسيين فيها على أثر، فبعث وفدا إلى حاكم المدينة «السيد محمد كريم» - وكان مصري الجنس - يستفسر منه عن قدوم أسطول فرنسي إلى البلاد المصرية، فراع أهل المدينة رؤية الأسطول الإنجليزي، وأوجسوا منه خيفة؛ إذ لم يكن لهم علم بعزم الفرنسيين على غزو بلادهم، وحاروا أيضا في أمر استعلام الإنجليز عن مجيء الأسطول الفرنسي؛ فلم يعرفوا لاهتمامهم هذا علة. وذلك يدلك على الدرجة التي وصلت إليها مصر في تلك الأيام من قصر النظر وقلة الدراية بأخبار العالم والتنافس الحاصل بين ممالكه. فأكد رجال «نلسن» للحاكم أن الأسطول الإنجليزي ما أتى إلى هذه البلاد إلا ليدفع عنها الأسطول الفرنسي، وأن غاية ما يبغيه الإنجليز أن يسمح لهم بانتظار الأسطول الفرنسي خارج الميناء، وأن يشتروا من المدينة بالمال ما يحتاجون إليه من الزاد، فلم يقتنع السيد محمد كريم بحسن نية الإنجليز، وامتنع عن إجابة ملتمسهم، وأجابهم بصراحة - ما كانت لتغني عنه شيئا لو قصد الإنجليز البلاد سوءا - إذ قال: «إن مصر بلاد السلطان، وليس للفرنسيين أو سواهم شيء فيها، فاذهبوا أنتم عنا.»
نلسن.
ولما كان هم نلسن منصرفا إلى مطاردة الأسطول الفرنسي، لم ير داعيا إلى استعمال القوة في الإسكندرية، وأقلع عنها مؤقتا ليتجول قليلا في البحر الأبيض المتوسط ويأخذ من بعض جزائره ما يحتاج إليه من الزاد.
ومضى أسبوع بعد إقلاع العمارة الإنجليزية، ولم يظهر في المياه المصرية أحد من الأعداء؛ فهدأ روع الناس بالإسكندرية والقاهرة، وبينا هم كذلك إذا بالعمارة الفرنسية العظيمة قد لاحت أمام الثغر الإسكندري، فعاد الفزع وزاد عما كان، وبعث حاكم المدينة بالرسل إلى القاهرة على جناح السرعة، يستنجد مراد بك وإبراهيم بك، ويصف لهما حرج الحالة وهول العمارة الفرنسية، وقال عنها إنها: «لا يعرف أولها من آخرها.»
فلما وصل الخبر إلى مراد بك أسرع إلى مقابلة إبراهيم بك بمنزله - مستشفى قصر العيني الآن - فبادر إلى عقد جمعية عمومية من كبراء البلاد ليتداولوا فيما يجب عمله لصد الأعداء، فاجتمعت الجمعية توا من كبار المماليك والعلماء، وحضرها «بكر باشا » والي السلطان بمصر،
2
وبعد أن تباحثوا في الأمر قر قرارهم على أن يسير مراد بك إلى الإسكندرية لصد الأعداء، وأن يبقى إبراهيم بك بالقاهرة للدفاع عنها لو اقتضى الأمر ذلك.
هذا ما كان من أمر المماليك. أما العمارة الفرنسية فإنها وصلت أمام الإسكندرية في (اليوم الثامن عشر من المحرم/أول يوليو) وعند ذلك أرسلت زورقا إلى الميناء يطلب القنصل الفرنسي، فتردد «السيد محمد كريم» أولا في تسليمه ثم أذن له بالذهاب، فعلم منه نابليون ما كان من أمر العمارة الإنجليزية وما يعده المماليك للدفاع عنه البلاد، فأقر على إنزال جيشه إلى البر في الحال، واختار لذلك نقطة غربي الإسكندرية بنحو ثلاثة أميال - العجمي الآن - فسار بأسطوله إليها وشرع في إنزال رجاله وعدده ليلا بكل سرعة، فتم له ذلك من غير أن يعترضه أحد. وبعد أن استراح برهة على الرمال جرد قسما من جيشه وسار على الأقدام قاصدا الإسكندرية، فقابلتهم قبيل الفجر بعض فصائل من عرب «أولاد علي»، تبادلوا معهم بعض الطلقات، ثم فروا مذعورين، فاستمر الجيش في المسير نحو الإسكندرية، حتى صار على مقربة من أسوارها.
فقابلتهم حامية المدينة بما لديها من وسائل الدفاع، فقسم نابليون رجاله إلى ثلاثة أقسام وهاجم بهم الأسوار هجوما عاما من اليمين واليسار والقلب، فدخلوا المدينة عنوة، وانسحب الحاكم ورجاله إلى قلعة «فاروس» في طرف الميناء الشرقية - قايتباي الآن - ولما دخل الفرنسيون المدينة مخترقين شوارعها الضيقة، أمطرهم الأهلون من نوافذ المنازل وابلا من المقذوفات، فقابلهم الفاتحون بأشد منها، وكادوا يفتكون بالعباد فتكا ذريعا لولا أن أرسل نابليون رسولا إلى الإسكندريين يؤمنهم على أموالهم وأرواحهم ودينهم وتقاليدهم، وأخبرهم بأن فرنسا لا تقصد سوءا إلا بالمماليك، وأنها تحرص على مودة الأهلين وود سلطانهم الأعظم؛ فهدأ الناس حقنا للدماء، واستسلم إليه السيد محمد كريم، لقلة ما بقي معه من الذخيرة، فأكرم نابليون مثواه، وقال له: «قد أخضعتك بالقوة، ولي أن أعاملك معاملة الأسير، ولكن نظرا لما أبديته من الشجاعة، ولأن الشجاعة حليفة الشرف، أرد إليك سيفك، أملا أن تخلص للجمهورية الفرنسية بقدر ما أخلصت لتلك الحكومة العاتية.» فأعرب السيد محمد كريم عن رغبته في خدمة الجمهورية، وأبقاه نابليون في منصبه تحت إشراف «الجنرال كليبر» - وكان هذا قد اضطر إلى البقاء بالإسكندرية لجرح أصابه وقت مهاجمة الأسوار.
ولم تكد الجنود الفرنسية تنزل إلى المدينة وتتجول في أنحائها، حتى لحقهم الملل واستولت عليهم الكآبة؛ فإنهم - فضلا عن تألمهم من الحر الشديد الذي لم يعتادوه في بلادهم، والذي كان بالطبع على أقصى درجاته في هذا الفصل من السنة - لم ترق المدينة في أعينهم، ولم يجدوا فيها شيئا من العظمة والبهاء مما سمعوا به قبل مجيئهم، وكان من مميزات الإسكندرية في القرون الأولى ، ثم ذهب باضمحلال شأن المدينة على مدى الأيام. وكل ما وقع عليه نظرهم من شوارع ملتوية، وأزقة ضيقة قذرة، وآثار مهملة، وملابس وأزياء لا تنطبق على ذوقهم الفرنسي؛ لم يزدهم إلا قنوطا واعتقادا بأنهم مسخرون في غزوة لا فائدة فيها.
على أن نابليون ذاته لم يظهر عليه شيء من ذلك، بل بقي ثابت الجأش، كله حركة ونشاط، ولم يكد يتم له الاستيلاء على الإسكندرية حتى أمر بإنزال كل المعدات الحربية إلى البر، كي لا يفاجئه «نلسن» على غير أهبة. ثم التفت إلى تنظيم حكومة الإسكندرية، فعهد بإدارة شئونها إلى ديوان، فشكل من سبعة أشخاص مختارين، وأمر بإنزال جماعة العلماء الذين معه، وكلفهم مباشرة البحث والتنقيب بالإسكندرية ريثما يتم له فتح العاصمة فيستدعيهم إليها، فشرعوا في عملهم بكل همة ونشاط. ومن أنفع ما بدءوا به أنهم رسموا مصورا وافيا للإسكندرية وضواحيها.
وقبل أن يزحف نابليون بجيشه إلى القاهرة أمر بكتابة منشور بالعربية ليلقي به السكينة في قلوب الأهلين، وعهد بكتابته إلى المستشرقين من علمائه، وطبع بالمطبعة العربية التي معهم، وقد رأى نابليون في هذا المنشور أن يخضع المصريين من باب الدين واحترامه لعقائدهم وخليفة نبيهم؛ فغالى في مصانعتهم حتى شك معظم الأهلين في صدق نيته، وأخذوا يهرعون إلى القرى والبلاد التي بمعزل عن طريق الفرنسيين حتى لا يقعوا في حبال مكايدهم. ومما قلل من ثقة الأهلين بهذا المنشور أن نابليون كان وعدهم عند استيلائه على الإسكندرية بعدم التعرض لحريتهم وتقاليدهم، ولكن ما لبث أن جردهم من السلاح وأمرهم أن يحملوا على صدورهم شارة الجمهورية الفرنسية - وهي قطعة مستديرة من القماش مؤلفة من ثلاثة الألوان: الأزرق والأبيض والأحمر - وها هي بعض عبارات هذا المنشور العجيب، نقلا عن كتاب المؤرخ الشهير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي كان معاصرا لهذه الحملة:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، ولا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية؛ السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم. واحسرتاه، من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبنزة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها. فأما رب العالمين القادر على كل شيء، فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح، فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله - سبحانه وتعالى - وأحترم نبيه والقرآن العظيم. وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله، وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط، وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب، فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة؟ فإن كانت الأرض المصرية التزاما للمماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم، ولكن رب العالمين رءوف وعادل وحليم، ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية؛ فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور؛ وبذلك يصلح حال الأمة كلها. وسابقا كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر، وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك.
أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد، قولوا لأمتكم: إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا، الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه، أدام الله ملكه. ومع ذلك إن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لأمره، فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم، طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير، فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين، فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا؛ فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص، ولا يبقى منهم أثر.
ترك نابليون «كليبر» بالإسكندرية، وشرع في الزحف على القاهرة في (23 المحرم/7 يوليو) واختار لذلك طريق الصحراء الغربية مخترقا مدينة «دمنهور»، وكان قد أرسل قسما من جيشه بطريق الساحل الشرقي للاستيلاء على «رشيد»
3
وعززه بأسطول من المراكب الصغيرة، حتى إذا تم لهما فتح المدينة سار الأسطول في النيل وبجانبه الجيش لينضما إلى جيش نابليون عند «الرحمانية». وجد «نابليون» في البر حتى وصل إلى دمنهور بعد أن لاقت جيوشه من التعب والحر والظمأ ما ذهب بقواهم
4
وزاد من سخطهم، فاستراحوا بها يوما، ثم واصلوا المسير نحو الرحمانية فجر يوم 26 المحرم، وقبل وصولها التقوا بشرذمة من المماليك لم تكد تشتبك معهم حتى فرت أمام نيرانهم الحامية.
ولما وصلوا إلى الرحمانية رأت جنود نابليون النيل لأول مرة، فهرولوا إليه يطفئون ظمأهم، ويمتعون أبصارهم التي ملت الصحراء ورمالها، وأبدوا رغبة عظيمة في البقاء طويلا بالرحمانية ، فرأى نابليون أن يبقى بها بضعة أيام ريثما يلحق به الجيش والأسطول اللذان ذهبا لفتح رشيد.
وكان هذان قد نجحا في مهمتهما، وسار الأسطول في النيل، وانضم الجيش إلى نابليون، ثم سار الجيش إزاء الأسطول على ضفة النيل الغربية، إلا أن الريح كانت شديدة، فساقت الأسطول أمام الجيش حتى وصل منفردا إلى «شبراخيت» - بعد الرحمانية - فالتقى هنالك قبل وصول نابليون بأسطول المماليك وجيشهم المؤلف من 4000 فارس على رأسهم «مراد بك»، فوقع الأسطول الفرنسي بين نارين، وكاد الماليك يفتكون به لولا أن اشتعلت النار بذخيرة إحدى سفن المماليك، فعاقهم ذلك حتى وصل نابليون، فقسم جيشه إلى خمسة مربعات، وأمسك عن إطلاق النار حتى أقدم عليه فرسان المماليك بشجاعتهم المعتادة، ولما صاروا على مرمى مدافعه أطلقها عليهم، فكانت تحصدهم حصدا؛ فاضطر مراد بك إلى الانحياز إلى القاهرة بمن بقي من رجاله (29 المحرم/14 يوليو).
وكان أهل القاهرة قد استولى عليهم الجزع منذ نزول الفرنسيس إلى أرض الإسكندرية، فلما جاءهم نبأ انهزام مراد بك بشبراخيت وتقهقره إلى القاهرة هاجوا وماجوا، وأخذ الكثير منهم يفرون من المدينة. ولما سمع «إبراهيم بك» بتقهقر زميله شرع في تحصين «بولاق» - فرضة القاهرة في ذلك الحين - وعمل على نصب المدافع على النيل بين بولاق وشبرا، وأقبل عليه الأهلون يساعدونه بكل ما لديهم من الوسائل، فاكتظت بهم بولاق حتى كان يخيل للناظر أن سكان القاهرة انتقلوا إليها، وكان الجميع يزداودن فزعا كلما سمعوا باقتراب الفرنسيس، فامتلأ الجو بصياحهم وعويلهم وتضرعاتهم، والعقلاء منهم ينصحون لهم بالتزام السكينة، ويذكرونهم بأن ذلك لا يجدي نفعا، وأن النبي وأصحابه كانوا يقاتلون بالسيوف والرماح، لا بالعويل والصياح.
أما مراد بك فإنه استعد للقاء الفرنسيس ببلدة «أنبابة» من أعمال الجيزة وخندق بها، ونصب المدافع أمام عسكره مخافة أن يحصل له ما حصل بشبراخيت يوم هاجم الأعداء بفرسانه من غير المدافع.
وقد كانت تجزئة المماليك لقواهم على الوجه المتقدم من أكبر غلطاتهم؛ إذ كان خير طريقة لهم أن يجمعوا كل قواهم على الشاطئ الشرقي وينتظروا قدوم العدو ، فيضطروه إلى عبور نهر النيل العظيم، فيهاجموه مجتمعين أثناء عبوره، ولكنهم غفلوا عن ذلك كما غفلوا عن غيره من الحيل الحربية، واعتمدوا على شجاعتهم وانتصاراتهم القديمة، ونسوا أنهم إنما يحاربون دولة في مقدمة دول أوروبا؛ لها من الدراية بالفنون الحربية الحديثة ما تذوب أمامه كل شجاعة، ويفنى به كل استبسال. وصل نابليون إلى «أنبابة» في (اليوم السابع من شهر صفر/21 يوليو)، فرأى المماليك أمامها في انتظاره، وقد ملئوا الجو بصياحهم وحماستهم، وبريق دروعهم وملابسهم المطرزة بالقصب يتلألأ في الشمس فيزيد منظرهم روعة ومهابة، ورأى وراءهم الأهرام تتجلى في الصحراء وتذكر القادم بأنه في أرض الفراعنة الأقدمين، فأشار إليها وقال محرضا جنوده على القتال:
أيها الجند، إن أربعين قرنا تنظر إليكم من قمة هذه الأهرام.
فكانت هذه الكلمة من أشهر كلماته المأثورة.
ورأى نابليون أن المماليك يتأهبون لمهاجمته من الأمام كعادتهم، فقسم جيوشه فرقا، كل منها على شكل مربع مجوف، وساقها على المماليك على هيئة هلال؛ يستعد وسطه للقاء قلب المماليك، ويحيط طرفاه بجناحيهم.
فأدرك مراد بك قصده، فأمر أبسل قواده «أيوب بك الدفتردار» أن يهاجم الفرقة التي أرادت الالتفاف حولهم من الغرب، فانطلق أيوب بك على الفرنسيس برجاله انطلاق السهام، فأفسح لهم هؤلاء الطريق حتى صاروا في وسط المربع، ثم أصلوهم نارا حامية من ثلاث جهات، ففتكوا بهم فتكا ذريعا.
ثم هجم قلب الجيوش الفرنسية على خنادق المماليك واستولوا عليها برءوس الحراب، وساقوا فرقة أخرى للإحاطة بالمماليك من الشرق، فلما رأى مراد بك أن الفرنسيس كادوا يحيطون به، وأن طرفي هلال جيوشهم آخذان في الاقتراب، بادر بالتقهقر، واضطر إلى ترك مئات من رجاله في الميدان، فحصرهم الفرنسيس بينهم وبين النهر، وما زالوا بهم حتى أفنوهم قتلا وغرقا.
ولم يستطع مراد بك بعد استئناف القتال، فأسرع إلى منزله وأخذ ما قدر على حمله من المال والنفائس، وقصد إلى الصعيد.
هذه هي الموقعة التي تعرف عند المصريين بواقعة «أنبابة» وعند الفرنسيس بواقعة «الأهرام»؛ استمرت أقل من ساعة من الزمان، فكانت - كما رأيت - القاضية على المماليك، ولم يخسر فيها الفرنسيس غير عشرة قتلى وثلاثين جريحا؛ فكانت أكبر برهان على فضل الأنظمة الحربية الحديثة وفوقها على شجاعة القرون الوسطى وإقدامها.
ولم يكد إبراهيم بك يسمع بهذه الكارثة حتى أسرع بالتأهب للفرار من القاهرة، وحذا حذوه بقية المماليك، ثم ازداد الفزع فتبعهم معظم الأهلين، وظل الناس طول الليل يخرجون بنسائهم وأطفالهم من المدينة، بعضهم قاصد إلى الصعيد، وبعضهم إلى جهة بلبيس والسويس، وفي هذه الطريق سار إبراهيم بك.
وفي الصباح (8 صفر) اجتمع علماء المدينة بالجامع الأزهر ليتداولوا في الأمر، فقر قرارهم على التسليم، وذهب وفد منهم ومن الأعيان إلى بونابرت بالجيزة يخبره بالأمر، فأحسن مقابلتهم، وأمنهم على حياتهم ومالهم ودينهم بعبارات تشبه عبارات المنشور، مؤكدا أنه صديق المصريين والسلطان، وأنه ما أتى إلا لتخليصهم من نير المماليك الظلمة.
ولما سمع أهل المدينة بذلك هدأ روعهم، وأرسلت الزوارق إلى الجيزة، فجاءت بمعظم الجيش، فنزل قسم منه بالقلعة. وفي يوم (10 صفر/25 يوليو) دخل نابليون نفسه القاهرة بعد أن ترك «ديزيه» لحماية الشاطئ الغربي، ونزل بقصر محمد بك الألفي على شاطئ بركة الأزبكية - حديقة الأزبكية الآن.
ورأى نابليون أن يبدأ باستئصال شأفة المماليك؛ فأرسل «ديزيه» في فرقة من الجيش لمطاردة مراد بك بالصعيد، وأرسل أخرى في طلب إبراهيم بالشرقية، فلم تقو عليه لقلة عددها، واضطر نابليون أن يذهب إليه في جيش بنفسه، فقابله إبراهيم بك بالصالحية، فانهزم واضطر إلى الفرار جهة الشام، بعد أن كبد الجيوش الفرنسية خسارة كبيرة.
ثم عاد نابليون إلى القاهرة، واستولت رجاله على أملاك البكوات وأموالهم، وتشددوا مع نسائهم حتى اضطروهن إلى أن يفدين أنفسهن بالمال؛ من ذلك أن زوجة مراد بك فدت نفسها بمبلغ 125000 ريال. وحاول بعض الغوغاء الاشتراك مع الجند في نهب بيوت المماليك، فقابلهم نابليون بالشدة؛ فساعد ذلك على رجوع السكينة بعض الشيء.
نابليون أمام الأهرام (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).
ولما رأى نابليون أن قد هدأت الأمور، عمل على تنظيم الحكومة، وأن يدخل في البلاد كل ما يستطيع من الإصلاحات التي تقتضيها الحضارة الفرنسية، فنصب أحد رجاله حاكما على القاهرة، وجعل آخر مديرا للشئون المالية، وأمر بتشكيل مجلس نيابي - ديوان - من الأهلين ليسترشد بهم في إدارة البلاد. وتكون الديوان بادئ الأمر من عشرة من المشايخ، منهم الشيخ عبد الله الشرقاوي - مؤلف كتاب «تحفة الناظرين» في تاريخ مصر - والسيد خليل البكري - نقيب الأشراف وشيخ سجادة البكرية في ذلك الوقت - وغيرهما من أفاضل العلماء. ثم وسع من نطاق المجلس، فانضم إليه أعضاء يمثلون جميع الطوائف المقيمة بمصر، ومن جملتهم أعضاء من الفرنسيين.
واندفع نابليون في إدخال كثير من الإصلاحات الأخرى الخاصة بالصحة العامة أو الأمن وغير ذلك، غير ناظر لاستياء الناس أو رضاهم، ومكتفيا باعتقاده أنه إنما يريد الإصلاح على النمط الأوروبي. فمن ذلك أنه أمر الأهلين بكنس شوارعهم ورشها في أوقات معينة، وبوضع مصباح على كل منزل، مع تهديد كل من يخالف ذلك بالعقوبات الشديدة، ووضع أنظمة لقيد عقود الزواج والوفيات والمواليد، مع تأدية مغارم لكل ذلك؛ مما جعل المصريون يحسون تدخله في حريتهم الشخصية - وكانوا لم يعهدوا شيئا من ذلك في عهد أظلم المماليك - فقلت ثقتهم بوعود نابليون ومواثيقه، وأخذوا ينظرون شزرا إلى كل قانون جديد يسنه، خصوصا عندما أمر بهدم أبواب الحارات والدروب.
وكان نابليون قد أخذ يحصن القاهرة؛ فهدم لذلك كثيرا من الآثار والمساجد، فزاد استياء الأهلين، ولما جمع العلماء وكلفهم تعليق شارات الحكومة الفرنسية ذات الألوان الثلاثة، ونهرهم عندما رفضوا ذلك، أمسكوا عن مساعدته في تحسين العلائق بينه وبين العامة، وأخذ سخطهم في الاستفحال.
وبينما نابليون مشتغل بإصلاحاته هذه إذ جاءه نبأ تدمير الإنجليز لأسطوله في خليج «بوقير».
وذلك أن «نلسن» أمير البحر الإنجليزي لم يفتر عن البحث عن الأسطول الفرنسي حتى عثر عليه في خليج «بوقير» في (17 ربيع الأول/أول أغسطس)، فوقعت بين الأسطولين موقعة بحرية عظيمة انتهت بتدمير الأسطول الفرنسي؛ فكانت من أهم الوقائع التي كونت مجد بريطانيا البحري، والفضل في ذلك للبطل العظيم «نلسن» قائد الأسطول الإنجليزي، فإنه مع فوق الفرنسيس عليه في عدد مراكبهم، ونصبهم القلاع والاستحكامات على الشواطئ لمعاونة الأسطول، تمكن من شطر الأسطول الفرنسي شطرين، أحاط بأحدهما من الجانبين وفتك به، وشتتت السفن الإنجليزية شمل المراكب الباقية؛ فلم ينج منها من الغرق أو الحريق إلا القليل.
وكان الفرنسيس في أول الواقعة قد أرسلوا بعض مراكبهم الصغيرة لتغري الأسطول الإنجليزي على الاقتراب من شواطئهم المحصنة، حتى يقع بين نارين، فلم يعبأ بهم نلسن، وكان من مهارته ما رأيت. وفي هذه الواقعة جرح نلسن في رأسه جرحا خفيفا، ومات «برويس» قائد الأسطول الفرنسي بعد أن أظهر من البسالة والثبات ما يجعله في مقدمة أعاظم الرجال.
بلغ نابليون ذلك فحزن حزنا شديدا لانقطاع كل اتصال بينه وبين فرنسا، ولكنه أظهر الجلد واستمر في تقوية مركزه في الديار المصرية، وبقيت مشروعاته تلي بعضها بعضا من غير أن يعبأ باستياء الأهلين، حتى بلغ السيل الزبى، وخرج سكان القاهرة على الفرنسيس خروجا عاما في (10 جمادى الأولى/22 أكتوبر)، أي بعد نزولهم مصر بشهرين تقريبا.
بعض أعضاء المجلس النيابي: (1) السيد خليل البكري، (2) الشيخ عبد الله الشرقاوي، (3) الشيخ المهدي الكبير، (4) الشيخ سليمان الفيومي. (رسم علي أفندي يوسف، عن مجموعة بدار الكتب السلطانية).
بيان واقعة بوقير البحرية أغسطس سنة 1789.
وتلخص أهم أسباب هذه الثورة فيما يأتي: (1)
قتل الفرنسيس للسيد محمد كريم - حاكم الإسكندرية - لاتهامه بمخابرة المماليك. (2)
غلو الفرنسيس في ضرب الضرائب وكثرة إلحاحهم ولجاجهم في الاستفسار عن الأملاك الشخصية. (3)
هدم بعض المساجد لتحصين القاهرة. (4)
خوف الأهلين من بعض إصلاحات نابليون وحملها على محمل سيئ، مثل هدم أبواب الحارات. وكانت هذه الأبواب تغلق في الليل فتصير كل حارة كأنها حصن في ذاتها. (5)
انهزام الفرنسيين في موقعة بوقير البحرية، وسماع المصريين بأن الباب العالي أرسل جيشا لفتح مصر.
وقد استفحل أمر الثورة وأظهر فيها عوام القاهرة إقداما كبيرا لم يعهد فيهم من قبل؛ فذبحوا كثيرا من رجال الفرنسيين، ثم تحصنوا في الأحياء الوطنية - داخل حدود مدينة الفواطم - ونصبوا المتاريس على مداخلها، ووقفوا يدافعون عنها بما لديهم من الأسلحة والذخيرة . ولكن ماذا تجدي الشجاعة والحماسة أمام القوة والعلم؟ فإن نابليون لم يكد يسمع بالخبر حتى طار برجاله إلى مواضع المتاريس، فصوب عليها المدافع، ثم رأى أن الثائرين لجهلهم لم يحصنوا التلول المشرفة على القاهرة من الشرق
5
فأسرع بإرسال المدافع لتنصب عليها، وطاول زعماء الثورة؛ يطلب منهم الصلح خديعة منه ليتم له نقل المدافع إلى المواقع المذكورة، فلما أصبح الصباح ورأى الثائرون المدافع مصوبة عليهم استولى عليهم الفزع، وعلموا أنهم وقعوا في شرك أعمالهم، ولما انهالت المقذوفات طول المساء على حي الأزهر - مقر المشايخ ومنبعث الفتنة - هاج الأهلون وماجوا، واضطر المشايخ إلى الذهاب إلى بونابرت وإظهار خضوعهم له، فأشبعهم تأنيبا وتعنيفا على ما سببوه من سفك الدماء، ثم أمر بالكف عن إطلاق النيران وأمسك الأهلون أيضا عنه، إلا سكان حي الحسينية - ومعظمهم من طائفة الجزارين - فإنهم لما فطروا عليه من الشدة والعنف استمروا في القتال حتى نفدت جميع مقذوفاتهم، والفرنسيس يصلونهم طول الوقت نارا حامية حتى ألحقوا كثيرا من الضرر بحيهم، وما زالت آثار هذا التخريب باقية إلى الآن.
ثم دخل الفرنسيس المدينة وتجولوا في أسواقها لإعادة النظام والسكينة، ثم دخلت طائفة منهم الجامع الأزهر بخيولهم، وحطموا قناديله، وأزالوا بعض الآيات القرآنية المنقوشة على جدرانه، ثم غالوا فاتخذوا الجامع إصطبلا لخيولهم؛ فعظم استياء الناس، وأرسل المشايخ وفدا إلى نابليون يلتمسون إصدار الأمر بإخلاء الأزهر من الجند، فأجاب ملتمسهم بعد التحذير والتهديد.
فهدأت المدينة ورجعت المياه إلى مجاريها، وإن كان نابليون قلل بعد ذلك من اعتبار المشايخ في الديوان وغيره، وأصبح عملهم قاصرا على نشر المنشورات التي يحثون العامة فيها على التزام السكينة والخضوع للفرنسيس والاعتراف بما أبداه إليهم نابليون من الجميل.
وبعد أن أخمد نابليون الثورة تفرغ لتحصين مصر لصد غارات العثمانيين. وكان هؤلاء قد أخذوا يسعون في استرجاعها، وعقدوا لذلك معاهدة مع إنجلترا وروسيا، وعولوا في فتحها على تسيير جيشين إليها: الأول يزحف على «العريش» من جهة الشام، والثاني يجتمع في جزيرة «رودس» ومنها ينقله الأسطول الإنجليزي إلى سواحل مصر ، إلا أنهم أساءوا التدبير في إنفاذ هذه الخطة؛ إذ وصل الجيش الأول إلى العريش قبل أن يستعد الثاني للقيام؛ فتسنى لنابليون مقابلة كل منهما على حدة بجموع جيوشه، مع أنه كان يضطر إلى تجزئتها لو وصل الجيشان في وقت واحد.
فلما علم نابليون بذلك أسرع بمعظم جيشه للقاء جيش الشام، فبلغ العريش بعد أحد عشر يوما واستولى عليها عنوة، وسقطت «غزة» في يده بعد ذلك بقليل. وفي (اليوم الخامس والعشرين من رمضان سنة 1214ه/3 مارس سنة 1799م) بلغ «يافا» وحاصرها، ولما رأت حاميتها أن لا قبل لهم به استأمنوا إليه فأمنهم، ولكنه غدر بهم واستعرضهم جميعا رميا بالرصاص؛ وتلك وصمة كبرى في تاريخ حياته لا يغفرها له التاريخ مهما انتحل له من الأعذار، وإنه إنما قتلهم جميعا ليخلص من عبء ثقيل هو إطعامهم وحراستهم.
وبعد أن حصن يافا أسرع إلى حصار «عكاء»، فلم يقدر عليها لحسن دفاع حاكمها «أحمد باشا الجزار» ومساعدته بحرا بأسطول إنجليزي بقيادة «السير سدني سمث»، فرجع عنها بعد أن حاصرها 50 يوما.
ولم يكد يصل إلى مصر حتى جاءه خبر وصول البوارج العثمانية إلى الإسكندرية وإنزال 10000 من الأتراك بجهة «بوقير» يوم (9 المحرم سنة 1214ه/13 يونيو سنة 1799م)، فسار إليهم وهزمهم شر هزيمة.
على أن ذلك لم يطيب من خاطر نابليون؛ فإن انقطاع المواصلات عنه بمصر بعد تدمير أسطوله بموقعة «بوقير البحرية»، وعجزه عن الاستيلاء على عكاء التي هي في نظره مفتاح الشرق، وضياع أمله في فتح الهند؛ كل ذلك ملأه يأسا، وذهب أدراج الرياح ما كان له من الآمال في تكوين دولة عظيمة بالمشرق. ثم إن «السير سدني سمث» كان قد أرسل إليه طائفة من الصحف الأوروبية، فقرأ فيها أن الحرب تجددت بين فرنسا والنمسا، وأن الأخيرة استردت شمالي إيطاليا الذي كان قد استولى عليه هو قبل مجيئه إلى مصر؛ فعول في الحال على أن يعود إلى فرنسا سرا، فغادر مصر يوم (19 ربيع الأول سنة 1214ه/22 أغسطس سنة 1799م) بعد أن عهد بقيادة الجيش للقائد «كليبر».
خرج نابليون من مصر وترك الجيش الفرنسي تهدده الأخطار من كل جانب؛ إذ كان عدده قد نقص كثيرا في معارك الشام وغيرها، ودب السخط في نفوس الجند وقلت أموال الخزينة، وأصبح الجيش في حاجة إلى الذخيرة والملابس، وأرسلت الدولة العثمانية جيشا آخر إلى العريش يقوده الصدر الأعظم، وأسطولا إلى دمياط؛ تريد إعادة الكرة على مصر، هذا إلى أن المماليك عادوا إلى مكافحة الفرنسيس. نعم، إنهم في جمادى سنة 1214ه هادنوا المماليك الذين كانوا قد تغلبوا على معظم الصعيد بزعامة رئيسهم مراد بك، بأن ولوا مرادا حكم بلاد الصعيد، بشرط أن يكون خاضعا لسلطتهم مستعدا لمعونتهم، ولكنه كان متربصا بهم النوازل حتى يستبد في قومه بملك مصر.
القائد كليبر (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).
وكان «كليبر» من أكبر قواد الفرنسيس وأعظمهم مهارة، إلا أنه أدرك صعوبة التغلب على هذه الأمور، ورأى من المصلحة أن لا يبقى بمصر، وعرض الصلح على الصدر الأعظم والسير سدني سمث، واتفق معهما على أن يخرج من مصر بجنوده وجميع مهماته، ويسافر إلى فرنسا على نفقة الدولة العثمانية، ويعرف ذلك «بمعاهدة العريش» (شعبان سنة 1214ه/يناير 1800م)، فلما علمت بذلك الحكومة الإنجليزية استنكرت تصرف السير سدني سمث، وأرسلت إليه الأوامر بأن لا يعقد صلحا مع الفرنسيس إلا إذا سلموا جميع جيشهم بمصر. فكان ذلك من الغلطات التي دونها التاريخ للحكومة الإنجليزية؛ إذ إن غرضهم الأصلي لم يكن إلا إخراج الفرنسيس من مصر، وها هو ذا قد عرض عليهم بلا ضرب ولا طعن. فأبلغ السير سدني سمث أوامر حكومته إلى كليبر، فانقطعت بذلك المفاوضات بين الطرفين.
وكان كليبر بعد معاهدة العريش قد سمح لجيش الصدر الأعظم بدخول مصر، فسار وعسكر بجهة «بلبيس»، ثم انتشر عسكره في ضواحي القاهرة والأقاليم المحيطة بها يجمعون المعونات والضرائب، ودخل كثير منهم المدينة، وغفلوا عن احتلال القلاع والحصون التي أخلاها الفرنسيون. فلما تحقق الفرنسيون تغير نية الإنجليز انتهزوا فرصة تشتت الجيش العثماني وأوقعوا بكل قسم منه على انفراده بغتة، وكانت الواقعة الفاصلة بعين شمس؛ فانهزم الترك وتبعهم الفرنسيس إلى «الصالحية»، فتقهقروا إلى الشام.
ولما عاد كليبر إلى مصر وجد أن رؤساء العثمانيين الذين بقوا بالقاهرة هم وبعض المشايخ والتجار أثاروا أهلها وعامتها على الفرنسيس، فهاجوا وملكوا البلد وحصنوا مداخل الدروب ومنعوا الفرنسيس من دخول المدينة؛ فحصلت بين الطرفين مناوشات عظيمة انتهت بعد نحو ثلاثين يوما بإبرام الصلح بينهما على أن يخرج العثمانيون إلى بلادهم، وأن يغرم العلماء والأهلون نحو عشرة آلاف ألف فرنك.
أما شأن مراد بك ومن معه من المماليك في هذه الثورة، فإنهم جاءوا إلى «دير الطين» - الساحل القبلي - ينتظرون لمن يكون الغلب فيكونون معه، فلما حدث ما حدث رجعوا إلى الصعيد.
وبذلك رجع للفرنسيس نفوذهم في مصر ، إلا أنه لم يمض قليل حتى قتل «القائد كليبر» غيلة؛ قتله «سليمان الحلبي» أحد طلبة العلم من نزلاء السوريين، بإيعاز من أحد زعماء المماليك - على ما قيل - وذلك في (20 المحرم سنة 1215ه/14 يونيو سنة 1800م).
فعهد بقيادة الجيش الفرنسي إلى القائد «مينو»، وكان أقل كفاءة من كليبر غير محبوب من الجيش مثله، وكان شديد الميل إلى البقاء بمصر، فتظاهر باعتناق الإسلام وتسمى «عبد الله مينو»، وتزوج ببنت أحد كبار المصريين من أهل رشيد.
ولم يفتر الإنجليز عن العمل على إخراج الفرنسيس من مصر؛ ففي شهر (شوال سنة 1215ه/فبراير سنة 1801م) أرسلوا جيشا بقيادة «السير رلف أبركرومبي» فوصلت السفن الإنجليزية إلى الإسكندرية، وأنزلت الجنود بجهة «بوقير»، ثم وصل جيش عثماني وانضم إليهم. فعهد مينو بقيادة مدينة القاهرة إلى القائد «بليار» وجاء بمعظم الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية؛ فالتحم الفريقان في موقعة فاصلة عند «كانوب» قرب بوقير انهزم فيها الفرنسيس وتراجعوا إلى الإسكندرية، فحوصروا بها ومات «أبركرومبي» في هذه الواقعة فعهد بالقيادة إلى «هتشنسن»، وفي أثناء ذلك تقدم الجيش التركي الذي كان بالعريش، فسار هتشنسن للانضمام إليه بعد أن عهد بفتح الإسكندرية إلى أحد قواده.
فالتقى الجيشان بجهة «الرحمانية» وسارا نحو القاهرة، فلم يأنس بليار من نفسه مقدرة على صدهم وعرض عليهم الصلح على أن تخرج الجيوش الفرنسية من مصر وتسافر مخفورة إلى فرنسا على نفقة الحكومة الإنجليزية، فقبل الإنجليز ذلك، وأنزلت الجنود الفرنسية بقوارب في النيل إلى رشيد وبوقير ونزلوا هنالك في السفن التي أعدت لهم.
فدخلت الجنود العثمانية وبعض رجال الجيش الإنجليزي إلى مصر ومعهم من أمراء مصر إبراهيم بك الكبير والبرديسي والألفي والسيد عمر مكرم وغيرهم، فامتلأت قلوب الأمة المصرية فرحا لتخلصهم من أذى الفرنسيس وجورهم.
أما عبد الله «مينو» فكان قد أصر على الدفاع عن الإسكندرية، فشدد الإنجليز والعثمانيون عليه الحصار، وانتهى الأمر بقبوله التسليم والخروج من مصر بنفس الشروط التي سلم بها «بليار»، فسافر بجنوده إلى فرنسا في (اليوم العاشر من جمادى الأولى سنة 1216ه/18 سبتمبر سنة 1801م)؛ وبذلك تم جلاء الفرنسيس عن مصر بعد أن قضوا فيها نحو ثلاثة أعوام.
ذكرنا فيما تقدم أن نابليون أحضر معه إلى مصر نحو مائة رجل من أكبر علماء فرنسا الملمين بكل فن وعلم، وكان أهم غرض من إحضارهم الانتفاع بآرائهم في كل ما يلزم للجيش والجالية التي كان يرمي نابليون إلى توطينها بالبلاد، فلم يكد رجال البعث يبلغون الديار المصرية حتى انكبوا على دراسة جميع ما فيها من آثار ونبات وحيوان ومعادن، ورسموا كل شيء ووصفوه وصفا مسهبا، وقد نجحوا في أعمالهم نجاحا تاما حتى إنه قيل في وصف الحملة الفرنسية: «إنها كانت علمية أكثر منها حربية.»
وبعد خروج نابليون من مصر عني «كليبر» بتنظيم أعمال هذه الهيئة العلمية؛ فقسم أعضاءها إلى تسعة أقسام: قسم لدرس الشئون الزراعية، وآخر للصناعة والتجارة، وقسم للجغرافيا، وآخر للآثار، وآخر للإدارة، وآخر لدرس الأخلاق والعادات، وهكذا.
القائد مينو (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).
ومن أهم أعمالهم بمصر أنهم فحصوا أمر برزخ السويس وإمكان شق ترعة فيه بين البحرين الأبيض والأحمر، فدرسوا المشروع درسا دقيقا برياسة مهندسهم العظيم «لابير»، وكتبوا فيه تقريرا وافيا كانت له أكبر فائدة للمسيو «ديلسبس» الذي حفر هذه الترعة فيما بعد في عهد الخديوي إسماعيل. ولم ينجز الفرنسيس هذا المشروع إذ ذاك لوقوعهم في خطأ حسابي توهموا به أن سطح البحر الأحمر أعلى من سطح البحر الأبيض بتسعة أمتار.
ومن أعمالهم أنهم درسوا الأمراض الخاصة بالبلاد وطرق علاجها، ولا سيما الرمد، وفحصوا نظام الري وطرق إصلاحه، ومسحوا أرض القطر، ورسموا له خريطة عظيمة نشرت عند عودتهم إلى فرنسا.
أما بحوثهم في الآثار المصرية القديمة فكفاهم فخرا أنهم أول من لفت نظر أوروبا إلى درس هذه الآثار، وأن ما دونوه فيها كان الأساس الأول لبحوث العلماء الأوروبيين بعد، وقد كشفوا كثيرا من المدن والآثار المصرية القديمة، ورسموا لها صورا جميلة،
6
وأشكالا تبين دواخل أهم المعابد وما على جدرانها من النقوش، وكان كل ذلك طبعا بالقلم والقرطاس؛ إذ لم يكن التصوير الشمسي وقتئذ معروفا ، ولا يفوتنا أن رجال هذه الحملة هم الذين عثروا على حجر رشيد الذي كان له الفضل الأكبر في انجلاء تاريخ مصر القديم.
وفي سنة (1217ه/1802م) أمرت الحكومة الفرنسية بجمع أعمال علماء الحملة ونشرها في مؤلف واحد، فظهرت في ذلك الكتاب العظيم المسمى «وصف مصر»
Description de l’Egypte ، فكان أكبر وأوفى مؤلف ظهر إلى الآن في وصف الديار المصرية.
ووافقت الحكومة الفرنسية أخيرا على تجريد الحملة؛ لأنها أخذت تخشى سطوته بعد انتصاراته في أوروبا.
كانت السطوة الحقيقية في هذه الأيام للمماليك، ولكن لما كان هؤلاء يعلمون أنهم أجانب عن البلاد، بعيدون عن أهلها في الشعور والعادات، خشوا ازدياد الجفاء بينهم، وعملوا على اكتساب مودة العلماء ليحببوا فيهم الأهلين؛ فكانوا يشاورونهم في الأمر، ويصغون لرغباتهم، حتى صار للعلماء قول مستمع في إدارة شئون الحكومة.
أما الوالي فلم يكد يكون له من الأمر شيء سوى تسلم الجزية وإرسالها إلى السلطان. وكان المماليك دائما يرتابون في إخلاصه لهم ويخشون دسائسه لدى الباب العالي، حتى إن «مراد بك» قال لبكر باشا في هذا الاجتماع الذي نحن بصدده: «إن الفرنسيس ما قدموا إلى هذه البلاد إلا برضاء الباب العالي، إن لم يكن بإيعاز منه.»
وكانت إذ ذاك مدينة تجارية عظيمة وتمتاز عن الإسكندرية بكثرة حدائقها وجمال منظرها.
لأن أكثر الترع كان نيليا.
أي من جهة باب الوزير وباب البرقية «جبانة المجاورين».
هذه الصورة بعضها مطابق تماما لحالة الآثار وقت رسمها وبعضها يمثل شكلها في أيام رونقها، واستعانوا في رسمها بالنظر إلى الأجزاء التي لم تنهدم في الأثر واستنتاج شكل التي تهدمت بطريق المحافظة على التماثل في البناء.
الفصل الثاني
محمد علي باشا (1) نشأته ونهوضه
ولد محمد علي باشا ابن إبراهيم أغا من سلالة ألبانية ببلدة «قولة» أحد المواني الصغيرة التي على الحدود بين تراقية ومقدونية عام (1183ه/1769م)، وهو العام الذي ولد فيه «ولنجتون» القائد الإنجليزي العظيم «ونابليون» الفاتح الكبير، ولكل منهما أثر عظيم في تاريخ حياة المترجم. وإنه لمن العبث أن نسرد هنا الأقاصيص التي تعزى إليه في حداثة سنه؛ إذ لم نعثر عليها في أصل يعتمد عليه.
توفي والده إبراهيم أغا وهو في سن الطفولة، فتولى أمره عمه «طوسون»، غير أن هذا وافته منيته بعد مدة وجيزة، فقام بأمر تربيته أحد أصدقاء والده، وقد تبناه وعني به حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، فتعلم طرفا من الفروسية واللعب بالسيف، ثم زوجه إحدى قريباته، وكانت من ذوات اليسار. وخدم حاكم قولة، واكتسب رضاه بما كان يأتيه من ضروب المهارة والحذق في جباية الأموال من القرى المجاورة التي كانت لا تؤدي ما عليها إلا بالشدة واستعمال القوة الجبرية، وأعانته ثروة زوجته على الاتجار في الدخان، فاصطحب المسيو «ليون» أحد صغار التجار - ويغلب أنه كان وكيلا لأحد المحال التجارية بمرسيليا مسقط رأسه - وشاركه في الاتجار في هذا الصنف، فلم تعد عليه هذه التجارة بالأرباح الطائلة، إلا أنه استفاد فائدة جمة من مرافقته للمسيو «ليون»؛ فاكتسب منه كثيرا من العادات والآداب الفرنسية التي تركت في نفسه أثرا عظيما، وساعدته مساعدة كبيرة في بقية أطوار حياته.
هذا كل ما رواه التاريخ من سيرته الأولى، وهو يحملنا على أن نترك الثلاثين سنة الأولى من تاريخ حياته صحيفة بيضاء؛ وذلك أمر لا بد منه لمن نشأ في بلدة صغيرة لم تكن ذات شأن كبير من قبل.
وقبل أن نشرح طريقة استيلاء محمد علي على الديار المصرية وإبادته للمماليك يجب علينا أن نصف حالة الدولة العثمانية في إبان شبابه، حتى يتمكن القارئ من الوقوف على سر نجاحه: كانت الدولة العثمانية إذ ذاك مكونة من عدة شعوب مختلفة، ذوي أديان متباينة ونحل متضادة؛ مما طرق إليها الضعف، وأدخل عليها الوهن والاختلال الذي كاد يبلغ أقصاه في عصر محمد علي؛ إذ قد بدأ في عهد صغره أمر «علي باشا والي يانينة»، وهو أيضا من الألبانيين: أولئك القوم الذين فتحوا الشرق بقيادة الإسكندر، واستوطنوا مصر في عهد البطالسة، وهددوا رومية في زمن بيروس. خرج ذلك الرجل على دولته، فنكث فتلها، وأقلق بالها، واستقل بأمر ألبانيا مدة خمسين عاما انتهت بقتله غيلة سنة (1237ه/1822م).
وكانت كذلك جميع أجزاء الدولة مفككة العرى ثائرة على الباب العالي؛ فمصر والأناضول وسورية كلها كانت في فتن وقلاقل، وبلاد العرب مع الدولة في حرب عوان، وكانت الولاة في يانينة وبغداد كأمراء مستقلين، واستقل بالفعل في عكاء أحمد باشا الجزار، وشرع يحذو حذوه معظم ولاة الدولة، ووقف دولاب أعمال الحكومة الداخلية جملة، وكان الجيش مؤلفا من رعاع الناس وسفلتهم، وكان السلطان أشبه بسجين أو ألعوبة في يد وزرائه وعساكره الإنكشارية، وكان الباب العالي مكونا من فئة الوزراء الذين يتهددهم الخطر في كل لحظة؛ فقد كان كل منهم يتحين الفرص لاغتيال زميله، أو للسعي في عزل السلطان وتولية غيره؛ ليكون هو الصدر الأعظم الجديد.
تلك كانت حال الدولة بالاختصار في شبيبة محمد علي، ومنها يسهل تفهم أطوار حياته وعلاقته مع الدولة. وبالرغم من كل هذا كان عامة مسلمي الدولة مطيعين خاضعين للسلطان من آل عثمان؛ لأنه خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والإمام الواجب تنصيبه دينا، ولو لم يكن له من الأمر شيء. بخلاف الوزير أو الوالي اللذين لم يكن كل منهما في نظرهم إلا فردا من رجال الحاشية توصل إلى مركزه السامي بالحظوة أو الرشوة؛ لذلك نرى أن كل الفتن والقلاقل في ذلك العهد كانت نتيجة المنافسة القائمة بين حكام الأقاليم ورجال الباب العالي، وأن فوز أحدهم بأمنيته كان متوقفا على حسن الحظ والإقدام والخداع، لا على الكفاءة الشخصية والمواهب الطبعية.
بلغ محمد علي الثلاثين من عمره عام (1212ه/1798م)، وكان لا يزال في مسقط رأسه بين أولاده الثلاثة: إبراهيم وطوسون وإسماعيل. وقد ذكرنا أن تجارة الدخان لم تعد عليه بربح طائل؛ لذلك كان ميالا للاحتراف بمهنة أخرى، فلم يلبث إلا قليلا حتى دخل في طور جديد من أطوار حياته، والسبب في ذلك يرجع إلى الحملة الفرنسية على مصر.
وذلك أنه في (سنة 1213ه/عام 1799م) أعلن الخليفة الحرب على الفرنسيين لغزوهم مصر، فأصدر الأوامر بجمع الجيوش من أنحاء الدولة، فجمع حاكم قولة «الشربجي» فرقة عددها 300 من الجنود المتطوعين -الباش بزق - بقيادة ابنه «علي أغا»، ورافق محمد علي هذه الفرقة وكيلا له عليها، فتوجهت بطريق البحر إلى الدردنيل، ومن ثمة انضمت إلى عامة الجيش في جزيرة رودس.
ولما وصل الجيش إلى ميناء بوقير من الديار المصرية التحم بالجيش الفرنسي، فكانت الدائرة على الترك، واضطرهم الفرنسيون إلى الالتجاء لسفنهم وسفن الإنجليز المرافقة لها بعد مذبحة شنيعة. وكان محمد علي قد أشرف على الغرق لولا أن قيض الله له «السير سدني سمث» فانتشله من الماء بيده وأنزله في سفينته.
وبعد ذلك رجع محمد علي إلى بلدته، ثم عاد سنة (1215ه/1801م) مع جيش «القبطان حسين باشا» الذي جاء ليساعد القائد الإنجليزي «أبركرومبي» على إجلاء الفرنسيين. ومن هذا الوقت بقي في مصر حتى صار واليا عليها.
وقد نال إعجاب قائده والقواد الإنجليز بما كان يأتيه من ضروب الشجاعة وشدة البأس عند هجومه على حصن الرحمانية؛ إذ دخله عنوة بعد أن اضطر القائد الفرنسي إلى إخلائه؛ وكان هذا سببا في رقيه إلى رتبة قائد في الجيش. (1-1) نهوض محمد علي
بعد إخلاء الحملة الفرنسية البلاد ورجوعها إلى فرنسا ابتدأت جماعة المماليك تشرئب أعناقها لأن تقبض على زمام الأمور في البلاد كما كانت من قبل، في حين أن الباب العالي كان يطمح إلى طرد المماليك من الديار المصرية، واسترجاعها بعد أن اغتصبت منه مدة من الزمان، لكن المقادير جاءت بعكس ما أمل الفريقان؛ إذ أراد الله أن تكون نصيبا لمحمد علي.
بدأ النزاع بين الباب العالي والمماليك عندما أراد الأول أن يستقل بالسيادة في مصر، فاستخدم للتغلب عليهم طريقة غير مقبولة؛ وذلك أن القبطان حسين باشا دعا البكوات العظام من حزب مراد بك إلى معسكر بوقير، بعلة التفاوض معهم في صيرورة حكومة مصر، فكان معظمهم غير مرتاح البال إلى هذه الدعوة، إلا أن خوفهم من نزع السلطة كلها من أيديهم حملهم على تلبيتها، وطمأن خاطرهم قرب معسكر القائد «هتشنسون» الإنجليزي.
قابلهم الباشا القبطان بتهلل واستبشار وأكرم مثواهم، ثم دعاهم إلى ركوب زورق له لزيارة القائد الإنجليزي، بحجة أنه يريد أن يتفاوض معه أيضا، ولما بعدوا عن الشاطئ قليلا لحقه زورق يحمل بعض الأوراق، فاستأذنهم ليقرأها على انفراد وترك الزورق بمن فيه من البكوات؛ فظهر لهم عند ذلك أنه يريد بهم سوءا، فأمروا النواتي بالرجوع فامتنعوا وأطلقوا عليهم النار، فقتلوا ثلاثة وجرح عثمان بك البرديسي واثنان آخران، فلما علم القائد الإنجليزي بذلك استشاط غضبا، فاعتذر له الباشا القبطان بأسباب واهية. وفي الوقت الذي حدثت فيه تلك الحادثة عند ساحل البحر كانت تمثل الرواية نفسها في القاهرة، وقد احتمى معظم من بها من البكوات بالمعسكر الإنجليزي فيها، فأسعفهم القائد «رمزي» رغم إلحاح الصدر الأعظم في تسليمهم إليه؛ فكانت هذه الحادثة مدعاة إلى اشتعال نيران الحقد في صدور المماليك، وقد زادها لهيبا جعل «محمد خسرو» مملوك الباشا القبطان واليا على مصر في (ربيع الأول سنة 1216ه/يوليو سنة 1801م)؛ حصل له القبطان ذلك المنصب بتوسط الصدر الأعظم يوسف باشا لدى الباب العالي.
ويعتبر خسرو باشا الوالي الجديد على الديار المصرية من أشهر رجال الترك في القرن الثالث عشر، وكان ذا حظوة عظيمة لدى السلطان، وقد خاصم محمد علي مدة نصف قرن كان في أثنائها عدوه المبين لأسباب سنذكرها في موضعها. وكان من الذين يعتد برأيهم في جسام الأمور ومعضلات السياسة كما سيجيء، ولا يعزى فشله في مصر إلى قلة الذكاء والشجاعة، بل لأنه ابتدأ حروبا داخلية في وقت كانت فيه خزانته خلوا وجيشه غير مدرب، على قوة عظيمة من فرسان المماليك الذين كان في قبضتهم خيرات البلاد وفيضها.
ومن العبث أن نتجاهل ما كان للمماليك من المزايا العظيمة التي يمتازون بها على الأتراك في حربهم لهم؛ وذلك لأنهم التحموا بالجيوش الفرنسية أكثر من الأتراك، فاقتبسوا من طرقهم الحربية ما زادهم فوقا على الأتراك، ذلك إلى أنهم يعرفون البلاد أكثر من جنود الترك الذين وصلوا إليها حديثا، وأنهم كانوا لا يزالون أصحاب النفوذ والسلطان في البلاد.
فلما أراد «خسرو» مطاردتهم ونزع البلاد من أيديهم، ظهرت كل هذه العقبات أمامه، فضلا عن أنهم القابضون على أزمة الأحكام في المديريات، فأصبح القصد إذن من حربه لهم انتزاع البلاد من قبضتهم؛ فأرسل لذلك «طاهر باشا» قائد الألبانيين بجيش كان نصيبه الخيبة والفشل، وطارده عثمان بك البرديسي قائد المماليك من الوجه القبلي إلى الوجه البحري حتى ساحل البحر. ولما وصلت أخبار هذه الهزيمة إلى خسرو أعد مددا أرسله بقيادة محمد علي، وكان ممن نال ثقة خسرو في هذا الحين، إلا أن عثمان بك بادر إلى مناجزة الجيش التركي قبل أن يصل إليه المدد الذي كان يقوده محمد علي، وبدد شمله.
فلما علم خسرو بالهزيمة الثانية وجه لوما إلى الألبانيين وخاصة إلى محمد علي، وأراد أن يحاكمه على تقصيره أمام مجلس عسكري، وكان غرضه بذلك اغتياله، فامتنع محمد علي عن الحضور، ومن هذا العهد ابتدأت بذور العداوة تنبت بين هذين الرجلين؛ تلك العداوة التي فتت في عضد الدولة ومزقت أحشاءها كل ممزق.
وبعد الهزيمة الأخيرة أبت عساكر الترك الحرب كل الإباء لتأخر رواتبهم، وثاروا وحاصروا الخزانة ونهبوا وسلبوا القاهرة، فاعتصم خسرو بالقلعة، وأصلى العصاة منها نار حامية، فأراد إذ ذاك طاهر باشا قائد فرقة الألبانيين - وعددهم 5000 - أن يتوسط بين خسرو والعصاة ، فأبى خسرو وساطته، فانضم إلى العصاة عليه، ولما لم يجد خسرو لديه حينئذ جندا تحميه ولى هاربا إلى دمياط، وبقي بها ينتظر فرصة يسترد بها ما فقده.
ولما علم طاهر بذلك جمع رءوس العلماء وأشراف العاصمة وشاورهم في الأمر، فرضوا أن يكون نائبا عن الوالي عليهم، فأعلن أنه هو الحاكم على مصر حتى يولي الباب العالي خلفا لخسرو باشا، وذلك في (صفر 1218ه/مايو 1803)، وكان من سوء طالع طاهر باشا أنه وقع في نفس الحيرة التي وقع فيها خسرو؛ إذ لم يمكنه دفع مؤخر رواتب الجند، وبعد 22 يوما من قبضه على زمام الأحكام تألب عليه الجند، واغتاله ضابطان - موسى أغا وإسماعيل أغا - بعد أن تظلما له من تأخير رواتب الجنود.
فأصبح محمد علي - بعد هرب خسرو وقتل طاهر - رئيس الأجناد غير المماليك من الأرناءوط وغيرهم؛ لأن رتبته في الجيش كانت تلي رتبة طاهر باشا، ولأنه كان محبوبا لدى العلماء والأهالي لما كان يبديه من العطف والحنان عليهم، فحاز رضاهم بدفاعه، وكاد يعلن نيابته عن الوالي لولا أن رأى مركزه لا يقل خطرا عن مركز طاهر؛ لعدم قدرته على دفع مؤخر رواتب الجند، وعلى مقاومة خسرو باشا والمماليك معا بمن كان تحت إمرته من الألبانيين؛ فرأى أنه من الحكمة والكياسة أن ينضم إلى عثمان بك البرديسي هو ومن معه، فتحالفا ونصبا إبراهيم بك الكبير نائبا عن الوالي العثماني، لكبر سنه ومكان احترامه عند المماليك، وطردوا الإنكشارية من مصر.
وكان بمصر وقتئذ «أحمد باشا» والي المدينة وينبع، مارا بها، يستمد واليها ويتأهب للخروج إلى منصبه، ويؤلف حملة يكافح بها الوهابيين؛ فاشترك في هذه الحوادث وفي مقتل طاهر باشا، وجعل نفسه واليا على مصر، أو على الأقل نائبا عن خسرو ريثما يحضر من دمياط، وكاد يتم له مراده لولا مناصبة محمد علي وإبراهيم بك له وعدم اعترافهما له بأي حق في التدخل في شئون البلاد. ولم يشعر بسلطته أحد؛ لأنها لم تدم أكثر من يوم وليلة، ثم جاءه التقليد من الأستانة بنيابته عن الوالي حتى يحضر، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإنهم طردوه وباقي الإنكشارية من مصر، فخرج إلى الحجاز.
ثم إن البرديسي ومحمد علي تعاونا على إخضاع المماليك الثائرين الذين كانوا يهددون العاصمة، وبعد أن تم لهما ذلك عملا على بت الأمر في قضية خسرو؛ فأعد لذلك عثمان بك البرديسي جيشا بريا، أما محمد علي فإنه جهز أسطولا صغيرا ونزل به إلى دمياط، وكان قد أخذ لذلك عدته، وبعد مناوشات خفيفة أخذ خسرو سجينا إلى القاهرة.
ولما علم الباب العالي بسير الأحوال في مصر استولى عليه الخوف والقلق، واتضح له جليا أن خسرو أصبح غير لائق لولاية مصر، فأصدر عهدا بتولية «علي باشا الجزائري»، ونزل هذا الوالي الجديد بالإسكندرية في (ربيع الأول سنة 1218ه/8 يوليو سنة 1803م)، فرأى أنه لا يمكنه مقاومة البرديسي ومحمد علي بحد السيف، فاتفق معهما ظاهرا، على حين أنه كان يعمل في الخفاء على هدم قوتهما وتكوين حزب وطني مصري يناهض المماليك، ولكن من سوء حظه أن بعض مراسلاته مع السيد «السادات» وقعت في يد البرديسي - وكان هذا ضيفا عنده - فاحتال البرديسي في قتله، وتم له ذلك في (شوال سنة 1218ه/يناير سنة 1804م).
وفي الشهر التالي لمقتل علي باشا الجزائري ظهر رجل ذو سطوة وبأس وأعوان كثيرين، وهو «محمد بك الألفي» الذي يعد من أكبر المماليك في الديار المصرية؛ وذلك أنه رجع من إنجلترا بعد أن مكث بها سنتين، وكان قد سافر إليها عام (1802م) مع الحملة الإنجليزية، وسبب سفره أن الإنجليز كانوا قد عاهدوا المماليك في واقعة سنة (1801م) أن يأخذوا بناصرهم، ليتخذوهم صنائع وأعوانا لهم بمصر إذا اقتضى الحال تدخلهم في شئونها مرة أخرى. فلما رجعت الحملة صار يتغنى قوادها بفروسية المماليك وشجاعتهم وخدماتهم، فسهل على الأمة الإنجليزية تعزيز هذا الاتفاق، وعزموا على مساعدة الألفي وحماية المماليك. فلما وصل إلى السواحل المصرية علم أنه لا يمكنه الوصول إلى ضالته إلا بتوحيد قوى المماليك وجعلهم تحت حماية الإنجليز، وكان ذلك لا يتم له إلا بالاتحاد مع البرديسي عدوه العنيد، وإبراهيم بك الكبير. فلما نزل عند بوقير قابله أعوانه بكل حفاوة وإكرام، وإذ كان في ريبة من أمر البرديسي اتخذ مسكنه في دمياط، وأصدر الأوامر إلى أتباعه بالاجتماع في ضيعته بالجيزة، ومعهم كل ما يمكن جمعه من العدة والعدد، على أن يلحق بهم بعد.
إلا أن وصوله إلى الديار المصرية لم يرق في نظر كل من البرديسي ومحمد علي؛ لأن الأول رأى أن من الخطل أن تكون نتيجة خلعه واليين وقتله ثالثا أن يشاركه في السلطة مناظر كان بعيدا عن الديار أثناء حربه معهم، وفاته أنه لو اتحد مع الألفي كما اتحد مع إبراهيم بك لاستعادوا سلطة المماليك في مصر؛ لأن محمد علي غريب عن البلاد وهو وحده لا يقوى على مقاومتهم، ولكن تدبير محمد علي ودهاءه وسعوده كلها حالت دون اتفاقهم، خصوصا أنه رأى أن البرديسي في قبضته ولا داعي قط لإشراك مملوك آخر في حكم البلاد؛ فاتفق الاثنان على أن يتخلصا من محمد الألفي، وفعلا حاصر محمد علي ومن كان معه من الألبانيين قصره في الجيزة وأخذ أتباعه على غرة، وقتل منهم خلقا كثيرا، وفر الباقون. أما البرديسي فسار بجيشه ليفتك بالألفي في طريقه إلى القاهرة، فقابله بالمنوفية هو وحاشيته، فأفلت الألفي من يده وهرب إلى سورية، أما من كان معه فقتل معظمهم وسلب كل ما معهم من المتاع والمال.
اتبع محمد علي أثناء كل هذه المكافحات التي ناصب بها السلطان ومحمد الألفي خطة أظهرت ما كان عليه من الدهاء والحكمة؛ إذ إنه اختفى وراء الستار، وأظهر البرديسي بمظهر العاصي في وجه السلطان والمهاجم للألفي بك، مع أن محمد علي كان يساعده في جباية الأموال اللازمة للجيش الذي كانا يستظهران به على من ينازعهما السلطة.
ولما هرب الألفي من الديار المصرية طلب محمد علي من البرديسي رواتب الجند، وأنذره أنه إذا تأخر اضطر إلى تركه وحيدا وساعد الترك عليه وانضم إليهم، فلم يسع البرديسي إلا تلبية طلبه، وبذل كل جهده في جباية ما يلزم من المال بالقوة من التجار، فأثار غضب الأهالي وهيجهم، ولا سيما أن ذلك أعقب ضرائب فادحة جمعتها الحكومة واستعمل الجباة في استخراجها العنف والشدة معهم؛ إذ كانوا يضربون من يمتنع منهم، وقد يقتلونه.
فانتهز هذه الفرصة محمد علي وانسلخ من البرديسي، وأظهر استياءه لجمع هذه الضرائب الفادحة، ووعد الأهالي بالأخذ بناصر الذين يعارضون في جمعها، فمال إليه الناس، وأصبح محبوبا عند عامة أهل القاهرة وأشرافها، ولما وثق من أن الرأي العام يؤيده، وأن هذه أحسن فرصة للقضاء على سلطة البرديسي والتخلص منه ومن أتباعه، قام في فجر يوم (30 ذي القعدة سنة 1218ه/12 مارس سنة 1804م) هو وجميع من التف حوله من الجند وحاصروا قصر البرديسي - الذي كان محصنا بالمدافع - فتمكن محمد علي من رشو رجال مدفعية البرديسي فحولوا مدافعهم على سيدهم؛ إلا أن البرديسي وإبراهيم بك الكبير اقتحما الطريق وفرا هاربين إلى بلاد سورية.
فصفا الجو عندئذ لمحمد علي، وأصبح صاحب الكلمة النافذة في القاهرة، إلا أنه رأى الفرصة لم تحن بعد للقبض على زمام الأمور في الديار المصرية للأسباب الآتية: (1)
أنه رأى لا بد من أن عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي سيتفقان على مناوأته، وهو لا يقوى على مكافحتهما متحدين. (2)
أن أتباعه من الجند لم تكن إلا عصابة صغيرة من الألبانيين لا تقوى على منازعة جميع الماليك. (3)
أنه كان يعتبر في هذه الفترة خارجا على الدولة لاشتراكه في خلع خسرو، وأن الدولة ربما أرسلت جيشا لقهره والضرب على يده.
فأراد أن يتخلص من هذا المأزق الحرج بإذاعته أنه يريد تحرير القطر المصري من جور المماليك وعسفهم، حتى يكون قد خدم الدولة خدمة جليلة تمحو ما مضى من سيئاته وعصيانه، ومهد السبيل لذلك أنه لما علم أن الباب العالي عين واليا جديدا بدلا من الجزائري
1
قام في الحال وأطلق خسرو باشا - وكان سجينا - ليتولى الأمور حتى يصل الوالي الجديد، ولكن الجند لم يرضوا بأي حال إعادة تنصيبه واليا؛ فاضطر محمد علي بعد إطلاقه بثلاثة أيام أن يسفره إلى رشيد، ومن ثم أبحر إلى القسطنطينية بعد أن أظهر له عجزه عن حمايته.
وبعد هذا الحادث بزمن وجيز وصل «أحمد خورشيد باشا» الوالي الجديد، واعترف بتوليته كل الجيش من ترك وألبان، وأذعنوا له بالطاعة، ولكنه أظهر بعد فترة من الزمن أنه وال ضعيف الإرادة غير كفء لهذا المنصب، وعجز كسابقيه عن دفع مرتب الجند والأتراك، فرجعوا إلى السلب والنهب. أما محمد علي فاتبع الطريق الأقصد، ومنع أتباعه من الألبانيين من مصادرة الأهالي، بل كان بالعكس يجتهد في حمايتهم من ظلم الأتراك وعسفهم. ولما رأى الأهالي ما ارتكبه الجنود ثاروا على الوالي والتجئوا إلى محمد علي ليوقف هذه المظالم، فأمنهم على حياتهم وأموالهم بشرط أن يدفعوا له من المال ما يقوم بحاجة أتباعه من الألبانيين. وفي هذه الأثناء جاء إلى خورشيد باشا الوالي أمر سلطاني باستدعاء الألبانيين وقائدهم محمد علي، فتأهب هو وجنده للرحيل من الديار المصرية، فرجاه كبار الأمة وعلماؤها في البقاء بمصر خوفا من تسلط الأتراك وبطشهم، فقبل ذلك منهم وأبى الرجوع. وفي هذه الأثناء جمعت المماليك جموعها على مقربة من المنية للإغارة على القاهرة، فولى خورشيد محمد علي قائدا على الجيش الذي أعده لمحاربة المماليك، فحاربهم في عدة وقائع لم تكن فاصلة. وفي خلال هذه الحروب وصل جيش من الدلاة من قبل الباب العالي أكثر همجية وأبشع حالا من الجيش الذي في داخل البلاد ليحل محل الألبانيين، فلما علم محمد علي بذلك ظن أنه وقع بين نارين، فقفل راجعا إلى القاهرة وواجه الجيش الجديد جهة «البساتين» و«دير الطين»، وأخبرهم أنه لم يحضر لخلاف ولا عصيان، ولكن لطلب النفقة والمئونة، وأنه يرمي معهم إلى غرض واحد وهو تأييد الوالي والسلطان وإبادة المماليك؛ فانخدعوا بقوله، وأفسحوا له الطريق، فدخل القاهرة دخول المنتصر بعد أن اتفق مع الدلاة وأجزل لهم العطاء والهدايا، فأصبحوا معه على الوالي، وسمح لهم بالذهاب في طول البلاد وعرضها، يجمعون الضرائب ويأكلونها.
ولما عاثت جنود الأكراد - الدلاة - في الأرض فسادا قام الأهالي في وجه خورشيد، وطلبوا من محمد علي أن يحميهم ويكون الوالي عليهم، فقبل ذلك وشن الغارة على الوالي، فاعتصم هذا بالقلعة، ولما لم يجد له وسيلة يتخلص بها من محمد علي اجتهد في الحصول على عهد من الباب العالي بتنصيب محمد علي واليا على جدة، فلم يلتفت محمد علي لهذا التنصيب، وحاصر خورشيد باشا في القلعة، وأطلق عليها المدافع إطلاقا ذريعا، وذلك في (صفر سنة 1220ه/مايو سنة 1805م).
وحينئذ اجتمع علماء البلد ووجهاؤها وأقاموا محمد علي واليا على مصر، فقام إليه الشيخ الشرقاوي و«السيد عمر مكرم» نقيب الأشراف وألبساه «الكرك» إيذانا بالولاية. وكان في يد السيد عمر أمر العامة في جميع أنحاء مصر، لا يعصون له أمرا؛ فأيد أمر محمد علي بنفوذه وجاهه أكثر من 4 سنين تأييدا لم يقم به أحد مثله، وأرسل العلماء رسولا إلى الباب العالي ليلتمس العفو عما فرط منهم في حق الوالي ويرجو اعتماد تنصيب محمد علي خلفا له، فعلم السلطان من ذلك مقدار ميل الأهلين لمحمد علي، وأيقن أنه أصبح صاحب الكلمة العليا في مصر، فوافق على تنصيبه واليا عليها في (ربيع الآخر سنة 1220ه/يوليو سنة 1805م). ولما علم خورشيد باشا بهذا النبأ سلم له القلعة وتخلى عنها. (1-2) توطيد سلطة محمد علي في مصر
كانت لا تزال سلطة محمد علي بعد يوليو سنة 1805 مزعزعة الأركان؛ لأن اختياره واليا كان بالرغم من الباب العالي، فكان أولياء الأمور في القسطنطينية يتحينون أول فرصة للتخلص منه، فإنه وإن كان أدار الشئون المصرية بالضبط والمهارة، وقام بها خير قيام، لا يبعد أن يجاهر يوما ما بالعصيان في وجه الباب العالي كما فعل من قبل. هذا إلى أن ما حاق بالمماليك من المصائب والنكبات المتتابعة جعلهم يتحدون معا على محمد علي عدوهم العنيد، ثم دهمه أمر لم يكن في الحسبان، وهو ورود حملة إنجليزية لغزو مصر، والسبب فيها يرجع إلى تحالف فرنسا مع الترك بعد توليته بعام ونصف، وكانت فرنسا إذ ذاك في حرب عوان مع إنجلترا، فأرسلت الأخيرة حملة لتغزو البلاد المصرية باتفاق مع حليفتها الروسيا مؤملة أن ترجع البلاد المصرية إلى حكم المماليك على الأقل، وتقضي على آمال الترك فيها «وأرسلت أيضا أسطولها ليقتحم الدردنيل»، فساعد الحظ محمد علي باشا وتخلص من كل هذه الأخطار التي كانت تحدق به، الواحد بعد الآخر؛ فأرضى الباب العالي، وقضى على المماليك وسلطتهم، وتغلب بمعونة الأهالي وحامية رشيد على الحملة الإنجليزية.
ذكرنا سابقا أن المماليك كانوا يهددون القاهرة في أول ولاية محمد علي، وكان هذا أول خطر يحدق به؛ لأن جميع ما لديه من الجند كانوا مشاة لا يقوون على مكافحة فرسان المماليك خصوصا في الخلوات؛ حيث يمكنهم الكر والفر بكل نظام وبدون أدنى خطر، فدبر لهم مكيدة أنفذها بعض الموالين له؛ وذلك أنهم اتفقوا سرا مع رؤساء المماليك على أن يفتحوا لهم أبواب القاهرة في يوم الاحتفال بفتح الخليج، أي في الوقت الذي يكون فيه محمد علي وجميع ضباطه مشغولين لاهين في الاحتفال خارج المدينة، على شرط أن يدفعوا لهم مالا في مقابل هذه الخدمة. فاغتر المماليك ووقعوا في هذه الأحبولة، فلما حل اليوم المعهود دخلوا المدينة من باب الفتوح، فلم يجدوا في حراسته إلا ثلة ضئيلة من الفلاحين تغلبوا عليها بدون عناء، ثم ساروا قاصدين باب زويلة، فلما صاروا في قلب المدينة انصبت عليهم النيران من جانبي الشارع من النوافذ، وكان قد استعد لذلك محمد علي، فلما تنبهوا لغلطتهم التجأ أكثرهم إلى جامع برقوق، وسلم معظمهم عندما أمنهم الوالي على حياتهم، إلا أنه رغم ذلك ذبح معظمهم في (جمادى الآخرة سنة 1220ه/أغسطس سنة 1805م).
ثم أراد محمد علي أن يجمع مالا لإعطاء الجند مرتبهم مخافة أن يعزل كسابقيه، وأراد أيضا أن يجزل العطايا إلى أمير البحر التركي - وكان راسيا بأسطوله في مياه الإسكندرية، يحمل الأوامر بمساعدة المماليك على محمد علي. ولما رأى أنه من المحال أن يضرب الضرائب على الفلاحين، ولا سيما أن جميع الأراضي كانت لا تزال في قبضة المماليك، جمع بعض المال من أقباط مدينة القاهرة، ووجد بفحص دفاتر الحساب أن الجباة منهم اختلسوا ما لا يقل عن 4800 كيس، فأجبرهم على دفعها؛ وبذلك أجزل العطايا إلى أمير البحر التركي وأرجعه من حيث أتى، وكان ذلك في أكتوبر سنة 1805. ولم يمر على هذا الحادث إلا زمن يسير حتى عاد أمير البحر التركي نفسه يصحبه «موسى باشا» والي سلونيك ليكون واليا على مصر، ولينتقل محمد علي معه ليتولى منصب موسى باشا؛ فتظاهر محمد علي بإظهار الطاعة لأوامر الباب العالي، ثم ادعى أنه يتعذر عليه أن يغادر مصر توا؛ لأن الجنود أبوا عليه النقلة ولا حيلة له في دفعهم، فإن فئة كبيرة من الضباط عاهدوا أنفسهم وأغلظوا الأيمان والمواثيق ألا يخضعوا لأحد غيره، وأن يعاضدوه ويأخذوا بناصره ولو على السلطان. وقد تظلم العلماء والأشراف لدى الباب العالي، والتمسوا إبقاء محمد علي. ومن حسن حظه أن نشبت في هذه الفترة نار حرب بين الروس والترك، فاضطر الترك بطبيعة الحال إلى استدعاء أسطولهم إلى المياه التركية، فأبحر الأسطول بعد أن أجزل محمد علي العطاء لأمير البحر وموسى باشا معا، وأخيرا وصل إلى مصر في (24 شعبان سنة 1221ه/نوفمبر سنة 1806م) عهد بتأييد محمد علي في منصب والي مصر.
وفي أثناء هذه الحوادث جمع الألفي بك والبرديسي شعث جيشهما، وأوثقا عرى التحالف بينهما وبين البدو، وشنا الغارة على محمد علي في بلاد الوجه البحري، وشجعهم على ذلك الأسطول التركي الذي كان راسيا في المياه المصرية. فاشتبك الألفي مع فرقة أرسلها عليه محمد علي، فانهزمت عند «النجيلة»، ثم انضم الألفي بعد انتصاره إلى البرديسي وحاصرا دمنهور، فدافع الأهالي عنها دفاعا صادقا، وأظهروا شدة وبسالة لم تكن في الحسبان، على حين أن الألفي والبرديسي كانا يتنازعان السيادة والأفضلية، وكان محمد علي يستعد للواقعة الفاصلة بينه وبين المماليك بعدما تخلص من الأسطول التركي كما تقدم، فساعدته السعادة وحسن الجد بموت عدويه العظيمين؛ فمات البرديسي بالحمى في (سنة 1221ه/أكتوبر سنة 1806)، ومات الألفي في (ذي القعدة سنة 1221ه/يناير سنة 1807م)، وبموتهما تفرق أتباعهما أيدي سبأ، وفر معظمهم إلى الوجه القبلي .
ثم وصلت الحملة الإنجليزية التي أسلفنا الذكر عن سبب مجيئها إلى الديار المصرية باختصار، وكان الغرض من هذه الحملة تأييد سلطة المماليك ونزع البلاد من يد الباب العالي، ولكن كانت نتيجة الحملة الفشل التام؛ والسبب في ذلك يرجع إلى غلو الإنجليز في تقدير ما كان لدى المماليك من الجند.
وصلت هذه الحملة في (أول المحرم سنة 1222ه/مارس سنة 1807م) واستولت على الإسكندرية، ثم سير قائدها «فريزر» قوة لتحتل رشيد، فتغلبت عليها أولا لضعف حاميتها، إلا أن الحامية عادت وأخذتهم على غرة وبددت شملهم. ولما علم محمد علي بما جرى في الإسكندرية رجع من مطاردة المماليك في الصعيد إلى القاهرة، وجهز جيشا سيره إلى رشيد، فالتقى هو وأهالي البلاد من رشيد ودمنهور وبعض أهل البحيرة مع الإنجليز عند قرية «الحماد» - جنوبي رشيد - وهزموهم شر هزيمة، ثم ذهب محمد علي إلى جهة الإسكندرية وأراد أن يحاصرها، ولكن ولاة الأمور الإنجليز كانوا أرسلوا إلى قائد الحملة بالرجوع، فأخلى الإسكندرية بعد أن عقد شروط الصلح مع الوالي في دمنهور، وتركت الحملة البلاد المصرية في (رجب سنة 1222ه/سبتمبر سنة 1807م). أما العمارة البحرية التي أرسلتها الأمة الإنجليزية لاختراق الدردنيل فإنها حطمت، ولم ينج منها إلا بضع سفن.
وكان من نتائج هذه الحملة رضاء الباب العالي عن محمد علي، فمنحه السلطان خلعة وسيف شرف، وأمر بإرجاع ابنه إبراهيم إليه - وكان معتقلا في القسطنطينية. وقد صار لهذه الإنعامات السلطانية أثر عظيم في توطيد سلطته؛ إذ كان في هذا الوقت في وجل شديد من جنده، حتى إنه استعد للاعتصام بالقلعة إذا تألبوا عليه. (1-3) القضاء على المماليك
لما وثق الباب العالي من محمد علي أراد أن يستخدمه في إصلاح شئون الدولة، فأول أمر كلفه إياه إخضاع طائفة الوهابيين الذين كانوا يتدخلون في أمر الحج، واحتلوا الحرمين الشريفين وسلبوهما. ولهذه الطائفة مذهب خاص سنتناول الكلام عليه فيما بعد. فجاءت الأوامر إلى محمد علي بإخضاع هؤلاء القوم، فاضطر أن يعد جيشا أعظم عددا وأكثر تدربا من الجيش الذي عنده ، وأن يكون له أسطول لنقل الجنود في البحر الأحمر، فوجد أن لا مندوحة من زيادة الضرائب إلى درجة أقصت عنه كل من كان ملتفا حوله، ولقد كان مركزه إذ ذاك غاية في الخطر، فرأى أن لا يتحرك بجيشه إلى محاربة الوهابيين قبل أن يقضي على البقية الباقية من المماليك، وخاصة بعد أن ظهر له أنهم جميعا مزمعون على قتله. وكان قد رأى أولا أن يتفق معهم، وأرسل لهذا الغرض حسين باشا الأرناءوطي يبلغهم أنه يعطيهم كل ضياعهم، فأبوا ذلك، ففكر في قهرهم بحد السيف، فحاربهم في موقعة عند أسيوط انهزم فيها جيشه، إلا أن المماليك انتكث فتلهم وتفرقوا ثانية في طول البلاد وعرضها، في (أواخر رجب سنة 1225ه/أغسطس سنة 1810م). ولم تمض مدة يسير حتى خدع شاهين بك - رئيس المماليك بعد موت الألفي - واحتال لذلك محمد علي بمنحه كل الأراضي التي على ضفة النيل اليسرى من الجيزة إلى بني سويف وفيها الفيوم؛ فخضع كل المماليك اقتداء به، ووقعوا على شروط الصلح في سلخ عام 1810م، ورجعوا إلى القاهرة واتخذوا مساكنهم في قصورهم كما كانوا من قبل.
وكان شغل محمد علي الشاغل في هذه الأثناء تخليص الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، إلا أنه لم يجرؤ على تسيير جندي واحد إلى بلاد العرب ما دامت المماليك تهدد ولايته وتناصبه العداء، وكان على يقين من وثوبهم به في أول فرصة تتغيب فيها الأتراك عن البلاد، وقد تمثل له جليا مبلغ تحفزهم لقتله غيلة عندما وافته الأخبار وهو في مدينة السويس مهتما بشئون الحملة إلى بلاد العرب من «محمد بك لاظ الكخية» يحذره من المماليك، وكانوا يريدون اغتياله وهو راجع إلى القاهرة؛ فأخذ الحيطة، وبدلا من مكثه في السويس إلى اليوم الذي ضربه لرجوعه تركها في غلس الظلام على ظهر نجيب سريع العدو غير معلن أحدا وجهته، ووصل القاهرة في فجر اليوم الثاني يصحبه أربعة من الخدم؛ فهذه المؤامرة وغيرها جعلته يفكر في القضاء عليهم بأية وسيلة قبل أن يسبقوه إلى ذلك.
وفي شهر (صفر سنة 1226ه/فبراير سنة 1811م) جمع محمد علي جيشا مؤلفا من 4000 جندي في القاهرة تحت قيادة «طوسون باشا» ثاني أولاده، لغزو بلاد العرب وإخضاع الوهابيين، ورأى أنه لا بد قبل مسير الحملة من الديار من الاحتفال بها وتسليم وسام الشرف السلطاني له، فدعا في اليوم المضروب جميع ضباط الجيش والأعيان، وعددا عظيما من الجند، ثم دعا جميع المماليك ورؤسائهم، وأعد لهم وليمة فاخرة تذكارا لهذا اليوم المشهود، فاجتمع الجميع في القلعة في يوم الجمعة خامس صفر - أول مارس - وكان عدد من حضر من المماليك يقرب من الخمسمائة.
وكان الغرض الحقيقي من دعوة المماليك التخلص من شرهم ودسائسهم، فأسر محمد علي بذلك إلى «حسن باشا» و«صالح قوج» الأرناءوطيين فقط، وفي صبيحة هذا اليوم أسر به إلى «إبراهيم أغا» - حارس الباب - فنظم الموكب في القلعة على الترتيب الآتي: ابتدأ الموكب بعساكر الدلاة، ثم تبعهم العساكر الإنكشارية، ثم الجنود الألبانية بقيادة صالح قوج، وتلاهم المماليك، ففرقة من الجنود النظامية. فلما سار الموكب وانفصل الدلاة ومن خلفهم من الإنكشارية عند باب العزب، أمر صالح قوج بإغلاق الباب وأشار إلى طائفته بالمقصود، فأعملوا السيف في رقاب المماليك، وقد انحصروا جميعهم في المضيق المنحدر، وهو الحجر المقطوع في أعلى باب العزب - بين الباب الأسفل والباب الأعلى - الذي يتوصل منه إلى رحبة سوق القلعة. وكان قد جهز محمد علي عددا من الجند على الحجر والأسوار، فلما بدئ بالضرب من أسفل أراد المماليك التقهقر فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا؛ وذلك لوجود خيلهم في مضيق صغير جدا لا يسع جوادين جنبا إلى جنب، وقد أعمل جنود محمد علي فيهم السيف قتلا وفتكا حتى فني كل من كان منهم في القلعة.
ولما قتل شاهين بك كبير المماليك وعلم الناس بهذا الخبر أغلقوا الحوانيت، وصارت العساكر بعد ذلك تنهب وتسلب في جميع أنحاء العاصمة بدعوى البحث عمن هرب من المماليك للفتك بهم، ولما علم محمد علي بما ارتكبه الجنود من السلب، والنهب، ركب جواده ونزل بشخصه يمنع العسكر من ارتكاب هذه الجرائم. وقد حذا حذوه ابنه طوسون باشا في إيقاف الجنود عند حدها. ويقال إن محمد علي كان في شدة الوجل خوفا من خيبة تدبيره، وكان قد أعد الخيل للهرب إذا لم يفلح.
وفي أثناء حدوث هذه الحوادث في القاهرة أصدر في الوقت نفسه أوامره لكل حكام المديريات بقتل من يعثرون عليه من المماليك؛ فكان مجموع من قتل منهم بالقاهرة والمديريات يزيد على الألف. وهكذا انقرضت هذه الطائفة التي عاثت في الأرض فسادا أكثر من ستة قرون، أذاقت في خلالها المصريين كل صنوف الذل والعذاب.
محمد علي في القلعة وقت مذبحة المماليك (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية). (2) الحروب الوهابية في بلاد العرب
من أعظم الثورات المشهورة، وأكبر الفتن الدينية التي شاهدتها بلاد العرب من عهد القرامطة، الثورة التي أضرم نارها الوهابيون؛ وذلك أنهم أثبتوا في حماستهم العسكرية وشجاعتهم البدوية صفات العرب القديمة وتمسكهم بالدين. ومؤسس هذه النهضة رجل اسمه «عبد الوهاب» من بني تميم بنجد، وقد أطلق على ما كان متمسكا به من العقيدة «المذهب الوهابي».
ولد عبد الوهاب صاحب هذا المذهب عام (1108ه/1696م) في قرية تسمى «العيينة» من إقليم «العارض». وقد جاور في أثناء شبابه بمكة والمدينة ومعظم مدن المشرق المشهورة، وخاصة البصرة. ولما رأى في أثناء سياحاته العديدة أن الدين الحقيقي داخله الفساد، وتسلطت عليه البدع والمنكرات، عزم على إصلاح ما أفسده المفسدون. وكانت قواعد مذهبه وسياسته على غاية من الإيجاز في الإصلاح الإسلامي، وهي أشبه بالإصلاح البروتستنتي عند المسيحيين.
وكان الوهابيون في عقيدتهم ومذهبهم على طريق أهل السنة والجماعة، والأساس الأصلي لمذهبهم هو توحيد الله، واعتقاد أن النبي
صلى الله عليه وسلم
إنسان أدى ما يجب عليه من إبلاغ الرسالة، ورفض جميع تفاسير القرآن التي لم تأت من طريق السنة، ومن معتقداتهم أن الناس عند الله سواء، وكلهم عباده، أكرمهم عنده أتقاهم وأصلحهم في أعماله، وبنوا على هذا الاعتقاد أن الاستغاثة بالذين توفوا من الأولياء الصلحاء والأنبياء إثم عند الله ، وبدعة حدثت في الدين يجب استئصالها وإزالة كل أثر يقويها، كالتناصيب التي على القبور والقباب وما أشبهها، فأزالوها وحرموا زيارتها والتوجه إليها والاستغاثة عندها. ويرون أن الحلف بسيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم
جريمة كبرى، ويلعنون من يكثر من الخضوع للموتى لعنا مؤبدا، ولا يلفظون بلفظ «سيد» للنبي
صلى الله عليه وسلم
في صلاتهم.
أما آدابهم فهي على نقاء وصفاء؛ إذ يحرمون جميع الموائع المسكرة وكل المواد المخدرة، ويحرمون جميع أنواع الفجور والفسق والعدول عن الحق والإنصاف والعمل بالحيل والخداع والاغتصاب والمقامرة. أما في شهامة التعصب الحقيقي للدين فإنهم يغارون على كل صغيرة مخلة بالدين الحق، ووجهوا أيضا جل قوتهم إلى تحريم الملابس الحريرية، والترف في العيش، وحلق الرأس، والبكاء والنحيب على الميت.
ولما أراد عبد الوهاب نشر مذهبه قام في وجهه أناس كثيرون واضطهدوه، ففر هاربا إلى «الدرعية»، وهي إحدى مدن نجد وعلى بعد 400 ميل من شرق المدينة، فحماه «محمد بن سعود» حاكمها، ومال إلى مذهبه فاعتنقه وعمل على نشره، وكان غرضه من ذلك أن يمد سلطانه على البلاد العربية ، فاتخذ ذلك وسيلة إلى مطامعه الشخصية، فامتد سلطانه وسلطان ابنه «عبد العزيز» على جميع بلاد نجد من سنة (1159 إلى 1206ه/1746-1791م). ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن عبد الوهاب عاش حتى رأى مذهبه منتشرا في طول البلاد وعرضها، وتوفي سنة (1201ه/1787م) بعد أن بلغ من العمر الخامسة والستين تقريبا، تاركا ثمانية عشر ولدا من عشرين زوجة.
ولقد أقلق بال شريف مكة انتشار مذهب عبد الوهاب وازدياد نفوذ عبد العزيز بن سعود في البلاد العربية، فجرد في عام (1213ه/1798م) حملة على عبد العزيز كان نصيبها الفشل.
ولما أمن عبد العزيز جانب شريف مكة - لأنه كان لا يقوى على مقاومته - وجه جل عنايته إلى نشر مذهب الوهابية، وتوسيع نطاق ملكه في وادي الفرات ودجلة، فلم يوفق إلى ذلك لأن والي بغداد هزمه هزيمة منكرة، وإن كان لم يقتف أثره في أواسط بلاد العرب خوفا من هلاك جيشه في وسط الصحراء؛ ومن ذلك الحين لم يجرؤ عبد العزيز على محاربة والي بغداد، إلا أنه قام في عام (1216ه/1801م) وهاجم «كربلاء» وقتل رجالها، واستحيا نساءها، وانتهك حرمة ضريح الحسين وسلب أشياء كثيرة. وفي العام التالي دخل مكة بدون معارضة من شريفها «غالب»، وكان تركها وانحاز إلى جدة.
وفي نفس العام قام أحد المتعصبين من الأعجام واغتال عبد العزيز وهو يصلي، انتقاما لما ارتكبه من الفظائع في كربلاء، فقام بأعباء الملك بعده ابنه «سعود الثاني»، وهو أعظم رجال هذه الأسرة؛ إذ وصلت في عصره مملكة الوهابيين إلى أوج عزها ومجدها. وقد دخل في السنة التي تولى فيها الضريح النبوي، ونهب كل ما فيه من الكنوز؛ ومن هذا العهد أصبحت بلاد العرب كلها تحت سلطانه، ثم ابتدأ من عام (1221ه/1806م) يتشدد في جمع الضرائب، حتى كره الناس حج بيت الله الحرام، ومن غلوه في مذهبه أنه أغلق أبواب جميع القهوات وحرم شرب الدخان ولبس الحرير وغيره مما يتزين به.
ومما سبق يعلم أن ما كلفه محمد علي من قبل الباب العالي كان في الحقيقة فتح بلاد العرب للدولة من جديد، وكان بقاؤه على ولاية مصر متوقفا على نجاحه في إخضاع الوهابيين. (2-1) حملة محمد علي على الوهابيين
قبل أن يعد محمد علي حملته على بلاد العرب كاتب شريف مكة، ولما وثق من موالاته له، وعلم أنه لم ينقد للوهابيين إلا كرها، جهز جيشا عظيما يبلغ 8000 من الألبانيين، وأرسله بطريق البحر الأحمر في أسطول أعده لهذا الغرض، كان يصنع سفنه قطعا مفككة بالقاهرة، ثم يرسلها إلى السويس على ظهور الإبل لتركب هناك، وقد أفاد من هذا الأسطول فائدة عظيمة؛ إذ به يمكنه أن يسيطر على جميع ثغور العرب، ويصبح في قبضته كل التجارة وطرق الحج إلى بيت الله الحرام.
نزلت هذه الحملة في ثغر «ينبع» بقيادة ابنه طوسون، فلم يلق بها أدنى مقاومة؛ لأن شريف مكة «غالبا» سلمها طوع إرادته؛ ومن ثم سار نحو المدينة. وكان العدو قد كمن له، فتغلب في طريقه بعد مناوشات خفيفة على قريتي «بدر» و«الصفراء»، إلا أن العدو بيته عند «الجديدة» في درب ضيق جدا وكاد يقضي على كل الجيش، فلم يبق منه إلا 3000 جندي التجئوا إلى ينبع بعد أن أنهكهم التعب، وهرب بعد هذه النكبة كل الألبانيين، فلما علم محمد علي بذلك استشاط غضبا وأنب «صالح قوج» رئيسهم على تخاذلهم وما أظهروه من الجبن. وكان يريد الفتك بصالح قوج، لولا ما له عليه من المآثر خصوصا بلاءه في حادثة القلعة، فاكتفى بنفيه من مصر مع من هرب معه من الألبانيين بعد أن أجزل لهم العطاء. وكان يعتقد أنه لا يهدأ له بال ما دامت هذه الفئة الثائرة المتمردة في داخل البلاد.
وفي عام (1227ه/1812م) أرسل محمد علي مددا إلى طوسون بطريق القصير، فسار به نحو المدينة، ودخلها عنوة بعد أن دوخ الوهابيين؛ وكانت هذه ضربة قاضية على سعود الثاني، وابتدأ المذهب الوهابي يتدهور بعض الشيء، ثم ذهب طوسون توا إلى مكة بطريق جدة، فلم يلق إلا الإكرام من شريف مكة وسلمه مفاتيح الكعبة، فأرسلها طوسون هي ومفاتيح الحجرة الشريفة إلى والده، فأرسلها إلى الباب العالي يبشره برجوع الحرمين إلى حوزته. وأراد بعد ذلك طوسون أن يقتفي أثر الأعداء في داخل البلاد؛ فهزمه الوهابيون شر هزيمة عند «طربة»، وهي بلد صغيرة في شرقي مكة وعلى مقربة منها. وكانت خسائر هذه الهزيمة عظيمة جدا، حتى إن سعودا زحف بجيشه على المدينة ثانية وهددها بالأخذ عنوة.
ولما وصل خبر هذه النكبة إلى محمد علي، عزم على أن يتولى قيادة الجيش بنفسه، فأخذ العدة لذلك، وتوجه إلى الأقطار الحجازية، ولما وصل هناك أدى فريضة الحج، ثم علم من بعض الأفراد أن الشريف غالبا مذبذب في ولائه، فاحتال في القبض عليه بواسطة طوسون ابنه، وأرسله إلى القسطنطينية حيث قتل هناك بعد مدة وجيزة.
ثم ابتدأ محمد علي بعض مناوشات مع الوهابيين لم تكن فاصلة، وكان كلا الفريقين يخاف منازلة خصمه.
وفي أوائل سنة (1229ه/1814م) مات سعود الثاني، وبموته فقد الوهابيون أعظم ساعد وأكبر بطل، بلغت في مدته دولتهم شأوا بعيدا لم تبلغه من قبل ولا من بعد؛ فإن عبد الله ابنه الذي خلفه كان أقل منه ذكاء وفروسية وقدرة. وكان آخر ألفاظ فاه بها سعود يوصي بها ابنه الأكبر: «يا عبد الله، لا تدخل في حرب مع الترك في ميدان مكشوف أبدا، والزم أنت وعساكرك في حربهم المواقع الصعبة حتى لا يتيسر لهم النصر، وخذ لنفسك الحذر، ولا راد لقضاء الله وقدره.» ولو اتبع عبد الله هذه النصيحة لما تغلب عليه المصريون قط، إلا أنه خالف والده، والتحم مع محمد علي في أول واقعة عند «بيصل» حيث دارت الدائرة فيها عليه، وذلك في سنة (1230ه/1815م).
ثم حصلت حوادث في هذه الفترة اضطرت محمد علي أن يرجع إلى مصر، منها أنه لما علم بهرب نابليون من منفاه في «إلبا»، وتوقع احتمال غزو الترك للبلاد المصرية، رجع مسرعا بطريق القصير فقنا، ووصل القاهرة في اليوم الذي جرت فيه موقعة «ووترلو». ومنها أنه علم أيضا بتدبير مؤامرات على عزله وقتله، وظن أن ذلك بإيعاز من رجال الباب العالي، أما رئيس المؤامرة فهو «لطيف باشا» أحد المماليك، وكشف سر هذه المؤامرة «الكخيا لاظ أوغلي باشا»، فقتل لطيفا ومن معه بعد أن حاول الهرب والاختفاء، وكان غرضه أن يكون واليا على مصر إذا نجح في قتل محمد علي.
وعند عودة محمد علي هم بتنظيم جيشه على الطراز الغربي، فأبى عليه ذلك الجند، مقلدين الأتراك في ذلك، ولما علم طوسون بتلك الفتن والقلاقل من جهة، وتألب الجيش عليه من جهة أخرى عاد مسرعا إلى مصر، وتوفي بالإسكندرية عقب مرض لم يمهله أكثر من عشر ساعات.
وكان قبل سفره قد عقد شروط صلح مع الوهابيين، إلا أنهم نبذوها ظهريا؛ ولذلك جهز محمد علي حملة أخرى إلى بلاد العرب بقيادة ابنه إبراهيم باشا في (شوال سنة 1231ه/سبتمبر 1816م). ولم يسلك إبراهيم طريق السويس، بل نزل في النيل بجنده - في سفن أعدت لذلك الغرض - إلى قنا ، ومن ثم على ظهور الإبل إلى القصير، ثم إلى ينبع، ومنها إلى طريق المدينة المنورة.
قد أعمل الفكرة ذلك البطل العظيم في استنباط الخطط الحربية التي وقفته بين صميم عظماء الرجال ومشاهير القواد، وأعانه على تنفيذ تلك الخطط مهرة الضباط والمهندسين الفرنسيين، على أن والده قد أوصاه أن يحارب كل قبيلة معاضدة للعدو على انفرد؛ ليكون بذلك أقدر على الفتك بجنودها، وتفريق كلمتها وتمزيقها شر ممزق، كما نصح له ألا يتوغل داخل البلاد، وحذره من الإغارة على الدرعية من طريق غير طريق المدينة المنورة؛ ليحفظ لنفسه خط الرجعة، وليكون وصول المدد إليه من السهولة بمكان. وأول موقعة التحم فيها جيشه مع الوهابيين كانت عند «الريس» سنة (1232ه/1817م)، وفي هذه الملحمة انهزم جيشه هزيمة لم تثن من عزمه، ولم تفت في ساعده، بل استمر سنة كاملة في كفاح وجلاد، حتى ذلل كل صعوبة اعترضته في هذا المضمار؛ ولذلك أخضع قرى كثيرة، وصار قاب قوسين أو أدنى من الدرعية حاضرة الوهابيين، وهي على بعد 400 ميل من المدينة المنورة التي اتخذها قاعدة لأعماله الحربية.
وابتدأ إبراهيم باشا في حصار الدرعية في (جمادى الآخرة سنة 1233ه/أول شهر أبريل سنة 1818م)، فمكث مدة يعالج فتحها وهو مستعص عليه، وفي غضون ذلك انفجر مخزن ذخيرته فلم تفتر همته ولم يساوره اليأس؛ لأنه كان على يقين من استياء العالم الإسلامي أجمع من فظاعة الوهابيين، هذا إلى أن تلك الحروب في الحقيقة كانت حربا بين العنصرين التركي والعربي، وكلاهما يود لو يضعف الآخر أمامه، فيميل عليه ميلة واحدة يكون فيها القضاء المبرم عليه.
عبد الله سعود في سرادق إبراهيم باشا.
بعد ذلك أخذ إبراهيم باشا يمد يد التخريب والتدمير في ضواحي مدينة الدرعية، ليحول بينها وبين المؤنة والمدد؛ وبذلك اضطر عبد الله إلى الخضوع والاستسلام لسيطرته وسلطانه، فسلم نفسه في (ذي القعدة سنة 1233ه/سنة 1818م). ولم يعامله إبراهيم باشا إلا بكل كرامة وإحسان، ثم أرسله إلى والده بالقاهرة فبالغ في إكرامه أيضا، ثم أرسله إلى الباب العالي بعد أن استرد منه كل ما سلبه من الحرم الشريف، وبعد وصوله بزمن يسير أمر به فقتل. فلما بلغ أهل الدرعية مقتله هاجوا وماجوا، وانتثر عقد نظامهم؛ ولذلك أرسل محمد علي في طلب قرابة عبد الله إلى القاهرة، وأجرى عليهم وظائف تقوم بمعاشهم.
أما مدينة الدرعية فأصبحت أثرا بعد عين؛ لأن إبراهيم باشا رأى بقاءها عامرة حجر عثرة في طريقه، ولو تركها من غير تخريب لكانت ركنا مكينا ومعقلا حصينا لأعدائه، فلم يبق عليها لذلك، وساعده على تخريبها الأهالي أنفسهم، تقربا إليه واسترضاء له.
هكذا انتهت الحروب في بلاد العرب بعد القضاء على سلطة الوهابيين، الذين كانوا يدعون أنهم يسعون في سبيل استرداد مجد الإسلام الضائع. (3) فتح السودان
بعد أن تم النصر المبين لمحمد علي وقضى على الوهابيين القضاء المبرم، واستأصل شأفتهم من بلاد العرب، عنت له حاجة شديدة إلى فتح السودان، وضمه إلى سلطانه ونفوذه؛ وذلك لأسباب سياسية ومادية.
أما الأسباب السياسية فتلخص فيما يأتي: لما قضى محمد علي على دولة المماليك في مذبحة القلعة هرب أناس كثيرون منهم واعتصموا بالوجه القبلي، فطاردهم إبراهيم باشا حتى اجتازوا الحدود المصرية، وتحصنوا في دنقلة وأقاموا بها القلاع والحصون، وقد احتال محمد علي في القبض عليهم والإيقاع بهم فلم يفلح.
هذا إلى أن جنده الألبانيين كانوا خطرا عليه في كل وقت؛ لأنهم كانوا لا ينزلونه من أنفسهم إلا منزلة فرد منهم، وكان الضباط يشقون عصا طاعته ويأتمرون فيما بينهم ليسقطوه، ولم يذعنوا للإصلاح الذي أدخله في الجيش؛ ولذلك كان يصدرهم في مقدمة الجيش عند الالتحام ليبيدهم ويقضي عليهم فيربأ بنفسه عنهم، ويستبدل بهم أبناء السودان - الذين شبوا على الشجاعة والصبر ومقاومة أعباء الحروب - بعد تدريبهم على الفنون الحديثة الحربية؛ لأنه اعتقد أن أبناء مصر لا يصلحون للتجنيد لما ينقصهم من الصفات التي تؤهلهم لذلك.
أما الأسباب المادية فتلخص أيضا فيما يأتي: أراد محمد علي فتح السودان ليتسنى له بذلك تجديد طرق القوافل التي كانت بين مصر والسودان؛ فيتسع نطاق التجارة بين القطرين، ويناله من هذه التجارة ما يفرضه عليها من ضرائب ومكوس جمة، حتى يسترد ما أنفقه في محاربة الوهابيين، ويكون ذلك موردا دائميا من موارد خزانته، فضلا عما كان يسمع عن السودان وما فيه من مناجم الذهب الغنية التي يمكن استخراجها والانتفاع بها.
وإن من البواعث التي حركته لفتح السودان ما رآه من أن سعادة مصر متوقفة على استحواذه عليه وضمه إلى ملكه؛ لأن ريف مصر متوقف ريه على روافد النيل العليا؛ ولذلك أصبح من المحتم أن يكون النهر وروافده تحت سلطة واحدة، ليمكنها بذلك توزيع المياه على حسب الحاجة مع مراعاة المصلحة العامة.
ولما عزم محمد علي على إنفاذ رأيه، ورأى أن فتح السودان أمر من العظم بمكان، سير جيشا بادئ بدء إلى واحة سيوة لإخضاعها قبل الزحف على السودان، حتى لا تكون مصدر شر بجواره، فسار هذا الجيش الصغير في (جمادى الأولى سنة 1235ه/فبراير سنة 1820م)، فأخضع سكان الواحة، وصارت جزءا متمما لمصر من ذلك الوقت.
أما حملة السودان فإنها ابتدأت السير من القاهرة في (شوال سنة 1235ه/يوليو سنة 1820م)، وكانت مؤلفة من ثلاثة آلاف راجل، وألف وخمسمائة فارس، واثني عشر مدفعا، وخمسمائة من عرب العبابدة تحت إمرة شيخهم «عابدين كاشف» - وكان قد وعده محمد علي بولاية دنقلة بعد فتحها - فتجمع الجيش في أسوان، حيث رتبت هناك الميرة والذخيرة.
ولما خرج إسماعيل باشا - وهو أصغر أولاد محمد علي - لتولي قيادة الجيش اجتاز هو ومن معه الحدود المصرية، ودخلوا أرض دنقلة، حيث تقيم البقية الباقية من المماليك الذين طاردهم إبراهيم باشا كما تقدم والتجئوا إلى هذا الإقليم.
فلما علموا بذلك انقسموا قسمين: قسما سلم صاغرا بدون معارضة، وآخر ركب رأسه فارا إلى كردفان بعد أن تشتت شمله وناله من العناد والذلة ما ناله.
ومما هو خليق بالذكر هنا أن إبراهيم بك الكبير مات بدنقلة قبل الحملة بزمن يسير، وبموته انقرضت رؤساء هذا العنصر الذي حكم مصر ستة قرون تقريبا.
سار إسماعيل وبيده زمام القيادة العامة ولم يعترضه في طريقه عقبات تذكر حتى وصل مدينة «كرتي»، حيث سحق عرب الشيخية وشتت شملهم في موقعتين فاصلتين؛ ومن ثم يمم جيشه «بربر»، ودخلها بدون مقاومة في (جمادى الآخرة سنة 1236ه/مارس سنة 1821م). وفي 4 شعبان من تلك السنة دخل أيضا مدينة «شندي» التي سلمها الملك «نمر»، وتم له إخضاع قبيلة الشيخية. وما زال إسماعيل متوغلا في البلاد حتى وصل رأس الخرطوم، ثم حول وجهه شطر النيل الأزرق، ولحسن حظه دخل «سنار»، وهي حاضرة أكبر إقليم في السودان، بدون معارضة تذكر؛ وذلك أن سلطانها «بادي» وأخاه كانا إذ ذاك يتنازعان الملك، فنجح إسماعيل في تثبيت عرش «بادي»، الذي قابله بكل تجلة وحفاوة، ثم قبل أن يكون نائبا عن محمد علي في هذه الأرجاء الشاسعة مع الاعتراف بسلطانه. ومن هناك أرسل إسماعيل آلافا من العبيد إلى أسوان؛ حيث أعد لهم معسكر لتدريبهم على الفنون الحربية الحديثة.
وتفشى المرض في جيش إسماعيل أثناء إقامته بسنار، حتى اضطر إلى أن يطلب مددا ومئونة من أبيه لانحطاط قوة الجيش لقلة عدده وفتور عزيمته، ذلك إلى أن جنده كانوا بين قبائل شتى معادية لهم، ولا يمكنهم أن يصدوا هجماتهم إذا ثار ثائرهم وخرجوا عليهم.
لذلك كان إسماعيل قلقا مضطربا، ولكن هدأ روعه وسكن اضطرابه إذ علم بوصول المدد إليه، فرجع قافلا منحدرا إلى ملتقى النيل الأزرق بالنيل الأبيض، حيث وصل المدد الذي أرسله أبوه تحت إمرة أخيه «إبراهيم باشا»، فلما وصل إسماعيل بجيشه والتقى بأخيه اتفقا على تقسيم العمل والجيش معا؛ فكانت مهمة إسماعيل الزحف بجيشه إلى أعالي النيل الأزرق بقدر استطاعته، وأما مهمة إبراهيم فهي الاستكشاف عن النيل الأبيض من الجهة الغربية، وكان الباعث له على ذلك رغبته في الوصول بجيشه إلى المحيط الأتلنتي إذا كان النيل الأبيض متصلا بنهر النيجر، وإذا لم يتحقق له ذلك عاد إلى كردفان وعبأ جيشا يسير به نحو الشمال مخترقا الصحراء حتى يصل إلى طرابلس، ومن هناك إلى البحر الأبيض المتوسط. وإن هذه الخطة لتدل صراحة على مقدار ما كان يطمح إليه محمد علي وأولاده، كما تدل على مقدار هممهم العالية وثقتهم بأنفسهم.
وصل إسماعيل في زحفه على النيل الأزرق إلى «تومات»، أما إبراهيم باشا فقد اعترضه مرض شديد، حال بينه وبين تنفيذ خطته، واضطره إلى العودة لمصر بعد أن وصل جيشه إلى جبل «دنكا» جنوبا.
وفي منتصف عام (1237ه/1822م) أرسل محمد علي جيشا ثالثا تحت قيادة صهره «محمد بك الدفتردار» لغزو كردفان، فهزم بعض القبائل عند مدينة «بارا»، واستولى على الأبيض، وضم إقليم الأبيض إلى مصر.
ومما قام به هذا الجيش أيضا الانتقام من «نمر» ملك شندي على نكايته بإسماعيل ومن معه.
وذلك أن إسماعيل وهو عائد إلى مصر ظافرا منصورا أهان نمرا إهانة شنيعة، فأسرها نمر في نفسه، وأخذ يفكر في طريقة الانتقام من إسماعيل، حتى بيت رأيه على أن يأدب مأدبة فاخرة يدعو فيها إسماعيل ومن معه، فلما تم له ذلك، ولبى دعوته إسماعيل ومن معه، أمر أتباعه وأشياعه بأن يجمعوا حول نزله حطبا ومواد ملتهبة ثم يضرموا فيها النار، ففعلوا فشبت النار في النزل، فدمرته وحرقت جميع من فيه، وكان بين المحروقين إسماعيل، الذي لبى دعوته جاهلا بنيته الخبيثة.
على أن الجيش لم يظفر بقتل نمر، ولكنه أحرق شندي بعد أن أخضع كل الإقليم، وبعد ذلك بنى مدينة الخرطوم سنة (1238ه/1823م)، وجعلها حاضرة البلاد.
ومما تقدم نعلم أن الحملة على السودان لم تقم بتحقيق جميع الأغراض التي كان يرمي إليها محمد علي؛ لأنه لم يجد في السودان ذهبا يفي بنفقات استخراجه من مناجمه، ولأن طرق القوافل لم تثمر لكثرة الضرائب الفادحة التي كانت تجبى على البضائع عند الحدود المصرية. أما التجنيد من أبناء السودان فلم يتحقق تماما؛ لأنه جند منهم جيشا عظيما، ولكن جو مصر لم يكن ملائما لهم؛ فمات عدد عظيم من هذا الجيش؛ ولذلك أضرب محمد علي عن التجنيد منهم، وعاد إلى التجنيد من المصريين.
وقد ازداد الاتجار بالرقيق بعد فتح السودان زيادة عظيمة، حتى اضطرت إنجلترا وفرنسا للتدخل في الأمر، فوعد محمد علي أن يقضي على هذه الحرفة الشنيعة التي تنافي الإنسانية؛ ولذلك خرج لزيارة السودان عام (1254ه/1838م)، وأمر بمنع بيع الرقيق جملة، ولكن رغم ذلك كله بقي الاتجار به منتشرا إلى زمن قريب، ولم يضمحل تماما إلا بعد الاحتلال البريطاني كما سيأتي. (4) أعمال محمد علي باشا في الديار المصرية
مقدمة
علمنا ما كانت عليه البلاد من الفوضى في عهد العثمانيين، وكيف كانت تئن تحت ظلم المماليك وعسفهم، وجور الجنود الأتراك الذين ساموا العباد نهبا وسلبا، حتى عم الفقر وكثرت الاضطرابات، وأصبحت البلاد كأنها بلا حكومة؛ فلم يكن إصلاح هذه الحالة بالأمر الهين على كل من أراد النهوض بالبلاد، وجعلها في صف الأمم الراقية.
فلما قبض محمد علي على زمام الأمور بمصر وهم بإصلاح شأنها، ظهرت أمامه كل هذه الصعوبات، وعرف مقدار الأعباء الملقاة على عاتقه، فلم يدع وسيلة في سبيل تحقيق هذه الأمنية إلا اتخذها. وقد كان يشعر بصعوبة المهمة التي أقدم عليها، حتى قال في حديث له عن إصلاحاته: «إن ثمرة غرسي سيجنيها أحفادي من بعدي؛ لأن بلادا عم فيها الارتباك وساد، ودرست فيها معالم الحكومة وآثارها، وأصبح أهلها في الدور الأول من النشء، وبلغوا من الجهل درجة لا يتسنى لهم معها أن تقوم بعمل نافع؛ لا يدخلها التمدين إلا ببطء.»
ولو نظرنا إلى الأعمال الخطيرة التي قام بها في سبيل إصلاح البلاد لدهشنا من أن فردا واحدا وفق لكل هذه الأعمال التي لا زالت خالدة بيننا إلى الآن؛ فهو الذي وضع أساسا متينا لحكومة عادلة منتظمة، وأنقذ البلاد من ذلك النظام الممقوت الذي وضعه السلطان سليم، وهو تقسيم البلاد بين الوالي المولى من قبل الباب العالي وبين المماليك، وأغاثها من جور الجنود العثمانيين الذين كانوا يغيرون على البلاد إذا تأخر ما هو مفروض لهم، وأنشأ الطرق وحفر الترع وأصلح الزراعة، وشيد المعامل ودور الصناعة، وأسس المدارس الابتدائية والثانوية والعالية، واستحضر إليها كبار الأساتذة الغربيين لنشر العلوم الحديثة بين أبناء رعيته، وأوفد البعوث العلمية إلى أوروبا لتعود مزودة بعلومها ومعارفها وأسرار تقدمها، وكان في ذلك يحارب جهل الأمة حتى قضى على ما عندها من خرافة أو عادة ممقوتة، وكان يسوق التلاميذ إلى تلقي العلوم والمعارف رغم معارضة آبائهم وعويلهم كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون.
قام محمد علي بتلك الأعمال الجليلة التي لا ينكرها إنسان، مع أنه لم ينل في صغره نصيبا من التعلم، كما أنه لم يكن ملما تمام الإلمام بالحضارة الأوروبية؛ ولذلك لا يدهش المؤرخ خطؤه أحيانا في بعض الإصلاحات والمشروعات الصناعية، ولا يأخذ عليه ذلك، بل يغتفر له غلطاته بملء صدره بشفاعة أعماله النافعة.
وإذا قلنا بأن غرضه الأول في مصر لم يكن إلا أن ينشئ له ملكا ينصره بجميع الوسائل الممكنة لجمع الأموال، وحشد الجنود لحروبه العديدة التي لم تجن منها مصر ثمرة تذكر؛ فلا يغرب عنا أنه ما لبث حتى أدرك أن لا قيام لملكه إلا بإصلاح مصر، فأخلص في محبتها، وعمل على أن ينهض بها إلى مستوى الرقي والفلاح قدر استطاعته، مقتديا في ذلك بالدول الأوروبية العظيمة، وكفاه فخرا أنه أول حاكم شرقي أدخل المدنية الحديثة في بلاده، وكثيرا ما كان يصرح في خلال أحاديثه بمحبته لمصر وميله لرقيها. من ذلك أنه قال لأحد الغربيين أثناء حديث له:
لا شك أنك تعلم أن مصر كانت في قديم الزمان سيدة ممالك العالم وعلمها الذي يهتدى به. أما الآن فقد أخذت أوروبا هذه المكانة، وإني لآمل أن يأتي يوم تنهض فيه إلى مكانتها الأولى في التمدين والعمران. وما هذه الدنيا إلا صعود وانخفاض. (4-1) الحكومة في عهد محمد علي
إن من يفكر في الصعوبة التي تعترض الحاكم عند إنشائه نظام حكومة جديدة في بلاد كمصر كانت مجالا فسيحا للسلب والاضطهاد والفوضى؛ لا يسعه إلا أن يعترف بأن ما قام به محمد علي في تلافي هذا الخلل يستحق عليه أعظم ثناء، ويجعله في عداد كبار المصلحين على قلة عددهم وبخل الزمان بأمثالهم؛ لذلك يقابل بالقبول ما بالغ به في مدحه «السير مري» - في مذكراته عن حياة محمد علي - إذ يقول:
إن العالم الإسلامي منذ فناء دولة العرب الزاهرة من بلاد الأندلس لم يظهر فيه حاكم يضارعه في أعماله وصفاته، فمثله مثل صلاح الدين في عدله وتسامحه الديني.
ويجب على من يريد أن يحكم على محمد علي وما أدخله على حكومة مصر من التغييرات، وأن يقارنه بنابغ من ساسة عصره الغربيين، أن يلاحظ الزمان والمكان لكل منهما، حتى تكون مقارنته قوية الأساس، لا يتطرق إليها الخطأ.
تولى محمد علي الحكم فلم يغير ما كان عليه نظام الحكومة في عصر المماليك حتى عام (1241ه/1826م)، وهو العام الذي أدخل فيه التعديل العظيم في نظام الحكومة، متخذا الأنظمة التي وضعها نابليون للبلاد رائدا له.
فأنشأ «ديوانا خديويا»
2
جعل مقره القلعة، وكان يرأسه الوالي، وينوب عنه في غيابه «الكتخدا»، وكان عمله الفصل في الأمور التي ليست خاصة بالقاضي الشرعي أو التي لا يحتاج الأمر فيها إلى عرضها على القاضي، أو على مجلس آخر وذلك لظهورها وجلائها. وكان هذا الديوان يفصل في القضايا التي يعرضها ضابط القاهرة
3
بعد تحقيقها ابتداء في المحارس «القرهقولات».
ثم أنشأ مجلسين: أحدهما كان يسمى «مجلس المشاورة الملكي» وينتخب هو أعضاءه بنفسه، وكان عددهم يتراوح ما بين 30 و40 عضوا، وكانوا ينظرون في شئون البلاد العامة، وعليهم تعرض القوانين قبل سنها. ومع أن رأي هذا المجلس كان استشاريا محضا، تمكن به محمد علي من تخفيف عبء المسئولية الملقاة على عاتقه أمام شعبه وأمام الدول الأجنبية.
وأما المجلس الآخر فكان بمثابة مجلس الوزراء الآن.
وقد أنشأ محمد علي فوق ذلك عدة دواوين أخرى تنم أسماؤها عن اختصاصاتها، وأهمها «مجلس المشاورة العسكرية»، و«ديوان دار الصناعة - الترسخانة - أو البحرية»، و«ديوان التجارة»، وكان هذا الديوان مكونا من تجار مختلفي الجنس والديانة، يرأسهم نقيب - شاهبندر - التجار أو رئيس تجار القاهرة.
وقد اقتضت إدارته الداخلية للبلاد تقسيم القطر إلى سبع مديريات، وإلغاء الأقسام التي كانت في عهد المماليك، ثم قسم كل مديرية إلى عدة مراكز بلغت 64 مركزا، ثم قسم المراكز إلى أخطاط أي نواح، يدير شئونها موظف يلقب بالناظر، وإلى قرى يتولى أمورها العمد ومشايخ البلاد، وكان غرضه من هذا التقسيم تسهيل جمع الضرائب.
بيد أنه رغم هذه الأنظمة والتقسيمات كان يتولى شئون البلاد بنفسه منفردا بالسلطة وحده؛ فكان يفاوض سفراء الدول الأجنبية بنفسه، ويسمع شكوى رعاياه ومطالبهم بلا واسطة، ويتصرف في مالية البلاد، ويقوم بالمشروعات العامة. (4-2) التقدم المادي
أراد محمد علي أن ينهض بالبلاد بإدخال الإصلاحات الغربية فيها ابتداء، وفاته أن البلاد كانت تسبح في ظلمات الجهل، وأنها في حاجة إلى زمن كبير تنفقه في التعليم حتى تصل إلى درجة تمكنها من استثمار الأرض بالطرق الفنية، وإدارة المعامل والسير في التجارة حسبما يقتضيه النظام الأوروبي الذي عمل على إدخاله في البلاد. ولا شك أنه كان يشعر بشيء من ذلك، إلا أن الأحوال التي وجد فيها كانت تحتم عليه السير في هذه الطريق بسرعة؛ إذ كان في شدة الحاجة إلى المال للإنفاق على الجيش ودفع الجزية للباب العالي، وإرضاء أولي الشأن في القسطنطينية، ورأى أنه لا يتم له هذا الغرض إلا إذا جعل جميع موارد البلاد تحت سيطرته مباشرة؛ من زراعة وصناعة وتجارة.
الزراعة
كانت الزراعة أول عمل وجه إليه محمد علي عنايته الخاصة؛ إذ رأى أنها ينبوع ثروة البلاد، وعليها يتوقف أهم دخلها السنوي؛ فجعل زراعة جميع الأراضي تحت إشرافه، كي لا يفر أحد من دفع الضرائب، وتشدد لذلك في المحافظة على الأمن العام، فقبض بيد من حديد على عصابات اللصوص التي كانت منتشرة في جميع أنحاء البلاد.
ولم يكتف بضرب الضرائب الفادحة، بل عزم على نزع ملكية جميع الأراضي ليستغلها على نفقته الخاصة، فلما هم بإبراز هذه الفكرة إلى حيز الفعل قامت في وجهه صعوبات عظيمة كان لا بد من تذليلها؛ وذلك أن الأراضي الزراعية في مصر كان بعضها أوقافا خيرية يدير شئونها جماعة العلماء، وكان جزء آخر كبير جدا ملكا للمماليك أصحاب الشأن والنفوذ في البلاد، وما بقي كان في قبضة عامة أفراد الأمة، فاستعمل محمد علي مع كل طائفة من هؤلاء التهديد والوعيد، حتى أصبح المالك الوحيد لأكثرها؛ فإنه استولى على أملاك المماليك في الوجه البحري بعد حربه مع الإنجليز عام 1807م وطرده المماليك من ريف مصر إلى صعيدها.
واستولى بعد ذلك على معظم الأراضي الموقوفة التي كانت تحت رعاية العلماء، فجعل الوقف تحت رقابته من غير أن يحله، فاحتج عليه العلماء وتجمهروا وعارضوه معارضة شديدة، فأقنعهم بالدليل القاطع أنه الوالي من قبل الخليفة الذي يتولى أمور المسلمين جميعا، فهو أحق فرد في مصر برعاية الوقف؛ ومن هذا الوقت بقي الوقف تحت إشراف الأسرة المحمدية العلوية.
ونزع بعد ذلك ملكية الأراضي التي كانت لبقية الأفراد، مدعيا حق التسلط على كل الأراضي؛ لأنه الحاكم النائب عن الخليفة المالك للأرض بحكم الفتح الإسلامي القديم، فاستحضر كل الملاك وطلب منهم إبراز حقوق ملكيتهم، فقدموا إليه حججهم رغم أنوفهم، فكان يضرب ببعضها عرض الحائط، ويظهر بطلان بعضها، ويمني بعض الملاك أحيانا بعوض يعطاه من الخزانة. ولما أصبحت جميع الأملاك في قبضة يده جمع كل ما لديه من الحجج وأعدمها، وبتعاقب الأيام أصبح من المستحيل معرفة ما كان للمماليك أو للوقوف أو لأفراد الأمة من الأرض؛ إذ لم تقو المحاكم على معارضة محمد علي، وكانت الأهالي تحت رحمته؛ وبذلك أصبح معظم أراضي القطر في قبضة يده إلا جزءا يسيرا كان في قبضة بعض العلماء والأمراء.
اهتم بعد ذلك بتدبير الوسائل التي تسهل عليه زراعة هذه الأراضي، فاستخدم الفلاحين طبعا في زراعتها، فأصبحوا بمثابة الموالي، وكانت القاعدة أنه مادام الفلاح قادرا على دفع ما فرض عليه أداؤه من ثمرتها، يبقى في الأرض يتعيش منها وتخلفه من بعده ذريته.
وظل الفلاحون هكذا محرومين من التمتع بحق امتلاك الأراضي إلى زمن غير بعيد، وذلك عندما سن سعيد باشا قانونه المختص بأرض مصر، وتلاه من بعده قانون المقابلة الذي وضعه إسماعيل باشا، ثم القانون الذي سنته المحاكم الحديثة خاصا بحق امتلاك الفلاح للأرض.
ثم أمر محمد علي مديري البلاد بمسح الأطيان، وتقدير عدد الفدادين التي تخص كل قرية، ماعدا الضياع التي كانت توهب للمقربين وذوي الحظوة؛ فهذه كانوا لا يتدخلون في أمرها، وكانت بالطبع شيئا قليلا، أما العدد الأوفر من القرى المصرية فكانت تحت سيطرة محمد علي؛ إذ كان يدير شئون كل قرية فئة من مشايخ البلد يرأسهم عمدة منصب من قبل المدير، مسئول أمامه عن مقدار ما يطلب من قريته من الضرائب؛ ولذلك كان العمدة يوزع الأراضي على الفلاحين حسب اختياره، ثم يجمع منهم الضرائب على قدر ما يفلح كل من الأرض. وما أشبه الفلاح في هذه الحالة بالحيوان تحت رحمة العمدة! أما العمدة فكان مثله كمثل السوط في يد المدير الذي كان صاحب البأس والسطوة الذي لا يسيطر عليه أحد إلا الوالي مالك مصر الوحيد.
هذه هي الطريقة التي اتبعها محمد علي منذ عام (1223ه/1808م) وسار على مقتضاها 20 عاما، وبها أمكنه أن يجند الجيوش، ويعد الأساطيل، ويحارب الأمم ويخضعها.
وكان من عادته أن يعين أنواع المحصولات التي تزرع في كل بقعة من بقاع المملكة، ثم تؤخذ المحصولات جميعها وتوضع في أهراء الحكومة، ويقدر أثمانها طائفة من رجال الحكومة؛ فكان جزء منها يؤخذ في مقابل الضرائب التي على الأرض، وما بقي تشتريه الحكومة فتصنع بعضها في مصانعها، والجزء الأعظم يباع إلى التجار الأوروبيين؛ وبهذا احتكر محمد علي كل التجارة في مصر.
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نذكر شيئا عن المحصولات التي جلبها هذا المصلح الكبير إلى البلاد ولا نزال ننتفع بها، وكانت نتيجة زرعها ازدياد ثروة البلاد؛ مما أعانه على شن الغارة على أعدائه. وأهم هذه النباتات وأعظمها ربحا للبلاد القطن الذي أشار بغرسه المسيو «جوميل» في عام (1235ه/1820م)، وهو أحد النساجين الفرنسيين المستخدمين بالحكومة المصرية وقتئذ، وقد أنتجت تجارب زرعه محصولا حسنا، لجودة التربة وملاءمة الجو؛ وبذلك ابتدأ طور جديد في تاريخ مصر المادي. وجلب بذوره من الهند أولا، ثم من أمريكا فيما بعد من صنف يعرف بقطن «الجزائر»، وهو أجود نوع في العالم. وقد كان يزرع القطن في مصر قبل عصر محمد علي بقرون عديدة، غير أنه كان من صنف رديء، ولا يعرف تاريخ جلبه إلى البلاد.
وقد عني فرنسي آخر بزراعة القنب في مصر، لصنع الحبال اللازمة للأسطول، بزراعتها من جزائر الهند الشرقية، وأحضر من آسيا الصغرى زراعا مهرة في زراعة الخشخاش، وزرع الغابات والحراج، ليستغني بها عن الأخشاب التي تجلب من البلاد الأجنبية. ولم يفته تحسين زراعة الجنائن؛ إذ أنشأ ابنه إبراهيم باشا في جزيرة الروضة حديقة غناء، فيها من الفاكهة والرياحين ما لذ وطاب، وذلك بهمة رجل أيقوسي من مهرة العالمين بفن الجنائن.
ومما سبق يظهر جليا أن جلب هذه المحصولات وزراعتها، وتحسين حالة الري، - مما سيأتي ذكره عند الكلام على الأعمال العامة - كان من أكبر النعم على مصر لو كان الفلاح يضمن بيع محصوله بأثمان مناسبة، ولكن لسوء حظه كانت معاملاته كلها وبيع محصوله يتوقف على عمال الحكومة الذين يلاحظون الزراعة، وعلى أمانة الذين يقدرون أثمان المحصولات التي كانت تشتري جميعها الحكومة. والظاهر أن الفلاحين كانوا يتحملون في ذلك مغارم كبيرة؛ إذ كانت تشترى منهم بأثمان بخسة وموازين مغشوشة، فضلا عن أنهم كانوا لا يأخذون أثمان سلعهم نقدا، بل في معظم الأحيان يجبرون أن يبادلوا بها مصنوعات معامل الحكومة ترويجا لها.
الصناعة
رأى محمد علي أن الممالك الصناعية بأوروبا على جانب عظيم من الثروة وسعة الرزق، فحاول إدخال صناعاتها في مصر، وأن يشجع الصناعات الوطنية أيضا، حتى يتسنى له صنع كل ما يحتاج إليه من لوازم الجيش ومعدات الأسطول، وينافس الغرب في صناعة المنسوجات.
ولا يخفى ما في ذلك من المصاعب لضرورة جلب الفحم والحديد والأخشاب والآلات من الخارج، ولأنه أيضا يلزم المصريين زمن طويل وخبرة كبيرة حتى يصلوا إلى درجة بها يمكنهم أن ينافسوا أعمال أوروبا. إلا أنه قاوم كل هذه الصعوبات وأنشأ عدة معامل في أنحاء القطر، وفت بغرضه مدة من الزمان.
فمن أهم ما أنشأه معامل الغزل ونسيج القطن والحرير والكتان والصوف. فكان للقطن خاصة ثمانية عشر معملا في أمهات مدن القطر، كالمنصورة ودمياط ورشيد - التي كان ينسج فيها كرباس أشعة السفن - وفي المحلة الكبرى وزفتى ومنية غمر وبني سويف. وأهم هذه المعامل معمل بولاق، وكان يسمى «معمل مالطة» لكثرة المالطيين فيه، وكان رئيسه المسيو «جوميل» الفرنسي.
وأنشأ مبيضة للمنسوجات بين بولاق وشبرا.
وأنشأ في بولاق معملا للجوخ، أحضر له في مبدأ الأمر رجالا من الفرنسيين لإدارته، ثم أرسل الشبان إلى معامل «سيدان» و«ليون» بفرنسا ليتعلموا صناعته، فلما رجعوا حسنوا صناعة هذا الصنف، وصار يستعمل في ملبوس الجيش.
وأسس مصابغ للمنسوجات استعمل فيها النيل - النيلة - الذي كان يستخرج من
وأنشأ كذلك معملا عظيما للطرابيش بمدينة فوه بإدارة رجل مغربي، وجلب له مهرة العمال من تونس، فنجح نجاحا باهرا؛ إذ كان ما يصنعه في اليوم يربو على 720 طربوشا.
وأنشأ أيضا معامل للسكر في الصعيد؛ أهمها معمل الروضة ومعمل ساقية موسى، وأوجد معاصر للزيت، فكان في الوجه البحري منها عشرون، وفي القاهرة أربعون.
وقد وجه عنايته الخاصة إلى إيجاد جميع المواد الأصلية اللازمة لهذه الصناعات في البلاد المصرية؛ فأكثر من زراعة القطن والقنب والكتان - كما أسلفنا - وربى الأغنام وعني بأمرها عناية عظيمة، وجلب كل صنف منها لتحسين نوع الصوف الذي في البلاد، غير أن ذلك لم يجد نفعا لعدم ملاءمة الجو لهذه الأغنام؛ فاضطر أخيرا للعدول عن ذلك بعد أن بذل فيه كل مجهود.
واجتهد أيضا في إنماء دودة القز في البلاد، ليستغني بنتاجها عما يأتي إليه من الخارج، فزرع لأجلها أشجار التوت بوفرة في رأس الوادي، وحفر السواقي لريها، وجلب أناسا كثيرين ممن لهم دراية بتربية دودة القز، فبلغ ما جمعه من الحرير سنة (1249ه/1833م) عشرة آلاف أقة تقريبا.
هذه بعض المصانع التي شيدها محمد علي في أنحاء البلاد، وناهيك بمصانعه الأخرى من المسابك وغيرها من لوازم الجيش والأسطول. ولكنها لم تدم طويلا للصعوبات التي بيناها آنفا، وتلاشى بعضها في مدة حياته، واضمحل الباقي عقب موته، وأصبحت كأن لم تكن؛ يشهد بذلك ما قاله أحد مهندسي الإنجليز من أنه «زار دار الصناعة ببولاق عقب وفاة محمد علي، فوجد فيها من الآلات المهملة ما لا تقل قيمته عن 1200000 جنيه.»
والسبب في عدم اضمحلال هذه المعامل جملة في أيام محمد علي يرجع إلى أمرين؛ أولهما: أنه كان القابض على زمام مالية البلاد، فكان ينفق على هذه المعامل كل ما تحتاج إليه. ثانيهما: أن المحصولات التي كان يشتريها من الأهالي كان لا يدفع ثمنها نقدا، بل كان يبادل بها منهم مصنوعات المعامل. على أن معظم المعامل - كما سبق - أغلق في أواخر أيامه، وبادت البقية الباقية منها في أيام عباس الأول. (4-3) الأشغال العامة
قام محمد علي بعدة أشغال عامة عظيمة، عادت على البلاد بالمنفعة الجليلة والفوائد التي لا تزال مصر تجني ثمارها إلى الآن. ومن أعظم هذه المشروعات ثلاثة: حفر ترعة المحمودية، وإصلاح مرفأ الإسكندرية، وإنشاء القناطر الخيرية. «أولا» ترعة المحمودية:
لا يخفى أن تجارة مصر في ذلك الوقت كانت تتوقف على نهر النيل وفروعه المنتشرة في أنحاء البلاد، وكان أهم الثغور التجارية حينئذ دمياط ورشيد، غير أنهما لوقوعهما عند مصبي النيل تسد فرضهما رمال البحر وغرين النهر؛ مما يجعلهما غير صالحين للسفن الكبيرة التي تنقل التجارة الخارجية. ولاحظ ذلك محمد علي فعزم على تحويل مجرى تلك التجارة إلى الإسكندرية رغم ما بها من العيوب؛ لأنها معرضة للرياح الشمالية الغربية، وماء البحر عندها ضحضاح، فرأى أن من أعظم المشروعات المفيدة لذلك حفر ترعة تربط الإسكندرية بالنيل، فحفرها وسماها «المحمودية» نسبة إلى السلطان محمود الثاني، فأفادت هذه الترعة البلاد فائدة كبرى؛ إذ أصبحت تجري فيها السفن ذاهبة إلى الإسكندرية حاملة حاصلات البلاد في زمن قصير بدون مشقة كبيرة. وقد جمع الألوف من العمال وسخرهم لحفرها من جميع مديريات القطر، حتى تمت في أقرب وقت مع الأبنية اللازمة لها. وقد بلغت نفقاتها 300 ألف جنيه، كما أورده «كلوت بك» في كتابه على مصر.
ومن فوائد هذه الترعة أيضا أنها كانت سببا في عمران البلاد التي مرت بها وإحياء أراضيها من العطف إلى الإسكندرية، بعد أن كان أكثرها غير صالح للزراعة.
أما مدينة الإسكندرية فإنها تغيرت بسببها تغيرا عظيما، وجرت شوطا بعيدا في الثروة والعمارة، وبقيت هذه الترعة أعظم طريق للتجارة بين مصر والإسكندرية حتى أنشئت السكة الحديدية. «ثانيا» ميناء الإسكندرية:
بعد أن حفر محمد علي باشا ترعة المحمودية، كلف «موجيل بك» أن يصلح مرفأ الإسكندرية حتى يتسنى له بناء عمارة بحرية يحقق بها ما تطمح إليه نفسه، ويجذب بها التجار الأجانب إلى الثغر؛ تسهيلا لبيع حاصلات البلاد التي كانت جميعها في قبضة يده. فأصلحه وبنى فيه دار صناعة بحرية وأحواضا لبناء السفن؛ فاتسع بذلك نطاق المدينة، وانتابها التجار من كل حدب وصوب، وأصبحوا يتنافسون في شراء حاصلات مصر، حتى إن إحدى الشركات التجارية الإنجليزية اشترت في عام من الأعوام محصول القطن كله. «ثالثا» القناطر الخيرية:
هذه من أجل مشروعات محمد علي باشا وأعظمها فائدة للزراعة، وقد كان لها الفضل الأكبر في تنظيم الري في الوجه البحري.
وقد قيل إن نابليون لما قدم إلى مصر في غارته المشهورة أدرك الفائدة التي تنجم عن إنشاء قناطر على النيل عند تفرعه لتنظيم المياه في الفرعين وقت انخفاضه؛ لأنه إذا حجزت المياه عن أحد الفرعين اتجه ماء النيل كله إلى الفرع الآخر، فيرتفع سطحه على سطح النيل الأصلي، وتفيض المياه منه إلى الترع فتروي الأراضي، وقال نابليون عندئذ: «إن هذه الفكرة لا بد أن تخرج يوما ما إلى حيز الوجود.»
فلم يمض طويل عهد حتى تحقق ذلك القول، وظهر المشروع إلى حيز الوجود على يد البطل العظيم محمد علي باشا. ومن أهم الأمور التي حدت به إلى إنفاذه انتشار زراعة القطن في الوجه البحري؛ إذ كان ينمو في فصل الصيف ويروى فيه.
وأول فكرة خطرت لمحمد علي لتدارك ذلك أن يزاد في عمق الترع حتى تنصب فيها مياه النيل وقت انخفاضه، فترفع منها بالسواقي والشواديف وغيرها من آلات الرفع إلى الأرض التي يراد ريها. غير أنه اتضح أن إنفاذ هذا المشروع يتطلب أموالا جمة وجهدا عظيما من الحكومة والأهلين لا يكاد يكون في الإمكان.
ثم لاحظ محمد علي أن أكثر ترع الوجه البحري واقع بطبيعة الحال شرقي دال النيل وفي وسطها لارتفاع سطح الفرع الشرقي عن الغربي؛ فعمد إلى زيادة المياه في تلك الترع بإقامة سد أصم على الأخير يكون من أحجار يرمى بعضها فوق بعض، ليمتنع الماء عن فرع رشيد ويرتفع في فرع دمياط فيملأ الترع الكثيرة المتفرعة من هذا الفرع. وفعلا شرع في العمل سنة (1249ه/1833م).
ولكن «لينان بك» - لينان باشا فيما بعد - أحد المهندسين الفرنسيين النبغاء الذين كانوا في خدمة الحكومة المصرية، أشار عليه بعدم إقامة هذا السد الأصم لما ينشأ عنه من حرمان أراضي فرع رشيد، ولرفعه مياه النيل وقت الفيضان في فرع دمياط إلى درجة يخشى منها، وعرض عليه مشروعا آخر، وهو إقامة قنطرتين عظيمتين في عرض فرعي دمياط ورشيد بعد نقطة افتراقهما عند رأس الدال، في كل قنطرة عيون تحكم عليها أبواب ترتج في كلا الفرعين بالتناوب أثناء الصيف، فإذا حجزت المياه وراءها عن فرع ارتفع الماء في الفرع الآخر، وملأ الترع العظيمة التي تستمد منه والتي يتوقف عليها الري الصيفي في الوجه البحري، وفي أيام الفيضان تفتح الأبواب فتسير المياه في مجراها الطبيعي بلا مقاومة.
فأعجب محمد علي باشا بالمشروع الجديد، وأمر بتشكيل لجنة لدرسه والبدء بإنفاذه في الحال.
4
وبعد فحص طويل قر رأي اللجنة على مشروع لينان باشا كما هو ، واختير لموضع القنطرتين موضعان على بعد 9 كيلومترات في فرع رشيد و5 كيلومترات في فرع دمياط. وعمل التصميم على أن تستقي من النيل ثلاثة «رياحات» عظيمة؛ أحدها من فرع رشيد، والآخران من فرع دمياط.
ثم ابتدأ العمل في أواخر (1249ه/1833م)، واستعان محمد علي على إنجازه بسرعة بتسخير الألوف من العمال، ولكن لسوء الحظ انتشر بالبلاد وباء عام (1251ه/1835م)، ففتك بكثير من العمال، وكاد العمل يقف جملة بالرغم من مقاومة لينان باشا ومثابرته. وما زال كذلك في الاحتضار حتى نصب لينان باشا على وزارة الأشغال فلم يعد له ذلك الإشراف المباشر على إنشاء القناطر. وسئم محمد علي بطء العمل، وانقلب شغفه مللا إلى أن أمر بتشكيل لجنة للنظر في الاستغناء عن المشروع، فأقرت اللجنة فائدة المشروع وأوصت بمواصلة العمل فيه، ولكن ملل الباشا كان قد بلغ أشده، فأمر بإيقاف العمل واستعمال ما بقي من المواد المعدة له في غيره من الأعمال.
وبقي المشروع كأن لم يكن إلى أن قدم إلى مصر مهندس فرنسي آخر يدعى «المسيو موجيل» - موجيل بك فيما بعد - عام (1258ه/1842م)، فعرض على محمد علي مشروعا آخر ضمنه إنشاء قلاع على القناطر لجعلها مركزا حربيا للدفاع عن مصر، لعلمه باهتمام الباشا بالشئون الحربية، فأعجب الباشا بالمشروع أيما إعجاب، وأمر لينان باشا أن يمد موجيل بك بما لديه من المعلومات في هذا الشأن.
ويختلف مشروع موجيل بك عن مشروع لينان باشا بأن موضع القنطرتين في الأخير كان على بعد 9 كيلومترات من رأس الدال في فرع رشيد و5 كيلومترات في فرع دمياط، بيد أن موجيل بك رأى إقامة القنطرتين في موضعين قريبين جدا من رأس الدال؛ فصارتا قريبتين إحداهما من الأخرى كأنهما عمل واحد، وفي ذلك تسهيل لإدارة حركة القناطر وصيانتها بعد إنشائها. على أن مشروع لينان باشا كان يمتاز باختيار موضعين صالحين جدا لإنشاء القناطر، لصلابة الأرض عندهما وموافقة الشواطئ لذلك.
فشرع موجيل بك في العمل عام (1259ه/1843م) مبتدئا بفرع دمياط، فلم تعترضه صعوبة تذكر، إلى أن ابتدأ العمل في فرع رشيد سنة (1263ه/1847م). فأخذ الملل يستولي على محمد علي، وأمر أن تضاعف السرعة في إنجاز العمل، فأضر ذلك بالأساس حتى صار من الضروري إصلاحه في العام التالي. ورأى موجيل بك أن يرجئ العمل سنة حتى يصلح وتعظم متانته فلم يرض الباشا. وبينا الأمر كذلك إذ مات محمد علي عام (1264ه/1848م) قبل أن يرى نتيجة المشروع الذي طالما تاقت نفسه إلى إتمامه.
ثم تولى عباس باشا الأول ولم تكن له ثقة في نجاح هذا العمل فأراد توقيفه، لكنه خشي الرأي العام، وسمح بمواصلته. وفي سنة (1269ه /1853م) أغضبه بطء موجيل بك فعزله، وسلم القناطر إلى مظهر بك، ثم استؤنف العمل في إنجاز القناطر دون الشروع في إصلاح أساسها وتقويم ما تصدع منها، فتمت بكل لواحقها من طرق وشرفات وقلاع عام (1277ه/1861م).
وقد قدرت نفقاتها لذلك الوقت بنحو 1800000 جنيه، عدا أعمال السخرة التي لا يستهان بها، وقد قدر «السير ولككس» ما تكلفته القناطر على البلاد بنحو 4000000 جنيه.
وعندما جربت القناطر لأول مرة اتضح أنها لا تفي بكل الغرض المراد منها إلا بعد الإصلاح. وسنأتي على ذكر ذلك عند الكلام على الأعمال العامة التي تمت بعد عام (1300ه/1882م).
القناطر الخيرية.
هذه هي أهم الأشغال العامة التي قام بها محمد علي، وقد كاد يهم بإنفاذ مشروعات أخرى خطيرة، مثل مد سكة حديدية بين السويس والقاهرة، ومثل حفر قناة السويس مما سنتكلم عليه في موضعه. ونقول بمناسبة هذا المشروع الأخير: إنه بعد أن خرجت الحملة الفرنسية من مصر ظل بعض العلماء الفرنسيين يفكرون في إبراز هذا المشروع الخطير إلى الوجود، وقصد جماعة منهم ليحببوا إلى محمد علي حفر هذه الترعة، فقابل مشروعهم في أول الأمر بصدر رحب، وكلف المسيو لينان - لينان باشا - أن يرسم له خطة لذلك، لكنه عاد فتراخى في الأمر. ويقال إنه لم ينظر إلى المشروع بعين الرضى؛ إذ قال مرة في حديث له: «إني لا أريد أن أجعل وادي النيل طريقا دوليا.» وقال في حديث آخر: «إني أخشى أن تكون هذه الترعة بسفورا آخر.»
5 (4-4) نهضة التعليم
تولى محمد علي شئون مصر في عصر ساد فيه الجهل بين أهلها، وانحطت فيه مداركهم، ودرست دور العلم عندهم، وهذه نتيجة طبيعية لحكم المماليك البيكوات، الذين قبضوا على البلاد بيد من حديد مدة وضعوا فيها بين المصري وبين نور العلم الحديث حجابا كثيفا لم يزده طول حكمهم إلا جدة؛ والسبب في ذلك يرجع إلى ما فطروا عليه من الجهالة، وعدم ميلهم إلى التعلم، واعتزالهم العالم بأسره.
فلما رأى محمد علي ما عليه البلاد من التدهور أراد أن يصلح حال رعيته بالتعليم، فوجه إليه شطرا عظيما من عنايته، فاعترضه في طريقه عدة عقبات؛ إذ كان الآباء يمتنعون عن إرسال أبنائهم إلى دور العلم مع تكفله بنفقات تعليمهم وإطعامهم وإلباسهم، وكان يحبب إليهم العلم والتعليم بإعطائهم الرواتب الشهرية. ومن العجيب أنه كان مع هذا يضطر غالبا إلى أن يقود التلاميذ إلى دور العلم بالسلاسل والأغلال. ومن هؤلاء أفراد نبغوا وساروا فيما بعد بالتعليم شوطا بعيدا.
أما المدارس التي أسسها محمد علي فكانت على ثلاثة أنواع: ابتدائية، وتجهيزية، وخاصة، فأنشأ خمسين مدرسة ابتدائية في أمهات البلاد، وكان عدد من فيها من الطلبة أحد عشر ألفا تقريبا، وأسس مدرسة لتعليم نخبة أبناء الأمة سماها كلية الأمراء، كان يتعلم فيها أبناؤه وأبناء الأمراء، بلغ عدد تلاميذها نحو 500 تلميذ.
أما مدارسه الخاصة فكانت عديدة، وأهمها وأعظمها فائدة للبلاد مدرسة الطب، التي قضت على عهد التمائم، والسحر، والرقى وغيرها من أنواع الشعوذة التي كان يتطبب بها المصريون. والفضل في إنشاء هذه المدرسة راجع إلى الدكتور «كلوت بك» أحد نجباء الفرنسيين الذين كانوا في خدمة الحكومة المصرية.
أسست هذه المدرسة بأبي زعبل كطلب الدكتور المذكور سنة (1242ه/1827م)، وكان غرضه من إنشائها ترقية هذا الفن في البلاد حتى يوجد بها أطباء تسد حاجة الجيوش البرية والبحرية. وقد قدم له في هذا الشأن تقريرا جاء في آخره: «يجب أن يكون بمصر مدرسة للطب تكون تلاميذها من المصريين المخلصين، الذين يغارون على بلادهم ويحبون تقدم وطنهم. ويتوصل إلى ذلك بإنشاء مستشفى عمومي يتعلم فيه مائة وخمسون شابا ممن لهم إلمام تام بمعرفة اللغة العربية قراءة وكتابة ومبادئ الحساب، ويجب أن تدرس لهم اللغة الفرنسية وأنواع الطب بفروعه ولا سيما الجراحة، وتكون مدة الدراسة بها أربع سنوات، يختبر التلميذ في آخر كل سنة منها.»
كلوت بك.
فسر محمد علي من المشروع وأمر بتأسيس المدرسة وجعلها تحت رياسة كلوت بك، وأسس محمد علي بجوار هذه المدرسة مدرسة للطب البيطري، وولى رياستها للمسيو «هامون» الفرنسي، ومدرسة للهندسة بالخانقاه جعل رئيسها «لامبير بك » وأخرى للموسيقى بالقلعة، وبنى مدرسة لتعليم الفنون والصنائع، وأخرى لتعليم الألسن، وقد قال عنها «علي باشا مبارك» في كتاب «الخطط» في ترجمة رفاعة بك ناظرها ما يأتي: «عرض رفاعة بك على محمد علي تأسيس مدرسة لتعليم اللغات الأوروبية ينتفع بها الوطن، ويستغنى بمن يتخرج فيها عن الدخي، فأجابه إلى ذلك، ووجه به إلى مكاتب القطر لينتخب التلاميذ لهذا الغرض، فأسس المدرسة، وعند الامتحان امتحن التلاميذ في اللغة الفرنسية وغيرها من العلوم المدرسية فظهرت نجابتهم. ثم أنشأ بها قلما للترجمة، ترجم فيه كثير من الكتب الأوروبية في كل فرع من العلوم، وكان بهذه المدرسة أيضا قسم تجهيزي خاص، فنبغ فيها رجال بارعون في إنشاء اللغة العربية والعلوم. غير أن هذه المدرسة قد ألغيت في عهد عباس باشا الأول.»
ولم يفت محمد علي أمر تحسين الزراعة العملية، فأنشأ لها مدرسة ببلدة «نبروه» من أعمال مديرية الغربية، وأحضر إليها المعلمين وآلات الفلاحة من أوروبا لتدريس هذا الفن علما وعملا، إلا أن جهل الأهالي وقف عقبة كئودا أمام سيرها؛ فاضطر محمد علي إلى نقلها إلى شبرا الخيمة لتكون تحت رياسة «المسيو هامون»، ولكن ذلك لم يجد نفعا أيضا، وأخذت في الاضمحلال حتى أغلق بابها.
ولم تقف همة محمد علي باشا عند إنشاء المدارس في جميع أنحاء القطر، بل أرسل عددا كبيرا من الشبان المصريين إلى أعظم ممالك أوروبا - وخصوصا فرنسا - لتلقي العلوم بها، حتى إذا ما عادوا إلى مصر استغنى بهم عن استزادة عدد الأوروبيين. فأرسل البعوث من المصريين ليتعلموا العلوم الغربية، وليستعينوا بآراء الفرنسيين وأفكارهم وطرق حياتهم على إصلاح شأن مصر. ومن الغريب أن آباء التلاميذ كانوا يندبون حظ أبنائهم الذين ساعدهم الحظ الأوفر باختيارهم للرحيل إلى أوروبا، واستعملوا كل الوسائط لحرمان أولادهم من ثمرة العلم، فلم يثن كل ذلك عزم محمد علي، وأرسل في عام (1242ه/1826م) أربعين طالبا فتحت لهم مدرسة خاصة في باريس عهد أمر إدارتها إلى الأستاذ الشهير «المسيو جومار»، فقام بها خير قيام، واختار لها مدرسين أكفاء، وخصص كل واحد من التلاميذ بدراسة فرع من العلوم خاص ليتقنه. وكان ممن تعلم بهذه المدرسة إسماعيل باشا الخديوي، والأمير أحمد، والأمير مصطفى فاضل، والأمير حليم باشا، وشريف باشا، ومراد باشا، وعلي مبارك باشا.
6
ثم أرسل عام (1248ه/1832م) اثني عشر طالبا آخرين إلى باريس ليتمموا علوم الطب، ثم أرسل غيرهم حتى صار ما أرسله إلى أوروبا إلى عام (1258ه/1842م) يربو على 120 طالبا، أكثرهم إلى فرنسا، وقليل منهم إلى إنجلترا، وألمانيا.
7
وكان ديوان المعارف في ذلك العصر يديره رجل كبير الهمة خطا به خطوات واسعة، وقد أشار إلى ذلك «بيتون» المؤرخ الإنجليزي في كتابه على مصر؛ إذ قال: «إن ديوان المعارف في عصر محمد علي كان في يد «أدهم بك» الذي قام بإدارة شئونه خير قيام، حتى كان أحسن دواوين الحكومة نظاما.»
بعض طلبة البعوث العلمية.
ومع ما بذله محمد علي في نشر العلوم، كان كثيرون ممن زاروا البلاد المصرية من الغربيين في أيامه متفقين على أن أكبر غلطة له أنه أراد أن يطفر بمصر طفرة في سبيل الرقي؛ فكانت النتيجة أن ما تعلمه الأهالي لم يبن على أساس متين. ونحن لا يسعنا إلا أن نقول: إن مساعي محمد علي في تحسين حال التعليم في البلاد كانت من أنجح أعماله في مصر؛ إذ كان هو نفسه ممن يعتقد نفع التعليم الأوروبي، فأثر هذا الاعتقاد في كثير من الأهالي أصحاب النفوذ في البلاد، وكان إدخاله العلوم الحديثة في البلاد ونبوغ الذين تعلموها في مدارس أوروبا من المصريين من الدواعي التي أدت إلى محو كثير من الاعتقادات القديمة في التعليم. ولا شك أن بعض الذين تعلموا في فرنسا نبغوا وبنوا ركنا عظيما في تاريخ مصر الحديث، فضلا عن أن ما ترجموه هم وتلاميذهم من الكتب إلى اللغة العربية وطبع في مطبعة بولاق التي أسسها محمد علي أفاد العالم المصري فائدة خالدة الأثر.
ومن أياديه على العلم أنه شجع العلماء الغربيين - وخاصة الفرنسيين - الذين أتوا إلى مصر ليدرسوا تاريخ الآثار المصرية، ونخص بالذكر من هؤلاء الأفاضل العالم «شمبليون» الذي خص كل حياته بحل رموز هذه اللغة حتى أتيح له ذلك في عام (1236ه/1821م) بعد أن جاهد في سبيل ذلك جهاد الأبطال. ثم العالم «لبسيسوس»، وقد وضع قاموسا لهذه اللغة. ثم العالم «أمبير». وقد حل هؤلاء العلماء مشكلات عويصة في هذه اللغة ومهدوا الطريق لمن جاءوا بعدهم، واشتهروا في هذا الفن إلى وقتنا هذا. (4-5) الجيش
نال محمد علي ولاية مصر بفطنته وذكائه، وباغتنام الفرص والتغلب على من نازعه، وقد حصل ذلك على كره من الباب العالي، وإن استطاع أن يرضيه ويحافظ على مركزه سنين قلائل بما ناله من الفخار بعد قهره الحملة الإنجليزية عام (1222ه/1807م)، وتغلبه على المماليك في جميع أنحاء القطر، وقهر الوهابيين. ولكن بتعاقب الأيام ظهر له جليا أن رضى الباب العالي غير ثابت، وأن لا مندوحة له من تنظيم جيش قوي يعتمد عليه في دفع كل عدو؛ لذلك وجه جل عنايته لإعداد جيش يحميه من تدخل الباب العالي في الشئون المصرية، ويقهر به كل من ناوأه. وقد عظم شأنه بهذا الجيش، حتى قيل إنه كان في نهاية عظمته يريد أن يرث الدولة العثمانية.
ولا يخفى أن قوته كانت في أول أمره مستمدة من أبناء جلدته من العساكر الألبانية، وهو لم يكن في نظرهم ممتازا عنهم إلا برتبيته العسكرية؛ لذلك كان وجودهم حوله خطرا يتهدده في كل لحظة، كما كانت الجنود العثمانية أيام المماليك خطرا على من يرسله الباب العالي من الولاة؛ فعمل على إبادتهم والاستعاضة عنهم بغيرهم ممن هم أقل تمردا وعصيانا.
ولما رأى أنه لا يستطيع إبادتهم مرة واحدة اضطر إلى مجاملتهم في مبدأ الأمر، ورأى أن أهم أسباب ثورانهم وسلبهم ونهبهم في البلاد راجع إلى تأخير رواتبهم، فكبح جماحهم وجعلهم طوع إرادته مدة بدفعه رواتبهم بحالة منتظمة وبذله العطايا لهم.
وفي شهر (شعبان سنة 1230ه/أغسطس سنة 1815م) أراد أن ينظم جيشه على الطريقة الأوروبية، وكان الجنود لا يألفون النظام ولا سيما الأوروبي؛ فعارضوا في ذلك أشد المعارضة، وكانت النتيجة أن شبت نار الثورة في القاهرة، وتآمر الجنود على الفتك به، ونهبوا الأسواق، واضطروه إلى الاعتصام منهم بالقلعة، وقتل في تلك الفتنة كل منظمي الجيش، إلا أنه بحذقه ودهائه تمكن من إخضاع الضباط بالعطايا، وأظهر لهم عدوله عن هذا المشروع، فمال الجند إلى الخضوع.
على أن كل هذا لم يثن عزم محمد علي عن تنظيم الجيش كما أراد، غير أنه اتبع الحيطة والسياسة في إبراز فكرته وتنفيذ غرضه، فأقصى الألبانيين عن القاهرة تدريجا؛ فأرسل بعضهم إلى بلاد العرب، وبعضهم إلى بلاد النوبة، ومن بقي فرقه في معسكرات الأقاليم.
بعد ذلك أسس مدرسة لتعليم النظام الحربي في بلدة أسوان لتكون قريبة من بلاد النوبة وبعيدة عن القاهرة، وعهد بأمرها إلى رجل من ضباط نابليون بونابرت اسمه المسيو «سيف».
ولد هذا الجندي العظيم في مدينة «ليون» من أعمال فرنسا عام 1788م، وابتدأ أول طور في حياته بالخدمة البحرية، وحارب الإنجليز في موقعة «الطرف الأغر»، ثم انضم إلى جيش نابليون البري، وحارب في عدة مواقع بقيادة نابليون. ولم يساعده الحظ في الالتحام بموقعة «ووترلو»، فترك فرنسا قاصدا مصر، حيث نال الحظوة التامة عند محمد علي بما قام به من الخدم التي سنذكرها في موضعها. وقد اعتنق الدين الإسلامي، وترقى في الجيش المصري حتى وصل إلى أعلى رتبة فيه، وكان يعرف بعد إسلامه باسم سليمان باشا الفرنسي - الفرنساوي.
القلعة (منظر عام).
قام ذلك الرجل العالي الهمة بتنظيم هذا الجيش بأسوان مدة ثلاثة أعوام، أعد في أثنائها ضباطا كثيرين ليقوموا بأمر الجيش الجديد، وكان معظمهم من شبان المماليك وصغار ضباط الألبانيين والأتراك، أما العساكر الذين تألف منهم الجيش الجديد فكانوا في أول الأمر من أسرى حروب السودان، غير أن كثرة الوفيات بينهم؛ لعدم ملاءمة الجو اضطرت محمد علي إلى العدول عن التجنيد منهم، وابتدأ يجند الجيش من فلاحي مصر. وقد كان هؤلاء يأبون الانتظام في سلك الجندية كل الإباء، وبذلوا في ذلك كل طاقتهم؛ فكان الآباء يشوهون خلق أبنائه: إما بقطع الأصابع ، أو بفقء العين، أو بنزع الثنايا، وكثير منهم هربوا إلى بلاد سورية. فلم يثن كل ذلك عزم محمد علي، ونجح أخيرا في تجنيد عدد عظيم منهم، صار فيما بعد على جانب عظيم من النظام وكمال العدة، حتى إنه في عام (1238ه/1823م) عندما ثار الألبانيون لما علموا بحرق إسماعيل باشا ابن محمد علي في قرية شندي دخل «سيف» القاهرة يقود 25000 من الجنود المدربين على النظام الجديد ليحموا الباشا من شر هذه الطائفة الطاغية، ويثبتوا قدمه ويوطدوا سلطانه؛ فأنعم على هذا البطل الفرنسي برتبة الكولونيل «بك» مكافأة له على ما قام به، ثم رفع راتبه إلى 1600 جنيه في السنة، ومن هذا الوقت أصبح لمحمد علي جيش يركن إليه، وكان معظمه من السودان والفلاحين.
ثم أسس مدرسة للعساكر المشاة في «الخانقاة». أما الفرسان فاتخذ لهم قصر مراد بك على الضفة اليسرى من النيل، وعهد بأمر تعليمهم إلى أحد رجال نابليون، وهو المسيو «فران». ولم يفته أمر تعليم فرقة خاصة للمدفعية لما يعلمه من الأعمال الجليلة التي تقوم بها هذه الفرقة في حومة الوغى؛ إذ كانت ذكرى حروب الفرنسيس في موقعة أنبابة لا تزال جديدة في ذهنه، وقد أبلت فيها المدفعية الفرنسية بلاء حسنا، فناط بالكولونيل «سيجيرو» الإسباني تأسيس مدرسة للمدفعية، فنظمها وقام بأمرها خير قيام؛ فرفع مقامه محمد علي ومنحه رتبة بك.
ولم يترك محمد علي بابا إلا طرقه رغبة في تقوية جيشه الذي تتوقف عليه قوته وعظمته، فحول جزءا عظيما من قلعة الجبل إلى دار صناعة؛ حيث كان يشتغل فيها مئات من المصريين في صب المدافع وصنع معدات الجنود والذخيرة وكل ما يلزمهم. وكان يشرف على هؤلاء عمال مهرة أحضرهم محمد علي من أوروبا لهذا الغرض، وقد تمكن بكل هذه المعدات من إعداد جيش من أعظم جيوش العالم في ذلك العصر.
ولم يتبع في تأليف الجيش الطريقة التي كان يتبعها في أعماله الأخرى؛ أي السرعة، بل كانت زياداته تدريجية؛ ففي عام (1238ه/1823م) كان عدد الجيش الجديد 25000 جندي، وفي عام (1241ه /1826م) عندما أشعل اليونان نيران حرب استقلالهم بلغ 90000، وفي عام (1248ه/1832م) بلغ 150000 من الجنود النظامية يستعملون 100 مدفع من مدافع الميدان. وقال كلوت بك في كتابه على مصر، عند كلامه على الجيش: إن عدد الجنود المصرية عظم في عصر محمد علي حتى بلغ 276000، منهم 130000 من الجنود المنتظمة، و41000 من المرتزقة - الباشبزق - و19000 بحري، والباقي من المهندسين وغيرهم. (4-6) البحرية
أول أسطول أنشأه محمد علي كان أيام حربه مع الوهابيين، وكان الغرض منه نقل العساكر من السواحل المصرية إلى بلاد العرب، وقد أفاده فيما بعد؛ إذ كان يحافظ به على السفن التجارية الذاهبة إلى الشرق من لصوص البحر، وعلى مر الأيام رأى ضرورة بقاء أسطول في البحر الأبيض لحماية السفن التجارية من لصوص اليونان.
وقبل نشوب حرب اليونان اشترى بعض السفن من البندقية ومرسيليا، وصنع بعضها الآخر هناك على حسابه، إلا أن معظم أسطوله حطم في هذه الحرب في واقعة «نوارين» كما سيأتي بعد في موضعه.
ولما علم محمد علي ما للأسطول من الفائدة بعد هذه الواقعة، أسس في عام (1245ه/1829م) دار صناعة بحرية بالإسكندرية، وبنى فيها مصانع خاصة لفتل الحبال وصناعة الحديد وعمل الصواري والقلوع وكل ما يلزم للسفن، وأنشأ فيها أيضا مدرسة بحرية أعدها لتمرين عدد من الشبان المصريين على العلوم والمعارف اللازمة لضباط البحرية. وكان المنوط به إنشاء هذه السفن المهندس البحري «دي سريزي»، أما إدارة المدرسة فكانت في يد المسيو «بيسون»، وقد ترقى بعد إلى رتبة أمير البحر للأسطول المصري ورقى هذان الرجلان العمارة البحرية إلى درجة جعلتهما في صف سليمان باشا منظم الجيش البري.
وقد بلغ عدد المراكب الحربية في عام (1248ه/1832م) ثلاثين قطعة تحمل 1300 مدفع، وفيها من العساكر البحرية من لا يقل عن 12000 جندي.
وأرسل جملة من التلاميذ لتلقي الفنون البحرية العملية على سطح المراكب الإنجليزية.
ولم يفته أمر تحصين الشواطئ، فأنشأ الحصون - الاستحكامات - اللازمة لحفظ السواحل، مخافة الإغارة على البلاد كما حصل في عام (1222ه/1807م)؛ فأحضر لذلك مهندسين حربيين من الأجانب، وكلفهم اختيار المواقع المهمة من جميع السواحل المصرية، وأنشأ بها المعاقل، ونصب بها المدافع اللازمة والعساكر الكافية؛ فتضاعفت بذلك قوة مصر، وعظم شأنها، كما يدل على ذلك حروبه التي سنذكرها. (4-7) ميزانية الحكومة
قد رأينا المشروعات العظيمة التي قام بها محمد علي؛ من إصلاح الزراعة وتنمية الصناعة، ونشر التعليم وترقيته، وتنظيم الجيش وإنشاء البحرية. ويجدر بنا الآن أن ننظر كيف كان يتسنى له جمع المال اللازم لكل هذه المشروعات وتوزيعه عليها. على أن الوقوف على ذلك باليقين ليس بالأمر الهين؛ لأن دفاتر المالية في ذلك العهد لم يكن يعتمد عليها، ولأن الحكومة المصرية لم تنشر لها ميزانية سنوية إلا بعد عهد محمد علي، إلا أن بعض الأوروبيين الذين كانوا بمصر في ذلك العهد وعنوا بهذه الشئون قدروا ذلك بوجه تقريبي يساعدنا على تفهم الوارد والمنصرف. وقد كانت الميزانية في أول أمرها صغيرة بالطبع، لصغر الجيش وعدم اتساع نطاق المشروعات، وقد قدر الدخل لعام (1236ه/1821م) بمبلغ 1200000 جنيه، والمصروف بأقل من ذلك بيسير. أما في عام (1249ه/1833م) فكان تقدير الميزانية كما يأتي:
الإيراد 2500000 جنيه
المنصرف 2000000 جنيه
منه:
منه:
1125000
ضريبة الأراضي
1200000
للجيش
450000 «الميزانية الصغيرة» (من تجارة الحاصلات)
400000
للبحرية
180000
المكوس على الحبوب
112000
الرسوم الجمركية
350000
ضريبة الرءوس (الفرضة)
ثم نمت بعد ذلك الميزانية، حتى قدر الدخل في سنة (1253-54ه/1838م) بنحو 4500000، والمصروف بنحو 3500000 جنيه. (5) حرب اليونان
بعد سقوط نابليون بونابرت أبرم تحالف متين بين الروسيا وبروسيا والنمسا «الحلف المقدس»، كان الغرض منه المحافظة على عروش الملوك في أوروبا، ومقاومة كل ثورة عليهم بحد السيف. غير أن هذه المحالفة لم تسكن تيار مبادئ الثورة الفرنسية؛ ذلك التيار الذي لم يكد يعم فرنسا حتى فاض على جميع بقاع أوروبا؛ ففي سنتي (1235 و1236ه/1820 و1821م) شبت ثورات في جنوبي إيطاليا وإسبانيا وبلاد اليونان.
على أن الثورة في بلاد اليونان كان الغرض منها إعلان الحرب على الترك لنيل استقلال داخلي؛ فكان قيصر الروس بمقتضى ذلك التحالف المتين مضطرا إلى محاربة اليونان، مع أن السياسة الروسية كانت من زمن بعيد ترمي إلى مساعدة اليونان وكل المسيحيين في شبه جزيرة البلقان على الدولة العثمانية. أما فرنسا وإنجلترا فلم تر حكومتاهما مؤازرة اليونان بالرغم من ميل الأهالي فيهما إليها؛ وذلك لعدم إضعاف الترك أمام الروس؛ فكانت النتيجة أن اليونان لم تساعدها إحدى هذه الدول رسميا، إلا بأفراد تطوعوا من تلقاء أنفسهم.
وكانت الدولة العلية في هذا الوقت في منتهى الضعف والانحلال؛ إذ كان علي باشا والي يانينة قد أنهك قواها كما سبق ذكره. هذا إلى أن السلطان محمودا الثاني لما رأى ما عليه جيشه من سوء النظام والاختلال اجتهد في إصلاحه وتنظيمه على الطرق الحديثة الغربية، فثار الجنود به وتألبوا، وأبوا إدخال النظام الجديد - كما حصل في عام (1230ه/1815م) لمحمد علي حينما أراد إصلاح جيشه - فاحتال على قتل العساكر الإنكشارية، رأس كل فتنة وسبب كل نكبة نكبت بها الدولة، فتم له ذلك عام (1241ه/1826م). فكان قضاؤه عليهم وقت أن كانت الدولة في حاجة إلى جندي واحد؛ وبذلك أصبح بلا جيش تقريبا.
ولما شبت نار الثورة اليونانية وتفاقم خطبها، وكادت تنتهي باستقلال اليونان بدون مساعدة الدول الأخرى لها، رأى السلطان محمود الثاني أن يستنجد بمحمد علي على قمع الفتنة في البلاد اليونانية.
ففي عام (1239ه/1823م) عين الباب العالي محمد علي واليا على جزيرة إقريطش فوق ولايته لمصر، وأصدر إليه الأوامر بإخماد الثورة هناك، فأرسل ابنه إبراهيم باشا، فهزم الثوار في صيف ذلك العام.
إبراهيم باشا.
وفي سلخ هذا العام (1824م) جعله السلطان واليا على بلاد المورة لإخضاعها؛ فجهز لذلك جيشا مؤلفا من 17000 مقاتل بإمرة إبراهيم باشا، وأقلع الجيش من ميناء الإسكندرية في (ذي القعدة سنة 1239ه/يوليو 1824م)، فالتقى الأسطول التركي الذي كان بقيادة خسرو باشا بالعمارة البحرية المصرية في جزيرة رودس، إلا أن فوز القائد «بياوليس» اليوناني أجبر العمارتين على الانزواء في جزيرة إقريطش عدة شهور. ثم تحين إبراهيم باشا الفرص، وأفلت من المدمرات اليونانية، ونزل في «مودن» بالقرب من «نوارين»،
8
في (شعبان سنة 1240ه/فبراير 1825م). وبعد أشهر قلائل أخضع كل بلاد المورة، واستولى على أمهات المدن فيها إلا «نوبليا». وكان أهم وقائع هذه الحرب الاستيلاء على «تريبولتزا»؛ إذ فتحها إبراهيم باشا عنوة بعد جهاد عظيم.
ولما أمده والده بمدد جديد انتقل إلى شمالي بلاد اليونان ليساعد رشيد باشا في حصار «مسولونجي»، وكان هذا يحاصرها من عدة شهور بدون فائدة، فعبر إبراهيم خليج «كورنثة» ومعه 10000 جندي، واستولى على الجزائر الواقعة عند مدخل ميناء المدينة، وبنى فيها قلاعا حصينة؛ فأغلق بذلك الميناء، وأتم الحصار برا وبحرا حتى لم يعد من الممكن وصول المدد إليها بأية طريقة، فسلمت في (رمضان 1241ه/أبريل سنة 1826م)، بعد أن خسر الجيش المصري عليها 6000 جندي، وخسر الترك 20000.
وفي أثناء ذلك قامت نار الثورة في بلاد المورة ثانية، فرجع إبراهيم باشا لإطفائها، إلا أنه عامل الأسرى اليونان بالقسوة، وأرسل ما يقرب من 5000 أسير إلى مصر بيعوا بها - على ما قيل - بيع الرقيق.
وكان رشيد باشا أثناء تلك الفترة يحاصر «أثينا»، وفتحها عنوة بعد المقاومة الشديدة، ثم وجه السلطان محمود الثاني ومحمد علي جل جهدهما إلى تدمير الأسطول اليوناني الراسي عند «هيدرا»، وكان لا يزال قويا.
ولما علمت الأمة الإنجليزية والأمة الفرنسية بما فعله إبراهيم باشا في بلاد المورة من تخريب البلاد واستعباد نسائها وأطفالها، حنقتا عليه. وانتهزت الروسيا هذه الفرصة فبدأت تفاوضهما في أمر التدخل؛ فعقد لذلك مؤتمر في لندن في (29 ذي القعدة سنة 1241ه/يوليو سنة 1826م)، قرر إرسال عمارة بحرية قبل الدول الثلاث، تكون القيادة العامة فيها للقائد الإنجليزي «كدرنجتون».
وكانت إنجلترا وفرنسا لا تزالان تحذران ازدياد النفوذ الروسي في شبه جزيرة البلقان، فأمرت الحكومة الإنجليزية القائد «كدرنجتون» بأن يتجنب محاربة الترك ما أمكنه ذلك، وأن يعمل طاقته لإبرام اتفاق أساسه أن يمنح الخليفة اليونان استقلالا داخليا مع بقائها جزءا من أملاك الدولة العثمانية.
وفي أثناء هذه المفاوضات أرسل محمد علي عمارة بحرية لتساعد العمارة التي كانت في المياه التركية على تحطيم الأسطول اليوناني، الذي كان يتوقف عليه مصير الحرب. وعندما وصلت هذه العمارة إلى المياه التركية كان القائد «كدرنجتون» قد تمكن من إبرام هدنة مع إبراهيم باشا في مصلحة اليونان، وفي أثنائها كانت المفاوضات دائرة بين السلطان وبينه؛ للنظر في منح اليونان استقلالا داخليا كما قدمنا، فلم يتعرض كدرنجتون لدخول العمارة التركية المصرية في خليج «نوارين».
وفي اليوم التالي أخبر إبراهيم باشا القائد «كدرنجتون» أن أحد زعماء اليونان - كوكرين - ومن تبعه من مواطنيه يهاجمون «بتراس»، وأنه مضطر إلى الذهاب إلى تخليصها من أيديهم، فلم يقبل «كدرنجتون» مبارحته خليج نوارين، إلا أنه تمكن من الإفلات ببعض سفنه، وحاولت بقية العمارة اتباعه فلم يمكنها، واضطرت إلى الانزواء في الخليج.
عند ذلك أصدر كدرنجتون أوامره إلى أسطول المتحالفين بالدخول في خليج نوارين، وأن ترسو سفينته على مقربة من العمارة التركية المصرية، فأراد الترك أن يمنعوه من الدخول فلم يفلحوا، فلما دخلت أساطيل المتحالفين وجدت الأسطول التركي المصري مصفوفا داخل الميناء على شكل نصف دائرة، يرتكز أحد طرفيها على قلعة البلد، والآخر على قلعة جزيرة «سفا كتيري» عند مدخل الميناء، وكان يحمل ما لا يقل عن 19000 جندي و2082 مدفعا تقريبا.
ولما رست الأساطيل المحالفة في الميناء، اقتربت إحدى الحراقات التركية من إحدى البوارج الإنجليزية، فأرسلت هذه لها زورقا يأمرها بالابتعاد؛ فكان الجواب أن صوبت على الزورق نارا حامية أتت على كل من فيه، فانتشب حينئذ القتال، وتكاثف الدخان حتى أصبح من الصعب الوقوف على ما حصل، إلا أن «محرم بك» قائد الأسطول المصري أخبر كدرنجتون أنه لا يريد القتال، فأخلى له السبيل. لكنه عدل عن فكره الأول وصوب مدافعه على السفينة الإنجليزية «آسيا»، فاستؤنف القتال، ولم يمكث طويلا حتى دمرت سفينته، وظلت الحرب مشتعلة مدة ثلاث ساعات، فأسفرت النتيجة عن تدمير معظم العمارة المصرية التركية.
وتقول الحكومة الإنجليزية إنها لم تكن تقصد الحرب، وإنها عادت باللائمة على كدرنجتون؛ إذ كان غرضها الوحيد من هذه المظاهرة البحرية إجبار الدولة العلية على منح اليونان استقلالا داخليا وإيقاف القتال بأي حال.
أما إبراهيم باشا فلم يكن حاضرا تلك النكبة، بل كان في بلاد المورة يهدئ الأحوال بها، وقد أصبحت كلها في قبضته. فلما سمع هذا الخبر أبرق وأرعد، فلم يجده ذلك نفعا. ولما ثاب إلى رشده اختار خطة للدفاع، فكان حاله في بلاد المورة كحال نابليون بونابرت في مصر بعد موقعة بوقير البحرية؛ إذ انقطعت بينه وبين أبيه طرق المواصلات.
ولم تكن موقعة «نوارين» هذه كافية لاستقلال اليونان؛ ولذلك أصبح من المحتم على الحلفاء التدخل في أمرها، إلا أنه ظهر لإنجلترا وفرنسا أن كل تدخل من قبلهما يخفض من شأن الدولة العلية ويزيد النفوذ الروسي؛ فاقترح «بالمرستون» وزير خارجية إنجلترا في ذلك الوقت أن يحتل بلاد المورة ستة آلاف من الجنود الإنجليزية، ومثلها من الفرنسيين، حتى يمنح الباب العالي تلك البلاد استقلالها الداخلي، فأبى البرلمان الإنجليزي ذلك، فقامت فرنسا بالأمر وحدها وأرسلت 15000 جندي لتحتل المورة (صفر سنة 1244ه/أغسطس سنة 1828م).
وعند ذلك ظهر «كدرنجتون» في المياه المصرية عند الإسكندرية، وأرجع بعض السفن التي كانت ذاهبة لمساعدة إبراهيم، ثم أرسل إلى محمد علي باشا إنذارا نهائيا بتخريب الإسكندرية إذا لم يسرع باستدعاء إبراهيم وإخلاء المورة، وبمساعي المستر «بركر» السفير الإنجليزي في مصر تم الاتفاق مع محمد علي على إخلاء بلاد المورة بشروط، أهمها:
أن يطلق محمد علي سراح الأسرى اليونانيين الذين بيعوا في مصر، وأن تتخلى الجيوش المصرية عن «المورة» في أقرب وقت، بحيث ينقلهم محمد علي على سفنه، وأن يخفر الأسطول الإنجليزي السفن المصرية في ذهابها وإيابها، وأن يتعهد «كدرنجتون» بإرجاع أسرى المصريين وسفنهم التي أخذت منهم أثناء الحرب.
ويقال إن محمد علي وافق على هذه الشروط بدون معارضة كبيرة، خصوصا لما وصله من الأخبار أن الباب العالي أراد أن يقبض على جنوده؛ إذ أصدر الأوامر إلى قائد الأسطول التركي أن يدعو الجنود المصرية إلى النزول في سفنه بدعوى أنه يريد نقلهم إلى الإسكندرية - وهو مأمور سرا أن يرسلهم إلى الدردنيل. والسبب في نصب هذه الأحبولة التي فطن لها إبراهيم باشا وتجنبها أن الباب العالي هاله نجاح محمد علي في «المورة» برا، فخشي بأسه وخاف على ملكه.
فأخلى إبراهيم باشا بلاد «المورة» في (ربيع الأول سنة 1244ه/أكتوبر سنة 1828م). ولما كان السلطان محمود الثاني لا يزال مصمما على رفض تحرير بلاد اليونان أعلنت عليه الروسيا الحرب سنة (1245ه/1829م) وهزمت جيوشه في عدة مواقع فاصلة، فلما رأى السلطان ذلك اضطر إلى إبرام معاهدة «أدرنة» في السنة نفسها، وكان من أهم شروطها تحرير بلاد اليونان واستقلالها استقلالا تاما. (6) حرب الشام
بعد أن وضعت حرب اليونان أوزارها ورجعت الجنود المصرية إلى بلادها، طلب محمد علي من الباب العالي أن يوليه على عكاء علاوة على ولاية مصر مكافأة له على مساعدته في هذه الحرب، كما وعده بذلك من قبل، فرفض طلبه، فلما أعلنت الروسيا الحرب على الدولة في عام (1245ه/1829م) لم يهتم محمد علي بإجابة طلب السلطان أن يمد الدولة بجيش مؤلف من 20000 مقاتل وبعمارته البحرية؛ إذ رأى أن لا فائدة تعود عليه وعلى بلاده من إفناء ثروتها ورجالها في مساعدة دولة تضن بمكافأته على جليل خدماته.
ولاحظ محمد علي حينئذ أن الأحوال ملائمة لأن ينال بحد السيف ما مناه به الباب العالي، وأن هذه أحسن فرصة لديه؛ إذ كانت الدولة في هذه الفترة في منتهى الضعف والانحلال لتشتيت السلطان محمود شمل العساكر الإنكشارية، وفتكه بهم جملة في عام (1241ه/1826م) على يد حسين باشا - كما قدمنا - ولتضعضع الجيوش التركية لما حل بها من الانهزام الأخير على يد الروس في حرب عام 1829م.
ولم يكن أمام محمد علي إذ ذاك معارض من دول أوروبا العظام؛ إذ كان كل منها مشتغلا بما في بلاده من الاضطراب والفتن؛ فكانت فرنسا منهمكة في إطفاء نار «ثورة يوليو سنة 1830» وإنجلترا مغلولة اليدين من جراء الاضطرابات التي قامت من أجل قانون الإصلاح، وكانت الثورة مشتعلة في بلجيكا وإسبانيا والبرتغال. أما الروسيا فكانت مشغولة أيضا بإخضاع ثورة «بولندا».
ومما ساعد في فساد العلائق بين محمد علي والدولة أن خسرو باشا كان حينئذ أكبر رجال الدولة نفوذا ؛ إذ كان هو المدبر للخليفة وقطب السياسة في القصر السلطاني، ولا يخفى ما في صدره من الحقد والبغضاء لمحمد علي من يوم خلعه عن ولاية الديار المصرية عام (1218ه/1803م) كما سبق آنفا. فصار همه الوحيد طول حياته إيغار صدر الخليفة على محمد علي، والعمل على ثل عرشه. وكان له في ذلك غرضان؛ الأول: أن ينتقم لنفسه منه، والثاني: أن يحظى هو بولاية مصر؛ ولذلك لما نصب خسرو أمير البحر للعمارة التركية في حرب اليونان لم يساعد إبراهيم باشا تمام المساعدة، بل عمل جهده على إفناء الجيش المصري بعد الحرب بالمكيدة التي لم تفلح - كما ذكرنا.
وكانت حالة الفلاح المصري في هذه الفترة غاية في الشقاء والبؤس؛ إذ أثقل عاتقه محمد علي بالضرائب، وبتسخيره في حفر الترع، وتجنيده تجنيدا إجباريا، وقد أثرت هذه العوامل فيه تأثيرا سيئا؛ فكان يهلك من المصريين الآلاف في حفر الترع وتحت تعذيب محصلي الضرائب. ولما ضاقت الحال واشتد الكرب بالناس هاجر خلق كثير من سكان الوجه البحري إلى بلاد الشام هربا من مظالم الحكام. ورجا محمد علي من «عبد الله الجزار» والي عكاء إرجاع كل من هاجر إلى مصر ثانية، فحرضه خسرو باشا على ألا يجيب طلبه، ولما لم تجد مساعي محمد علي عند والي عكاء هدده بإعلان الحرب عليه. وزيادة على ما سبق كان عبد الله الجزار قد شجع المصريين على نقل حاصلات الوجه القبلي بطريق صحراء سورية بدلا من تصديرها عن طريق الإسكندرية؛ فكان ذلك مضرا بمصالح محمد علي.
عند ذلك لجأ عبد الله الجزار إلى الباب العالي ليوقف محمد علي عند حدوده، وأن لا يتدخل في شئون ولاية عكاء، فأرسل الباب العالي إلى محمد علي بأن المصريين ليسوا عبيده، بل هم أحرار يسكنون أنى شاءوا، وفي أي جزء من أجزاء الدولة أرادوا.
وفي هذه الآونة جرت مفاوضات بين رئيس الوزارة الفرنسية ومحمد علي بشأن غزو بلاد الجزائر بأسطول فرنسي مصري، فاقترح محمد علي على فرنسا أن تسلمه أسطولها ليكون بقيادته، ويتعهد هو بإخضاع «داي» الجزائر، فلم تقبل فرنسا ذلك. وخاف أيضا محمد علي من أن تفتح فرنسا الجزائر، فتمتد الفتوح الفرنسية شرقا وتكون خطرا على مصر. هذا إلى أن ولنجتون الإنجليزي أعلنه أن أي تدخل منه في أمر بلاد الجزائر يكون مدعاة إلى خلعه. ولما علم الباب العالي بذلك حض محمد علي أيضا على عدم التدخل في هذا الأمر وهدده بالخلع، ثم علم محمد علي بعد ذلك أن السلطان على وشك أن يخلعه لما سبق، فأعلن الحرب عليه خوفا على ضياع ملكه.
ابتدأ محمد علي في إعداد الحملة لذلك في أواخر سنة 1246ه، إلا أنها تأخرت إلى (جمادى الأولى سنة 1247ه/نوفمبر 1831م) لتفشي الهيضة - الكلرا - في مصر وفتكها بالناس فتكا ذريعا.
فسار الجيش البري من الطريق القديم مجتازا الصحراء إلى العرش، وكان عدده يتراوح بين الثلاثين والأربعين ألف مقاتل، وكان مؤلفا من ست فرق من المشاة وأربع من الخيالة وقوة كافية من المدفعية. أما الأسطول فإنه كان يحمل المدافع الضخمة والذخيرة، ويقل إبراهيم باشا وأركان حربه، وبينهم البطل العظيم «سليمان باشا الفرنسي».
زحف الجيش البري في أوائل شهر نوفمبر، فاستولى على غزة ويافا بدون أدنى مقاومة، وفي هذا الميناء اجتمع الجيش بالأسطول، ثم تولى إبراهيم باشا قيادة الجيش وزحف على عكاء، حيث اجتمعت جموع عبد الله الجزار، وكان غرض هذا أن يقهر إبراهيم ويرده على عقبيه كما فعل ذلك من قبل «أحمد باشا الجزار» مع نابليون، ولكن فاته أن أحمد باشا الجزار كان يساعده أسطول السير سدني سمث من جهة البحر. ومع عظم جيش إبراهيم وحسن استعداده قد دافع عبد الله الجزار عن المدينة دفاعا شديدا مدة ستة أشهر حاول في خلالها عثمان باشا والي حلب أن يخلص حامية عكاء، إلا أن إبراهيم باشا داهمه في الطريق، وهزمه هزيمة منكرة. وبعد ذلك سقطت عكاء في يده في (ذي الحجة سنة 1247ه/مايو 1832م)، وأسر عبد الله الجزار ومن معه وأرسلوا إلى الإسكندرية.
وفي أثناء حصار عكاء أصدر الباب العالي أمرا في أول ذي الحجة سنة 1247ه/2 مايو سنة 1832م يقضي بعزل محمد علي عن الديار المصرية وجزيرة إقريطش - كريد - وتولية حسين باشا - مبيد الإنكشارية - عليها، وتسليمه قيادة الجيش الذي سيره على محمد علي، إلا أن ذلك كان على غير رغبة خسرو باشا؛ إذ كان غرضه من عزل محمد علي أن يكون هو خلفه، على أنه قد نظم الجيش على الطريقة الغربية عدة سنوات ليكون هو القائد له في ساحة القتال، وبذل جل طاقته ليحصل على قصده، فلم يصغ له الباب العالي. فلما خابت كل أمانيه عزم على أن يعرقل مساعي حسين باشا ويفسد عليه كل خططه، وساعده على ذلك أنه كان وزيرا للحربية في هذه الآونة. فلما اجتمعت الجيوش في «أذنة» - أطنة - وكان عددهم 45000 أبوا الإذعان لأوامر حسين باشا - بتحريض من خسرو باشا - ونبذوا كل نظام أراده.
وبعد سقوط عكاء سار إبراهيم باشا بجيشه إلى «دمشق» فسلمت إليه بدون مقاومة، وكان ذلك في (16 المحرم سنة 1248ه/15 يونيو سنة 1832م).
ثم زحف على «حمص» حيث التقى بمحمد باشا والي طرابلس يقود نحوا من 30000 مقاتل - وكانوا مقدمة الجيش التركي - وذلك في (9 صفر سنة 1248ه/8 يوليو سنة 1832م)، فلم ينتظر محمد باشا لسوء تدبيره تلاحق الجيش التركي الذي يقوده حسين باشا شمالي هذه النقطة بنحو 50 ميلا، بل هاجم جيش إبراهيم، فهزمه إبراهيم شر هزيمة وأخذ منه كل ما لديه من الذخيرة والميرة وألفي أسير وستة وثلاثين مدفعا؛ وبذلك أصبحت جل بلاد الشام في يد إبراهيم. ولما علمت القبائل المجاورة بانتصارات إبراهيم باشا أرسلت إليه وفود المهنئين، ووعدته بالمساعدة.
أما حسين باشا فإنه كان قاصدا حلب، فلما علم أهل البلدة بهزيمة الجيش العثماني أغلقوا أبوابها في وجهه؛ فاضطر إلى التقهقر إلى إسكندرونة، حيث يرسو الأسطول العثماني. أما إبراهيم باشا فإنه دخل حلب بدون عناء ولا مقاومة في (18 صفر/17 يوليو)، ثم اقتفى أثر الجيش التركي فوجده محتميا في مضيق «بيلان» - بين حلب والإسكندرونة - فهاجمه وشتت شمله، وذلك في (أول ربيع الأول/29 يوليو)، وكانت نتيجة هذه الهزيمة أن غادر الأسطول العثماني الإسكندرونة.
وفي الحال أرسل إبراهيم باشا ابن أخيه عباسا ليحتل بلدة أذنة خلف «جبال طوروس»؛ وبذلك استولى إبراهيم باشا في مدة لا تتجاوز سبعة أشهر على كل بلاد سورية.
وقد عد إبراهيم باشا في الطبقة الأولى من قواد ذلك العصر بما أظهره من الحذق والدراية بالفنون الحربية. ولا يفوتنا أن نعطي سليمان باشا الفرنسي - رئيس أركان حربه - نصيبه من الفخر في هذه الحروب؛ إذ كان في هذه الوقائع سيفه القاطع، وعضده المتين.
سليمان باشا الفرنساوي في حضرة محمد علي باشا وإبراهيم باشا.
أما حسين باشا فإنه نفي إلى نهر الطونة بعد أن ألقى خسرو باشا كل اللوم على عاتقه، وطلب خسرو ثانية من الباب العالي أن يوليه قيادة الجيش ويمنحه ولاية مصر، فأبى السلطان عليه ذلك وعهد بقيادة الجيش إلى «رشيد محمد باشا» وهو أحد رجال الدولة العظام؛ اشترك مع إبراهيم باشا في حرب «المورة»، وخاصة في حصار «مسولونجي»، واشتهر بعدها بمحاربة مصطفى باشا والي أشقودرة عند خروجه على الدولة. فعزم خسرو على إحباط مساعي مناظره الجديد كما قضى على حسين باشا وجيشه من قبل.
ويظهر أن خسرو كان يعتقد أن من مصالح دول أوروبا المحافظة على كيان الدولة العلية؛ فكان لا يهمه هزيمة جيش حسين باشا، أو القضاء على جنود رشيد باشا أمام جيش محمد علي؛ إذ كان على يقين أن الدول العظام لا تسمح لمحمد علي أن يجني ثمار انتصاراته. ولا غرابة، فقد أحس محمد علي بخطر تدخل الدول، ورحب بالصلح عندما كان جيش إبراهيم في أطنة، غير أنه طلب من السلطان ولاية سورية فلم يقبل.
وفي هذه الأثناء طلب إبراهيم باشا من والده المدد، فسير له جيشا مؤلفا من 50000 مقاتل، وأمره بمواصلة القتال والزحف، فتقدم في زحفه حتى وصل إلى «قونية». وفي خلال ذلك جمع رشيد باشا جموعه عند «أخشير» - شمالي قونية - وكانت الدولة وعدته أن تمده بعساكر البشناقيين هناك، فخندق عند أخشير وعزم على انتظار هجوم المصريين في هذا المكان، غير أن خسرو باشا لم يرسل له المدد واستبقاه في القسطنطينية، محتجا بأن ما لديه من الجند كاف للتنكيل بجيش محمد علي، ثم سعى في إرسال الأوامر إلى رشيد بالإسراع في مهاجمة المصريين خوفا من تدخل الروسيا، فأمر السلطان رشيد باشا بالهجوم على المصريين، فحاول رشيد باشا إقناع السلطان أنه ليس لديه مئونة في أخشير، وأن الجيش في حالة يرثى لها.
وفي أثناء هذه الأزمة وصل «الكونت مورافييف» الروسي إلى القسطنطينية في خدمة خاصة، فساعد خسرو في آرائه، فكانت النتيجة أن رشيد باشا لم يجب إلى طلبه وترك للقضاء والقدر.
على أن الجيش المصري كان في حالة صعبة جدا لما كان يقاسيه من البرد، ولو انتظر رشيد باشا قليلا لاضطر إبراهيم إلى التقهقر، ولكنه عجل بمناجزته حسب أوامر السلطان. وكان جيش إبراهيم حينئذ لا يتجاوز الثلاثين ألف مقاتل.
وبعد أن تأهب الجيشان تقدم الجيش العثماني إلى الأمام، أما الجيش المصري فمكث في مكانه لا يبدي حراكا، وكان الضباب الكثيف الكثير الانتشار في بلاد الأناضول - وفي مثل هذا الشهر خاصة - سادلا أستاره على الجيشين ومخفيا كلا منهما عن الآخر؛ ولذلك لم يبدأ إبراهيم باشا بالضرب كي لا يعرف العدو مكانه. أما رشيد باشا فبمجرد وصوله على مسافة 400 متر ابتدأ بإطلاق النار، فعلم إبراهيم باشا وسليمان باشا ترتيب الجيش العثماني وتفريق مدفعيتهم، ثم شاهد أيضا سليمان باشا أن المشاة العثمانية انفصلت بسبب الضباب عن الفرسان، فأمر المشاة المصرية بالدخول بين الفريقين ليستحيل اجتماعهما ورجوعهما إلى ما كانا عليه من الالتئام. ولقد أوقعت هذه الحركة الرعب والفزع في قلوب الترك، وأخذتهم الدهشة، إلى أن فاجأتهم الفرسان المصرية وأعملت في فرسانهم السيف فبددت شملهم، ووجهت المدفعية المصرية نارها على مشاة الترك فحصدتها حصدا. ولما رأى رشيد باشا أن لا مناص من الهزيمة اجتهد أن يستجمع جناح جيشه الأيسر فلم يفلح، ووقع أسيرا في يد المصريين، فجاءوا به إلى إبراهيم باشا، ولما علم الجيش بأسر قائدهم ولوا الأدبار؛ وبذلك انتهت واقعة «قونية» الفاصلة (27 جمادى الآخرة سنة 1248ه /21 نوفمبر 1832م).
وقد فرح سكان آسيا الصغرى فرحا عظيما بانتصارات إبراهيم. أما هو فتقدم بجيشه إلى «كوتاهية» غربي «أخشير» وهدد «بروسة»، في الوقت الذي كان فيه بعض جنوده وعماله قد أخضعوا أكثر بلاد الأناضول، وأصبح اسمه ذا تأثير عظيم في قلوب القوم، حتى إن أربعة من جنده وضابطا واحدا استولوا على مدينة «أزمير» العظيمة.
9
ولما وصلت أخبار هذه الهزيمة إلى الأستانة حنق الباب العالي وخاف من ضياع ملكه؛ لأن بلاد آسيا الصغرى تعتبر قلب الدولة وحصنها المكين.
عند ذلك مدت الروسيا يد المساعدة للدولة العثمانية، فطلبت من الباب العالي أن يسمح لها أن ترسل له قوة بحرية وأخرى برية لمساعدته، إلا أن السلطان محمودا الثاني توانى في قبول ذلك، وفاوض محمد علي في شروط الصلح، فلم يرض إلا بكل بلاد سورية وولاية «أذنة» - أطنة. وفي هذا الحين أرسلت الروسيا القائد «مورافييف» يلتمس من محمد علي بكل وداد واحترام إيقاف إبراهيم عن الزحف على الأستانة.
وأما بقية الدول العظام فقد أزعجها تدخل الروسيا، فاستفسر «الكونت بروكش أوستين» سفير النمسا في مصر من محمد علي عن أغراضه، واجتهدت إنجلترا وفرنسا في إيقاف زحف إبراهيم، ونصحتا للباب العالي أن يتنازل عن صيداء وعكاء ونابلس وبيت المقدس إلى محمد علي. إلا أن هذا أبى إلا كل بلاد سورية وأذنة، وأمر إبراهيم بالزحف على الأستانة؛ وذلك بتحريض من فرنسا لأنها رغم اتفاق سفيرها مع السفير الإنجليزي في الأستانة كانت تعمل في الخفاء مع محمد علي، وتشجعه بتوسط سفيرها في القاهرة رغبة في ازدياد نفوذها في البلاد المصرية.
فلما احتل إبراهيم باشا «كوتاهية» (فبراير سنة 1833م) اضطر الباب العالي إلى طلب المساعدة من الروسيا رسميا، فأرسلت له جيشا مؤلفا من 12000 مقاتل تساعده عمارة بحرية، وعسكر الجيش على الشاطئ الآسيوي عند «أنكيار سكلسي» - هنكار إسكله سي - على البسفور؛ فأقلق تدخل الروسيا بال فرنسا وإنجلترا، فشددتا على الباب العالي في الاتفاق مع محمد علي؛ فأبرم معه اتفاق «كوتاهية» في (ذي الحجة سنة 1248ه/مايو سنة 1833م)، وبه ولى الباب العالي محمد علي بلاد سورية، وجعل إبراهيم باشا محصلا لولاية أذنة، وعلى ذلك تم الصلح واطمأن خاطر إنجلترا وفرنسا من جهة روسيا.
أما قيصر روسيا فإنه لم يقف عند ذلك الحد، بل اجتهد في إقناع السلطان أن كيان دولته يتوقف على مساعدة الروسيا لها ومحالفتها إياها؛ فاقتنع بذلك لما رآه من خذل الدول الغربية له، وأبرم معاهدة هجومية دفاعية مع الروسيا تعرف بمعاهدة «أنكيار سكلسي» - هنكار إسكله سي - في (صفر سنة 1249ه/يونيو 1833م). وأهم شروطها أن تتعهد روسيا بحماية البلاد العثمانية من إغارة أي دولة، وفي مقابل ذلك تتعهد الترك بإغلاق الدردنيل في وجه أساطيل جميع الدول. وكان إبرام هذه المعاهدة سرا بدون علم الدول الأخرى. (6-1) حكومة محمد علي في بلاد الشام وغزوته الثانية لها
لم يكن اتفاق كوتاهية حلا نهائيا للنزاع بين الدولة العثمانية ومحمد علي؛ إذ كان هذا من جهة يعتقد أن حكمه في كل الولايات التي تحت سلطته لم يكن إلا لأجل محدود، وكان على يقين أن الباب العالي لا بد أن ينزعها من يده متى سمحت له قوته وساعدته الأحوال، وأن ما امتلكه بحد السيف لا بد له أن يعمل جهده ليحافظ على كيانه بحد السيف أيضا، فأفلح في إثارة نار الفتنة في بلاد ألبانيا، وكان يدس الدسائس في الأستانة لخلع محمود الثاني وتولية ابنه عبد المجيد مكانه. ومن جهة أخرى كانت الإشاعات تتواتر أن السلطان يريد الاستفادة من معاهدة «أنكيار سكلسي» بإعلان الحرب على محمد علي، وكانت الفرص مساعدة للسلطان؛ إذ تألب معظم أهل الشام على إبراهيم باشا، وثاروا في وجهه، وابتدأ تذمرهم منه في ربيع عام (1250ه/1834م).
والسبب في ذلك يرجع إلى عسف حكومته وظلمها؛ إذ اتضح جليا لأهل الشام أن حكومة الباب العالي كانت أقل ظلما، وأحسن حالا من حكومة محمد علي. وقد ذكرنا آنفا أنه لما دخل إبراهيم باشا بلاد الشام قابله الأهالي بالتهلل والاستبشار والتفوا حوله، وإنما كان ذلك يرجع إلى أمرين:
الأول:
عدم ميل الأهالي إلى السلطان محمود الثاني من جراء المصائب التي انصبت على الدولة العثمانية في مدته، ولا سيما إبرامه لمعاهدة «أدرنة » التي اعتبرتها الأمة من أعظم النكبات التي انتابت الدولة.
والثاني:
قسوة الأحكام التركية منذ فارقها الفرنسيون سنة (1214ه/1799م)؛ لأنها قبل حملة نابليون عليها كانت تتمتع بشبه استقلال، ولكن بعد الحملة قررت الدولة عليها الضرائب الفادحة، وأبقت الجنود التي أرسلتها لطرد الفرنسيين في البلاد يعيثون فيها فسادا.
فلا غرابة بعدئذ أن يستقبل أهل الشام إبراهيم باشا بكل فرح وابتهاج؛ لأنه أدخل بعض إصلاحات في بادئ الأمر كانت مفيدة له وللبلاد؛ إذ صرف معظم السنتين الأوليين في درس أحوال الشام، وفي توطيد عرى التحالف بينه وبين القبائل القوية التي ينتظر أن يركن إليها عند الحاجة في تنظيم قوة حربية يعتمد عليها في إخماد نار الفتن الداخلية، أو صد هجمات الدولة حال إعلانها الحرب عليه. وقد جعل الحاكم العام على البلاد الشامية «شريف باشا» أحد أقربائه، وكان ذا أخلاق فاضلة وخبرة في الأمور السياسية، وجعل «حنا بحري» أحد السوريين مساعدا له في إدارة الشئون المالية، وكان ذا حذق ومهارة في ذلك، ثم ساوى بين كل الديانات أمام القانون؛ لا فرق بين المسلم والمسيحي، وعقد في كل بلدة من أمهات البلاد مجلسا كانت تنتخب أعضاؤه من المسلمين والمسيحيين على السواء. وكل هذه المجالس كانت تحت سيطرة «مجلس المشاورة» في عكاء؛ إذ كان بمثابة محكمة عليا، تتسلم دخل البلاد، وتولي الحكام، وتخابر الحكومة الرئيسية في مصر.
وبعد أن وضع إبراهيم هذه الأنظمة، رأى أن لا بد لضمان سير الأحوال على ما يروم من جيش عظيم يعول عليه، وأن يكون له موارد للثروة يستقي منها. فأول عمل قام به للحصول على المال أن احتكر جميع أصناف الحرير وبعض المواد الأخرى، وسخر الأهالي وأكرههم على زرع الحاصلات التي لا غنى للبلاد عنها كالحبوب، وعلى غرس النباتات التي تلائم طبيعتها، فكان من نتائج ذلك مهاجرة الأهلين إلى بلاد الجزيرة وآسيا الصغرى، كما هاجر أهل مصر عام (1245ه/1829م) وكان سببا من أسباب حربه الأولى مع الدولة.
وفي أثناء سير الأحوال في البلاد الشامية أصدر محمد علي باشا ثلاثة أوامر لابنه إبراهيم ، وهي: (1) أن يضرب الجزية «الفرضة» على كل فرد بدون تمييز بين الجنسية والديانة (2) أن يجند جيشا من البلاد بالإجبار، وأن يأخذ كل ما يحتاج إليه هذا الجيش من الحيوان (3) أن ينزع السلاح من كل السكان.
ومن الغريب أن هذه الأوامر كلها صدرت دفعة واحدة؛ فكانت النتيجة أن تذمر الأهالي وثاروا في عام (1252ه/1835م)، وأحدثوا فتنة تفاقم خطبها وامتد لهيبها في طول البلاد وعرضها، وكان أهم ما دعاهم إلى العصيان نزع السلاح منهم، غير أن إبراهيم باشا استطاع أن يخضع العصاة في دمشق وحلب، وما جاورهما من البلاد بدون عناء.
أما في طرابلس وعكاء وجبال لبنان ونابلس - التابعة لولاية دمشق - فقد قاومه الثائرون فيها مقاومة عنيفة، حتى إن محمد علي لما علم بحرج مركز إبراهيم باشا أعد كل ما يمكن جمعه من الجند والذخيرة وسار بنفسه إلى مساعدته، فنزل في يافا، وبحذقه ومهارته تمكن من ضم سبعة من رءوس الثوار إليه في مدة وجيزة، ثم حارب أهالي نابلس، ودخل بلدهم دخول المنتصر، وفي هذه الأثناء ثارت طائفة النصيرية
10
فأخضعها المصريون سريعا، إلا أن الدروز، والمارونية
11
استمروا في مقاومة الجنود المصرية حتى (رجب سنة 1252ه/أكتوبر سنة 1836م)؛ إذ تمكن فيه إبراهيم باشا ومحالفه الأمير بشير الشهابي
12
والي لبنان من إخضاعهم ونزع السلاح منهم في أقل من ستة عشر شهرا.
ومن ذلك الحين ابتدأ الأهالي في الشام ينفرون من محمد علي، وينظرون إليه بعين العداوة والبغضاء، ولا سيما بعد أن بدل بالحكام الملكيين غيرهم من الجيش، ونشر عساكره في جميع أنحاء البلاد.
ولا يفوتنا أن نذكر أن إخضاع الثورات الداخلية في الشام - التي تبلغ مساحتها أربعة أمثال مساحة مصر الزراعية - وجلب الجنود إليها وما يلزمهم من البلاد المصرية؛ كل ذلك أثقل عاتق الحكومة المصرية وسبب أزمة مالية سنة (1260ه/1844م).
وفي أثناء هذه الفتن الداخلية في بلاد الشام كان السلطان محمود الثاني يريد منازلة محمد علي، آملا استرجاع ما فقد؛ ففي سنة (1249ه/1834م) احتج على دول أوروبا العظام التي كانت تمنعه عن الدخول في الحرب مع خصمه محمد علي لتخليص رعاياه من ظلمه. فلما علم محمد علي بنية الباب العالي أعلن للدول أنه إذا ظهر الأسطول العثماني في جنوب جزيرة رودس، فإنه لا يرى مندوحة من مهاجمته وإعلان عدم الطاعة والإذعان للخليفة. فصرحت الدول العظام بأنها ستكون ضد المعتدي؛ ولذلك خاف كل من الفريقين، وأجل إعلان الحرب مدة ست سنوات. ولكن بالرغم من كل ذلك بقي كلا الجانبين يستعد للحرب.
أما الروسيا التي كان الباب العالي يعتمد على مساعدتها، فإنها أحجمت عن الخوض في هذا المشروع الذي لم تتحقق من حسن عواقبه؛ لأن قيصر الروس ابتدأ يدرك أنه إذا شرع في إنفاذ شروط معاهدة هنكار إسكله سي، قامت في وجهه دول أوروبا وأخضعته بحد السيف. فإن دول أوروبا الكبرى وخاصة إنجلترا وفرنسا والنمسا كانت تحذر تدخل الروسيا، وأخذت على عاتقها أن تمنع استنجاد الدولة العلية بها، سواء أكان الاعتداء من السلطان على محمد علي أم من محمد علي عليه.
ومما شجع الباب العالي الأخبار التي كانت تأتيه عن تمرد أهل الشام، وعدم رضاهم بحكم إبراهيم باشا، وعن انهزام المصريين شر هزيمة أمام عرب «حوران» في سنة (1254ه/1838م)؛ ولذلك ابتدأ في استعداده البري والبحري بهمة جديدة.
وكان محمد علي في هذه الأثناء في رحلته إلى بلاد السودان (1254ه/1838م) ليقف على حقيقة كنوز الذهب التي كان يمني نفسه أن يستعين بها على شن الغارة على السلطان إذا اضطره الحال إلى ذلك.
وفي (ذي القعدة سنة 1254ه/يناير سنة 1839م) عقد الباب العالي مجلسا حربيا قرر فيه تجهيز 80000 جندي بقيادة حافظ باشا. فلما علم سفراء الدول بذلك اضطربوا وخافوا من ضياع الدولة؛ لأن فرنسا وإنجلترا والنمسا كانت لا تزال تخاف من تدخل الروسيا تنفيذا لمعاهدة هنكار إسكله سي.
وفي 22 يناير عقد الباب العالي مجلسا آخر لتقرير الحرب أو السلم، انتهى بتقرير محمود الثاني أخيرا إعلان الحرب؛ وذلك لأن حافظ باشا كان يمنيه بالنصر، ورشيد باشا - الذي كان في هذه الآونة قائما بتأدية مأمورية خاصة في باريس ولندن - صرح للباب العالي خطأ أن كلا من إنجلترا وفرنسا لا تتعرضان للسلطان إذا هو هاجم محمد علي.
قفل محمد علي راجعا من سنار عندما علم من عباس بن طوسون - وكان نائبا عنه في مصر - بالاستعدادات الحربية التي كانت قائمة على قدم وساق في القسطنطينية، ولما وصل إلى القاهرة كتب منشورا وأرسله إلى جميع سفراء الدول معلنا فيه أنه بريء من كل هذه المشاكل، وأن لا بد له من مقابلة القوة بالقوة. ولما وصل هذا المنشور إلى يد السلطان احتدم غيظا وشدد في الإسراع بتجديد الحملة، ومن فرط حنقه قال: «إني أفضل الموت على التراخي في إخضاع هذا العاصي.»
أما محمد علي فإنه أراد أن يداهم الدولة قبل أن تتم إعداد جيشها الذي كان يقوم بأمر تنظيمه القائد «فون ملتك» وضباط آخرون من الألمان. وحدث أن الحكومة الإنجليزية أبرمت مع الدولة في ذلك الحين معاهدة تجارية تتعلق بجميع ممالك الدولة؛ فكانت ضربة قاضية على آمال محمد علي التجارية؛ لأنه كان محتكرا كل التجارة المصرية كما سبق، فلما علم بذلك محمد علي هدد الدولة بإعلان استقلاله، ولو تم له ذلك لكان الضربة القاضية على الباب العالي؛ إذ كان في ذلك نزع سيادته الاسمية والفعلية حتى من بلاد الحجاز مصدر زعامته الدينية. إلا أن الحكومة الإنجليزية أنذرت محمد علي بواسطة سفيرها في مصر المستر «كمبل» أنه إذا شرع في ذلك كانت إنجلترا خصمه.
وحذرت إنجلترا الباب العالي أيضا، وأظهرت له أنها لا تساعده إذا كان هو المعتدي، ولا تتحمل شيئا من نتائج هذه الحرب. أما إذا اعتدى محمد علي فإنها تأخذ بناصر الدولة؛ ولذلك خاف كل منهما أن يبتدئ بالعداء. إلا أن شدة بغض محمود الثاني لمحمد علي جعلته يهاجمه أولا؛ ولذلك عندما طلب محمد علي أن يكون لخلفه حق الوراثة لجميع الولايات التي تحت سلطته من بعده، أعلن السلطان أن محمد علي خائن للخليفة، وأرسل الجيش لإخضاعه.
تجمع الجيش التركي عند «سيواس» بقيادة حافظ باشا، ثم زحف إلى جهة الجنوب حتى وصل إلى نهر الفرات، عند بلدة صغيرة تسمى «بيرجك » على الضفة اليسرى منه، ثم وصلت الأوامر إلى حافظ باشا بأن يجتاز النهر، وينتقل إلى الشاطئ الأيمن.
فلما وصل هذا الخبر إلى إبراهيم باشا أرسل إلى والده يخبره بذلك، فأمده بالذخيرة وجيش بقيادة أحمد باشا «المنكلي» ناظر الحربية المصرية. وكان إبراهيم باشا في هذا الحين بمدينة حلب لقربها من الحدود الشمالية، ووفرة المئونة فيها، ثم سار من هذه البلدة قاصدا «نصيبين» - بلدة على نهر الفرات - وكان قد علم أن الجيش التركي عسكر فيها، وأنه حصلت بعض مناوشات بين الباش بزق السلطانية وبين فرسان العرب عند «تل باشر» جعلت سليمان باشا الفرنسي يهتدي أثناءها إلى التحصينات المهمة التي أقيمت أمام نصيبين، وتبين له أنه يتعذر مهاجمتها من هذه الجهة، ففكر إبراهيم باشا وسليمان باشا في الدوران حول نصيبين ليهاجموها من الجهة التي لم يحصنها الترك.
عند ذلك أشار القائد «ملتك» ومن معه من الضباط الألمان على حافظ باشا أن يهاجم المصريين أثناء سيرهم غير متأهبين للحرب، فلم يقبل حافظ باشا ذلك، فدار إبراهيم بجيشه وهاجم الجيش التركي. وبالرغم من محاولة بعض الفرق الشامية من جيش إبراهيم الانضمام إلى جيش الترك شتت الجيش المصري شمله في (11 ربيع الآخر سنة 1255ه/24 يونيو سنة 1839م). وكانت خسائر الترك فادحة جدا حتى أصبح السلطان في الحقيقة بلا جيش، ومن حسن حظ الخليفة محمود أنه مات قبل أن يصل خبر هذه الهزيمة إلى القسطنطينية بعدة أيام؛ وهكذا أصبحت الدولة العلية للمرة الثانية تحت رحمة محمد علي.
ولما تولى الخلافة السلطان «عبد المجيد» كان سنه إذ ذاك لا يتجاوز السابعة عشرة، فتسلم خسرو باشا منصب الصدارة العظمى، وكان قبل ذلك مغضوبا عليه. ولما علم بذلك أحمد باشا فوزي أمير البحر التركي - وكان خسرو باشا من أشد أعدائه - حزن حزنا شديدا، وصمم على تسليم العمارة البحرية إلى محمد علي، بدعوى أنه خائف على حياته من خسرو، وأنه ربما اغتاله كما اغتال السلطان محمودا الثاني - حسب اعتقاده - وأظهر أن لا بد من عزله لسلامة الدولة، وقد صرح برأيه هذا إلى القبودان «ووكر» الإنجليزي مساعده.
فأقلع بأسطوله من الدردنيل، وكانت مأموريته في هذا الحين أن يساعد حافظ باشا من جهة البحر، فالتقى في أثناء سيره بالأسطول الفرنسي، وأخبر قائده «لالند» بما أخبر به الأميرال «ووكر» من أن الحزب الروسي - أي حزب خسرو - سم السلطان، وأنه متوجه بالأسطول إلى إقريطش، فأخبره «لالند» أن إقريطش في يد محمد علي، وأن معنى الذهاب إليها تسليم العمارة البحرية له. وبعد ذلك بأيام قلائل وصل الأسطول التركي إلى المياه المصرية، وانضم إلى الأسطول المصري. فلما علم الضباط بنية أميرهم هموا بالتألب عليه، فاستمالهم محمد علي.
رسا الأسطول التركي في الميناء الغربي بالإسكندرية، على بعد ستة أميال من الشاطئ، وكان مؤلفا من 20 بارجة تحمل 21 ألف جندي بحري، ثم نزل الضباط وقابلوا محمد علي، إلا أن القائد «ووكر» لم يرجع ثانية إلى الأسطول، محتجا بأن الحكومة الإنجليزية لم تخول له الخدمة تحت إمرة محمد علي.
ولما علم سفراء الدول بهذا الحادث استولى عليهم الهلع، وأظهروا لمحمد علي استياءهم من خيانة أمير البحر، وأنهم لا يريدون أن يكون شريكا له في هذه الجريمة، ونصحوا له أن يرجع الأسطول التركي إلى الأستانة؛ فغضب لذلك محمد علي، وقال: إن الحرب تبيح لأحد الفريقين أن يقبل الفارين من الفريق الآخر. وكانت حالة الدولة في هذا الحين في منتهى التعس والاضمحلال، حتى إن خسرو باشا طلب من أمير البحر أن يرجع مع العفو التام من الخليفة، فأجابه هذا أنه ليس خارجا على الباب العالي، وإنما يخشى غدره وخيانته، وأنه لن يبرح المياه المصرية ما دام هو المحرك لسكان سياسة الدولة، والقابض على زمامها. (6-2) تدخل دول أوروبا
كان أول هم لدى الدول الكبرى منع الروسيا من إنفاذ شروط معاهدة «هنكار إسكله سي» والانتفاع بها؛ ولذلك كان من المحتم عليها أن تعمل جميعها للوصول إلى ذلك. إلا أن الباب العالي، لمنع زحف إبرهيم باشا على القسطنطينية، قرر إعطاء مصر لمحمد علي وذريته من بعده، وإعطاء الشام لإبراهيم إلى أن يخلف والده على مصر. وكان هذا الاتفاق على رغبة من الروسيا لأنه يخلصها من اتفاق هنكار إسكله سي، ولا يحط من سلطتها في القسطنطينية، فرأت الدول الكبرى أن الأمر أشد خطورة من أن يفصل فيه الباب العالي وحده؛ ولذلك كتبت إليه تعلمه ألا يفاوض محمد علي في شيء، ولا يتفق معه إلا بواسطة الدول. فلما فطنت الروسيا لغرضهم لم تعارض في الأمر؛ وبذلك ظهرت الدول الكبرى بمظهر المشجع للباب العالي على معارضته لمحمد علي ورفضه لمطالبه.
إلى هذا الحد كانت فرنسا وإنجلترا متفقتين؛ لأنهما اجتهدتا معا في إيقاف النفوذ الروسي في البلاد العثمانية، ورأتا أن أحسن حل للمشكل القائم بين محمد علي والدولة وضع الدولة تحت حماية الدول الكبرى جميعا. ثم ابتدأ الخلاف لأن «بالمرستون» وزير خارجية إنجلترا كان يعتقد أن الدولة العلية لا تصير في أمان إلا إذا كانت صحراء سيناء الحد الفاصل بينها وبين محمد علي. والرأي العام في فرنسا من جهة أخرى كان ميالا لمحمد علي؛ إذ كان يرى فيه حليفا يعتمد عليه في منازعة الدولة البريطانية في البحر الأبيض المتوسط.
لذلك عرضت فرنسا على إنجلترا أن يمنح محمد علي وذريته من بعده كل الولايات التي تحت يده؛ فلم يوافق على ذلك بالمرستون مع شدة ميله إلى استجلاب مودة فرنسا. غير أنه عرض عليها في (شعبان سنة 1255ه/أكتوبر سنة 1839م) أن تكون مصر وراثية لأسرة محمد علي، وأن يتولى محمد علي أيضا ولاية عكاء إلى طرابلس ودمشق. وبعد مفاوضات طويلة أعلن «تييرس» رئيس الوزارة الفرنسية في مايو سنة 1840 أن فرنسا لا تقبل ذلك، بدعوى أن هذه الشروط لا توافق محمد علي، وأنه إذا أعلن بها اندفع في زحفه على آسيا الصغرى، وأن أساطيل الدول لا يمكنها أن تقوم بعمل ما ضده «اللهم إلا امتلاك بعض البلاد على الساحل»، وليس في قدرتها طرده من بلاد الشام. وكان تييرس في هذه الأثناء يخابر محمد علي والباب العالي سرا في إبرام اتفاق لمنح محمد علي كل بلاد سورية، فلما علم بالمرستون بذلك قطع كل رجاء في مؤازرة فرنسا له.
وفي أثناء ذلك أرادت الروسيا أن تتفق مع إنجلترا في حل المسألة التركية المصرية، فأرسلت سفيرا عرض على الحكومة الإنجليزية أن الروسيا مستعدة أن لا تتدخل في المسألة التركية وحدها، وأنها تبادر إلى النزول عن شروط معاهدة هنكار إسكله سي، وفي مقابل ذلك يقفل الدردنيل والبسفور في وجه كل السفن ويسمح للروسيا وحدها أن تمر منها لحماية الدولة العلية وقت الخطر.
فابتدأت الدول الأربع «الروسيا، وبروسيا، والنمسا، وإنجلترا» تفاوض محمد علي بواسطة «الكولونيل هدجس» السفير الإنجليزي بمصر - وكان قد عين بدلا من الكولونيل «كمبل» للقيام بهذه المهمة خاصة - فلم يصغ محمد علي لكل تهديدات «هدجس» ووعيده، مرتكنا على ما كانت تعده به فرنسا من المساعدة؛ ولذلك رفض كل مفاوضات الدول الأخرى، فلما يئست الدول الأربع منه أبرمت مع الدولة العثمانية «معاهدة لندن» في (15 جمادى الأولى سنة 1256ه/15 يوليو سنة 1840م) بدون علم فرنسا، وقررت في هذا المجتمع أيضا الطرق التي يجب اتخاذها لإخضاع محمد علي. وأهم شروط هذه المعاهدة ما يأتي: (1)
إلزام محمد علي بإرجاع ما فتحه من بلاد الدولة العلية، وأن يحفظ لنفسه الجزء الجنوبي من الشام الشامل مدينة عكاء. (2)
أن يكون لإنجلترا الحق بالاتفاق مع النمسا في محاصرة فرض الشام، ومساعدة كل من أراد الهجرة من أملاك محمد علي والرجوع إلى الدولة. (3)
أن يكون لسفن الروسيا والنمسا وإنجلترا معا حق الدخول في البسفور والدردنيل لوقاية القسطنطينية لو تقدمت الجيوش المصرية نحوها، وأن لا تدخلها سفن ما دامت الدولة غير مهددة بخطر.
وفي مادة خاصة اشترطت الدول أنه إذا خضع محمد علي لرأي الدول في مدة عشرة أيام أعطته ولاية مصر وراثية، وجنوبي بلاد الشام الشامل لولاية عكاء مدة حياته، وإذا أصر على عصيانه إلى ما بعد هذه المدة أعطته ولاية مصر فقط، وإذا لم يخضع في مدة عشرة أيام أخرى عادت الدول إلى النظر في الأمر من جديد.
ولما وصل خبر هذه المعاهدة إلى فرنسا هاج الرأي العام، وقامت الاستعدادات الحربية على قدم وساق؛ فنصحت الحكومة الإنجليزية لملك فرنسا «لويس فليب» بواسطة ملك البلجيك أن يتبصر في عواقب هذه الاستعدادات الحربية، ففطن لذلك الملك وعزل «تييرس» رئيس الوزارة، وعين بدله «جيزوت». إلا أنه لم يتمكن من إيقاف الاستعدادات الحربية لهياج الرأي العام.
أما محمد علي فقد مضت عليه المدة المعينة ولم يقبل شيئا من هذه الشروط؛ فأعلن الباب العالي خلعه وحصر الشواطئ المصرية والشامية. وكان محمد علي من جهة لا يزال مؤملا مساعدة فرنسا له، ومرتكنا على قوة جيش ابنه إبراهيم، ومن جهة أخرى كانت فرنسا تعتقد في عظم جيوش محمد علي وأنه يمكنه أن يقاوم الدول حتى تجهز هي جيشها. ولكن الحوادث أظهرت غير ذلك، فأحجمت فرنسا عن مساعدة محمد علي بعد سقوط وزارة «تييرس» وتلاشي جيش إبراهيم أمام قوى الدول المتحدة كما سيأتي، وسهل عليها الأمر نزول إنجلترا عن الإصرار على حرمان محمد علي من مصر ذاتها. (6-3) الحملة الأخيرة
لما جاء إلى سليمان باشا الفرنسي والي بيروت نبأ ما قرره الباب العالي بدأ في الاستعداد الحربي، وأبلغ سفراء الدول أن بلاد الشام في حالة حرب. وكان إبراهيم في ذاك الوقت في دمشق بجيشه المؤلف من أربعين ألفا كاملي العدة، وهو الجيش الذي كسر الترك في واقعة نصيبين وقونية من قبلها.
وكان محمد علي في أعظم سطوته وبأسه؛ إذ قد بلغ عدد جيشه في هذا الوقت ربع مليون جندي منها 130000 من الجنود النظامية و40000 من رجال البحرية، فأول عمل قام به مناصبا الدولة أن أعلن: (1)
أن الفرنسيين آتون لمساعدته. (2)
أنه حامي الإسلام ضد الكفار. (3)
تحذيره المارونية من الإنجليز، وقال: إنهم يقصدون بتدخلهم في الأمر نصرة الدروز على كاثوليك لبنان.
إلا أن ذلك لم يجد نفعا؛ لأن أهالي الشام كانوا قد سئموا حكمه، فثاروا على إبراهيم باشا بمساعي «رتشرد وود» أحد رجال السفارة الإنجليزية، فإنه جمع رؤساء القبائل، وأوضح لهم عاقبة الحالة حتى أفلح في إثارة خواطرهم على إبراهيم. وربما كان هذا أكبر سبب في هزيمة الجيش المصري؛ إذ بمجرد ظهور أسطول المتحالفين في المياه الشامية قامت الثورة في لبنان ، فكان تأثيرها في القضاء على ملك محمد علي في الشام أكثر من أساطيل الحلفاء وجيوشهم.
ابتدأت المناوشات عندما وصلت أساطيل الحلفاء أمام بيروت بقيادة «ستبفورد» و«نبيير» الإنجليزيين، ومعها جيش عثماني مؤلف من 4000 جندي. فشرعت الأساطيل في إطلاق قنابلها على بيروت (رجب سنة 1256ه/سبتمبر 1840م)، ونزل الجيش العثماني بالقرب من المدينة، إلا أنها لم تفلح في الاستيلاء عليها لحسن دفاع سليمان باشا عنها، ولما وصل الخبر إلى إبراهيم في دمشق سير مددا إلى بيروت، هزم في الطريق عند قرية «برومانة» في (رجب سنة 1256ه/سبتمبر سنة 1840م)، ثم أنزل الحلفاء قوة أخرى عند صيداء فاستولت عليها عنوة قبل أن يصل إليها إبراهيم باشا الزاحف لتخليصها، فاشتبك مع الحلفاء في 8 أكتوبر في موقعة فاصلة عند «قلعة ميدان» كانت الدائرة فيها عليه، وقد قال شاهد عيان: إن إبراهيم باشا نجا مع ثلة صغيرة من الفرسان بكل مشقة راجعا إلى دمشق. ولما سمع سليمان باشا بذلك أخلى بيروت وانضم إلى إبراهيم، ثم استولت أساطيل الحلفاء على «عكاء»، وكانت فيها حامية مصرية عظيمة، فلم تقو على المقاومة أكثر من ثلاثة أيام.
فلما علم محمد علي بسقوط هذه المدينة حزن حزنا شديدا، ثم أرسل بعدها بزمن يسير إلى إبراهيم يأمره بإخلاء كل بلاد الشام؛ لأن مركزه أصبح حرجا جدا. ولم يتمكن من إرسال النجدات برا؛ لأن ما لديه من الجند كان يحرس بحارة الأسطول التركي الذين تألبوا على أحمد باشا فوزي قائدهم، وأنكروا عليه ما أتى به من العصيان؛ فاضطر محمد علي إلى إنزالهم إلى الشاطئ وحراستهم، ولم يمكنه إرسال المدد أيضا من جهة البحر خوفا من أسطول الحلفاء الذي كان يتجول في تلك المياه.
ولما وصل الخبر إلى إبراهيم بإخلاء بلاد الشام أخذ في إخلائها. وقد أظهر من المهارة والحذق هو وسليمان باشا في تقهقر جيشه في وسط صحراء سورية ما شهدت به الأعداء، وقام كل ضابط من رجاله بواجبه، وحافظ على النظام إلى آخر لحظة من حياته.
ابتدأ ذلك التقهقر من مدينة دمشق في (5 ذي القعدة سنة 1256ه/29 ديسمبر سنة 1840م)، وكان عدد الجيش 62000 جندي، يتبعهم عشرون ألفا من الأطفال، والنساء. وقد لاقى الجيش في سيره عناء شديدا؛ إذ كانت الأعراب تتخطفه من أطرافه وأهل البلاد يناوشونه، حتى كان يضطر إلى محاربتهم من آن لآخر. وبعد أسبوع وصل إلى بلدة «المزاريب»، ومن ثم سير إبراهيم باشا سليمان باشا بالمدافع والخيل من طريق الصحراء إلى العقبة، وسار هو ومن معه إلى أن وصل إلى «غزة». وكان قد هلك أثناء هذا التقهقر ثلثا من معه من الجند وكثير من المستخدمين الملكيين. فكتب إلى والده يخبره بقدومه، ويطلب منه إرسال ما يلزم من السفن لنقل الجند إلى الإسكندرية وما يلزمهم من المئونة، فأرسل له أسطولا مكونا من ثماني سفن.
وبعد سقوط «عكاء» أبحر «نبيير» بأسطول الحلفاء إلى الإسكندرية، وقابل محمد علي وأخبره أنه إذا خضع للخليفة أخذت دول التحالف على عاتقها أن تتوسط لدى الباب العالي ليعطيه مصر وراثة، أما إذا استمر على عدم الإذعان فإنه يضطر إلى ضرب الإسكندرية وتخريب قصر رأس التين نفسه؛ فقبل ذلك محمد علي بعد أن يئس من مساعدة فرنسا له، ورد الأسطول العثماني إلى القسطنطينية.
أما الباب العالي فلم يقبل هذا الاتفاق، إلا أن «بالمرستون» أشار على دول التحالف أن تنصح له بالقبول، فطلبت الدول أولا من محمد علي أن يخضع للباب العالي خضوعا تاما بلا قيد ولا شرط، فامتثل لذلك وأرسل في (ذي القعدة 1256ه/يناير 1841م) رقعة يظهر فيها خضوعه ويعترف بسيادة الباب العالي.
بالمرستون (زعيم ساسة أوروبا في المسألة التركية المصرية).
ولما وصلت هذه الرسالة إلى الباب العالي عاد «بالمرستون» فأوعز إلى الدول المتحالفة أن يطلبوا إلى الباب العالي أن يمنح محمد علي ولاية مصر وراثية، فتم ذلك بتقليد «فرمان» في (21 ذي الحجة سنة 1256ه/13 فبراير سنة 1841م)، هذا مؤداه:
أولا:
أن الولاية تكون لمن يختاره الباب العالي من أولاد محمد علي باشا الذكور، ثم لأولاد أولاده الذكور، وهلم جرا، بحيث لا يكون لأولاد البنات الحق في الحكم مطلقا.
ثانيا:
يجب على من يختاره السلطان واليا على مصر أن يسافر بنفسه إلى القسطنطينية لتسلم تقليد التولية بيده.
ثالثا:
أن الذي ينتخب واليا لمصر يعتبر كأحد وزراء الدولة في مخاطباته مع الباب العالي، وفي المقابلات السلطانية؛ بحيث لا يكون له أدنى امتياز عنهم من هذه الوجهة مطلقا.
رابعا:
أن والي مصر يكون ملزما باتباع أمر التنظيمات العالي الذي أصدره السلطان عبد المجيد عند توليته، وكل ما أصدره أو يصدره الباب العالي من القوانين واللوائح. ويكون الوالي ملزما أيضا بالسير في ولايته طبق المعاهدات المبرمة أو التي تبرم بين الباب العالي والدول الأجنبية أيا كانت بلا تغيير ولا تبديل؛ إذ الحكومة المصرية لم تخرج عن كونها ولاية عثمانية كباقي الولايات.
خامسا:
أن سائر الضرائب على اختلاف أنواعها يكون تحصيلها باسم الجناب السلطاني، ويكون تحصيلها وتوزيعها بحسب القواعد المتبعة في باقي ولايات الدولة العلية.
سادسا:
أن ربع المتحصل يدفع للخزانة الشاهانية، والثلاثة الأرباع الباقية يصرف منها ما يلزم لنفقات الإدارة وجباية الأموال، وما يلزم أيضا للوالي وأسرته، وثمن البر الذي يرسل سنويا إلى مدينتي مكة والمدينة المنورة.
سابعا:
أن هذه الضرائب تدفع بقيمة واحدة مدة خمس سنين تبتدئ من سنة 1257 هجرية. وبعد انقضاء هذه المدة يمكن تعديلها، إما بزيادة أو نقصان حسبما تستدعيه ثروة الحكومة والأهالي.
ثامنا:
أنه لضبط المتحصل من الضرائب ومعرفة ما يخص الدولة بالتحقيق يلزم أن تعين لجنة من الدولة تقيم في مصر لهذه الغاية، وينظر في تعيينها بعد كما تقتضيه الإرادة الشاهانية.
تاسعا:
يكون لمصر الحق في ضرب العملة، من فضية وذهبية ونحاسية، بشرط أن يكون ذلك باسم السلطان المعظم، وأن لا تختلف العملة المصرية عن العملة العثمانية لا في الشكل ولا في الهيئة ولا في العيار.
عاشرا:
عدد الجيش المصري يجب أن لا يتجاوز ثمانية عشر ألفا في مدة السلم، وأما في أيام الحرب فيزاد هذا المقدار إلى الحد الذي تقرره الدولة؛ إذ إن العساكر المصرية تكون ملزمة حينئذ بالاشتراك والمساعدة في القتال مع باقي الجنود الشاهانية.
حادي عشر:
أن مدة الخدمة العسكرية يجب أن لا تتجاوز خمس سنين، ويكون جمع العسكر بطريق القرعة كما هو المتبع في الدولة، ومن حيث إن الجيش المصري يبلغ - في ذاك الوقت - زهاء ثمانين ألفا، يؤخذ منهم عشرون ألفا، ويرجع الباقي إلى بلادهم، ويرسل أيضا من هذا المقدار ألفان إلى دار السعادة كي لا يبقى في مصر إلا الثمانية عشر ألفا المقررة.
ثاني عشر:
من حيث إن مدة الخدمة العسكرية خمس سنين، يؤخذ سنويا من أفراد القرعة أربعة آلاف شاب، يرسل منهم إلى دار الخلافة أربعمائة، ويبقى الباقون في مصر.
ثالث عشر:
أن من أدى مدة الخدمة المطلوبة من الجند يعود إلى بلده، ولا يجوز إدخاله في الجيش مرة أخرى.
رابع عشر:
أن ملابس العساكر المصرية وعلامات رتبهم تكون مشابهة لجنس ولون ملابس العساكر الشاهانية.
خامس عشر:
كذلك ملابس البحارة وضباط البحرية وبيارق المراكب تكون مماثلة لما هو متبع في بحرية الدولة العلية.
سادس عشر:
لا يكون لوالي مصر الحق في منح الرتب العسكرية للضباط البحرية والبرية إلا لغاية «صاغ قول أغاسي» - بدخول الغاية.
سابع عشر:
لا يكون لوالي مصر الحق في إنشاء سفن حربية إلا بعد الحصول على إذن صريح من الدولة العلية.
ثامن عشر:
من حيث إن حق الوراثة على ولاية مصر لم يمنح لمحمد علي باشا وأسرته إلا بهذه الشروط، فلو أخلوا بأحدها سقط حقهم، وصار لجلالة السلطان الحق في تولية من يشاء.
ومنح الباب العالي محمد علي أيضا ولايات النوبة ودارفور وكردفان وسنار مدة حياته بدون أن تنتقل إلى ورثته كمصر، بمقتضى تقليد شاهاني أصدر في اليوم الذي أصدر فيه التقليد الأول، أعني في 13 فبراير سنة 1841م. وكلفه أن يقدم حسابا عن هذه الولايات سنويا إلى دار الخلافة العظمى، وأن يمنع ما كان متبعا في السودان من إغارة الجند على قرى الأهالي وخطف بناتهم وصبيانهم. وأن يمنع جملة عادة خصي بعض هؤلاء التعاس الحظ لاستخدامهم في القصور حرسا على الحريم - أغاوات - وأن يحفظ للضباط الموجودين رتبهم، ويرسل إلى الباب العالي قائمة بأسمائهم، من الرتبة التالية لصاغ قول أغاسي فما فوق، ليصدر أمرا بتثبيتهم في وظائفهم.
فقبل محمد علي باشا كل هذه الشروط وإن لم يكن ذلك عن رضى، ثم طلب من الدول أن تساعده في تخفيف بعضها وتغيير بعضها الآخر. فقبلت الدول ملتمسه وأرسلت إلى الباب العالي لائحة بتاريخ (18 المحرم سنة 1257ه/13 مارس سنة 1841م) تطلب منه ذلك؛ فتنازلت الحضرة السلطانية بمقتضى تقليد آخر تاريخه صفر (1257ه/أبريل سنة 1841م) بتعديل تقليدها الصادر في (21 ذي الحجة سنة 1256ه/13 فبراير سنة 1841م)، وهاك أهم ما فيه من الشروط المعدلة:
أولا:
أن حق الوراثة يكون للأكبر سنا بين أولاده الذكور، مع بقاء الشرط الملزم لمن يستحق الولاية بهذه الكيفية بالسفر إلى مقر دار الخلافة العظمى لتسلمه التقليد بيده.
ثانيا:
أن ما تدفعه الحكومة المصرية للدولة العلية - صاحبة السيادة - من الخراج لا يكون ربع دخل الحكومة قبل أخذ نفقات الجباية والإدارة، بل يصير تقديره فيما بعد مع مراعاة حالة الحكومة المصرية.
ثالثا:
أن يكون للوالي حق في منح الرتب لغاية «أميرالاي» - بدخول الغاية - أما ما فوق ذلك فلا يكون إلا بإذن من الباب العالي.
ولما أقرت الدول هذا التعديل أصدرت الحضرة الشاهانية تقليدا آخر في 11 ربيع الآخر سنة 1257ه/أول يونيو سنة 1841م مؤيدا لما في التقليد السابق.
وفي (غرة جمادى الأولى سنة 1257ه/20 يونيو سنة 1841م) صدر تقليد آخر بجعل مقدار ما تدفعه الحكومة المصرية إلى الدولة العلية سنويا ثمانية آلاف كيس. (7) شيخوخة محمد علي وحكم إبراهيم
بعد أن انكمش محمد علي في ولاية مصر، وحرمته الدول من فتوحاته التي اكتسبها بحد السيف وأريقت من أجلها دماء المصريين، لم يكن في قدرته النهوض بها إلى الدرجة التي كانت تصبو إليها نفسه. والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين؛ الأول: تقدمه في السن واضمحلال قواه العقلية والجثمانية، والثاني: أن حالة البلاد الداخلية كانت قد انحطت دفعة واحدة لما حل بأهلها من المصائب من جراء كل هذه الحروب التي قاموا بأعبائها، وأنفقوا عليها من دمائهم وأموالهم، حتى أصبحت البلاد في حالة يرثى لها.
ومع ذلك ابتدأ محمد علي يحصن مدينة الإسكندرية على يد مهندسين فرنسيين، وذلك حينما أجبرته الدولة على تنقيص جيشه إلى ثمانية عشر ألف جندي. وأرسل حفيده عباس باشا إلى الباب العالي يلتمس منه أن يمنحه تقليدا أوسع نطاقا من الأخير، فأرضاه الباب العالي بأن منحه لقب الصدارة العظمى من غير أن يجيبه إلى طلبه.
ولكن شاءت المقادير إلا معاكسة محمد علي؛ ففي سنة (1259ه/1843م) انتشر طاعون الماشية في البلاد وتبعه هبوط النيل؛ فأصبحت البلاد على حافة الخراب. وفي العام نفسه اجتاح الجراد زراعة البلاد فتركها قاعا صفصفا؛ وبذلك وقف دولاب الحكومة، واستولى الرعب والوجل على قلوب حكام البلاد، فاجتمع مجلس في القاهرة وكتب تقريرا عن سير الأحوال في البلاد وما آلت إليه من الانحطاط، إلا أنهم لاقوا صعوبة عظيمة في تبليغ هذا التقرير إلى الباشا، ولما وصل إليه استشاط غضبا. وكان يخاف أن يخلعه ابنه إبراهيم، ففكر في التخلي عن الملك والذهاب إلى مكة ليقضي باقي أيامه فيها، فتوسط سفراء الدول، وأزالوا ما في نفسه نحو ابنه البار.
وابتدأت بعد ذلك الأحوال تتحسن شيئا فشيئا في السنتين التاليتين، إلا أن صحة إبراهيم في هذه الأثناء اضمحلت دفعة واحدة، فأشار عليه الأطباء بالسفر إلى أوروبا، فعمل بذلك. وبعد أن طاف في كثير من البلدان - خصوصا إيطاليا وفرنسا وإنجلترا - رجع إلى الديار المصرية وعلامات الصحة بادية عليه، فلم يجد والده هناك، بل علم أنه سافر إلى مقر الخلافة (رجب سنة 1262ه/يونيو سنة 1846م) ليحظى بالمثول بين يدي الخليفة ويقدم له ولاءه وطاعته.
وقد قوبل محمد علي من الخليفة بكل حفاوة وإكرام، وهنا تقابل مع أشد أعدائه خسرو، فتعانقا طويلا واتفقا على تناسي الماضي. ولما طالت مدة إقامة محمد علي في دار الخلافة ابتدأ رجال القصر يعاملونه معاملة قاسية؛ فأثر ذلك في صحته تأثيرا سيئا، فلما رجع إلى مصر في أواخر ذلك العام كان أشبه بالشبح منه بالإنسان.
وفي أثناء عودته زار مسقط رأسه «قولة» التي تركها منذ عام (1214ه/1799م)، وبعد ذلك ترك مقاليد الأمور لحفيده عباس باشا الأول؛ لأن حالة إبراهيم الصحية لم تمكنه من القيام بأعباء الأمور في البلاد. وكانت خاتمة أعمال محمد علي وضع أول حجر أساسي للقناطر الخيرية في (22 ربيع الآخر سنة 1263ه/أبريل سنة 1847م) بين جم غفير من المشاهدين.
ثم أشار الأطباء ثانيا على إبراهيم بالسفر إلى أوروبا، وفي مدة غيابه ذهب والده إلى نابلي في إيطاليا، حيث سمع بخلع «لويس فليب» ملك فرنسا، فتذكر خدماته له في الأزمة الأخيرة، وعزم على تجريد حملة لإرجاعه إلى عرشه، فلما علم بذلك إبراهيم قفل راجعا إلى مصر.
جامع محمد علي (بالقلعة).
وفي (شعبان سنة 1264ه/يوليو سنة 1848م) أصدر الباب العالي تقليدا بتولية إبراهيم باشا على الديار المصرية، فذهب لتقديم ولائه إلى الباب العالي في القسطنطينية، وبعد عودته بزمن يسير جدا، عاوده المرض الذي أضنى صحته منذ سنين عديدة، فقضى على ذلك الرجل العظيم في (13 ذي الحجة سنة 1264ه/نوفمبر سنة 1848م) ودفن بالقرافة، وبموته رجع عباس باشا من مكة، فتقلد الأمور في البلاد، ثم سافر توا إلى القسطنطينية ليتسلم تقليد التولية.
أما محمد علي فلم يمكث بعد تولية عباس إلا أشهرا قلائل، كان في أثنائها منحط القوى العقلية والجثمانية جملة لكبر سنه، إلى أن فاضت روحه بالإسكندرية في (13 رمضان سنة 1265ه/2 أغسطس سنة 1849م)، وبذا انتهت حياة عظيم من أكبر رجال الشرق.
ونقلت جثته إلى القاهرة حيث دفنت بمسجده الذي شيده بالقلعة سنة (1246ه/1831م)، وهو من أجمل المباني التي شيدت بمصر على الطراز التركي الحديث.
ويسمى علي باشا الطرابلسي أيضا نسبة إلى طرابلس الغرب.
هكذا كان يسمى، وإن كان لم يمنح لقب «خديوي» رسميا للوالي إلا في عهد إسماعيل.
هذا الضابط بمثابة الحكمدار في وقتنا هذا.
ومن شدة رغبته في إنجازه على وجه السرعة أنه أراد هدم أهرام الجيزة لاستخدام أحجارها فيه، لولا أن أقنعه لينان باشا أن قطع الأحجار من المحاجر أسهل من ذلك، وأشد اقتصادا.
يعني أنها تصبح موضع نزاع بين الدول العظام ربما أفضى إلى استيلاء أقواهن على مصر.
وقد جاء في كتاب المسيو «هامون» في تاريخ مصر في عهد محمد علي، نقلا عن تقرير المسيو «جومار» إلى محمد علي سنة (1244ه/1828م) ما يأتي:
أنه خصص تلميذين بدرس العلوم السياسية، وكان يدرس لهما قانون حقوق الدول والاقتصاد السياسي، وأكثر لغات أوروبا المستعملة في السياسة، وتنقلا في بلاد أوروبا للوقوف على عادات أهلها. واختار أربعة للإدارة العسكرية، وثلاثة للبحرية، وثلاثة للعلوم الآلية - الميخانيكية - يتعلمون الهندسة العلمية، ويتدربون في المعامل، ويتمرنون على الأشغال اليدوية. وخص فرقة بفن المدفعية والاستحكامات، وتفرغ منهم أيضا عدد لدرس الكيمياء الصناعية، وخاصة ما يتعلق بالصباغة وعمل الزجاج، وصناعة السكر؛ ليكونوا مديرين للمعامل التي شيدت في مصر. وخص بعضهم بالزراعة العملية، والتاريخ الطبيعي والتعدين؛ وذلك للبحث عما عساه أن يوجد في مصر من المعادن.
وقد أوردنا في الصفحة التالية صور بعض طلبة البعوث العلمية، التي أرسلها محمد علي باشا إلى أوروبا، وهم: (1) رفاعة بك «ناظر مدرسة الألسن» (2) مختار بك «أحد وزراء المعارف» (3) حسن بك «وزير بحرية» (4) مظهر بك «مهندس القناطر الخيرية» (5) مصطفى محرمجي «مهندس» (6) محمد شافعي «أحد نظار مدرسة الطب» (7) محمد علي باشا الحكيم «طبيب وجراح» (8) محمد السكري «مدرس بمدرسة الطب».
على الشاطئ الغربي من شبه جزيرة مورة.
ثم عادت الجنود العثمانية فاحتلتها لعدم إرسال إبراهيم باشا ما يكفي من الجند للاحتفاظ بها. وقد ذكرنا الحادثة إيضاحا لمقدار تأثير صيت إبراهيم باشا.
طائفة قريبة من الإسماعيلية في المذهب، تقطن الجبل بين لبنان ونهر العاصي.
طائفة مسيحية تقطن لبنان، تابعة لكنيسة رومية ظاهرا، لكنها محافظة على تقاليدها القومية.
هو رأس بيت عربي يزعم انتماءه إلى قريش، وقد تنصر بشير هذا وتبعه بعض أهل بيته ليتولى زعامة نصارى لبنان - وهم أكثر قطانه.
الفصل الثالث
الطريق البري بين الهند وأوروبا
كان من أهم موارد الثروة في مصر في عهد المماليك الضرائب التي كانت تجبى على البضائع والسلع المتبادلة بين أوروبا والهند على طريق مصر، وقد ظلت هذه الطريق مسلوكة حتى كشف البرتقال طريق الرجاء الصالح كما سبق، فتحولت التجارة إليها منذ ذلك العهد، وهجرت طريق مصر لسهولة الأولى وقلة نفقاتها وصون البضائع وقلة الخطر فيها، خصوصا أن البحر الأبيض المتوسط كان يهدد تجارته في ذلك العهد لصوص البحر من الترك وغيرهم. وكانت القوافل التي تحمل التجارة من السويس إلى الإسكندرية تسطو عليها قبائل الأعراب وقطاع الطريق.
بقيت طريق الرجاء الصالح متبعة حتى أواخر القرن الثامن عشر، عندما فكر بعض رجال إنجلترا في إحياء طريق مصر. ولا غرابة؛ فإن نفوذ الدولة البريطانية كان قد اتسع في بلاد الهند، وأصبح من الضروري لها اتخاذ طريق أقصر للمواصلة بينها وبين هذه المستعمرة العظيمة من طريق الرأس التي كانت تستغرق زمنا طويلا.
وأول من عني بإحياء هذا المشروع «جورج بلدوين» سفير إنجلترا في مصر في عهد الثورة الفرنسية، وأول عمل قام به للوصول إلى غرضه أنه حصل على إذن من الباب العالي يخول له الملاحة في البحر الأحمر، ثم أحضر سفينة من لندن إلى الإسكندرية، وأخرى من «كلكتة» إلى ميناء السويس، ثم صعد الهرم الأكبر يرافقه ثلة من أصدقائه، ومعه ثلاث زجاجات ملئت بالماء: إحداها من النيل، والثانية من نهر التاميس، والأخيرة من ماء الكنج، ثم شربوا من مزيج الثلاث على ذكر اتحاد الثلاثة الأنهار واتساع نطاق التجارة البريطانية على طريق الديار المصرية. غير أن الباب العالي لم يلبث أن ألغى الإذن.
وبعدئذ أظهر أحد التجار الإنجليز بمدينة الإسكندرية، وهو «المستر برجز» لمحمد علي الفوائد المادية التي تعود على البلاد من اتصال التجارة بين مصر والهند، وذلك أثناء حربه مع الوهابيين، فصادف هوى في نفس الوالي، وأرسل بعض السفن إلى مياه بمباي، ولكن المشروع لم يفلح طويلا.
ولما ابتدأ احتكار محمد علي للتجارة في الديار المصرية، تلهى الفرنسيون النازلون بمصر بالوظائف الأميرية عن سواها من الأعمال، وكان نظير ذلك لرجال الإنجليز الحظ الأوفر في التجارة المصرية، فكانوا يتغنون بمدح محمد علي في بلادهم، ويذكرون له الأيادي البيضاء في تشجيع التجارة، فلما سمع بذلك «توماس وجهورن» أحد رجال الأسطول الإنجليزي الموظفين في «شركة الهند الشرقية» أخذ يعمل بكل قواه العقلية والجثمانية لإحياء هذه الطريق، خصوصا بعد أن توطدت دعائم الأمن العام في مصر بفضل إصلاحات محمد علي، وصار استعمال البخار في تسيير السفن من أكبر المشجعات أيضا على الدأب وراء إنفاذ فكرته. فقدم اقتراحه في أول مرة إلى شركته في سنة (1238-39ه/1823م)، فلم توافق عليه بالرغم من مساعدة «بركر» سفير إنجلترا في مصر، ظنا منها أنه من الأمور الصعبة التنفيذ.
ولكن المشروع لم يندثر نهائيا؛ ففي سنة (1244-45ه/1829م) أرسل السير «جون ملكم» حاكم بمباي باخرة إلى السويس لنقل التجارة، فلم تواصل رحلاتها إلا زمنا يسيرا لكثرة نفقات الفحم، إلا أن «بركر» ما زال بفكرة «وجهورن» يحمدها ويعضدها حتى طلبت منه الحكومة الإنجليزية تقريرا رسميا في هذا الصدد. فاقتنعت إنجلترا بالتقرير، وما جاء شهر (رمضان سنة 1246ه/فبراير 1830م) حتى أصبح نجاح مشروع «وجهورن» من المحقق.
وفي أثناء هذا الجهاد الطويل كان محمد علي من أكبر المشجعين لوجهورن، حتى إنه من شدة ميله لمحمد علي، قدم رسالة إلى البرلمان الإنجليزي يرجوه فيها أن ينظر إلى مصر بعين الرعاية والشفقة، وأن لا يجعلها في حوزة تركيا، ولا شك أن محمد علي خدم الأمة الإنجليزية من هذه الوجهة؛ ولذلك يعترف بعض الإنجليز بأن بريطانيا العظمى مدينة له في إحياء هذه الطريق.
أما وجهورن فقد جنى ثمرة جهاده بعد أن لاقى أهوالا وقاسى شدائد جمة مدة عشرين عاما؛ ففي (27 رمضان سنة 1261ه/أول أكتوبر سنة 1845م) أبحرت باخرة من بمباي تحمل بريدا، فوصلت السويس بعد 19 يوما، ثم نقل البريد برا إلى الإسكندرية ، فبلغها في اليوم التالي، ومنها نقل على طريق تريست ونهر الرين والبلجيك، فوصل لندن في صبيحة يوم الواحد والثلاثين من شهر أكتوبر، أي إنه لم يستغرق في طريقه أكثر من شهر.
1
ولقد بذلت الحكومة الفرنسية جهدها لإثبات أن الطريق من فرنسا آمن وأقصر، فاتخذت أخيرا شركة البواخر الشرقية التي أسست سنة (1255-56ه/1840م) ميناء مرسيليا مركزا عاما للبريد الأوروبي.
وقد زاد في سهولة هذه الطريق أنه قبل ممات محمد علي أسست شركة سفن تجارية تجري في ترعة المحمودية والنيل بين مصر والإسكندرية، فكان متوسط المسافرين على طريق مصر بين عامي (1258-1265ه/1842-1849م) يبلغ 15000 في العام الواحد.
وتوفي «وجهورن» عام (1266-67ه/1850م)، وكان لا يزال يعترف إلى آخر لحظة من حياته أن السبب في نجاحه يعزى إلى كرم وتشجيع محمد علي، صاحب الأيادي البيضاء عليه، ولا يزال اسم «وجهورن» مقرونا بالتبجيل، وله تمثال منصوب في ميناء السويس، ويمتاز وجهورن على «ديلسبس» بأنه لم يستنفد أموال الخزينة المصرية، ولم يحول المشروع الذي قام به ضد مصلحة من أحسن إليه، كما فعل الآخر. وقد اعترف بعض رجال الأمة الإنجليزية بفضل محمد علي فأهدوه في عام (1255-56ه/1840م) وساما، زين أحد وجهيه برسم محمد علي، ونقشت على الثاني العبارة الآتية:
إلى مشجع العلم والتجارة والنظام، الحامي لرعايا وأموال الممالك المتضادة، والفاتح للطريق البري إلى الهند.
كان البريد ينقل بين السويس والقاهرة على الجمال بطريق الصحراء، وكان بعض رجال الإنجليز قد عرض على محمد علي إنشاء خط حديدي على هذا الطريق، فوافق على هذا الرأي، وأحضرت بعض المواد اللازمة لإنشاء الخط بالفعل، إلا أن محمد علي ارتاب فيما بعد في عاقبة الأمر، وأحجم عن المشروع.
ملخص لأهم الحوادث التاريخية في الباب الثاني
أهم الحوادث
هجريا
ميلاديا
أولا: الحملة الفرنسية
1212-1216
1798-1801
تجريد نابليون حملة على مصر
1212
1798
إقلاعه بجيشه إلى البلاد المصرية
2 ذي الحجة 1212
19 مايو 1798
وصول نلسن أمير البحر الإنجليزي بأسطوله إلى الإسكندرية مقتفيا أثر الأسطول الفرنسي فلم يعثر عليه
8 المحرم 1213
21 يونيو 1798
وصول العمارة الفرنسية أمام الإسكندرية
18 المحرم 1213
1 يوليو 1798
زحف نابليون على القاهرة من طريق الصحراء بعد إخضاع الإسكندرية
22 المحرم 1213
7 يوليو 1798
الاستيلاء على رشيد
1213
1798
انهزام مراد بك أمام نابليون عند شبراخيت وتقهقره إلى القاهرة
29 المحرم 1213
14 يوليو 1798
انهزام المماليك في واقعة أنبابة (الأهرام)
7 صفر 1213
21 يوليو 1798
اجتماع العلماء بعد الموقعة وتقريرهم التسليم لنابليون
8 صفر 1213
22 يوليو 1798
دخول نابليون القاهرة
11 صفر 1213
25 يوليو 1798
إصلاحات نابليون في القاهرة
1213
1798
تدمير العمارة الفرنسية في موقعة بوقير البحرية على يد نلسن
17 ربيع الأول 1213
أغسطس 1798
خروج سكان القاهرة على الفرنسيس خروجا عاما وإخماد الثورة على يد نابليون
10 جمادى الأولى 1213
22 أكتوبر 1798
تجريد نابليون حملة على بلاد الشام لصد غارة الترك على مصر
1213
1799
وصول الحملة إلى يافا
25 رمضان 1213
3 مارس 1799
حصار نابليون لعكاء ورجوعه عنها لمناعتها
1213
1799
انتصار نابليون على الترك في واقعة بوقير البرية
9 المحرم 1214
13 يونيو 1799
مغادرة نابليون مصر قاصدا فرنسا وعهده بالقيادة لكليبر
19 ربيع الأول 1214
22 أغسطس 1799
مهادنة الفرنسيين للمماليك بعد تغلب الآخرين على معظم الصعيد
1214
1799
إدراك كليبر صعوبة مركزه وإبرامه معاهدة العريش مع سدني سمث
شعبان 1214
يناير 1800
عدم موافقة الحكومة الإنجليزية على هذه المعاهدة
1214
1800
دخول الترك مصر بعد المعاهدة ووقوع الثورة فيها وإخمادها على يد الفرنسيس وعودة النفوذ لهم فيها
1214
1800
مقتل القائد كليبر
20 المحرم 1215
14 يونيو 1800
وصول الحملة الإنجليزية بقيادة السير رلف أبركرومبي لطرد الفرنسيس
شوال 1215
فبراير 1801
انهزام الفرنسيس عند كانوب وموت أبركرومبي وتولي هتشنسن مكانه
1215
1801
جلاء الفرنسيس عن مصر بعد تسليم بليار بالقاهرة ومينو بالإسكندرية
10 جمادى الأولى 1216
18 سبتمبر 1801
طبع الحكومة الفرنسية أعمال البعث العلمي في مؤلف يدعى وصف مصر
1217
1802
ثانيا: محمد علي باشا
1183-1265
1769-1849 (1) نشأته ونهوضه
1183-1220
1769-1805
مولد محمد علي في قولة
1183
1769
قدومه إلى مصر في واقعة بوقير البرية
1213
1799
قدومه إلى مصر وقت حملة أبركرومبي
1215
1801
تولية خسرو على مصر من قبل الباب العالي
1216
1801
نزاع بين خسرو والمماليك وبينه وبين الجنود العثمانية يظهر فيه محمد علي تدريجيا وينتهي بهروب خسرو إلى دمياط
الأهالي يختارون طاهر باشا خلفا لخسرو
1218
1803
مقتله بعد 22 يوما
محمد علي يصبح رئيس الجنود الألبانية في مصر
اتحاده مع البرديسي علي خسرو - مداخلة والي ينبع - أخذ خسرو سجينا إلى القاهرة
تولية علي باشا الجزائري
ربيع الأول 1218
يوليو 1803
البرديسي يحتال حتى يقتله
شوال 1218
يناير 1804
وصول الألفي بعد أن مكث بإنجلترا سنتين
اتحاد محمد علي والبرديسي على الألفي - فرار الألفي إلى سورية
تظاهر محمد علي بالخضوع للدولة وتأليبه الأهالي على البرديسي ومهاجمته إياه وطرده هو وإبراهيم بك إلى الشام
تولية خورشيد باشا - ضعفه وتمرد الجند عليه والتجاء الأهالي إلى محمد علي
بقاء محمد علي بمصر رغم إرادة الدولة - اتفاقه مع الدلاة
محاصرته خورشيد باشا بالقلعة (برغبة الأهالي)
صفر 1220
مايو 1805
اختيار الأهالي محمد علي واليا على مصر
موافقة الباب العالي على ذلك
ربيع الآخر 1220
يوليو 1805 (2) توطيد سلطته في مصر
1220-1226
1805-1811
أول فتك بالمماليك
جمادى الآخرة 1220
أغسطس 1805
الباب العالي يحاول إبعاد محمد علي عن مصر - تظلم الأهالي ووصول عهد بتأييده في الولاية
شعبان 1221
نوفمبر 1806
اتحاد البرديسي والألفي عليه
موت البرديسي
1221
1806
موت الألفي
1221
1807
وصول الحملة الإنجليزية إلى مصر لتأييد سلطة المماليك
أول المحرم 1222
مارس 1807
استيلاء الحملة على الإسكندرية - رجوع محمد علي من مطاردة المماليك بالصعيد وهزمه الإنجليز عند الحماد - عقد شروط الصلح مع محمد علي وترك الإنجليز البلاد
رجب 1222
سبتمبر 1807
رضاء الباب العالي عن محمد علي والإنعام عليه وفك عقال إبراهيم ابنه
خوف محمد علي من المماليك والعمل على الفتك بهم - هزمه لهم عند أسيوط - انتشارهم في طول البلاد وعرضها
استرضاء محمد علي للمماليك وعقد مهادنة معهم
1225
1810
تدبير المماليك الكيد لمحمد علي وهو راجع من السويس ووقوف محمد علي على ذلك - فتك محمد علي بالماليك في مذبحة القلعة
صفر 1226
فبراير 1811 (3) الحروب الوهابية
1226-1235
1811-1819
مولد ابن عبد الوهاب صاحب المذهب الوهابي بالعيينة من إقليم العارض (مذهب الوهابيين يوافق مذهب أهل السنة الصحيحة)
حماية محمد بن سعود لابن عبد الوهاب وتشجيعه على نشر مذهبه
وفاة ابن عبد الوهاب
1201
1787
امتداد سلطان أولاد سعود على جميع بلاد نجد
1159-1206
1746-1791
قلق شريف مكة من انتشار المذهب الوهابي وتجريده حملة على عبد العزيز
1213
1798
فشل الحملة والعمل على نشر المذهب في وادي الفرات - هزم والي بغداد لعبد العزيز بن سعود
مهاجمة ابن سعود كربلاء وتخريبها
1216
1801
دخول عبد العزيز مكة في العام التالي بدون معارضة الشريف
قتل عبد العزيز وتولية سعود الثاني، وهو أعظم رجال هذه الأسرة
تشديد سعود الثاني في جمع الضرائب حتى أضربت الناس عن الحج
1221
1806
تجريد محمد علي حملة على الوهابيين بأمر الباب العالي
1226
1811
وصول طوسون إلى ينبع وانهزامه عند الجديدة وهرب جنده
وصول المدد إلى طوسون وفتحه المدينة وإرسال مفاتيح الكعبة والحجرة النبوية إلى والده
1227
1812
مطاردة طوسون الوهابيين وانهزامه عند طربة
سفر محمد علي إلى الأقطار الحجازية عند سماعه بهذه النكبة لتولية القيادة بنفسه
وفاة سعود الثاني وتضعضع الوهابيين
1229
1814
انهزام خلفه عبد الله سعود عند بيصل
عودة محمد علي لوقوع قلاقل داخلية في مصر - عودة طوسون عند سماعه بتلك القلاقل - موته فجأة
1230
1815
نقض الوهابيين شروط الصلح التي عقدها معهم طوسون قبل عودته
تجريد حملة إلى بلاد العرب بقيادة إبراهيم باشا للقضاء على الوهابيين
شوال 1231
1816
هزيمة إبراهيم عند الريس
1232
1817
حصاره الدرعية وتسليم عبد الله له وأمره بتخريب البلد
ذي القعدة 1233
1818
مقتل عبد الله بالأستانة (4) فتح السودان
1235-1239
1820-1823
عزم محمد علي على فتح السودان لأسباب مادية وسياسية
تجريده حملة للاستيلاء على سيوة
جمادى الأولى 1235
فبراير 1820
مسير حملة السودان من القاهرة بقيادة إسماعيل
شوال 1235
يوليو 1820
فرار المماليك من دنقلة وتشتتهم عندما سمعوا بمجيء إسماعيل
سحق إسماعيل عرب الشيخية في كرتي - فتحه بربر
جمادى الآخرة 1236
مارس 1821
فتح شندي وسنار ومرض الجيش أثناء إقامة إسماعيل بسنار
وصول المدد إلى إسماعيل بقيادة أخيه إبراهيم - تقسيم القيادة بينهما
وصول إسماعيل في زحفه إلى تومات وعودة إبراهيم إلى مصر لمرضه بعد أن وصل إلى جبل دنكا
وصول مدد بقيادة محمد بك الدفتردار لغزو كردفان
1237
1822
هزمه بعض القبائل عند بارا واستيلاؤه على الأبيض
انتقام الدفتردار من نمر لحرقه إسماعيل بحرق شندي
بناء الخرطوم وجعلها حاضرة للبلاد السودانية
1238
1823 (5) حرب اليونان
1239-1245
1823-1829
شبوب نار الثورة في جنوبي إيطاليا وإسبانيا وبلاد اليونان
1235-1236
1820-1821
إعلان اليونان الحرب على الترك لنيل استقلالها وعدم مساعدة الدول لها
انتصار اليونان في بادئ الأمر واستنجاد السلطان بمحمد علي على قمع الفتنة
تولية محمد علي على جزيرة إقريطش
1239
1823
تولية محمد علي على بلاد المورة
1239
1824
إقلاع الجيش المصري من الإسكندرية إلى بلاد اليونان
ذي القعدة 1239
يوليو 1824
نزول الجيش المصري في مودن
شعبان 1240
فبراير 1825
إخضاع بلاد المورة واستيلاء إبراهيم على أمهات المدن فيها
حصار مسولونجي وتسليمها
رمضان 1241
أبريل 1826
قيام الثورة في بلاد المورة ثانيا وإخضاعها
فتح رشيد باشا مدينة أثينا
استياء دول أوروبا العظمى من فظائع إبراهيم وعقدهم مؤتمرا لذلك في لندن
ذي القعدة 1241
يوليو 1826
إقرار المؤتمر على إرسال عمارة بحرية تعهد القيادة العامة فيها لكدرنجتون
اشتباك العمارة المصرية التركية مع أساطيل الحلفاء في خليج نوارين وتدمير العمارة المصرية التركية
المحرم 1243
أغسطس 1827
احتلال فرنسا لبلاد المورة بعد رفض البرلمان الإنجليزي الاشتراك معها
صفر 1244
أغسطس 1828
ظهور الأسطول الإنجليزي في المياه المصرية وتهديده محمد علي
اتفاق محمد علي مع الإنجليز على إخلاء بلاد المورة
إخلاء إبراهيم بلاد المورة
ربيع الأول 1244
أكتوبر 1828
تصميم السلطان محمود على رفض تحرير اليونان، وإعلان الروسيا الحرب عليه لذلك
1245
1829
انهزام الترك أمام الروس واضطرارهم لعقد معاهدة أدرنة وإقرارهم فيها على تحرير اليونان
1245
1829 (6) حرب الشام
1247-1256
1832-1841
استياء محمد علي من الباب العالي لعدم مكافأته على مساعدته في حرب المورة ولأسباب أخرى
1245
1829
ابتداء استعداد محمد علي للحملة على الشام
خروج الحملة بعد تأخرها بسبب الهيضة
جمادى الأولى 1247
مايو 1832
زحف الجيش البري واستيلاؤه على غزة ويافا
حصار عكاء وسقوطها في يد إبراهيم
ذي الحجة 1247
مايو 1832
إصدار الباب العالي أمرا بخلع محمد علي في أثناء حصار عكاء
ذي الحجة 1247
مايو 1832
فتح دمشق
16 المحرم 1248
15 يونيو 1832
انهزام محمد باشا والي طرابلس عند حمص
9 صفر 1248
8 يوليو 1832
استيلاء إبراهيم على حلب
18 صفر 1248
17 يوليو 1832
هزيمة حسين باشا في مضيق بيلان
1 ربيع الأول 1248
29 يوليو 1832
هزيمة رشيد باشا في واقعة قونية
27 جمادى الآخرة 1248
21 نوفمبر 1832
احتلال كوتاهية
شوال 1248
فبراير 1833
معاهدة كوتاهية
ذي الحجة 1248
مايو 1833
معاهدة هنكار إسكله سي
صفر 1249
يونيو 1833
ابتداء خروج أهل الشام على إبراهيم باشا
1250
1834
استفحال الثورة في الشام - سفر محمد علي باشا إلى الشام لإطفائها
1252
1835
انهزام المصريين في الشام أمام عرب حوران
1254
1838
تقرير الباب العالي إعلان الحرب على محمد علي انتهازا لفرصة خروج الشام
ذي القعدة 1254
يناير 1839
رجوع محمد علي من السودان لما علم بذلك
ذي القعدة 1254
يناير 1839
هزيمة الجيش التركي بقيادة حافظ باشا عند نصيبين
11 ربيع الآخر 1255
24 يونيو 1839
مجيء الأسطول العثماني إلى مصر وانضمامه إلى محمد علي
1255
1839
ابتداء تدخل دول أوروبا في المسألة المصرية التركية
1255
1839
انفراد فرنسا بمؤازرة محمد علي
1255
1839
معاهدة لندن لإخضاع محمد علي
15 جمادى الأولى 1256
15 يوليو 1840
إعلان الباب العالي خلع محمد علي عن الشام
5 رجب 1256
2 سبتمبر 1840
عدم خضوع محمد علي وشروع الدول في إخضاعه بالقوة
1256
1840
ضرب أساطيل الحلفاء ميناء بيروت
رجب 1256
2 سبتمبر 1840
هزيمة إبراهيم باشا في برومانه ثم في قلعة ميدان وإخلاء بيروت واستيلاء الحلفاء على عكاء
1256
1840
ابتداء إخلاء الشام
5 ذي القعدة 1256
29 ديسمبر 1840
خضوع محمد علي للسلطان
ذي القعدة 1256
يناير 1841
صدور تقليد من السلطان بمنح محمد علي ولاية مصر وراثية
21 ذي الحجة 1256
13 فبراير 1841
تخفيف شروط هذا التقليد بتقليد آخر
صفر 1257
أبريل 1841
تأييد هذا التقليد بآخر
11 ربيع الآخر 1257
1 يونيو 1841 (7) شيخوخة محمد علي وحكم إبراهيم
انتشار طاعون الماشية بمصر وهبوط النيل واجتياح الجراد الزراعة
1259
1843
سفر محمد علي باشا إلى الأستانة
رجب 1262
يوليو 1846
وضع محمد علي باشا أول حجر من أساس القناطر الخيرية
22 ربيع الآخر 1263
أبريل 1847
تقليد إبراهيم باشا ولاية مصر
شعبان 1264
يوليو 1848
اشتداد المرض على إبراهيم ووفاته
13 ذي الحجة 1264
نوفمبر 1848
وفاة محمد علي باشا
13 رمضان 1265
2 أغسطس 1849
الباب الثالث
تاريخ مصر بعد عهد محمد علي باشا
الفصل الأول
عباس باشا الأول وسعيد باشا (1) عباس باشا الأول (1265-1270ه/1849-1854م)
بعد موت محمد علي كادت مصر تكون نسيا منسيا، لا أهمية لها في نظر أوروبا، لولا مرور تجارة الهند عن طريق مصر؛ وذلك لأن من خلفه من ذريته لم ينالوا تلك الصفات التي ميزته، وجعلته في مصاف عظماء الرجال في عصره.
تولى الملك عباس باشا الأول - ابن طوسون بن محمد علي - في (27 ذي الحجة سنة 1264ه/24 نوفمبر سنة 1848م)، وكان إذ ذاك يناهز السادسة والثلاثين من عمره، فكان أول عمل قام به أن هدم كل ما أفنى فيه جده العظيم زهرة حياته، غير مفرق بين النافع والضار؛ فكما قضى على احتكار التجارة المجحف بحق الفلاح، نقص الجيش إلى تسعة آلاف، وأغلق المعامل والمدارس، واستغنى عن كثير من الموظفين الغربيين، وأظهر ميله إلى العادات والأنظمة التركية والبلدية.
عباس باشا الأول.
مضى عباس باشا معظم حكمه بمعزل عن الناس، متهاونا في شئون الملك، غير مكترث بما في ذلك من الضرر. ولعل له عذرا في ذلك؛ إذ إنه لما شاهد فشل حروب الشام بقيادة إبراهيم باشا، ورأى سقوط جده الكبير والقضاء على كل آماله، رأى أنه من العبث مقاومة أوروبا، وأدرك أن البلاد في حاجة إلى السكينة والراحة، وأن لا داعي إلى المظاهر الأوروبية الكاذبة التي كان يعتقد أنها تسربت إلى مصر قبل ميعادها.
تلك كانت خطته. ولما رأى أنه يحيط به قطيع من الذئاب الغربية، وطائفة من الموظفين المتملقين الذين لا هم لهم إلا جمع الثروة من حوله، اعتزل جميعهم إلا نفرا قليلا من سفراء الدول وخدمه الخاصة؛ فكانت حياته سرا غامضا. وقد ذمه كثيرون من أجل ذلك، ولكن كفاه فخرا أنه خلص الأمة من نهب الأجانب في مدة حكمه، ولم يثقل كاهلها بشيء من الديون كما فعل غيره من بعده.
وفي أيامه أنشئ أول خط حديدي في مصر، بل في ممالك الشرق بأجمعها؛ وذلك هو الخط الممتد بين الإسكندرية والقاهرة، وقد قام بهذا المشروع «ربرت استيفنسن» مخترع القطر البخارية؛ إذ أخذ على عاتقه جلب كل المهمات اللازمة لمده، وابتدأ العمل سنة (1268ه/1852م)، وتممه في عام (1272ه/1856م)، وكان الموعز لمد هذه السكة الحكومة الإنجليزية لتسهيل نقل البريد والمسافرين بين الهند وأوروبا عن طريق مصر، وقد عارضت في الأمر الحكومة الفرنسية؛ فسبب ذلك بعض التأخير في إنجاز المشروع.
وكان عباس باشا يريد حرمان عمه «سعيد» من الملك بعده ليكون لابنه «إلهامي»، فأتت المقادير على عكس ما أراد؛ إذ قتل فجأة في قصره في بنها، وكان ابنه إلهامي غائبا عن الديار المصرية، فورث الملك سعيد باشا بدون أدنى معارضة، وذلك في (ذي الحجة سنة 1270ه/12 يوليو سنة 1854م).
ولقد كثرت الإشاعات عن سبب مقتل عباس باشا الأول؛ فالمتداول على الألسن أن خصيين قتلاه خنقا وهو نائم في فراشه. وقال آخرون إنه قتل بإيعاز بعض أقربائه الذين كانوا يريدون نزعه من ولاية الملك. وهناك فريق آخر يعزي سبب قتله إلى أسباب سياسية، وكتم خبر موته عدة أيام، ثم نقلت جثته من بنها إلى قصره بالعباسية،
1
ومنها نقلت إلى مقرها الأخير بقرافة الإمام الشافعي بالقاهرة. (2) سعيد باشا (1270-1279ه/1854-1863م)
سعيد باشا.
كان سعيد باشا في حداثته محبوبا من والده محمد علي، فرباه تربية عالية في مدارس فرنسا أهلته لتولي زمام الملك، وقليل من الأمراء من نال نصيبا وافرا من العناية كسعيد. قبض على زمام الأمور والبلاد في حالة حسنة؛ إذ كانت خالية من الديون الأجنبية، وكان دخلها السنوي البالغ ثلاثة آلاف ألف من الجنيهات كافيا لسد كل حاجاتها، وكانت التجارة متقدمة والأراضي الزراعية آخذة في الازدياد، فلم يك ينقص البلاد إلا شيء من الحزم في حاكمها يستطيع به السير في سبيل المحافظة على مصالح الأمة حسب ما تقتضيه الأحوال، إلا أنه من سوء حظ البلاد لم تتوافر هذه الصفة في سعيد. تولى الملك وهو نشيط بطبعه محب للعمل؛ فكان مبدأ حكمه يبشر بحسن مستقبل مصر، ولكنه ما لبث أن أخذ مقاليد الأمور كلها في يده ولم يثق بأحد من الوطنيين ليشركه معه في إدارة شئون الملك؛ فقضى على المجلس الخصوصي «مجلس النظار»، ولم يدرب أحدا من أبناء الأمة على شئون البلاد حتى يكون له عونا. ولم يتبع طريقة عباس باشا في عزلته، بل كان يقابل الأجانب ويحادثهم ويكرم مثواهم، وبالغ في ذلك حتى ضاعت هيبته فلم يفلح في حكم البلاد. ذلك إلى أنه أصبح بدينا منغمسا في اللذات، لا يقوى على مزاولة العمل بالجد والنشاط اللذين عهدا فيه من قبل، فاعتل نظام الحكومة ودب فيه روح الفساد وسوء الإدارة.
وكان شغله الشاغل مدة حكمه تنظيم الجيش، لاعتقاده أنه ماهر في الفنون الحربية؛ فكان يغير في نظامه، ويبدل من حين لآخر، فتراه طورا يجند جيشا يربو على 50000، وطورا ينقصه إلى نصف ذلك العدد، متبعا في ذلك ما تمليه عليه أهواؤه وميوله، وقد اختار نقطة القناطر الخيرية فجعلها معسكرا لجيشه، لاعتقاده أنها مركز حربي هام لصد غارات المغيرين، كما كان يقيم بجيشه كثيرا في صحراء مريوط.
ومع ضعفه الأخلاقي، كان مخلصا في اهتمامه بتحسين حالة البلاد التي كان يعتبرها كضيعته الخاصة؛ فعمل جهده في مد السكك الحديدية وحفر الترع وغرس الأشجار، وتحسين حالة الفلاح؛ فأصدر قانون الأراضي الشهير في عام (1274ه/1858م) الذي به أصبح الفلاح لأول مرة المالك الحقيقي لما يفلحه من الأرض، ثم محا بعض الشيء من الاحتكارات المجحفة بحق الفلاح ، وهو أول من وضع نظام الضرائب المتبع الآن بدلا من الاحتكار والعشرية، وغيرها من المكوس التي كانت في عصر محمد علي.
غير أنه لم يشجع العلم وأهله؛ لأنه كان يعتقد أن فتح المدارس ينبه عقول عامة الناس، فيجعل قيادتهم أمرا عسيرا.
وأهم الحوادث التي حدثت في أيامه، بل أهم الأغلاط التي ارتكبها في مدة حكمه من الجهة المصرية اثنتان؛ الأولى: فتح باب استدانة الحكومة، والثانية: إذنه لفردناند «ديلسبس» بحفر ترعة السويس لتوصيل البحر الأبيض بالبحر الأحمر؛ ففي عام (1278ه/1862م) أمضى عقد قرض في لندن مع «فرهلنج غوشن» بمبلغ 3292800 جنيه، فلما توفي في عام (1279ه/1863م) كان على البلاد ديون أجنبية قدرها ثلاثة آلاف ألف، وعليه هو ما يربو على ضعفي ذلك؛ فكان ما تركه من الدين لخلفه يبلغ عشرة آلاف ألف من الجنيهات تقريبا.
وأما إذنه بحفر قناة السويس، فإنه عاد على البلاد وأهلها بالويلات، ونضب من أجلها معين ثروتها ورجالها. وقد حصل على هذا الإذن المسيو «ديلسبس» بما كان له من المكانة العالية عند سعيد قبل توليته، وبما كان يعده به من الفوائد التي تنجم من ذلك المشروع الخطير مع قلة النفقات، بدعوى أن كل ما يحتاج إليه من المال لحفر الترعة سيكون من فرنسا. وسيتضح لنا في الفصل التالي أن كل وعود ديلسبس كانت أضغاث أحلام وأوهاما كاذبة، وأن معظم نفقات القناة كان من دماء الفلاح المصري.
سميت صحراء الريدانية «العباسية» منذ عهد عباس باشا الأول، لاتخاذ قصره بها.
الفصل الثاني
قناة السويس
تدل الآثار القديمة على أن فكرة توصيل البحر الأبيض بالبحر الأحمر سنحت في عالم الوجود منذ أزمان غابرة، وأنه كان يوجد في عهد «سيتي الأول» (1380ق.م) ترعة واصلة بين البحرين بطريق النيل، تخرج منه عند «بوبسطة» وتصب في البحر الأحمر مخترقة وادي الطميلات، وهي المسماة عند قدماء المؤرخين بترعة «سيزستريس».
ثم أهملت هذه الترعة وبقيت كذلك إلى أيام «نخاو» (609ق.م)، فهم بإعادة حفرها، وبعد أن هلك في ذلك ما يقرب من 120000 من فلاحي مصر أوقف العمل فجأة توهما منه أن الآلهة أنذرته عاقبة العمل لمصلحة الأجانب، فكأن الاعتقاد بأن حفر الترعة ليس إلا عملا قاصرا على نفع الأجانب كان يجول في خلد الأقدمين، كما جال في خلد محمد علي باشا حين تردد في إنفاذ مشروع قناة السويس عندما عرض عليه كما ذكرنا آنفا.
ولما استولى الفرس على مصر شرع «دارا» (520ق.م) في كري هذه الترعة القديمة، فلم يتسن له إتمام العمل، وبقيت الترعة مهملة حتى جاء «بطليموس الثاني» فأتم حفرها وكريها عام (277ق.م)، غير أنها أهملت بعد ولم يقم الرومان فيها بإصلاح يذكر.
فلما فتح عمرو بن العاص مصر سنة (20ه/641م) واستأمره الخليفة عمر بن الخطاب عام قحط الحجاز المسمى عام الرمادة استأذنه في توصيل البحرين، فأذن له بكري الترعة القديمة، فأعادها وسماها «خليج أمير المؤمنين»، وجرت بها سفن الميرة إلى الحجاز، ولبثت مسلوكة حتى عهد «أبي جعفر المنصور» العباسي، فأمر بردمها عام (145ه/770م) حتى لا تنقل فيها الميرة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن الخارج عليه بالحجاز.
هذه هي المشروعات القديمة، وكلها ترمي إلى توصيل البحرين بطريق النيل، فلما قدم نابليون إلى مصر في غارته المشهورة فكر في إعادة توصيل البحرين بحفر ترعة بينهما من مائهما كما أشرنا قبل، ثم امتنع عن إنفاذ مشروعه لتوهم «لابير» مهندس الحملة أن سطح البحر الأحمر يعلو على سطح البحر الأبيض بتسعة أمتار. وبقيت هذه الغلطة شائعة إلى أن أصلحت نهائيا في عهد محمد علي باشا؛ إذ حضر إلى مصر في سنة (1263ه/1847م) بعث من أوروبا ليفحصوا المشروع، فاشترك معهم لينان باشا مهندس الحكومة المصرية العظيم، فأقر الجميع بفساد رأي لابير وأثبتوا أن البحرين في مستوى واحد. على أن محمد علي كان يشك في نجاح المشروع ويخشى عاقبته، إلا أنه لم يأل جهدا في مساعدة رجال البعث في بحثهم لئلا يظهر بمظهر المعرقل لمسعاهم.
وظل بعد ذلك المشروع موقوفا حتى تولى سعيد، فنال منه المسيو «فردناند ديلسبس» سنة (1271ه/1854م) إذنا ابتدائيا بحفر القناة. وقد كان ديلسبس سفيرا لفرنسا في مصر في عهد محمد علي ، وكانت تتوق نفسه إلى تأليف شركة لحفر القناة، فوعده سعيد باشا حينئذ بأن يساعده عندما يتولى أريكة مصر. فلما تولاها طلب إليه ديلسبس الوفاء بوعده، فنال منه الإذن المذكور وتلاه إذن آخر في (ربيع الآخر سنة 1272ه/يناير 1856م) يلخص أهم شروطه فيما يأتي:
حق تمتع الشركة بفوائد القناة مدة تسع وتسعين سنة من سنة فتحها، وأن يحفر المسيو ديلسبس ترعة تستمد مياهها من النيل من مصر إلى الإسماعيلية، ويمنح في مقابل ذلك كل الأراضي اللازمة للأبنية والأعمال بدون مقابل خالية من كل الضرائب، وأن يكون له الحق في أخذ أجر من الملاك الذين ينتفعون بالماء العذب الذي يؤخذ من هذه الترعة، وأن يكون للشركة الحق أيضا في تعدين كل مناجم الحكومة ومحاجرها بدون ثمن أو ضرائب، وأن تعفى من كل المكوس على الواردات التي تجلب لها، وأن يتم القيام بهذا المشروع في مدة لا تتجاوز ست سنوات إلا إذا حصلت عوائق لا يمكن تلافيها، وأن يكون أربعة أخماس الفعلة العاملين في حفر الترعة من الفلاحين. وقد وضعت شروط خاصة بعدد الفعلة الذين يتناوبون العمل في كل ثلاثة أشهر، ثم حددت رسوم المرور في القناة باعتبار عشرة فرنكات على كل مسافر ومثلها على كل طن من حمولة السفن، وأن تكون الشركة مصرية بحيث يسري عليها قانون البلاد، وأن تقسم الأرباح - بعد أن يخصم منها فائدة لأموال المساهمين بنسبة 5٪ ومثلها للمال الاحتياطي - على الترتيب الآتي: 15٪ للحكومة المصرية، 10٪ لمؤسسي الشركة، 75٪ للمساهمين والمديرين والعمال. وبعد انتهاء المدة المقررة تصير القناة وكل مشتملاتها ملكا للحكومة المصرية.
وقبل أن يأذن سعيد باشا لديلسبس استشار سفير إنجلترا هل يصادف رفضه لهذا المشروع ارتياحا من إنجتلرا؛ فلم يكن في قدرة السفير أن يعطيه تصريحا رسميا عن هذا السؤال؛ لأن إنجلترا وفرنسا كانتا حليفتين في حرب القرم، إلا أن ديلسبس ألح في طلبه، واقتفى أثر سعيد أينما حل وحيثما ذهب، حتى أمضى عقد الاتفاق في (ربيع الآخر سنة 1272ه/يناير سنة 1856م).
ولما كان من الواجب قبل الشروع في العمل الحصول على إذن من الباب العالي، ذهب ديلسبس إلى القسطنطينية للسعي في ذلك، فوجد من أولى الشأن بها معارضة عظيمة يرجع السبب الأكبر فيها إلى تأثير ساسة الإنجليز. والسبب في معارضة إنجلترا في المشروع هو أنها كانت ترى بلادها من الوجهة التجارية والحربية أقرب إلى الهند من أي مملكة أخرى في أوروبا، عدا إسبانيا والبرتقال، وكلاهما ليس بشيء في نظرها. فإذا فتح طريق قناة السويس أصبحت كل شواطئ البحرين الأبيض والأسود أقرب من إنجلترا إلى الهند؛ ولذلك كان غرض نابليون عندما فكر في حفر ترعة الإضرار بإنجلترا في الهند نفسها؛ إذ إن مهاجمتها فيها قبل حفر القناة صعبة جدا لعظم بعدها، أما إذا فتحت القناة أصبحت المسافة بين مرسيليا وبمباي لا تزيد على 4600 ميل.
فردناند ديلسبس.
فلما علم ديلسبس بتأثير الساسة الإنجليز في القسطنطينية ذهب إلى لندن وقابل اللورد بالمرستون، فوجد منه معارضة أيضا؛ إذ قال له: إن حفر القناة يضر بمصالح إنجلترا، ويذهب بسيادتها البحرية، وإنه وسيلة تريد فرنسا التوصل بها إلى التدخل في الشرق.
فلم يثن كل ذلك من عزم ديلسبس، وما زال يواصل سعيه في أوروبا مستعينا بقرابته من الإمبراطورة «يوجين» - زوجة نابليون الثالث إمبراطور فرنسا - حتى وافق الباب العالي على المشروع عام (1275ه/1858م)، وفي هذا العام فتح ديلسبس باب الاشتراك في شراء أسهم شركة القناة مقدرا رأس مال الشركة بمبلغ 200000000 فرنك، وهو مكون من 400000 سهم، ثمن السهم 500 فرنك. فأقبل الناس على شراء الأسهم حتى جمع معظم رأس المال في أقل من شهر واحد. وكان معظم المساهمين من فرنسا، وجزء منهم من ممالك الدولة العثمانية، واشترت مصر من الأسهم 85506.
1
أما إنجلترا فأحجمت حينئذ عن شراء شيء منها.
وابتدأ العمل في حفر القناة قريبا من موقع مدينة بورسعيد الحالية في (رمضان سنة 1275ه/أبريل سنة 1859م)، فكان سيره في أول الأمر غاية في البطء لما يحيط به من الصعوبات. وأهم ذلك قلة تدرب عمال السخرة على العمل، وصعوبة الحصول على الماء الذي يستقون منه قبل أن يتم حفر الترعة العذبة. ولما كانت الشركة فقيرة - بالنسبة لعظم المشروع - استعان ديلسبس على هذه الصعوبات بالسعي في حمل سعيد باشا على الإكثار من العمال المسخرين بدون مراعاة للاتفاق الأصلي؛ فصارت تساق الآلاف من الفلاحين يحرسهم الجنود إلى الترعة، حيث يشتغلون طوال اليوم تحت مراقبة حراس مسلحين بالسياط، وكان عدد الذين يشتغلون في حفر الترعة لا يقل عن 25000 عامل بدون أجر، وينوب عنهم مثلهم في كل ثلاثة أشهر، وكانوا يعيشون على الشظف، وقد أودى بحياة الكثيرين منهم ما كانوا يقاسونه من الجوع والظمأ والعري وحر الصيف وقر الشتاء وإجهاد الجسم والبؤس. وكان كلما هلك منهم أحد أتي بغيره من الفلاحين، ولو تم مشروع حفر الترعة على حسب الاتفاق الأصلي لسبب نقصا عظيما في تعداد سكان البلاد.
شاع هذا الأمر وأصبح من الفضائح حتى في مصر، وتناولته ألسنة المعارضين لحفر الترعة وخاصة إنجلترا. وكان اللورد بالمرستون رئيس الوزارة الإنجليزية في ذاك الحين يعارض في أمر تسخير الفلاحين؛ لأنه من جهة يعتبره ضربا من الاسترقاق، ولأنه من جهة أخرى كان لا يريد أن يرى النفوذ الفرنسي يسود في مصر؛ لذلك أوعز إلى السفير الإنجليزي في القسطنطينية أن يحتج على تسخير الأهالي في الأراضي العثمانية لفائدة شركة أجنبية.
وبقي الحال كذلك إلى أن تولى الخديوي إسماعيل باشا في (رجب سنة 1279ه/يناير 1863م)، ولم يكن للشركة لديه تلك الحظوة التي كانت لها عند سعيد، فرأى أن ما نالته من الامتيازات مجحف بحقه وحق مصر، وشرع يعمل على إلغاء شيء منها، ولكيلا يكون سببا في إفلاس الشركة وإغضاب الشعب الفرنسي وإمبراطورهم نابليون الثالث أمد الشركة بمعونة مالية، بأن دفع لها مبلغ 2000000 جنيه كان مستحقا على سعيد باشا ثمنا لأسهم اشتراها عددها 177642، إلا أنه بقي مصمما على حرمان الشركة من بعض مزاياها حتى طلب من الباب العالي في (صفر سنة 1280ه/يونيو 1863م) الموافقة على إنقاص عدد العمال الذين يسخرون في حفر القناة، وعلى أن ترد الشركة للحكومة المصرية ما منحه إياها سعيد باشا من الأراضي عام 1856م، فصادف الاقتراح ارتياحا من الباب العالي ولا سيما أن إنجلترا كانت تسعى لديه في إنفاذه؛ فوافق عليه وهدد الشركة بتوقيف العمل إن لم ترض به.
وقد كاد يكون في ذلك القضاء المبرم على المشروع؛ لأن الشركة كانت تعلق كل آمالها على جلب العمال من مصر بدون أجر، وكان العمل لا يزال في مبدئه، والشركة لم يكن في مقدورها أن تقترض مالا جديدا، ولولا ما بذله المسيو ديلسبس من الهمة والحزم لخاب المشروع؛ فإنه تمكن بمساعدة الإمبراطور يوجين وبميل الشعب الفرنسي إلى مشروعه من استجلاب مساعدة الحكومة الفرنسية، ناسبا سعي إنجلترا في إيقاف عمل السخرة في مصر إلى حسدها فرنسا، فمالت إليه قادة السياسة الفرنسية، وانتهى الأمر بتحكيم الطرفين «الإمبراطور نابليون الثالث» في حل هذا المشكل.
فناط الإمبراطور الفصل في هذه المسألة بجماعة من رجال بلاده طبعا، فجاء الاتفاق فوق ما كانت تأمل الشركة؛ إذ ألزمت اللجنة المحكمة إسماعيل باشا أن يدفع للشركة غرامة قدرها 3360000 جنيه نظير إخلاله بشروط الاتفاق الأصلي بشأن أعمال السخرة وغيرها. فمن هذا المبلغ 1560000 جنيه نظير منعه الفعلة المصريين المسخرين من حفر الترعة، و1200000 جنيه لاسترجاعه الأراضي التي على ضفتي القناة ما عدا ما عرضه 200 متر على كلا الجانبين، و640000 جنيه في مقابل حفر ترعة الإسماعيلية، وقد تم دفع كل ذلك في عام 1869م.
بهذا الحل وباستبدال عمال مدربين بعمال السخرة أصبح مركز الشركة المالي ثابت الأركان، لا يخشى معه على المشروع من أي عطلة تعترضه كما حصل ذلك من قبل.
ومن هذا الحين أقبل الخديوي على المشروع؛ يعضده بكل نفوذه الأدبي، ويفتخر بأنه القائم بأكبر مشروع ظهر في القرن التاسع عشر.
وعندما قرب انتهاء العمل استعد إسماعيل باشا استعدادا عظيما للاحتفال بفتح الترعة في (شعبان سنة 1286ه/نوفمبر سنة 1869م)، فكان أكبر وأفخم احتفال حدث في الأزمنة الحديثة، وسنتكلم عليه في موضعه عند الكلام على إسماعيل باشا.
على أن معونة مصر المالية لم تقف عند هذا الحد؛ فإن الشركة حصلت منها عام 1866م على مبلغ يربو على 300000 جنيه لنزولها لها عن أراضي الطميلات، وكانت قد اشترتها قبل ذلك بخمسة أعوام بنحو 74000 جنيه، وفي عام 1868م أخذت الشركة من الحكومة المصرية مبلغا آخر يقرب من 1200000 جنيه لنزولها عن بعض المباني التي أقامتها في منطقة القناة.
أما نفقات حفر القناة فقد بلغت حسب المدون في دفاتر الشركة 432807882 فرنكا؛ أي نحو 17500000 جنيه، وقد قدر مجموع ما أنفقته الحكومة المصرية في ذلك بنحو 16000000 جنيه.
على أن المشروع لم يثمر ربحا عقيب حفر الترعة؛ إذ كانت فائدته قاصرة على السفن الشراعية دون البخارية؛ لأنه كان يتعذر على السفن البخارية العادية فضلا عن بواخر البريد الكبرى أن تسافر إلى الهند، لعظم مقدار ما كانت تحتاج إليه من الفحم في ذلك الوقت، ولكن هذه الصعوبة ما لبثت أن تلاشت؛ إذ اخترعت في ذلك الحين الآلات المركبة التي جعلت البواخر لا تحرق من الفحم إلا نصف ما كانت تحرقه قبل اختراعها؛ فسهل على هذه السفن الانتفاع بالقناة؛ فاتسع نطاق التجارة المارة بالترعة، وزادت قيمتها زيادة عظيمة.
ومع كل ذلك أيضا لم يأت المشروع بالربح الكافي، لقلة قيمة الرسوم التي كانت تجبيها الشركة - وكانت فئتها حينئذ 10 جنيهات على كل طن - وكثرة ما تنفقه على إصلاح القناة؛ فانحطت قيمة سهام الشركة سنة (1288ه/1871-1872م) من 20 جنيها إلى 7 جنيهات لكل سهم، وتوقفت عن دفع أرباح المساهمين، فعقد لتلافي ذلك مؤتمر دولي بالقسطنطينية عام (1290ه/1873م) نظر في الأمر وخول للشركة زيادة الرسوم التي تجبيها من السفن بقدر 40٪ إلى أن تصلح حالتها المالية؛ فحسن بذلك حال الشركة، وأخذت في النجاح المطرد والتقدم المستمر.
ومما يؤسف له أن مصر لم تستفد من نجاح ترعة السويس مطلقا؛ فإنه فوق خسارتها القناطير المقنطرة من الأموال، وإرهاقها الفلاحين المصريين إرهاقا عظيما، وفضلا عن تحول التجارة المارة بين أوروبا والهند من داخل مصر إلى طريق القناة؛ مما أحدث نقصا كبيرا في دخل سكك حديد الحكومة المصرية، تنازلت لشركة فرنسية في سنة (1297ه/1880م) عما كان يخصها من أرباح الشركة وقدره 15٪ في مقابل مبلغ حقير قدره 700000 جنيه كانت الحكومة قد اقترضته من تلك الشركة ولم تقدر على سداده؛ فحرمت بذلك مصر من مصدر دخل عظيم، ولم يتم لولاة مصر من إنشاء الترعة شيء مما كان يمنيهم به ديلسبس من توطيد دعامة حكمهم واتساع جاههم وسلطانهم. فترى مما تقدم كله أنه لم يخسر من وراء إنشاء هذه الترعة إلا الأسرة المحمدية العلوية ومصر والفلاحون. وإلى سعيد وإسماعيل وكثرة بذلهما وسخائهما يرجع نجاح مشروع ديلسبس، وإيجاد تلك الفوائد الجليلة التي عادت على فرنسا وبريطانيا العظمى وغيرهما من البلاد.
وكان تعدد مصالح الدول الأوروبية في الترعة مدعاة لجعلها على الحياد، ولكن الدول أدخلت على الاتفاق الأصلي عدة تعديلات منذ إبرامه، وربما عادت إلى النظر في أمر القناة بعد زماننا هذا.
هذه جزء من الأسهم التي اشترتها إنجلترا عام 1875م من إسماعيل باشا بمشورة «اللورد بيكونسفيلد»، وكان عددها 176602 بيعت بمبلغ 3976582 جنيها.
الفصل الثالث
إسماعيل باشا
1279-1296ه/1863-1879م
يعتبر إسماعيل باشا - ابن إبراهيم باشا - المتمم الحقيقي لأعمال محمد علي، والسائر بإصلاحاته في الطريق التي أبلغت مصر العناية التي هي عليها الآن.
تولى إسماعيل عرش مصر ومدارسها مغلقة ومشروعات محمد علي مهملة؛ فكان عمله في كل شيء عمل المنشئ من جديد. ولو نظرنا إلى مجموع ما تم في عهده من الإصلاحات والأعمال الهامة لعلمنا مقدار ما كان عليه من الذكاء والنبوغ، وما كان يرمي إليه من النهوض بمصر حتى يجعلها في مستوى أرقى الدول الأوروبية.
إسماعيل باشا (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).
ومع أنه لم ينل حظا وافرا من التعلم في نشأته، كان ما حصله من المعارف - مضافا إلى ما فطر عليه من الذكاء وقوة الملاحظة - كافلا أن يقوم بعبء المشروعات الخطيرة التي أقدم عليها. وكل ما يعلم عن تعلمه أنه أرسل إلى باريس في الخامسة عشرة من عمره، فتعلم بها اللغة الفرنسية حتى صار يتكلمها بطلاقة. وفي أثناء إقامته ساح كثيرا في أوروبا، وبقوة ملاحظته وقف على كثير من الأمور الاجتماعية وغيرها من أسباب الحضارة الأوروبية. ولم يرب تربية خاصة تؤهله لتولي الملك - كما تربى سعيد من قبله - إذ لم يكن يخطر بالبال حينئذ أنه سيتولى عرش مصر يوما ما ؛ لأن ولاية العهد كانت لأخيه أحمد أكبر أمراء الأسرة؛ ولذلك بقي إسماعيل مشتغلا بمزارعه بعيدا عن حاشية سعيد حتى مات أخوه في حادثة كفر الزيات
1
ولم يغير كثيرا من خطته بعد مماته.
جلس إسماعيل على أريكة مصر في (27 رجب سنة 1279ه/18 يناير سنة 1863م)، وكان عمره إذ ذاك 32 سنة، فلم يلبث أن ظهرت فيه كفاءة عظيمة ورغبة شديدة إلى رفع شأن البلاد وترقيتها، بإدخال كل الإصلاح الذي يراه مؤديا إلى ذلك. ومع الاعتراف بأن السرعة التي سار بها في سبيل هذا الإصلاح والإنفاق عن سعة في كل شيء أديا إلى استدانته من أوروبا القناطير المقنطرة من الذهب التي تضاعفت هي وفوائدها حتى وصلت في أواخر أيامه إلى عبء ثقيل لا حول ولا قوة للبلاد على احتماله؛ مما أوجب تدخل الدول الأوروبية في شئون مصر. قد يغتفر له ذلك إذا راعينا مقدار ما قام به من الإصلاح، ولاحظنا أن سعيدا قد فتح له من قبل باب الاستدانة المشئوم؛ إذ مات وهو مدين بمبلغ 10000000 جنيه.
وتلخص أهم أعمال إسماعيل في مصر فيما يأتي: (1)
الفصل في أمر وراثة العرش وحصرها في أكبر أولاد الوالي والحصول على لقب خديوي. (2)
الإصلاحات الإدارية، وتأييد الاستقلال الداخلي. (3)
الإصلاحات القضائية، ومساواة جميع الناس أمام القانون المدني المختلط. (4)
التعليم العالي. (5)
منع الرقيق. (6)
إلقاء المؤاخذة - المسئولية - على النظار، وتشكيل مجلس شورى النواب. (7)
توسيع منابع الثروة للبلاد بتنمية الزراعة، وبالمشروعات العامة. (8)
توسيع نطاق الأملاك المصرية. (9)
إتمام مشروع ترعة السويس (أفاد العالم في مجموعه وإن أضر بمصر في ذاتها). (1) وراثة العرش
بعد أن تولى إسماعيل ببضعة أسابيع زار مصر السلطان «عبد العزيز»، فكان أول من زارها من سلاطين آل عثمان من عهد سليم الأول؛ فاحتفل به إسماعيل باشا احتفالا كبيرا، واجتهد في أن تكون هذه المقابلة فاتحة لعلاقات ودية بينه وبين الباب العالي. وبعد أن عاد السلطان إلى الأستانة أخذ إسماعيل باشا يسعى سرا للحصول على أغراض يرمي إليها لتعزيز ملكه، واستعان على نيلها بالمال كلما وجد إلى ذلك سبيلا؛ فسعى لدى الباب العالي في شأن تغيير القانون الصادر به تقليد سنة 1841م بشأن وراثة عرش مصر، وهذا القانون يقضي بأن يئول العرش لأكبر فرد في الأسرة بشرط موافقة الباب العالي.
فلما رأى إسماعيل أن ذلك ربما يحدث فتنا بين أفراد الأسرة من أجل العرش - بالسعي لدى الباب العالي، أو بقتل بعضهم بعضا - طلب إلى الباب العالي أن يجعل الوراثة لأكبر أولاد الخديوي بلا شرط ولا قيد، ليحسم كل نزاع بين أفراد الأسرة في هذا الشأن، فلم يقبل الباب العالي ذلك في أول الأمر، لعلمه أنه ينقص من نفوذه في مصر، فإن هذه المزية لم تتمتع بها الأسرة المالكة في تركيا نفسها، وزار إسماعيل القسطنطينية وسعى بنفسه في الأمر فلم يفلح، ولكن عزيمته لم تفتر، وذهب إليها في زيارة أخرى أجزل فيها العطاء فنال مراده، وأصدر الباب العالي عهدا بجعل الوراثة في أكبر أنجال الخديوي في (12 المحرم سنة 1283ه/27 مايو سنة 1866م)، وذلك في مقابل زيادة الجزية التي تدفعها مصر من 320000 إلى 600000 جنيه.
وسعى أيضا إسماعيل باشا لدى الباب العالي ليمنحه لقبا أرقى من «الباشا» المعتاد، وكان غرضه من ذلك تثبيت امتياز مصر عن باقي ولايات الدولة، وهو ذلك الامتياز الذي حصله محمد علي بتقليد سنة 1841م، فمنحه السلطان لقب «خديوي» في (ربيع الأول سنة 1284ه/يوليو سنة 1867م). وهو لفظ فارسي الأصل معناه الأمير العظيم، وكان يمنحه الفرس لحاكم الهند في عهد حكمهم لها، وبعد فما زال الخديوي يسعى لدى الباب العالي في اكتساب امتيازات جديدة بفضل ما كان يبذله من المال، حتى أصدر الباب العالي في ربيع الآخر سنة (1290ه/1873م) عهدا مثبتا كل الحقوق التي منحها للخديوي بمقتضى العهود السابقة، وبهذا العهد أيضا اعترف الباب العالي باستقلال الخديوي استقلالا تاما بشئون مصر الداخلية، وأذن له بأن يعمل بدون استشارته في قرض الديون، وعقد المخالفات التجارية وغيرها مع الدول الأجنبية، ما دامت تلك المحالفات لا تناقض مصلحة الدولة ولا محالفاتها السياسية مع الدول، وأن يزيد جيشه حسب ما يراه صالحا، على شرط أن لا يكون في أسطوله مدرعات، وقد زادت الجزية المصرية في مقابل ذلك إلى 665000 جنيه.
ولا شك أن مثل هذا العهد كان من الممكن أن يعود على مصر بأعظم الفوائد؛ إذ يكون من أكبر الدواعي التي تحمل كل خديوي لمصر على أن يسهر على ما فيه صالح البلاد، كي يترك وراءه ملكا منظما ثابت الأركان. (2) الاستقلال الداخلي والإدارة
لم يكن هم إسماعيل باشا قاصرا على الوصول إلى جعل الوراثة لأكبر أنجال الخديوي، بل كان يبذل همته في أن يمنح استقلالا إداريا يتصرف به في شئون البلاد الداخلية؛ إذ كان أعظم غرض له في الحياة أن يوثق عرى الارتباط بين مصر وممالك الغرب المتمدينة. والوصول إلى ذلك محال ما دام الباب العالي صاحب النفوذ والسلطان في البلاد؛ إذ كان يخشى أن يعترضه فيما يقدم عليه من المشروعات، وأي فائدة تجنيها البلاد وأي عمل عظيم يمكن لأقدر حاكم أن يقوم به إذا كانت يده مغلولة في شئون البلاد الداخلية؟
لذلك قضى إسماعيل سنوات عديدة من حياته يبذل في أثنائها المال الوفير للوصول إلى ضالته المنشودة، حتى منحه الباب العالي استقلالا داخليا في عام (1290ه/1773م) بمقتضى العهد السابق الذكر.
ولما أصبح إسماعيل صاحب النفوذ والسلطان في مصر أخذ ينظم إدارتها الداخلية؛ فأدخل في البلاد جملة إصلاحات لم يأت بها وال تولى الشئون المصرية قبله؛ فأعاد نظام الإدارة الذي وضعه محمد علي وأهمل في عصر عباس باشا الأول بعد أن أدخل فيه بعض الإصلاحاته، ثم رتب نظام المكوس ترتيبا متقنا، واشترى إدارة البريد المصري من شركة ووضعها تحت سيطرة أحد مهرة الغربيين - كما سيأتي ذكره بعد - وقسم القطر إلى أربع عشرة مديرية، وحسن طرق الاتصال والقضاء وغير ذلك، مما سنتكلم عليه فيما بعد. (3) الإصلاحات القضائية ومساواة جميع الناس أمام القانون
كان أهم مشروع داخلي وجه إليه إسماعيل باشا عنايته إصلاح القضاء، وجعله مستقلا عن الإدارة، ونشر العدل وكان من قبل معدوما؛ لأن القانون الذي وضع في عهد محمد علي لم يغير من النظام القديم شيئا وكان حبرا على ورق، فأراد إسماعيل باشا أن يؤسس المحاكم المختلطة ليتساوى الجميع أمام القانون، ويكون الأجنبي والوطني في مستوى واحد، وكان غرضه أن يقضي على المحاكم «القنصلية» والامتيازات الأجنبية، بشرط أن يتكفل للأجانب بكل ما يضمن راحتهم.
ولم تكن هذه الفكرة بنت يومها، بل كانت مختمرة عند الخديوي قبل أن يتولى عرش مصر، فلما مات أخوه أحمد في حادثة كفر الزيات، وأصبح هو الوارث للملك تفرغ لدرس الإصلاحات القضائية، ورأى أثناء ذلك ما كان للأجانب من الامتيازات، فعزم على أن يغير ذلك تغييرا تاما، فيكون أول من خطا خطوة في سبيل المساواة ونشر العدل بين رعاياه.
فلما تولى الملك لم تساعده الأحوال في أول أيام حكمه على تخليص البلاد من هذا النظام الرديء؛ إذ كان منصرفا بكل قواه إلى تحصيل عهد الوراثة والاستقلال الداخلي من الباب العالي.
ولما سنحت له الفرص في عام (1284ه/1867م) فاتح الوزارة الفرنسية في هذا الصدد؛ ففاوض نوبار باشا «المسيو موسير» وزير خارجية فرنسا في هذا المشروع حسب إرادة الخديوي، فعقدت لجنة في باريس كان الغرض منها فحص التغيير الذي يريد نوبار إدخاله في القانون؛ فكانت هذه أول خطوة في سبيل إنشاء المحاكم المختلطة.
وقد ساعد الخديوي أيضا في تحقيق أمنيته هذه بعض وزرائه، وأولاهم بالذكر شريف باشا، ورياض باشا، ونوبار باشا، غير أن معظم نجاح المشروع يرجع إلى الأخير
2
إذ قضى سبعة أعوام من حياته في كفاح مع دول أوروبا حتى أفلح أخيرا في تأسيس هذه المحاكم التي مع ظهور بعض الفائدة منها لم تأت بكل ما كان مؤملا فيها.
وإنا نشك في أن إسماعيل باشا كان يعرف كل النتائج التي تنجم من هذا التغيير، فإنه كان يريد بالمحاكم المختلطة القضاء على نفوذ محاكم السفارات التي كان يظهر أنها ستقضي على شيء من سلطته الفردية، لا عليها كلها كما فعلت هذه المحاكم وبرهنت عليه الحوادث؛ إذ اتضح له أخيرا أن سلطة هذه المحاكم تعلو سلطته؛ لأنها أصبحت تفصل في كل القضايا حتى التي على الحكومة وعلى شخصه نفسه، بل كانت من أكبر العوامل على عزله، ومع ما كان فيها وقت إنشائها من النقائص كانت أكثر فائدة من محاكم الأقسام التي كان يفصل حينئذ في قضاياها المدير أو ناظر القسم؛ يدلك على ذلك أن كثيرا من الأهالي كانوا يفضلون الفصل في قضاياهم أمام المحاكم المختلطة على محاكم الأقسام التي كان كل من المدير وناظر القسم يستعمل السوط في تحقيق قضاياها، ثم لا يفلح في تحقيق قضية واحدة من بين خمسين.
نوبار باشا.
وقد لاقى نوبار باشا الصعوبات الجمة في إرضاء كل من الأهالي والأجانب، وخصوصا سفراء الدول الذين رأوا أن تأسيس هذه المحاكم يكون من ورائه محو سلطتهم في البلاد، وكانت فرنسا أكبر معارض لإنشاء هذه المحاكم على حسب التغييرات التي اقترحها نوبار باشا، في حين أن إنجلترا كانت أكبر عضد له فيها؛ إذ رأت أن النظام المتبع حينئذ مضر بكل من الأهالي والأجانب ، ولذلك كانت تصرح دائما أنها مستعدة لمعاضدته، أما الباب العالي فإنه رغم معاضدة إنجلترا للمشروع ورغبة معظم الدول الأوروبية فيه، وضع العقبات في سبيل إنفاذه بعلة أنه مخالف للشرع، فأبى السلطان والعلماء في القاهرة إدخال هذا الإصلاح الذي يعد افتياتا على حقوقهم، وأعلن العلماء في القاهرة أن مثل هذا التغيير لا يتفق مع الدين الحنيف. فعزل إسماعيل باشا المفتي الذي أفتى بذلك، واستبدل به آخر وافق على إنشائها، ومن هذه اللحظة لم تجئ أي معارضة من هذه الناحية.
وبعد أن انتهى من معظم المعارضات شكل هذه المحاكم في (ذي الحجة سنة 1291ه/أول يناير سنة 1875م)، إلا أنها لم تفتح أبوابها إلا في (شهر المحرم سنة 1293ه/فبراير سنة 1876م)، وذلك للعراقيل التي كانت تضعها فرنسا.
وقد أسس من هذا النوع ثلاث محاكم من الدرجة الأولى: في القاهرة، والإسكندرية، والمنصورة، ثم محكمة استئناف عليا بالإسكندرية.
وهذه المحاكم تفصل في القضايا المدنية، وبعض المخالفات التي يكون فيها أحد الخصمين أو كلاهما من الأوروبيين أو الأمريكانيين المختلفي الجنسية. أما إذا كان الخصوم من الأجانب المتحدي الجنسية، فالمحكمة لا تفصل في النزاع إلا إذا كان موضوعه عقارا ، وهي مستقلة تماما عن الحكومة، وتعين القضاة بها اثنتا عشرة دولة من دول أوروبا والولايات المتحدة، ويجدد هذا النظام في كل خمسة أعوام مرة، وهي في مصر أشبه في الحقيقة بمملكة صغيرة، ولقضاتها الحق في شرح القانون وتقرير ما لهم من السلطة، ولا توجد هيئة تشريعية معتبرة يرجع إليها إذا تعدت هذه المحاكم حدود اختصاصها، وغاية ما تستطيع الحكومة المصرية عمله في هذا الصدد أن تفاوض الدول، حتى إذا اتفقن جميعا على رأي عمدن إلى تعديل القانون. (4) التربية والتعليم
رأى إسماعيل باشا - كما رأى جده العظيم محمد علي من قبله - أنه لا يتسنى له القيام بإصلاحاته ومشروعاته الخطيرة في البلاد إلا بتعليم أبناء الأمة، وإن اختلفت أغراض كل من الرجلين؛ فكان الغرض الأول لمحمد علي من التعليم أن يكون عددا عظيما من الضباط والموظفين ليساعدوه في إدارة شئون البلاد، أما إسماعيل فقد غرست فيه تربيته الأوروبية مبادئ حب العلم والتعليم، فأراد أن ينشر العلم لذاته بين جميع طبقات الأمة؛ لذلك وجه شطرا عظيما من عنايته إلى هذه الوجهة، وكانت الأحوال مساعدة له، لخصب مدارك المصري وقوة حافظته التي لا تضارع في أكثر الشعوب، ولما له من المجد الأثيل والباع الطويل والميل القديم للعلوم والمعارف؛ يشهد بذلك جامعة الإسكندرية في عصر البطالسة، والجامع الأزهري الذي يؤمه آلاف الطلاب من جميع بقاع العالم الإسلامي.
وقد ساعد الحظ إسماعيل؛ إذ وجد في خدمته نخبة من أكابر الغربيين، نهضوا بالتعليم ورقوه، ونؤثر بالذكر منهم «دور بك» و«كلوت بك» و«روجرز بك». وكان لبعض نظار الحكومة فضل عظيم في هذه النهضة، وبخاصة «شريف باشا» و«رياض باشا» و«علي مبارك باشا» الذي سار بالتعليم شوطا بعيدا، وكان له القدح المعلى في نهضة البلاد الحديثة.
ولا يفوتنا أن الفضل كل الفضل راجع طبعا إلى رئيسهم الأكبر الخديوي إسماعيل، فأول عمل قام به أنه أصدر قانونا في 10 رجب سنة (1284ه/1867م) كان الغرض منه وضع أساس منهج قويم للتعليم في جميع أنحاء القطر. وقد ظهرت فائدته؛ إذ زاد عدد التلاميذ في مدة وجيزة إلى 52000 تلميذ يتعلمون في 1301 معهد، ثم ازداد بعدها عدد التلاميذ إلى 140977 وعدد المدارس إلى 4817، وكان في القاهرة وحدها ما يزيد على 295 مدرسة بلغ عدد تلاميذها 10000 تلميذ، عدا طلبة الأزهر الشريف، والمعاهد الأجنبية، والمعاهد التابعة للأوقاف، والمدارس الحربية لتعليم الجيش الذي كان يبلغ إذ ذاك ثلاثين ألفا.
3
علي مبارك باشا.
وأهم مدارسه العالية والخصوصية مدرسة الهندسة، ومدرسة الطب والولادة، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون والصنائع، ومدرسة اللغة المصرية القديمة، ومدرسة الألسن والمعلمين - قلم الترجمة - ومدرسة دار العلوم - المعلمين الناصرين. وكان التعليم في كل هذه المدارس بالرغبة، لا بالإكراه كما كان في عصر محمد علي.
ولا يتسرب إلى ذهن القارئ أن كل هذه المدارس أسسها إسماعيل باشا، بل وضع الحجر الأساسي للكثير منها محمد علي باشا، كمدرسة الطب التي شيدها في عام (1242ه/1827م) كما أسلفنا من قبل، غير أن الفضل يرجع إلى الخديوي في تنظيم هذه المدارس وزيادة ميزانية نظارة المعارف ورفعها أولا من ستة آلاف جنيه في عهد سعيد إلى أربعين ألف جنيه، ثم وقف عليها أراضي الوادي بعد أن اشتراها ثانية من شركة قناة السويس.
وكان غرض إسماعيل باشا من قانون رجب سنة 1284ه نشر التعليم، وتوحيد نظامه في جميع أنحاء البلاد مع مراعاة ما يلائم كل طور من أطوار الدراسة، فكان لا يجهد عقول التلاميذ في الطور الأول بالمواد التي لا فائدة لهم منها، بأن جعل التعليم في المدارس الابتدائية قاصرا على مبادئ الكتابة والقراءة، وخص المدارس التجهيزية بمن كان يريد التقدم في مضمار التعليم، أما المدارس العالية والخصوصية فكان يتعلم فيها الطلاب كل العلوم الدراسية وفيها اللغات، وكان يترك لهم الحرية في اختيار اللغة التي يتعلمونها بشرط أن يتعلموا اللغتين العربية والتركية، وكان طلاب المدارس الخاصة على قسمين: قسم يتعلم على نفقته الخاصة، والآخر على نفقة الحكومة؛ ولذلك كان يتحتم على هؤلاء أن يخدموا في وظائف الحكومة مدة معينة. وكان ينتخب أحسن الطلاب لمدرسة الهندسة ومدرسة الطب، وحثالة التلاميذ تذهب إلى المدارس الحربية، وفي ذلك إجحاف عظيم بالمجتهدين من الطلبة؛ لأن معظم الترقية كانت في الجيش.
ولا شك أن هذا القانون الذي يشمل أربعين مادة وضع أساسا متينا للتعليم في البلاد، إلا أن الحاجة إلى المال والرجال كانتا حجر عثرة في طريق تنفيذه؛ إذ أخذت الحكومة على عاتقها عدة أعباء ثقيلة؛ فكانت تعلم التلاميذ مجانا، وتتكفل بطعامهم، وملبسهم، وتعطيهم رواتب شهرية؛ ولذلك كان الآباء أحيانا يمنعون أبناءهم من الذهاب إلى المدرسة إذا قصر أولوا الأمر في شيء من النفقة، وربما كان للفلاح عذر في ذلك، فإن حالته الأدبية كانت منحطة، وربما كان غير قادر على دفع نفقات التعليم لما كان يعانيه من دفع الضرائب الفادحة والسخرة.
وقد شجع الخديوي أعيان الأمة على تعليم أولادهم، فوضع لهم مثالا ليحذوا حذوه بأن عني بتربية أنجاله وأمراء أسرته؛ فإنه عند توليته نقل مدرسة «المنيل» إلى قصر عابدين بعد أن كانت بجزيرة الروضة، وكان يتعلم بها مع الأمراء ستون تلميذا من أبناء الأهالي، فلم يفرق في المعاملة بين الفريقين، وكان من المحتم على الأمراء تمضية الامتحانات كغيرهم من التلاميذ.
4
ولم تقف همته عند تعليم الشبان من أبناء الأمة، بل وجه عنايته إلى تعليم البنات أيضا؛ فأسس مدرسة لذلك الغرض تحت رعاية إحدى زوجاته على نفقتها الخاصة، وكان الغرض منها تعليم البنات المصريات الواجبات المنزلية، حتى يستغنين عن الإماء والعبيد؛ فكانت هذه أول مدرسة من نوعها في كل بقاع الدولة العثمانية.
غير أنه كان في هذه المدارس بعض العيوب: فمنها قلة الأساتذة الأوروبيين الذين يحسنون العربية؛ إذ لا يخفى ما في إلقاء المحاضرات بواسطة مترجم من النقص، ومنها أن المعلمين الوطنيين كان ينقصهم أشياء كثيرة أخصها معرفة طرق التعليم، فكان لا هم لهم إلا إنماء حافظة التلاميذ، وهذه - بلا شك - طريقة عقيمة تذهب بكثير من ثمرات التعليم.
دار الكتب
ولا يفوتنا عند الكلام على التعليم أن نذكر أن الفضل في إنشاء دار الكتب الحالية يرجع إلى همة الخديوي إسماعيل؛ إذ جمع لها كل ما وصلت إليه يده من الكتب المنسوخة باليد والمصاحف المزخرفة التي كانت مبعثرة في جميع أنحاء البلاد، ولا ريب أن هذه المجموعة لا تقل في بابها عن مجاميع لندن وباريس وتورين. على أن المجموعة الفارسية التي فيها لا يوجد لها نظير في العالم بأسره.
واشترى إسماعيل باشا مجموعة الكتب التي كانت عند أخيه الأمير مصطفى باشا فاضل بعد مماته بمبلغ 40000 جنيه، وأهداها إلى دار الكتب.
فإسماعيل باشا يعتبر بما قام به - وبما تم في عصره من التعليم والنهوض بالأمة - من أعظم المشجعين للنهضة الحديثة بالديار المصرية.
دار الآثار المصرية
لا يكاد يوجد في العالم أرض تضارع مصر في كثرة آثارها القديمة ونفاستها، إلا أن هذه الآثار كانت إلى أواخر أيام محمد علي باشا مهملة؛ لا يهتم بها ملوك مصر، ولا يفتر قناصل الدول الأجنبية وتجارها عن تبديدها وتهريب ما وصلت إليه أيديهم منها إلى بلادهم. فلما قدم شمبليون مصر لدرس النقوش الهيروغليفية عرض على محمد علي باشا عام 1830م إنشاء مصلحة لحفظ العاديات المصرية، ولكن الباشا لم يعمل بنصيحته وقتئذ بتحريض قناصل الدول وتصويرهم مشروع شمبليون بأشنع صورة لأغراضهم الشخصية.
غير أن نصيحة شمبليون تركت أثرا في نفس محمد علي، فأصدر أمرا بعد ذلك بخمس سنوات بمنع تصدير الآثار وإقامة حراس عليها، وفي (ربيع الآخر سنة 1251ه/أغسطس سنة 1835م) أنشأ مصلحة للآثار أمام بركة الأزبكية للمحافظة على العاديات والبحث عنها في أنحاء البلاد، ولم تكن أعمال هذه المصلحة منتظمة في أول أمرها، وبقيت كذلك إلى سنة (1265ه/1849م) إذ أصدرت نظارة المعارف - التي كانت المصلحة تابعة لها حينئذ - أمرا إلى «لينان بك» بعمل فهرست للآثار وجمعها في مكان واحد. إلا أن ذلك لم يضرب على أيدي السرقة والمبددين، حتى إنه لما نقلت الآثار إلى القلعة لم تشغل بها إلا حجرة واحدة.
وفي سنة (1226ه/1850م) قدم إلى مصر رجل من أذكياء الفرنسيين المشتغلين بالآثار يدعى «المسيو مريت» - مريت باشا فيما بعد - أوفدته حكومته إلى وادي النيل لمشتري مخطوطات قبطية، فعدل عن ذلك وعكف على درس آثار سقارة حتى كشف بها السرابيوم، ولم تكن له علاقة رسمية بمصلحة الآثار وقتئذ، ولكنه لشغفه بالآثار والمحافظة عليها ساعد الحكومة كثيرا حتى زادت محتويات دار العاديات زيادة عظيمة بين سنتي (1853-54). ولكن ما لبثت أعماله أن ذهبت أدراج الرياح؛ إذ زار مصر في عام (1271ه/1855م) «الأرشدوق مكسمليان» النمسوي، فطلب من عباس باشا الأول أن يهديه شيئا من العاديات المصرية فسمح له بأن يأخذ كل ما أراد من القلعة! وإذا شاء أحد أن يعرف ما كانت تحويه دار عاديات القلعة فما عليه إلا أن يذهب اليوم إلى فيينا.
أما المسيو «مريت» فإنه بقي مشتغلا بالآثار المصرية، باذلا وسعه في أن تكون له صفة رسمية فيها حتى يضمن ثمرة أتعابه، فتم له ذلك في (ذي القعدة سنة 1274ه/يوليو سنة 1858م)؛ إذ جعله سعيد باشا بتوسط المسيو ديلسبس مأمورا لأعمال العاديات بمصر.
وقد لاقى في أول الأمر مصاعب جمة في تنظيم الآثار وإدارة حركتها، لقلة المال ولعدم ثبات سعيد باشا على مؤازرته؛ إذ كان أحيانا يأمر بتوقيف أعماله. ولكن مريت بقي مثابرا على بحثه، متنقلا طول النهار بين المصانع والطلال، حتى أخذت دار العاديات تمتلئ بسرعة، وسمح له سعيد باشا بنقلها إلى مخازن أعدت لها في بولاق.
ثم مات سعيد باشا ومشروع مريت في نشأته، فحزن كثيرا وخشي أن لا يلقى من إسماعيل باشا ما لاقاه من سعيد من المؤازرة، ولكنه ما لبث أن وجد من إسماعيل باشا أكبر عضد لمشروعه، فأمر في الحال بإصلاح مخازن بولاق وتوسيعها، وافتتحها بحفلة رسمية في 5 جمادى الأولى سنة (1280ه/18 أكتوبر 1863م).
ثم بقيت دار العاديات سائرة في طريق التقدم بفضل معاضدة إسماعيل باشا ومثابرة مريت، ولما أقيم معرض باريز (عام 1284ه/1867م) نقل أجمل ما فيها إلى فرنسا لعرضه بالمعرض، فكان موضوع إعجاب الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين؛ لذلك طلبت «الإمبراطورة يوجيني» من إسماعيل باشا أن يبقي العاديات بباريز لإهدائها لفرنسا، فكاد يجيب طلبها لولا مقاومة مريت باشا.
أفلتت العاديات من هذه الأزمة، فوقعت بعدها في ضيق شديد للعسر المالي الذي أخذ بخناق الحكومة في ذلك الوقت. وفي سنة (1295ه/1878م) فاض النيل على أماكن بولاق، وكاد يغرق الآثار؛ فعني مريت بحفظها في صناديق، وبقي محافظا عليها حتى أعيد افتتاح الدار بعد هبوط النيل.
مريت باشا.
وبقي مريت مثابرا على تنظيم دار العاديات المصرية وإصلاحها حتى مات في (صفر سنة 1298ه/يناير 1881م)، وهي تضارع أعظم دور العاديات الأوروبية.
وفي عام (1308ه/1891م) نقلت دار الآثار إلى الجيزة، فبقيت بها إلى عام (1320ه/1902م)؛ إذ نقلت إلى مكانها الحالي قرب قصر النيل.
ودفن مريت باشا بناووس في دار الآثار المصرية، لا يزال إلى الآن بها يستقبل القادم عليها. (5) منع تجارة الرقيق
بعد أن بذل إسماعيل باشا جهده في تأمين الأمة على نفسها ومالها، وساوى بين أفرادها أمام القانون ، وبذل جل طاقته في رفع شأن الأهالي بالتعليم، رأى أن من الكرامة والرحمة أن لا يتغاضى عن تجارة الرقيق في داخل بلاده؛ فلم يكتف بمنعها على الورق كما فعل من قبله محمد علي باشا وسعيد باشا، بل عزم عزما أكيدا على اقتلاع أصول هذه المهنة والقضاء عليها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ولما كانت هذه المهنة عادة متأصلة في كل البلاد، وكان الدين الإسلامي، بل كل الشرائع السماوية لا تمنع بيع الرقيق بشروط خاصة، صادف إسماعيل باشا صعوبات جمة في سبيل تحقيق أمنيته وتنفيذ عزمه.
وكان أول من لفت نظر الأمم المتمدينة إلى الفظائع التي ترتكب في أواسط أفريقيا من جراء هذه المهنة كبار المستكشفين من الإنجليز، نخص بالذكر منهم «لفنجستون» و«بيكر» و«استانلي»؛ إذ كانوا يروون عن ذلك الحكايات التي تفتت الأكباد وتدمي القلوب، لما كان يقاسيه أهل تلك البلاد من الذل والهوان وأنواع العذاب. ومهما بالغ الإنسان في وصف هذه الفظائع، فإنه لا يمكنه أن يفهم حالة العبيد والاتجار فيها إلا إذا قرأ كتاب «الإسماعيلية» أو كتاب «ألبرت نيانزا» اللذين وضعهما «السير صمويل بيكر» في هذا الصدد. ويكفي أن نقول هنا إن جلابي العبيد خربوا بلاد السودان، بصيدهم ما لا يقل عن خمسين ألف زنجي كل عام تحت ستر الاتجار في العاج.
وأول من فكر في القضاء على هذه الحرفة المشئومة بالفعل ولي عهد إنجلترا في ذلك الوقت؛ إذ عرض على الخديوي أن ينوط بالسير صموئيل بيكر محو الاتجار بالرقيق على النيل الأبيض وتوطيد النظام في السودان؛ فرحب الخديوي بهذا الإصلاح، وعزم على أن يضرب بسهم صائب في أحشاء هذه السلعة بالرغم من معارضة رعيته وعدم ميلهم لذلك.
ولا شك أن تحريم الاتجار في الرقيق صادف قبولا حسنا في نظر دول أوروبا العظام، إلا أنه أثقل عاتق الحكومة المصرية بما كلفها من النفقات؛ إذ أنفق بيكر وحده في هذا السبيل نحو 500000 جنيه، ولم يجد إسماعيل باشا معضدا له من بين رعيته إلا شريف باشا ونوبار باشا والأنجال والأمراء. أما باقي الرعية فكانوا ينظرون إلى المشروع شزرا.
وأول أعمال المسيو صمويل بيكر في هذا السبيل أن الخديوي عهد إليه سنة (1286ه/1869م) بالاستكشاف عن الجهات التي قرب منابع النيل الأبيض، وضمها إلى الحكومة المصرية، فخرج بحملة مصرية إلى إقليم خط الاستواء، ثم زحف بها حتى بلغ بلدة «جندوكورو»، والبلاد الواقعة على بعد درجتين شمالي خط الاستواء، وأعلن رسميا إلحاق المقاطعات الاستوائية بالحكومة المصرية سنة (1288ه/1871م) وكان أينما حل يؤسس باسم مصر نقطا عسكرية لمنع تجارة الرقيق، أهمها نقطة «التوفيقية». وكان بالسودان في ذلك الوقت عدة بيوت تجارية كبيرة لنقل البضائع من أطراف السودان إلى مصر، فجمع أصحابها رجالا مسلحة من الزنوج، وشيدوا لهم معاقل حصينة ليستعينوا بها على الاتجار فيما يريدون، وخصوصا تجارة الرقيق لما فيها لهم من الأرباح الطائلة. واستفحل أمرهم في هذه التجارة حتى إن «بيكر» لما عاد من سياحته الأولى وصف للخديوي مبلغ نفوذهم العظيم في القاصية.
فأرسل الخديوي إلى «حكمدار» السودان أن يتفق مع أصحاب تلك المعاقل على تسليمها للحكومة بمقابل تعويض يدفع لهم ابتغاء منع تجارة الرقيق، فقبل بعضهم وامتنع بعضهم الآخر بزعامة «الزبير».
ومن ذلك الحين صار للزبير شأن كبير في هذه الحرفة، وصار رئيس تجار الرقق، وبنى لنفسه في «شكا» قصرا يضارع قصور الملوك، ونظم له جيشا مسلحا لاقتناص الرقيق، وبعد مكافحة طويلة بينه وبين الحكومة ، طلب العفو من الخديوي فجعله مديرا لبحر الغزال دفعا لتفاقم الشر.
أما السير «صموئيل بيكر» فإنه ذهب في رحلة ثانية إلى مديرية بحر الغزال، ووصل في سفره إلى بحيرة «فكتوريا نيانزا» فرتب المقاطعات الاستوائية، وأنشأ فيها نقطا عسكرية، ولما أخلص النصح في خدمة مصر لقبه الخديوي حاكما عاما على هذه المقاطعات؛ فبقي عليها حتى استقال في سنة (1290ه/1873م) بعد أن ترك خلفه حكومة مبنية على أساس متين وطرد صيادي الرقيق من هذه الجهات.
وقام بأعباء العمل بعده الكولونيل «غردون». وكل من يعرف ما فطر عليه هذا الرجل من شدة البأس والمثابرة على العمل ، يعلم أنه أتى كل ما يمكن لإنسان أن يفعله في سبيل القضاء على طائفة الجلابين، إلا أنه بمجرد تركه لهذه الأصقاع النائية عادت هذه المهنة إلى ما كانت عليه بل زادت في الانتشار، حتى إنه في أيام قيامه بهذه الخدمة في السودان كان يجلب الرقيق إلى الحدود المصرية ويتجر فيه، وسنتكلم على غردون عند الكلام على السودان.
وكان ثالث رجل قام بهذه الخدمة رئيس جمعية تحريم الاتجار في الرقيق «كمت دلا سلا»، وكان لا يقل عن سابقه في النشاط والقوة، فطارده بجميع قواه في الوجه القبلي إلى الجنادل الثانية - الشلال الثاني - فنجح نجاحا باهرا حتى لم تتمكن قافلة واحدة من قوافل الرقيق من الوصول إلى أسيوط.
ومع ما بذل كل هؤلاء الثلاثة في سبيل منع الرقيق لم يتمكن أحد منهم إلا من تسكين هذه الرذيلة مدة، وسد بعض الطرق في وجهها. وقد صرح الثلاثة أن من المستحيل محو هذه المهنة دفعة واحدة. ولا شك أن الصعوبات أمامهم كانت عظيمة، ولا سيما أن شيخ الجامع الأزهر في ذلك العصر أوعز إلى الخديوي أن تحريم الرقيق جملة مخالف للشرع، إلا أن الخديوي رغم ذلك، ورغم عدم مساعدة الدول له مساعدة جدية، أمضى معاهدة مع بريطانيا العظمى لمنع بيع الرقيق في (24 رجب سنة 1294ه/4 أغسطس سنة 1877م)، وأخرى في (المحرم سنة 1295ه/يناير سنة 1878م)، وهذا منتهى ما يمكن لإنسان أن يأتي به. وفي الحقيقة لم يغل «اللورد أبريدين» الإنجليزي حين قال: «إنه لا يتسنى لأي حاكم شرقي أو أوروبي أن يعمل على محو الرقيق وتحسين حالة رعيته في زمن قصير كما فعل حاكم مصر الحالي.» - يعني إسماعيل. (6) منح السلطة للنظار وإنشاء مجلس شورى النواب
كان أول من سار بالبلاد في سبيل الحكم الدستوري محمد علي باشا؛ إذ رأى ضرورة إشراك الرعية معه في تدبير شئون مصر؛ فألف من كبار رجال حكومته مجلسا يسمى «المجلس المخصوص» ليعاونه في إدارة شئون البلاد، ويمكن اعتباره الأساس لمجلس الوزراء الحالي. وأنشأ أيضا مجلسا للشورى - مجلس المشاورة الملكي - ألفه من العلماء والأعيان.
وقد محي هذان المجلسان بعد وفاة محمد علي، وبقيا كذلك إلى أن جاء إسماعيل باشا فأعاد المجلس المخصوص وناط به فحص جميع المشروعات التي يريد إدخالها، وكان يرأس جلساته بنفسه في الغالب، وزاد من اختصاصه حتى صار شبيها بمجلس الوزراء الآن. غير أنه بقي هو صاحب النفوذ المطلق لا يعمل نظاره إلا برأيه، فلما تدخلت الدول الأوروبية في شئون مصر طلبت إليه أن يمنح أعضاء المجلس سلطة فعالة بحيث يكونون هم المسئولين عن قراراته؛ فشكل وزارة مؤاخذة برياسة نوبار باشا (سنة 1295ه/أغسطس سنة 1878م)، كان ضمن أعضائها اثنان من الأجانب - كما سيأتي مفصلا عند الكلام على المسائل المالية - فكان ذلك أول مجلس نظار أنشئ بالديار المصرية.
وأعاد إسماعيل باشا أيضا مجلس الشورى وسماه «مجلس شورى النواب»، وافتتحه في (10 رجب سنة 1283ه/19 نوفمبر سنة 1866م)، وهذه من أهم الخطوات في سبيل الحكم النيابي في جميع ممالك الشرق بأسرها. وكان انتخاب هؤلاء الأعضاء بأغلبية الأصوات في جميع البلاد، إلا أن عيبها الكبير هو أن المدير كانت له اليد الفعالة في انتخاب الأعضاء؛ ولذلك كان معظمهم ينتخب من أغنياء المديريات من غير نظر إلى عملهم ومداركهم، وكان أغلبهم يأبى أن يكون منتخبا مخافة أن يغضب المدير أو الحكومة في أمر من الأمور، حتى إن الحكومة كانت تضطر في أغلب الأحيان إلى انتخاب الأعضاء بالقوة الجبرية. ويقال إن إسماعيل باشا لم يكن غرضه من هذا المجلس أن يتدخل معه في أمور البلاد، بل ليشاركه أعضاؤه في المؤاخذة. وكانت وظيفة هذا المجلس أن يناقش الحكومة، ويبدي لها رأيه في كل التغيرات المالية وفي المشروعات العامة الجديدة وكل ما يتعلق بصالح البلاد من الأمور التي تعرضها عليه الحكومة. وكان يجتمع في كل عام مدة شهرين فتعرض عليه الحكومة التقرير السنوي عن إدارة البلاد أثناء العام.
وكان أعضاء هذا المجلس لا يدرون في أول الأمر شيئا من أعمال المجالس النيابية ونظامها، فلما هم شريف باشا بتعليمهم واجباتهم وطريقة السير في العمل ظهر من جهلهم وغرارتهم ما يضحك. (7) التقدم المادي والأعمال العامة
يجدر بنا الآن بعد أن تناولنا الكلام على الإصلاحات الاجتماعية والأدبية في عصر الخديوي إسماعيل باشا أن نذكر شيئا من إصلاحاته المادية التي لا تزال آثارها تدل على عظمته، وعلى ما كان يطمح إليه في سبيل رقي البلاد وفلاحها.
وإن كثيرا من أعداء إسماعيل يدعون أنه لم يفد البلاد، ولم يقم فيها بعمل يذكر، إلا ما شيد من القصور العديدة والمباني الضخمة، والبذل عن سعة في ملاذه وأغراضه حتى استنفد أموال البلاد وتركها تنوء تحت عبء ثقيل من الديون. ولكننا سنظهر هنا بالبراهين القاطعة، مستشهدين بكلام مشاهير عصره، أن أكثر أقوالهم غير مطابق للواقع، وأن إسماعيل باشا أفاد البلاد ورقاها، وأن ما قام به وتم في عصره من الإصلاحات والمشروعات العامة لا يضارع، ولا يتسنى لأي حاكم آخر في موضعه أن يأتي بمثله. إلا أن خطأه الوحيد يرجع إلى السرعة، وتعدد المشروعات، وعدم الحيطة في الإنفاق على أعماله.
الزراعة
كان إسماعيل يعلم أن ثروة البلاد في زراعتها؛ لذلك وجه جانبا عظيما من عنايته إلى تحسين حالها؛ فكان أول عمل قام به أن حفر أكثر من مائتي ترعة، ورصف مسافات طويلة من شواطئ النيل، وأنشأ آلاف الأميال من الطرق الزراعية في جميع أنحاء القطر، وأقام عليها ما لا يقل عن 500 قنطرة؛ من أهمها قنطرة الجزيرة - كوبري قصر النيل - التي تعتبر من أعظم الأعمال الهندسية في القطر المصري . ثم أصلح ما لا تقل مساحته عن 1500000 من الفدادين؛ فزاد بذلك الأراضي المزروعة في القطر بنسبة 30٪. وإن لم يكن لإسماعيل باشا حسنة أو إصلاح في البلاد غير هذه لكفى.
وفي أوائل حكمه اشتعلت نار الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، فحصرت ولايات الشمال تجارة الولايات الجنوبية، ومنعت صدورها إلى أسواق أوروبا، وفي ذلك القطن الذي لا غنى لإنجلترا وفرنسا عنه؛ فارتفعت بذلك أسعار القطن في مصر ارتفاعا لا مثيل له، فانتهز الخديوي هذه الفرصة وأكثر من زرع هذا المحصول، وشاركه في ذلك الأهلون من تلقاء أنفسهم، حتى صار المال يتدفق إلى مصر تدفقا، وزادت قيمة الصادرات المصرية من 4000000 جنيه في عام (1279ه/1862م) إلى 14000000 جنيه في عام (1281ه/1864م). ولكن ما لبثت الحرب الأمريكية أن انتهت، وعادت أثمان القطن إلى حالتها الأولى.
فوجه الخديوي عنايته إلى زرع قصب السكر؛ فكان ذلك شغله الشاغل، وأنفق عليه الأموال الطائلة، وسخر الأهالي في زرعه، وأنشأ من أجله خطا حديديا من القاهرة إلى أسيوط. وقد احتكر زراعته في أملاكه الخاصة على الضفة اليسرى من النيل بين القاهرة وأسيوط، واشترى لصنعه من الخارج الآلات الكافية لتشييد أربعة وعشرين معملا أقيم بعضها وأهمل بعضها الآخر. وقد أنفق إسماعيل على هذه المعامل وما يلزمها سبعة آلاف ألف جنيه، عدا نفقات الترعة الإبراهيمية التي حفرها لري هذه الأراضي، وسخر في حفرها عددا عظيما من أهالي القطر، وبعد أن أتم حفرها نصب عليها الآلات الرافعة، وهذه الترعة من أكبر الترع التي أنشئت في مصر وأعظمها فائدة وأكثرها نفقة.
وكان معظم العمال الذين يشتغلون في معامل السكر يجبرون على العمل، ويتقاضون أجورهم إما من السكر أو العسل.
التجارة
ووجه إسماعيل همه أيضا نحو تحسين حال التجارة، لعلمه أن مصر كانت من قديم الزمان مركزا عظيما للتجارة؛ فبنى خمس عشرة منارة في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، لترشد السفن التجارية القادمة إلى مصر، فأنفق عليها ما لا يقل عن 200000 جنيه، ثم شرع في بناء مرافئ ميناء الإسكندرية وميناء السويس، فناط إصلاح ميناء السويس بشركة فرنسية، وبلغت نفقاته 500000 جنيه، أما ميناء الإسكندرية فإنه عهد أمر إصلاحه إلى شركة إنجليزية عقدت معه اتفاقا على ألفي ألف وخمسمائة ألف جنيه، وقد اعترف «السير رفرز ولسن» - أحد الموظفين في الحكومة المصرية في عهد إسماعيل - أن هذا الاتفاق كان مجحفا بمصر، وأن الميناء لم ينفق عليه أكثر من خمسمائة ألف وألف ألف. فخدع إسماعيل في هذا العقد كما خدع قبله سعيد باشا في عقد قناة السويس. وهذا في الحقيقة مثل من كثير من أنواع الاتفاقات التي كان يخدع فيها إسماعيل، ويضيع من جرائها الأموا ل الطائلة.
وبنى أيضا أسطولا تجاريا ليحمل المتاجر والبريد بين مصر والدولة العلية وبلاد اليونان وغيرها، وأنفق عليه خمسمائة ألف وألف ألف من الجنيهات.
الأعمال العامة
قام إسماعيل باشا بعدة مشروعات وأعمال عامة تمت في عصره فأفادت البلاد، وجعلتها تضارع البلاد الأوروبية في المدنية والحضارة.
ومن بين هذه المشروعات مد السكك الحديدية في جميع أنحاء البلاد، وقد أنفق عليها الأموال الطائلة. وكان طول ما أنشئ من السكك الحديدية قبل توليته لا يزيد عن 330 ميلا، فازدادت في مدته حتى بلغت 1330 ميلا، أنفق عليها ما يقرب من عشرة آلاف ألف من الجنيهات.
وقد شرع في مدته أيضا في مد خط حديدي يخترق أواسط أفريقيا مبتدئا من دنقلة، فكان تصميمه أن يبلغ 1100 ميل، إلا أن العمل أوقف لقلة المال بعد أن دفع من نفقاته 400000 جنيه. على أن هذا الخط لو تم لأتى بنفقاته في مدة سنين قلائل، لمروره في وسط سهول فيها الأنواع الكثيرة من الحيوان؛ مما يكفي لسد حاجات مصر، بل كل جنوبي أوروبا. كما أثبت ذلك القائد «إستون» رئيس أركان حرب الجيش المصري حينما كان يستكشف عن أواسط أفريقيا؛ إذ قال: «إن محصول الحيوان في هذه الجهة لا ينفد.»
وأنشأ إسماعيل باشا أيضا ما لا يقل عن 5200 ميل من خطوط الأسلاك البرقية، واشترى مصلحة البريد من أحد الغربيين المدعو المسيو «شيني» في عام (1282ه/1865م)؛ وبذلك أصبحت تحت إدارة الحكومة ونفوذها. وأسس ما يزيد على 210 من مكاتب البريد في طول البلاد وعرضها؛ فكان مقدار ما وزع من الخطابات في عام (1295ه/1878م) يبلغ 2500000.
وأنار أيضا أمهات المدن - كالإسكندرية والقاهرة - بالغاز ومد بها أنابيب المياه، وأنشأ الشوارع الفسيحة بالقاهرة والإسكندرية والسويس، وزينها على النمط الغربي الحديث، وقد بلغ ما أنفقه عليها ما يقرب من ثلاثة آلاف ألف من الجنيهات.
وإن أكبر دليل قاطع على تقدم البلاد المادي ازدياد صادراتها ووارداتها في ذلك العصر ازديادا مطردا. (8) حروب إسماعيل باشا والفتوح التي تمت في عصره
5
لم يكن إسماعيل باشا ميالا للحروب كجده الأكبر محمد علي، إلا أنه رغم ذلك كان يعنى بجيشه عناية كبيرة؛ إذ أحضر له كبار الضباط من الممالك الأوروبية وأمريكا لتدريبه، نخص بالذكر منهم «إستون باشا» الأمريكي رئيس أركان حربه.
وقد بلغ أقصى عدد الجيش النظامي في عصره ستين ألف مقاتل مسلحة بنحو 144 مدفعا، عدا ثلاثين ألف مستحفظ، وستين ألف جندي غير نظامي.
وكان من أهم أغراض إسماعيل باشا توسيع نطاق ملكه في أفريقيا، وضم كل ما يمكن اكتشافه أو فتحه من أراضيها إلى مصر، فمن ذلك أنه عهد إلى السير صمويل بيكر بالاستكشاف عن الجهات التي قرب منابع النيل الأبيض وضمها إلى الحكومة المصرية (1286ه/1870م) كما سبق ذكره عند الكلام على منع الرقيق.
وفي عام (1287ه/1870م) ولى «منزنجر» السويسري محافظا على «مصوع»، وكان الخديوي قد اشتراها هي وسواكن من الباب العالي في عام (1283ه/1866م) في مقابل ضريبة سنوية قدرها 30000 جنيه، وقد اهتم «منزنجر» هذا بتوسيع أملاك مصر في السودان الشرقي؛ فألحق بها «بلاد البوغوس» و«بركة القضارف».
أما في وادي النيل، فقد طلب الخديوي من الحكومة الإنجليزية بإرشاد ولي عهد إنجلترا أن تمنحه تنصيب القائد «غردون» مديرا لمقاطعة خط الاستواء، فوصل إلى مصر ونصبه الخديوي «حكمدارا» لخط الاستواء في (ذي الحجة سنة 1290ه/يناير سنة 1874م)، ومن ذلك الحين اهتم الخديوي بأمر السودان اهتماما عظيما؛ فقسم بلاده الجنوبية إلى قسمين؛ أولهما: السودان الحقيقي - وآخر حدوده «فاشودة» جنوبا - وجعل إدارته لحاكم السودان العام، والثاني: إقليم خط الاستواء، وهو ما كان جنوبي فاشودة، وجعله تحت إدارة غردون؛ فبسط غردون نفوذ الحكومة المصرية على تلك الجهات، وأسس النقط العسكرية لضبط السفن التي تتجر بالرقيق.
فتح دارفور
وفي عام (1290ه/1873م) حسن «الزبير» للخديوي أمر فتح بلاد دارفور، وكانت مملكة مستقلة، فعضدته الحكومة المصرية، وتلاقى الزبير بجيش سلطان دارفور المؤلف من 20 ألف مقاتل، فهزمه مرارا وانتهى الأمر بفتح هذه البلاد، وصارت تابعة للحكومة المصرية؛ فعهدت الحكومة إلى الزبير إدارة الجهات الجنوبية من دارفور، ومنحه الخديوي رتبة باشا. ثم شكا الزبير كثيرا من ثقل الضرائب على الأهالي، وطلب أن يتشرف بمقابلة الخديوي فأذن له بذلك، فسافر إلى القاهرة وأناب عنه قبل سفره إليها ابنه سليمان. ولما لم ينل الزبير مطالبه عند قدومه إلى القاهرة لم تأذن له الحكومة المصرية بالرجوع إلى السودان، وأبقته في القاهرة مخافة أن يثور بالسودان عند عودته.
الزبير باشا.
فتح هرر
في سنة (1292ه/1875م) تنازلت الدولة العلية للحكومة الخديوية عن مدينة «زيلع» وملحقاتها في مقابل مبلغ تدفعه سنويا قدره 13365 جنيها مصريا، وبعد أن ضمت زيلع إلى الأملاك المصرية أخذت الجنود المصرية تستطلع أحوال «هرر» وتتعرف مسالكها، ولما تم لها ذلك سارت فرقة بقيادة «محمد رءوف باشا» في (شعبان سنة 1292ه/سبتمبر 1875م) فوصلت بعد قليل إلى مدينة هرر، واحتلتها بدون مقاومة تذكر، ورفعت العلم المصري فوق قصر أميرها.
حملة نهر جوبا وجهات قسمايو
ولما أن تم للخديوي توسيع الأملاك السودانية من الجهة الجنوبية، عزم على إرسال حملة إلى بلاد الصومال الجنوبية لضم البلاد الواقعة على نهر جوبا إلى مصر، حتى يتسنى له إيصال أملاكها في تلك الأصقاع بما لها في جهات خط الاستواء؛ فجهز لذلك حملة بقيادة «ماكيلوب باشا» من طريق البحر في (شهر المحرم سنة 1292ه/فبراير 1875م)، فلما وصلت إلى بلدة «براوة» الواقعة شرقي نهر «الجب» خضعت بعض القبائل للحكومة المصرية. ثم ترك فيها ماكيلوب باشا محافظا وحامية وتقدم إلى «قسمايو» عند مصب نهر جوبا. ولما لم تتمكن الجنود من السير فيه بالقوارب رجعوا إلى «قسمايو» ونزلوا إلى البر، وأخذت الحملة تستكشف عن النهر. ولكن الحكومة رأت أن تستدعي ماكيلوب باشا وحملته خوفا من وقوع المشاكل بينها وبين حكومة زنجبار التي كانت تحت حماية إنجلترا، هذا إلى نشوب الحرب وقتئذ بين مصر والحبشة.
حرب الحبشة
علمنا فيما سبق أن الحكومة المصرية ضمت إلى أملاكها في السودان الشرقي بلاد البوغوس وبركة القضارف على يد «منزنجر باشا» والي مصوع، ثم أرادت أن تعين الحدود بينها وبين الحبشة من تلك الناحية، وأن تستولي على بعض مقاطعات تتمكن بها من مد طريق حديدي بين مصوع والخرطوم على طريق كسلة «والتاكة»؛ فجردت لذلك حملة بقيادة «أرندروب بك».
فلما وصلت هذه الحملة إلى بلدة «سعد زجه» ورأى النجاشي توغل الجنود المصرية في بلاده، أخذ يتقهقر أمام القوات المصرية خديعة منه. حتى إذا وصلت الجنود المصرية إلى بلدة «عدخالة» أرسل القائد «أرندروب بك» إلى ملك الحبشة «يوحنا» يطلب منه جعل نهر «خور الجاش» الحد الفاصل بين الأملاك المصرية والحبشة، فلم يقبل. وكان «أرندروب» قد بلغه أن ملك الحبشة يستعد للهجوم عليه من ثلاث جهات، فعزم على أن يبدأه بالهجوم، فتقدم نحو «جونديت» واشتبك مع العدو، وكان جيشه أضعاف الجيش المصري يقوده النجاشي نفسه؛ فكانت الدائرة على الجيش المصري، وفني معظمه وقتل قائده العام، وتقهقرت فلوله إلى الحدود الأصلية بين الحبشة ومصر.
وكان الخديوي في هذه المدة أمر منزنجر باشا حاكم السودان الشرقي والبحر الأحمر أن يجرد حملة على بلاد الحبشة، ويذهب بها من طريق «غندار» (عام 1875م) فخرج عليه بعض القبائل في الطريق، فاغتالته وفتكت بجيشه.
ولما ذاعت أخبار هذه الهزيمة غضب الخديوي وعزم على الفتك بالحبشة محافظة على شرف الجيش المصري، فأخذ يجهز لذلك جيشا عظيما نصب عليه «راتب باشا» قائدا عاما، والجنرال «لورنج باشا» الأمريكي رئيس أركان الحرب له.
وبعد أن تمت كل المعدات أخذت السفن تنقل الجيوش من السويس إلى مصوع، وكان الخديوي قد أصدر أمرا لثالث أنجاله «الأمير حسن باشا» بمرافقة الحملة تشجيعا للجنود وتدريبا له، وبعد أن نزلت كل الجنود في مصوع أخذ الجيش يزحف على بلاد الحبشة، فاستمر في التوغل حتى وصل إلى «قرع » في (3 المحرم سنة 1293ه/يناير سنة 1876م) بعد أن ترك وراءه بعض الجنود لحفظ خط الرجعة بين مصوع والحبشة، ولما عسكر الجيش في قرع وأقام الاستحكامات رأت القبائل المجاورة قوته، فأخذت تنضم إليه وتذعن له بالطاعة.
أما الأحباش فإنهم لما رأوا ذلك جمعوا جيشا عظيما بقيادة النجاشي، وقصدوا المصريين أولا في «قياخور»، وكانت تحميها قوة مصرية بقيادة «عثمان رفقي باشا»، فلم يفلحوا في مهاجمتها لمناعة الاستحكامات المصرية، فقصدوا جيش القائد العام وأخذوا في مهاجمته عند قرع، وبعد معركة لم تدم طويلا تشتت شمل الجيش المصري بعد أن هزم شر هزيمة وقتل منه عدد عظيم، منهم «محمد علي باشا الحكيم» الطبيب الشهير، وقد نجا القائد العام والأمير حسن بعد أن رأيا الهلاك عيانا. أما الأحباش فكانت خسارتهم أيضا في هذه الحروب جسيمة.
ثم ابتدأت المفاوضات في أمر الصلح، فقبلت الحكومة المصرية المهادنة بشرط أن ترد الحبشة ما أخذته من الأسلحة المصرية، وأن تكون التجارة متبادلة بين المملكتين، فامتنع ملك الحبشة من رد السلاح معتذرا بأن جيشه ليس منظما حتى يتسنى له جمع كل الأسلحة. وبعد مدة وجيزة تقرر الصلح وأذن ملك الحبشة بعودة الأسرى (27 ربيع الأول سنة 1293ه/أبريل سنة 1876م). ثم عاد القائد العام والأمير حسن وفلول الجيش المصري.
رجوع غردون إلى الحكومة المصرية
وفي عام (1294ه/1877م) دعا الخديوي «غردون باشا» للخدمة في الحكومة المصرية، فاشترط عليه أن يجعله الحاكم العام على جميع الأقطار السودانية، فقبل منه ذلك. ولما تولى الأمر في هذه الأصقاع الواسعة رأى عدم استطاعته الانفراد بالحكم فيها وإدارة شئونها وحده؛ فقسم المديريات الاستوائية إلى قسمين: سمى الأول منهما «مديرية خط الاستواء» وجعل مقرها «لادو»، وجعل الحاكم عليها أمين باشا - الدكتور شنتزر. أما القسم الثاني فإنه سماه «مديرية بحر الغزال» وجعل المدير لشئونها المسيو «جسي» الطلياني.
وكان للمسيو جسي اليد الطولى في كشف جميع مجاهل هذه المديرية، وقد أحسن معاملة الأهالي فيها وعودهم الأعمال العسكرية، وشجعهم على إنشاء السفن للاتجار؛ فكان ذلك مدعاة لحنق الجلابين لأن فيه كسادا لتجارتهم، فأرادوا أن يخرجوا عليه، فتجمعوا بقيادة «سليمان بن الزبير» الشديد الحنق على الحكومة المصرية لمنعها والده من العودة إلى بلاده.
فلما علم غردون بذلك وجه إليه بعض الجنود تحت إمرة «جسي»، فتقاتلا قتالا شديدا كان النصر فيه حليف الجيش المصري، وقتل سليمان في هذه الموقعة. وقد وجد «جسي» معه رسائل من والده «الزبير باشا» تدل على أنه كان هو المحرض على هذا العصيان.
وبقي غردون يدير شئون السودان ويكافح تجارة الرقيق فيه حتى استقال في أوائل حكم توفيق باشا. (9) إتمام قناة السويس
سبق أن أفردنا فصلا في هذا الكتاب للكلام على ترعة السويس أوضحنا فيه مشروع حفرها، وأتينا بشيء من تاريخ هذا المشروع منذ أزمان غابرة. ولا بد لنا من كلمة هنا على افتتاح هذه الترعة؛ لأن ذكرها مقرون دائما باسم إسماعيل؛ إذ له العمل الأكبر في نجاح مشروعها واليد القوية في إنجازه بعد أن دخل في طور احتضار وكاد يذهب أدراج الرياح.
عز على إسماعيل باشا أن يقف هذا المشروع الخطير بعد أن قارب الانتهاء، فأقبل عليه يعضده بكل الوسائل، حتى إذا قرب أجل افتتاح الترعة أخذ على عاتقه أن يتكفل بإقامة حفلة الافتتاح على نفقاته الخاصة، غير مدخر وسعا في جعلها على حال من العظمة والفخام، بحيث تلائم ذلك المشروع الخطير.
أقام إسماعيل باشا حفلة الافتتاح بالإسماعيلية، فكانت غاية في الإبداع؛ دعا إليها ملوك أوروبا وأمراءها وعظماءها وعلماءها وأدباءها، فأجاب الدعوة منهم عدد عظيم، وفي مقدمتهم «الإمبراطورة - زوجة إمبراطور فرنسا نابليون الثالث - ثم إمبراطور النمسا «فرنسيس يوسف»، والأمير فردريك ولي عهد ألمانيا.
ثم أخذ إسماعيل باشا يعد المعدات ويقيم الزينات، غير ضان بما يحمله ذلك من المال، ظانا أن في ذلك إرضاء لزواره الأوروبيين، ووسيلة إلى رفع قدره وقدر مصر في أعينهم. ومن أهم ما أعده لتلك الحفلة أن شيد بالإسماعيلية قصرا بديعا على شواطئ بحيرة التمساح لتقام فيه حفلة راقصة احتفاء بالإمبراطورة يوجيني، لما كان لها من المكانة في هذا الاحتفال؛ إذ كانت هي النائبة فيه عن فرنسا صاحبة المشروع . وأقام السرادقات الفخمة المزينة بجميع أنواع الزينة، لتمد فيها الأسمطة للزائرين أيام الاحتفال.
ولما علم أن الإمبراطورة يوجيني ربما تود أثناء إقامتها في مصر أن تزور الأهرام، أمر أن ينشأ على وجه السرعة طريق يصلح لسير العجلات - العربات - من القاهرة إلى قاعدة الهرم الأكبر، فجد في إنشائه نحو 10000 عامل حتى تم في أقل من ستة أسابيع. ومن المباني التي شيدها سريعا بمناسبة هذا الاحتفال أيضا ملهى «الأوبرا» بالقاهرة.
أما ما لاقاه الزائرون في مصر من أنواع الكرم والحفاوة فلا يكاد يدخل تحت وصف؛ إذ كان قدومهم من أوروبا وعودتهم إليها على نفقة مصر، وسمح لهم بالسفر مجانا في جميع خطوط السكك الحديدية، وأمرت الحكومة موظفيها أن لا يدخروا وسعا في مساعدتهم وإرشادهم أثناء وجودهم بمصر، وأعدت لهم العجلات والدواب والتراجمة بدون مقابل. وفي الجملة لا نكون مغالين إذا قلنا إنه كان في استطاعة كل زائر أن يقضي بمصر نحو شهرين من غير أن يصرف درهما واحدا من ماله. وقد بلغ مجموع ما أنفق على هذا الاحتفال نحو 1400000 جنيه.
حفلة افتتاح قناة السويس بالإسماعيلية.
وكانت الحفلة في (شعبان سنة 1286ه/نوفمبر سنة 1869م)، وبها ابتدأ طور جديد في تاريخ الملاحة، فصارت السفن التي تجري بين الشرق والغرب تسير بطريق ترعة السويس بعد أن كانت تعاني أعباء الرحلة الطويلة حول جنوبي أفريقيا. وقد كان لابتداء هذا الطور وقع عظيم في أنحاء العالم المتمدين، ولم يأت ذكره في ناد من الأندية أو دائرة من الدوائر إلا كان مقرونا باسم بطله الأكبر «إسماعيل باشا خديوي مصر».
غرق قطار السكة الحديدية عند قنطرة كفر الزيات، وكان يقل الأمير أحمد وغيره من أمراء الأسرة من الإسكندرية إلى القاهرة.
كان نوبار باشا من أنجب رجال عصره: رباه قريبه بغوص باشا - من مستشاري محمد علي - تربية سياسية، فكان يحسن معظم لغات أوروبا قراءة وكتابة ويلم بكل الأحوال الأوروبية، مع كونه أرمينيا مسيحيا استطاع أن يخدم ثلاثة من ولاة مصر مدة عشرين عاما، حائزا لكل رضاهم إلى أن غضب عليه إسماعيل باشا. وكانت خاتمة إصلاحاته تأسيس المحاكم المختلطة التي نحن بصددها.
وقد قارن المستر «أدون دي ليون» في كتابه عن الخديوي عدد المتعلمين في مصر من الشبان الذين في سن التعليم بنظرائهم في أوروبا في ذلك الحين فقال: «إن نسبة المتعلمين في مصر تبلغ 23٪، على حين أنها تبلغ في الدولة العثمانية 10٪، وفي الروسيا 3٪، وفي إيطاليا لم تتجاوز 31٪.»
وبعد فترة ألحقت هذه المدرسة بمدارس العباسية التي تمت في عهد شريف باشا ناظر المعارف في ذلك الحين، حتى صار بها قسم ابتدائي يبلغ عدد تلاميذه 1200، وقسم تجهيزي بلغ عدد تلاميذه 700 بينهم أمراء الأسرة الخديوية، عدا ثلاث مدارس أخرى، ومدرسة للهندسة ومدرسة للمعلمين، وكان يجمع الجميع بناء واحد ضخم.
انظر
خريطة السودان
المصري.
الفصل الرابع
المسألة المالية وانتهاء حكم إسماعيل باشا
لو نظرنا إلى مقدار ما قام به «إسماعيل باشا» من المشروعات والأعمال العامة في أنحاء البلاد، وراعينا ما كان في قصوره وحفلاته من أنواع البذخ والأبهة مما ضارع به أكبر ملوك الأرض، علمنا أن ذلك كان يتطلب نفقات جمة تضيق خزائن مصر عن تحملها. فكان رحمه الله يستعين على ذلك بإنجاز بعض أعماله من غير أن يدفع أجرها نقدا، فيبقي عليه دينا - وهو ما يسمى بالدين السائر - ويقترض ديونا من الدول الأوروبية لتسديد نفقات بعضها الآخر - وهذه تسمى ديونا ثابتة. وكانت الديون الثابتة لا تعطى إلا إذا قدم لأصحابها ما يضمن سدادها، مثل دخل بعض مصالح الحكومة والأموال المجبية من بعض المديريات. فإذا تعذر عليه الحصول على ما يبغي من الدول الأوروبية لجأ إلى جمع ما يطلبه من المال من أهل البلاد، سواء أكان ذلك بزيادة الضرائب أم باقتراض ديون أهلية.
ومن أشهر ما جمعه بهذه الطريقة الأخيرة المبالغ التي جباها بمقتضى القانون المعروف بقانون «المقابلة». أعد هذا القانون بمشورة ناظر المالية الشهير «إسماعيل باشا صديق المفتش»، الذي يعرف اسمه كل فلاح عاش في هذا العهد، والذي كانت له المقدرة العظيمة في جباية الضرائب من الفلاحين. ومؤداه أن كل مالك من ملاك الأرض يمكنه أن يصبح معفى على الدوام من دفع نصف ما عليه من الضريبة السنوية إذا دفع للحكومة ما يعادل تلك الضريبة ستة أعوام، وله أن يدفع هذا المبلغ جملة أو على ستة أقساط سنوية - وفي هذه الحالة تدفع أيضا الضريبة الأصلية حتى يتم تسديد الأقساط.
1
ولما كثرت الديون الأوروبية على مصر ، وأوشكت موارد الضمان التي يمكن تقديمها عنها أن تنفد، أصبح من الصعب اقتراض ديون جديدة، وما أمكن اقتراضه منها كان بأرباح باهظة جدا لم يسبق لها مثيل. من ذلك أن إسماعيل باشا استقرض في (جمادى الآخرة سنة 1290ه/يونيو سنة 1873م) دينا قدره 32000000 جنيه ليسدد به جميع الديون السائرة، فلم يتمكن من عقد القرض إلا في شهر مايو سنة 1874م؛ فكان مجموع ما قبضته الحكومة بالفعل من هذا الدين بعد طرح جميع أنواع النفقات والخصم و«السمسرة» يبلغ 20062000 جنيه فقط؛ أي بنقص 37٪ عن مقدار ما حسب دينا على الحكومة، فضلا عن أن المبلغ الذي قبضته الحكومة لم يدفع كله نقدا، بل كان منه 9000000 جنيه من سندات الخزانة المصرية.
2
وتعهد إسماعيل باشا في عقد هذا القرض أن لا يقترض ديونا أخرى مدة سنتين، ثم اشتدت حاجته إلى المال، فلجأ إلى جمع قرض من الأهلين يعرف بدين «الرزنامة». وشروطه أن كل من يدفع للحكومة مبلغا يأخذ نظيره دفعا سنوية على الدوام قدر كل منها 9٪ من أصل ما دفعه. فجمعت الحكومة بهذه الطريقة 3420000 جنيه، ولكنها لم تدفع من الدفع السنوية المذكورة إلا جزءا من دفعة السنة الأولى فقط.
وفي سنة (1292ه/1875م) ازدادت أزمة الخديوي المالية، وصار يصدر سندات على خزائن الحكومة بقيمة تقل كثيرا عن قيمتها الاسمية. ولما اشتدت الأزمة على الحكومة عرضت ما لها من أسهم القناة للبيع - وكان عددها 176602 - فاشترتها الحكومة الإنجليزية بثمن بخس يقل عن 4000000 جنيه، فلم يفرج ذلك شيئا يذكر من الأزمة، وصار يخشى كل يوم من تدخل الدول الأوروبية في شئون مصر محافظة على الأموال التي أقرضتها رعاياها الحكومة المصرية.
وفي (رمضان سنة 1292ه/أكتوبر سنة 1875م) حدث ما يمكن اعتباره مبدأ التدخل الأوروبي في الشئون المصرية؛ ذلك أن «الخديوي إسماعيل باشا» طلب إلى الحكومة الإنجليزية أن تبعث إلى مصر موظفا إنجليزيا ذا إلمام بالشئون المالية ليساعده على إصلاح مالية مصر، فاختارت إنجلترا لذلك «المستر كيف»، فحضر وفحص الأمور مستعينا في عمله بما أمكنه الوقوف عليه من المعلومات، ثم قدم تقريرا بما يلزم عمله لتسوية الديون المصرية، ولكن الخديوي لم يعمل باقتراحه؛ فلم يكن لبعثه إلى مصر أثر يذكر.
3
وفي (11 ربيع الأول سنة 1293ه/18 أبريل سنة 1876م) توقف الخديوي عن صرف قيمة سندات الخزانة المصرية؛ فكان ذلك اليوم المبدأ الحقيقي للمشكلة المالية المصرية ولتدخل أوروبا في شئون مصر.
عند ذلك تذعرت دول أوروبا، فاهتم الخديوي بتأمينها على أموال رعاياها، وسعى إلى ذلك بكل الوسائل، إلى أن أصدر أمرا في يوم (8 ربيع الآخر سنة 1293ه/2 مايو سنة 1876م) بإنشاء لجنة يقال لها «صندوق الدين» تشكل من مندوبي الدول، ويعهد إليها إدارة شئون الدين المصري وتدبير ما يجب لانتظام تسديده، ثم أصدر أمرا آخر في 7 مايو بتوحيد جميع الديون المصرية من سائرة وغير سائرة وجعلها دينا واحدا قدره 91000000 جنيه وربحه 7٪ وينتهي تسديده في 65 سنة. ولم تقبل الحكومة الإنجليزية إرسال مندوب يمثلها في صندوق الدين أسوة بباقي الدول، ولكن أضيف إلى لجنة الصندوق فيما بعد عضو إنجليزي بدون مؤاخذة إنجلترا وهو «السير إفلن بيرنج» الذي منح فيما بعد لقب «لورد» وصار يعرف ب «اللورد كرومر». وسنعود إلى ذكره في هذا الكتاب.
على أن توحيد الديون المصرية على هذا الوجه لم يرض إنجلترا؛ لأن معظم الدائنين الإنجليز كانوا حملة سندات مضمونة بموارد ثابتة، وغير الإنجليز كان معظم أموالهم ديونا سائرة، فلم ير الإنجليز من الإنصاف أن يعامل الفريقان بطريقة واحدة؛ لذلك أرسلت كل من إنجلترا وفرنسا مندوبا للنظر في تعديل هذا الاتفاق، فاختارت إنجتلرة «المستر غوشن» - للورد غوشن فيما بعد - واختارت فرنسا «المسيو جوبر»، ففحصا الحالة المالية وقدما اقتراحا بما يلزم، وأصدر الخديوي به أمرا عاليا في (غرة ذي القعدة سنة 1294ه/18 نوفمبر سنة 1876م) حذف به من الدين الموحد ما يأتي: (أ )
4293000 جنيه قيمة الديون التي اقترضت في سنة 1864 و1865 و1867م؛ أي قبل اشتداد الأزمنة المالية، واعتبر ذلك الدين نوعا قائما بذاته، ويسدد من أقساط المقابلة. (ب)
17000000 جنيه قيمة سندات جديدة أطلق عليها اسم «الدين الممتاز» وجعل سعرها 5٪، وجعل الضامن لسدادها دخل السكك الحديدية وميناء الإسكندرية
4
ترغيبا في شرائها ليصرف ثمنها في تسديد الديون السائرة. (ج)
8815000 جنيه قيمة دين الدائرة السنية، واعتبر هذا الدين قائما بذاته ويسدد من دخل تلك الدائرة.
وبذلك نقص الدين الموحد إلى 59000000 جنيه، وجعل سعره 6٪، واتفق على أن يسدد 1٪ من أصله سنويا.
واقترح اللورد غوشن على الخديوي عدة إصلاحات لتوطيد مركز الحالة المالية، وتسهيل السير بانتظام في دفع أرباح الدين وأقساطه.
فشرع الخديوي في إنفاذ هذه الاقتراحات، وأدخل بحكومته عدة موظفين أوروبيين من أصحاب الكفاءة الكبيرة للقيام بذلك الإصلاح.
من ذلك أنه وافق على تعيين مراقبين عموميين لحساب الحكومة: أحدهما إنجليزي لمراقبة الدخل وهو «السير رفرز ولسن»، والثاني فرنسي لمراقبة المصروفات وهو «المسيو بلنيير».
على أن الخديوي لم يلبث أن رأى ذلك ينقص من نفوذه، فلم يطلق للمراقبين كل الحرية في العمل؛ فلم يكن لذلك الإصلاح الأثر المطلوب، ولم توفق الحكومة إلى أن تجمع قبل الميعاد المحدود لدفع أرباح الدين ما يكفي من المال لتسديدها، فاتبعت كل طريقة في جمع الضرائب قبل ميعادها حتى تيسر جمع المال المطلوب فسلم لصندوق الدين في آخر لحظة؛ أي قبل الميعاد المحدود ببضع ساعات.
دلت هذه الحالة السيئة على أن شئون الحكم لم تزل في حاجة إلى الإصلاح، وأحست لجنة صندوق الدين أن اتفاق سنة 1876م بشأن تسديد الدين ربما كانت شروطه شديدة، فطلبوا إلى الخديوي أن يأمر بتشكيل لجنة تحقيق تفحص الشئون المالية فحصا شاملا حتى تقف على أسباب ذلك العجز في مورد الحكومة؛ فلم يرض الخديوي في أول الأمر بمنح اللجنة كل هذه الحقوق الكبيرة، ورأى أن تكتفي اللجنة المراد إنشاؤها بإعادة النظر في المقدار الحقيقي للدخل. ولكن الدول تمسكت بطلب لجنة صندوق الدين، وفي (غرة ربيع الآخر 1295ه/4 أبريل سنة 1878م) أصدر إسماعيل باشا أمرا عاليا بتشكيل لجنة للتحقيق
5
لها الحق المطلق في إجراء كل ما تريد من التحريات والتحقيقات، وعهدت رياسة اللجنة إلى «المسيو ديلسبس»، وجعل رياض باشا والسير رفرز ولسن وكيلين لها، وجعل مندوبو الدول أعضاء فيها.
فشرعت اللجنة في فحص كل شيء يختص بالمالية المصرية؛ من النظر في الأنظمة الإدارية والضرائب وأنواع الديون المطالب بها وأصلها وغير ذلك. ولم يكد الأعضاء يشرعون في إنجاز مهمتهم حتى اعترضهم حادث وقف العمل فترة؛ وذلك أنه لما كان قد خول لهم حق الاستفسار من أي موظف في الحكومة عن أي شيء استدعوا «شريف باشا» - ناظر الحقانية وأعظم الوزراء إذ ذاك - للحضور أمامهم للإجابة عن استعلاماتهم، فلم يرض «شريف باشا» بالحضور أمامهم محافظا على كرامته، وقال إنه مستعد للإجابة عن أسئلة اللجنة كتابة، فأصرت اللجنة على استحضاره فاضطر إلى الاستعفاء. وبعد مضي هذه الحادثة التي اعترضت السير في التحقيق عادت اللجنة إلى مباحثها، وانكب أعضاؤها على العمل يوميا حتى وقفوا على مواضع الخلل في المالية؛ فكشفوا بذلك عيوبا خطيرة مما لم يكن على بال، من أهمها عدم التفريق بين المطلوب من الحكومة والمطلوب من الأسرة الخديوية، والإسراف في شراء لوازم الجيش وغيره لمجرد الرغبة في اقتناء كل شيء جديد أو اختراع ظريف يعرضه الأوروبيون على الخديوي ويبالغون له في محاسنه، وزيادة أجور الأعمال التي يقوم بها المتعهدون الأوروبيون ونحوهم زيادة فاحشة عما تستحق - من ذلك أن نفقات إصلاح ميناء الإسكندرية بلغت 2500000 جنيه مع أنها لم تعادل أكثر من 1500000 جنيه - واقتراض الأموال بأرباح باهظة لم يسمع بمثلها.
شريف باشا.
ولاحظت اللجنة أن الحكومة - فضلا عن إثقالها كاهل الأهلين بجميع أنواع الضرائب - قد جبت منهم مبلغين بشروط لا يمكن الاستمرار على العمل بها؛ أولهما: ما أخذ منهم بمقتضى قانون «المقابلة»، وثانيهما: دين «الرزنامة»، فعولت على مراعاة ذلك عند تسوية الحالة المالية. ورأت أيضا أن الدائنين لم ينحصروا في أصحاب المصارف والمقاولين، بل منهم طائفة كبيرة من أصحاب المهنات الحقيرة؛ كالحمارين والجمالين والحلاقين، وأن كثيرا منهم لم تكن بأيديهم من الحجج القوية ما يكفي لتبرير دفع مطالبهم.
وقفت اللجنة على كل ذلك، وقررت الحيطة العامة التي يجب اتخاذها لتلافي هذا المرض، ولكنها رأت قبل التعرض للتفصيلات الواجب اتباعها في حل المشكلة المالية أن تطلب إلى الخديوي إصلاحات لا يتسنى بدونها السير بمقتضى اقتراحاتها؛ فطلبت من سموه أمرين؛ الأول: أن يتنازل عن جميع أملاكه للحكومة، ويجعل له نظير ذلك راتب سنوي يفي بحاجاته إذا راعى جانب الاعتدال. والثاني أن لا يستقل بإدارة شئون البلاد، بأن يشرك معه وزراء مؤاخذين على أعمالهم، حتى لا يتم عمل إلا بعد مراعاة مصلحة البلاد.
وأرسلت اللجنة إلى سموه تقريرا بذلك في (أوائل شعبان سنة 1295ه/أغسطس سنة 1878م)، وبعد أن نظر في مطالبهم عول على إجابتها، وأمر بتشكيل وزارة مستقلة برياسة نوبار باشا بتاريخ (29 شعبان سنة 1295ه/23 أغسطس 1878) وأدخل في عدادها السير رفرز ولسن والمسيو دي بلنيير؛ فصار للأوروبيين وزيران في الحكومة بعد أن كان لهم مراقبان محدودا النفوذ، وفي (19 شوال/أكتوبر) أصدر أمرا عاليا بالتنازل عن معظم أملاك الأسرة الخديوية للحكومة، وجعلت هذه الأملاك «الدومين» ضمانة لدين جديد قدره 8500000 جنيه للاستعانة به في عدة شئون، منها تسديد الديون الثابتة - ذات السندات - وهذا الدين هو الذي عرف بدين «روتشيلد»
6
نسبة إلى أصحاب البيت الذين أقرضوه الحكومة، وقد تم تسديده في سنة (1331ه/1913م) فألغيت إذ ذاك مصلحة الدومين التي كانت تدير الأملاك الضامنة لهذا الدين، ودخلت هذه الأملاك من ذلك الحين ضمن الأملاك الأميرية العادية.
واستمرت اللجنة في فحص الشئون المالية وإدخال الإصلاحات الجديدة تمهيدا لتسوية الدين بطريقة نهائية. وكانت بالطبع تتبع فيما يختص بدفع أرباح الدين وأقساطه النظام الذي سن بموافقة صندوق الدين في سنة 1876م - نتيجة بعث غوشن - ريثما تفرغ من وضع نظامها الجديد. ولا يخفى أن ذلك النظام لم يكن بحيث تقوى موارد البلاد على القيام بشروطه؛ فعانى الوزراء مصاعب جمة في جمع الأموال اللازمة، ولم يعاونهم الخديوي بنفوذه الأدبي، فظن الأوروبيون أنه يعرقل مساعي الإصلاح الذي يريدونه لما فيه من سلبه بعض نفوذه، وساعدهم على هذا الاعتقاد أن ثار الجند لعدم قيام الوزارة الجديدة بدفع ما تأخر لهم من الرواتب، فتجمهروا أمام وزارة المالية وقبضوا على «نوبار باشا» و«السير رفرز ولسن » وأهانوهما، ولم ينصرفوا إلا بعد أن حضر الخديوي، وأمرهم بالانصراف فانصرفوا سريعا؛ فكان ذلك سببا في الظن بأنهم ثاروا بإيعاز منه.
وعند ذلك أعلن الخديوي أعضاء اللجنة أنه لا يعد نفسه مؤاخذا عما يحدث من الخلل أو الاضطراب بالبلاد ما لم يكن له نصيب فعال في حكمها. وبعد أن تداول معهم في هذا الشأن أقيل «نوبار باشا» من رياسة الوزارة، فخافت الدول أن يعود الخديوي إلى الاستبداد بالسلطة ففاوضوه في الأمر، ثم أقر الخديوي على أن يعهد برياسة الوزارة الجديدة لولي العهد ابنه «الأمير توفيق»، بشرط أن لا يتدخل هو في قرارات مجلس النظار، وأن يكون للناظرين الأوروبيين جميع الحقوق المخولة لباقي النظار.
فشرعت الوزارة الجديدة في العمل بالاتفاق مع أعضاء صندوق الدين ولجنة التحقيق حسب العادة، وكانت أرباح بعض الدين تستحق الدفع في (8 ربيع الآخر سنة 1296ه/أول أبريل سنة 1879م)، فلم يتوافر لدى صندوق الدين المبلغ اللازم لدفعها في حينها، فقرر أعضاؤه بالاتفاق مع لجنة التحقيق والوزارة تأجيل الدفع إلى أول مايو، فأظهر الخديوي استياءه من ذلك، وقال إنه عار على مصر، وعده دليلا على أن كل هذا التدخل الأوروبي لم يأت بالنتيجة المطلوبة. وكان تقرير لجنة التحقيق قد قارب الانتهاء وعرف جل ما فيه، وعلم الخديوي أن التقرير سيعلن رسميا إفلاس الحكومة المصرية؛ فانتهز فرصة حدوث كل ذلك، وعمل على استرجاع نفوذه وخلع الوزارة التي بها عضوان من الفرنج وكل أعمالهما بإشارتهما.
وقام هو بإعداد مشروع لتسوية الأمور المالية مخالف لمشروع اللجنة ولا يقتضي إعلان الإفلاس، وكان قد استمال الأعيان والعلماء فقدموا إليه معروضا أظهروا فيه بالنيابة عن الأمة استياءهم من الحالة الحاضرة، ومن عزم الفرنج على إعلان إفلاس الحكومة، وطلبوا إليه تشكيل وزارة مصرية محضة تكون مؤاخذة أمام مجلس الأعيان، فعزل الخديوي الوزارة وشكل غيرها برياسة «شريف باشا» اختار جميع أعضائها من المصريين، وعول أيضا على رفض المشروع الذي ستقدمه لجنة التحقيق لحل المسائل المالية، وعزم على العمل بموجب المشروع الذي حضره هو بمعونة أتباعه.
فأثارت كل هذه الأمور غضب الدول الأوروبية، وعلموا أنه لا يمكن إنجاز أي عمل لتسوية المالية المصرية وتثبيت حقوق رعاياها ما دام إسماعيل باشا خديويا على مصر؛ إذ ظهر أنه يأبى إلا أن يكون هو صاحب السلطة في البلاد، وأن يتصرف في شئونها ومالها كيف شاء، وبعد أن تفاوضت فيما بينها قررت عزله من خديوية مصر، فعرضت عليه أن يستقيل، فلم يقبل وأحال الأمر على السلطان، فما زالت الدول تستعمل النفوذ والتهديد لدى الباب العالي حتى استصدروا منه أمرا بعزل إسماعيل باشا، فجاء منه إلى مصر نبأ برقي بذلك في (6 رجب سنة 1296ه/26 يونيو سنة 1879م)، فلم يبد إسماعيل باشا مقاومة أخرى، وعهد بأمر البلاد إلى ابنه «توفيق باشا» - وكان قد ورد إليه نبأ برقي آخر بتوليته على مصر.
وخرج إسماعيل باشا من مصر في (10 رجب/30 يونيو) وأبحر من الإسكندرية على سفينته «المحروسة» إلى إيطاليا.
كل من له إلمام بالرياضة يعلم أن هذه الطريقة فيها غبن فاحش للحكومة.
معنى ذلك أن الحكومة نظير حصولها على 11000000 جنيه نقدا زادت دينها بقدر 23000000 جنيه (الفرق بين 32000000 و9000000).
يقدر مجموع الديون المصرية في ذلك الحين من سائرة وغير سائرة بنحو 90000000 جنيه. فلو راعينا أن مجموع دخل الحكومة المصرية زاد على نفقاتها في مجموع المدة التي حكمها «إسماعيل باشا» بمبلغ 40000000 جنيه، وأن نصيب مصر من أسهم القناة بيع بمبلغ 4000000 جنيه، كان مجموع ما صرفه إسماعيل باشا وسعيد باشا في غير شئون الإدارة العادية يساوي 134000000 جنيه. من ذلك 16000000 جنيه أنفقت على قناة السويس و40000000 جنيه على السكك الحديدية وإصلاح الأراضي وغير ذلك من الأشغال العامة، ونحو 52000000 جنيه في تسوية الديون واستبدالها ودفع أرباحها وأقساطها؛ فيكون الباقي حينئذ نحو 25000000 لا تعرف الأوجه التي صرف فيها.
وجعلت هاتان المصلحتان تحت مراقبة لجنة من مندوبي الدول.
كانت تسمى ديوان التحقيق.
بيت روتشيلد من أكبر البيوت المالية بإنجلترا.
الفصل الخامس
أوائل حكم توفيق باشا (1296-1298ه/1879-1881م)
تولى توفيق باشا أريكة مصر (19 شعبان سنة 1296ه/8 أغسطس 1879م) والمصاعب تحيط بالبلاد من كل جانب؛ فالخزانة خالية، والجيش معتل النظام، والأهلون ساخطون - الفقراء منهم لما نالهم من الجور، والأغنياء مخافة أن يفقدوا ما نالوه من المزايا في عهد إسماعيل - والأوروبيون ناقمون لأن أموالهم لم تدفع إليهم، ولأن الاضطرابات السائدة جعلت التجارة في كساد فقلت بذلك أرباحهم. ولم يكن لتوفيق باشا - رحمه الله - من الدهاء والعزم ما يجعله خير مكافح لكل هذه الخطوب، إلا أنه كان محبا للبلاد شديد الميل إلى ما فيه راحتها، فلم يدخر وسعا في العمل على إسعادها، وإنقاذها مما حل بها من العناء بإدخال كل ما يمكنه من الإصلاح.
توفيق باشا.
وقبل أن يسير هذا الإصلاح في مجراه اقتضت الأحوال الفصل في أربعة أمور هامة؛ أولها: تحديد مقدار نفوذ الخديوي في حكم البلاد، والثاني: تقرير العلاقة بين الخديوي والدولة العلية، والثالث: تعيين نوع الإشراف الذي يكون للأوروبيين على شئون مصر، والرابع: الفصل في المسائل المالية بطريقة تكفل الاتفاق بين الحكومة المصرية ودائنيها الأوروبيين.
ففي المسألة الأولى عول الخديوي على إشراك وزرائه معه في حكم البلاد وعدم الاستئثار بالسلطة؛ فعهد إلى «شريف باشا» بتشكيل وزارة، فقدم إليه هذا مشروعا يقتضي جعل الحكومة نيابية محضة، فلم يوافق عليه الخديوي لاعتقاده أن البلاد لا تستطيع أن تخطو دفعة واحدة من حكومة استبدادية مطلقة إلى حكومة نيابية محضة؛ فاضطر شريف باشا إلى الاستقالة (29 شعبان سنة 1296ه/18 أغسطس سنة 1879م)، فعزم الخديوي على ترؤس مجلس الوزراء بنفسه، إلا أن هذه الطريقة لم تدم طويلا، وفي (4 شوال/22 سبتمبر) استدعى «رياض باشا» وكلفه لتشكيل وزارة، وحفظ الخديوي لنفسه الحق في ترؤس مجلس الوزراء متى رأى حاجة إلى ذلك، إلا أنه جعل للوزراء نفوذا حقيقيا في إدارة شئون البلاد؛ فحلت بذلك المسألة حلا مرضيا، وشرعت وزارة رياض باشا في مباشرة أعمالها على أساس ثابت.
أما مسألة علاقة مصر بالدولة فكان الباب العالي يريد، بمناسبة عزل إسماعيل باشا أن يزيد من سيادة الدولة على مصر ، ويلغي الامتيازات التي منحها لإسماعيل. وكان عند إصدار الأمر بعزله أصدر معه أمرا سلطانيا بإلغاء تقليد سنة (1290ه/1873م).
رياض باشا.
ولما كانت تولية الخديوي الجديد تقتضي إصدار تقليد آخر، عول الباب العالي على أن يكون هذا سالبا للامتيازات الأولى، فعارضت دولتا فرنسا وإنجلترا في الأمر، وطلبتا الاطلاع على صورة التقليد قبل إصداره.
وقد علمنا - فيما سبق - أن تقليد سنة 1873م يتضمن الميزات الأربع الآتية: (1) جعل الوراثة لأكبر أولاد الخديوي بدلا من جعلها لأكبر فرد في الأسرة (2) منح مصر الحق في عقد معاهدات تجارية مع الدول (3) تخويل الخديوي حق اقتراض المال من الدول الأجنبية (4) تخويل حق زيادة الجيش إلى أي عدد أراد.
فعارضت فرنسا في إلغاء هذه الامتيازات كل المعارضة؛ لأنها كانت تعمل في ذلك الحين على تقويض أملاك الدولة ونزعها من يدها، فلا ترضى بأن يرجع إليها في مصر نفوذ كان قد ضاع منها. أما إنجلترا فلم يكن من سياستها إذ ذاك العمل على إضعاف الدولة؛ فلم تعارض فيما يريده الباب العالي إلا في مسألة الوراثة، فإنها رأت بقاءها في أكبر أولاد الخديوي أضمن للسكينة في مصر. ولكن فرنسا تمسكت كل التمسك بأمر آخر وهو عدم إلغاء الامتياز الخاص بعقد المعاهدات التجارية، وبعد أخذ ورد أذعن الباب العالي لهذين الطلبين واكتفى في التقليد الجديد بتعديل ما جاء في تقليد سنة 1873م بشأن الجيش واقتراض الديون من الدول الأجنبية؛ فاشترط أن لا يزيد الخديوي الجيش على 18000 في وقت السلم - وفي وقت الحرب يكون الأمر للدولة - وأن لا يعقد قروضا جديدة «إلا بالاتفاق مع الدائنين الحاضرين أو وكلائهم، ويكون ذلك منحصرا في تسوية أحوال المالية الحاضرة.»
أما المسألة الثالثة وهي تعيين نوع إشراف الأوروبيين على شئون الحكومة، فقد تم الاتفاق بين الخديوي وبين الدول الأوروبية على أن تجدد «المراقبة الثنائية» التي كانت في عهد إسماعيل، بشرط أن تقتصر أعمال المراقبين على الفحص والتدقيق، وأن لا تتعداهما إلى التدخل في شئون الإدارة. فعين «السير إفلين بيرنج» مراقبا من قبل إنجلترا، و«المسيو دي بلنيير» مراقبا من قبل فرنسا (ذي الحجة سنة 1296ه/نوفمبر سنة 1879م)، واشترطت حكومتاهما أن لا يعزل أحدهما عن منصبه إلا بعد موافقة دولته، فتسلم المراقبان أعمالهما، ولم يقسما اختصاصهما بل عملا معا بالتكافل، وعولا في مهمتهما على السير مع رجال الحكومة المصرية بالحزم والمجاملة كي يكسبا ثقتها، فتيسر لهما إجراء ما يلزم من الإصلاح في مالية البلاد وشئونها بدون مقاومة منها. وبالفعل حازا ثقة الحكومة فأذن لهما بحضور جلسات مجلس النظار، وأعدا مشروعات كثيرة نافعة كان لها الأثر الأكبر في تسوية الديون المصرية تسوية نهائية، وفي كثير من الإصلاح الذي تم بالبلاد عقب الاحتلال البريطاني.
وأما المسألة الأخيرة وهي الفصل بين الحكومة المصرية ودائنيها، فتقرر بشأنها تشكيل لجنة شبيهة بلجنة التحقق التي سبق ذكرها يقال لها «لجنة التصفية»، الغرض منها عمل حل نهائي للمشاكل التي بين الحكومة ودائنيها، بحيث لا يغبن أحد الطرفين أكثر من الآخر، فشكلت اللجنة من أعضاء ممثلين للدول الأوروبية العظمى، وفيهم أعضاء لجنة صندوق الدين، برياسة «السير رفرز ولسن»، واتفقت الدول على أن ترضى بما تقرره اللجنة في هذا الشأن، ولم يكن المراقبان من بين أعضاء هذه اللجنة، بل بقيا في جانب الحكومة ليدفعا عنها من الغبن ما عسى أن يطمع فيه أعضاء اللجنة.
وفي أثناء اشتغال اللجنة بالفحص والمناقشة في أمر تصفية الدين، انصرف المراقبان إلى عمل كل إصلاح فيه التسهيل لسير أعمال الحكومة في المستقبل على أساس متين، وقاما من تلقاء نفسهما بتحضير مشروع لتصفية الديون رجاء أن تتبعه اللجنة إن لم توفق هي إلى عمل مشروع من عندها - لوقوع الخلاف يومئذ بين أعضائها. وأهم ما جاء في هذا المشروع أن ينقص ربح الدين الموحد من 7٪ إلى 4٪، وأن يصرف النظر عن جميع الأرباح المتأخرة التي لم تدفع في الماضي. ومن الإصلاحات التي قام بها المراقبان أنهما سهرا على العمل بما اقترحته لجنة التحقيق من الإصلاح؛ فألغي قانون المقابلة نهائيا، وأنقص الفرق بين الأراضي العشرية والخراجية بزيادة ضريبة إضافية على الأراضي العشرية قدرها 150000 جنيه، وألغى معظم الضرائب الدنيئة مثل العوائد الشخصية ورسوم القبانة والصرافة ورسوم الأرضية في أسواق الريف. ومن أهم هذا الإصلاح تعيين مواعيد محدودة لجمع ضريبة الأراضي بحيث تدفع الأقساط في أوقات تناسب المزارعين. ولا يخفى ما كان يلاقيه هؤلاء من قبل من جراء مطالبتهم بها في غير موعد وبدون إنذار.
وأما مسألة تصفية الدين فلم يقدم أعضاء اللجنة عنها تقريرا، وإنما تم الاتفاق على حل للمسألة - ربما استمد أكثره من اقتراحات المراقبين - وصدر بذلك أمر عال في (8 شعبان سنة 1297ه/17 يوليو سنة 1880م) يعرف ب «قانون التصفية» ويلخص فيما يأتي: (1)
يخفض ربح الدين الموحد إلى 4٪، ويكون الضمان لذلك الدين دخل المكوس - الجمارك - بما فيها رسوم الدخان، ودخل مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة، وتدفع هذه الأموال إلى صندوق الدين مباشرة. (2)
يدخل في الدين الموحد الباقي من الديون القصيرة الأجل التي اقترضت في سنة 1864 و1865 و1867م بنقص 20٪ من قيمتها. (3)
يستصدر قرض ممتاز جديد بمبلغ 8743800 جنيه لدفع الديون السائرة التي لم تسدد بعد. (4)
تدير «الدائرة السنية» إدارة تشرف عليها هيئة من مندوبي الدول، ويكون ربح القرض المستصدر عليها 4٪ حتما، و5٪ إذا كفت غلة أراضي الدائرة لذلك - لم تكف الغلة قط لدفع 5٪. (5)
تدفع الديون السائرة جزئيا أو بالكامل، وبالنقد أو بسندات مالية من السندات الممتازة، حسب أهمية المستندات التي بأيدي أصحاب هذه الديون. (6)
يصرف مبلغ 150000 جنيه سنويا لمدة 50 سنة للذين دفعوا أموال «المقابلة»؛ إذ إن الضرائب المفروضة على أرضهم لن تخفض كما كانوا ينتظرون. (7)
يقسم دخل الحكومة إلى قسمين: قسم خاص بنفقات إدارة البلاد لا يزيد بحال من الأحوال على 4520000 جنيه، وقسم لسد أرباح الدين وأقساطه، وهو الباقي من الدخل - البالغ في تلك السنة 8412000 جنيه.
هذه هي الأنظمة النهائية التي حلت بها مسألة المالية المصرية وأقرتها الدول. ويلاحظ أنه بمقتضاها نقص مقدار الدين المصري وأرباحه عما كان عليه بمقتضى الأنظمة السابقة.
أما بيان أجزاء الدين عند صدور قانون التصفية، فيمكن تلخيصه فيما يأتي:
الدين الموحد
الدين الممتاز
دين الدائرة السنية
دين الدومين (روتشيلد)
الجملة
جملة الأرباح سنويا
بسعر 4٪
بسعر 5٪
بسعر 4٪
بسعر 5٪
57776340
22587800
9512900
8499620
98276660
3972387
وبعد الفصل في مسألة الدين تفرغت المراقبة الثنائية والوزارة المصرية لإدخال كثير من الإصلاح. وكان من أهم ذلك أن شكلت لجنة علمية للنظر في أمر التعليم برياسة علي إبراهيم باشا ناظر المعارف في (7 جمادى سنة 1297ه/27 مايو 1880م) فاجتمعت مرارا، وعدلت مناهج التعليم ووسعت نطاقه في البلاد، ثم قدمت تقريرا بما تراه من الإصلاح، فأقرته الحكومة وأبلغت ميزانية المعارف إلى ضعفي ما كانت عليه. واهتمت الحكومة أيضا بطرق الري وإنشاء الترع والقناطر والجسور وغير ذلك من أسباب زيادة الثروة. وبالاختصار دخلت البلاد في طور إصلاح جديد كان يرجى منه خير كبير لولا أن داهمتها تلك الحوادث المشئومة المعروفة بالثورة العرابية.
الفصل السادس
الحوادث العرابية
1298-1299ه/1881-1882م
عندما كانت الإصلاحات التي ذكرناها سائرة في طريق تقدم البلاد كان روح الاستياء يتفشى في الجيش يوما بعد يوم؛ ذلك لأن معظم الترقي بين ضباطه كان قاصرا على الأتراك منهم والشراكسة، وقلما وجد وطني متقلدا إحدى الرتب والألقاب السامية. وكان الضباط المصريون يتوقعون أن ينال الجيش شيء من الإصلاح العام الذي دخل البلاد فلم يحظوا بأمنيتهم، فحقدوا على الحكومة. وازداد سخطهم حينما أصدر «عثمان رفقي باشا» الشركسي الأصل ناظر الحربية قانون القرعة القاضي بمنع الترقي من «تحت السلاح»؛ إذ جعلت فيه مدة الخدمة العسكرية في الجيش العامل أربع سنوات فقط، يذهب الجندي بعدها إلى بلده، ويبقى «رديفا» خمس سنوات و«احتياطيا» ست سنوات. والمدة الأولى غير كافية للحصول على معلومات عسكرية تؤهل الجند للترقي.
عند ذلك تذمر بعض الضباط المصريين بزعامة «علي فهمي» و«أحمد عرابي» و«عبد العال حلمي» من أمراء «الآلايات«، وقرروا الاحتجاج على ذلك بإرسال معروض إلى رياض باشا رئيس النظار يطلبون فيه: أولا عزل «رفقي باشا» من وزارة الحربية، وثانيا إجراء تحقيق في كفاءة من فازوا بالترقي حديثا بدون استحقاق. وكان المعروض شديد اللهجة فأدى إلى سلوك الحكومة مسلكا جعل هذه الحادثة فاتحة لغيرها من الحوادث التي سميت بالثورة العرابية.
ولم يكن أحمد عرابي المحرك الأول لهذه الثورة، وإنما كان المحرك لها «علي فهمي بك»؛ لأنه أمير «الآلاي» المعهود إليه حراسة القصر الخديوي، وكان قد أوقع به رفقي باشا عند الخديوي لأمر في نفسه، فحقد «علي فهمي» عليه ذلك وعمل على النكاية به. أما إطلاق لفظ «عرابية» على هذه الحوادث، فلأن أحمد عرابي هو الذي بعد انضمامه إلى أصحاب الحركة الأولين ظهر عليهم حتى صار هو المحرك لكل شيء فيما بعد. وسبب ظهوره على غيره أنه كان قبل الانضمام إلى الجيش يطلب العلم بالأزهر الشريف، فكانت له مقدرة متوسطة في الخطابة لم تكن عند غيره من الضباط، فضلا عن أن انتماءه للبيت العلوي الشريف يرشحه لأكبر زعامة إسلامية، فأصبح بكل هذا صاحب المقام الأكبر في الثورة. واعتقد الناس في إخلاصه لأنهم لم يروا له غرضا خاصا مما كان يظن في غيره من أصحاب هذه الحركة.
أما المعروض الآنف الذكر فقدمه إلى رياض باشا أحمد عرابي وعلي فهمي بأنفسهما (13 صفر سنة 1298ه/15 يناير 1881م)، فألح عليهما أن يسترجعاه، وهو في نظير ذلك يبذل غاية وسعه في تلبية مطالبهما. فلما لم يذعن الضابطان لنصحه وسمع الخديوي بالأمر، استشاط غضبا وأمر بتأديب هؤلاء العصاة وقمع روح الفتنة في الجيش. وفي يوم (28 صفر/30 يناير) عقد مجلس النظار برياسة الخديوي - ولم يصرح للمراقبين الأوروبيين بحضور الجلسة - وقرر القبض أولا على الضابطين المشار إليهما ومحاكمتهما أمام مجلس حربي، ثم النظر في مظالمهما.
وفي (غرة ربيع الأول/فبراير) استدعي الضابطان إلى وزارة الحربية دون أن يخبرا بأن ذلك لمحاكمتهما. ولكن قرار مجلس النظار كان قد بلغهما سرا، فاتفقا مع ضباط فرقهما ورجالهما على أن هؤلاء إن وجدوا أن رئيسيهما لم يعودا بعد ساعتين ذهبوا لإنقاذهما بالقوة. ولما بلغ الضابطان نظارة الحربية - قصر النيل - قبض عليهما، وأحيلا في الحال على مجلس عسكري للمحاكمة. فبينا هذا المجلس مجتمع إذ هجم ضباط «الآلايين» ورجالهما وأخرجوا رئيسيهما من حجرة اجتماع المجلس بعد أن عبثوا بأثاثها وأهانوا ناظر الحربية، ثم سار أحمد عرابي وعلي فهمي بجندهما إلى قصر عابدين وطلبا إلى الخديوي عزل ناظر الحربية. وبعد أن نظر الخديوي في حرج الأمر لم ير بدا من إجابة طلبهما، فصرف عثمان رفقي باشا بمحمود باشا سامي البارودي؛ ففرح الثوار، وطلب فهمي بك وعرابي بك العفو من الخديوي بعد أن أعربا له عن رغبتهما في الولاء لسموه.
هذ هي ثاني مرة ثار فيها رجال الجيش؛ ثاروا في عهد إسماعيل فلم يصبهم أذى، وعزل نوبار باشا من رياسة الوزراء عقب ثورانهم، وثاروا هذه المرة فغلبوا الوزارة والخديوي على أمرهم، وفازوا في الحال بعزل رفقي باشا موضوع كراهتهم وأصل تمردهم، فعلموا من ذلك أن لا شيء يقف في سبيل مطالبهم، وأن الفوز في ثباتهم وتمسكهم برأيهم.
وبعد أن عزل الخديوي ناظر الحربية أمر بتشكيل لجنة للنظر في مظالم رجال الجيش ورفع رواتب الضباط والجند المصريين، وأعلن أنهم سيكونون في مستوى واحد مع غيرهم من الأتراك والجراكسة. وبالاختصار هدأت الأحوال قليلا، وكان يظن أن الخطب انتهى عند هذا الحد.
على أن رجال الجيش لم يهدأ روعهم، وعاشوا في خوف من الخديوي خشية أن يكيد لهم كيدا، عقابا لهم على ثورانهم. وكانوا يرون كل يوم من الشبهات ما زاد اضطرابهم، خصوصا أن ناظر الحربية الجديد «محمود سامي باشا» عزل ونصب مكانه «داود باشا» ابن أخي الخديوي. وفي مساء (13 شوال/8 سبتمبر) ذهب إلى بيت عرابي بك رجل غير معروف، فلم يسمح له بالدخول، فراب عرابي بك أمره، وذهب في الحال ليقص ذلك على زملائه من الضباط، وإذا بهم قد حدث لهم ذلك الأمر بعينه! فأيقنوا أن هناك مكيدة لاغتيالهم.
وازداد اعتقادهم يقينا عندما أصبحوا فرأوا أن الأوامر صدرت ل «الآلاي» الثالث «من الرجالة» بالسفر إلى الإسكندرية؛ فهاجوا وماجوا، وسار عرابي بك بقسم من الجيش يبلغ 2500 رجل معهم 18 مدفعا إلى ميدان عابدين، واصطفوا أمام قصر الخديوي في عصر (14 شوال/9 سبتمبر) يريدون مطالب جديدة.
فهال الخديوي الأمر وطلب «السير أوكلند كلفن» المراقب الإنجليزي
1
ليستشيره فيما يجب عمله، فحضر هذا وسار مع الخديوي إلى قصر عابدين، ونصح له بالظهور بالثبات، وأن لا ينس أنه مليك البلاد، وأن له هيبة تصغر أمامها كل شجاعة لعرابي ورجاله.
فنزل الخديوي إلى الميدان، فتقدم إليه عرابي بك ليعرض مطالبه، وكان ممتطيا جواده وبيده حسامه، فناداه الخديوي أن «ترجل واغمد سيفك.» ففعل ذلك بالامتثال الواجب للملوك. ثم سأله الخديوي عما يقصد من عمله هذا، فقال: «يا مولاي، للأمة ثلاثة مطالب قد أتى الجيش إلى هنا للحصول عليها بالنيابة عن الأمة، ولن ينصرف حتى يحظى بها.»
عند ذلك أشار «السير أوكلند كلفن» على الخديوي أن لا يناقش الجند في هذه الأمور حفظا لكرامته، وأن يدخل القصر ويترك له أمر المفاوضة معهم فيما يريدون، فخاطب السير أوكلند كلفن الجيش، وشرح لهم حرج الحالة، ونصح لهم بالانصراف قبل أن يتفاقم الخطب. فتمسك الثائرون بمطالبهم، وهي: (1)
عزل جميع النظار وتشكيل وزارة جديدة. (2)
تشكيل مجلس نيابي للأمة. (3)
زيادة عدد الجيش إلى 18000.
وبعد المداولة رضي الخديوي بعزل النظار، مع إرجاء الفصل في الطلبين الآخرين إلى أن يؤخذ رأي الباب العالي.
فقبل عرابي ذلك، وانصرف الجيش داعيا للخديوي بطول البقاء. وطلب عرابي إلى الخديوي أن يصفح عنه؛ فكان له ذلك.
وكانت شوكة عرابي قد عظمت، ونفذت كلمته في الجيش، ثم تعدته إلى الكثير من العمد والأعيان والعلماء، بما ينشره بينهم من الأقوال الجاذبة من «إنقاذ الوطن» وغير ذلك من الزخارف الباطلة التي كان لها أسوأ عاقبة في البلاد. وسهل انقياد بعض الأهلين له ما رأوه من تدخل الأجانب في شئون مصر، وإجحافهم بحقوق الوطنيين عند إعداد قانون التصفية. ثم داخل «عرابيا» الغرور، فبالغ في ادعاء ما ليس من حقه؛ من ذلك أنه أصدر في 9 سبتمبر منشورا لقناصل الدول يطمئنهم فيه على رعايا دولهم، ويخبرهم أنه المؤاخذ على حفظ النظام! وهو حق غريب استباحه لنفسه، وكان الأجدر تركه لأمير البلاد أو لأحد وزرائه.
ولما انقضت مظاهرة عابدين طلب الخديوي من شريف باشا أن يشكل وزارة جديدة، فتردد أولا لعلمه أنه سيكون ألعوبة في يد الحزب العسكري؛ إذ كانوا هم العاملين على إسقاط من قبله. ثم ألح عليه الأعيان ورجال الجيش، فقبلها على شرط أن يتعهد رؤساء الحزب العسكري بالامتثال للأوامر، فقبلوا ذلك وشكلت الوزارة في (19 شوال سنة 1298ه/14 سبتمبر سنة 1881م).
أحمد عرابي.
ورأى شريف باشا تهدئة للأفكار أن يبعد رؤساء الحزب العسكري عن العاصمة، فأشار على عرابي بالذهاب مع «آلايه» إلى رأس الوادي، وعلي عبد العال بالذهاب مع آلايه إلى دمياط، فامتثلا. وصادف غيابهما عن القاهرة حضور وفد من قبل الباب العالي للنظر فيما سمعته الدولة من المشاكل الجارية في مصر، فوجد ظاهر الأمور هادئا فأعلم الدولة بذلك.
وبعد سفر الوفد أصدر الخديوي أمرا في (26 المحرم سنة 1299ه/18 ديسمبر 1881م) بتنصيب «محمد سلطان باشا» رئيسا لمجلس شورى النواب، فاجتمعت أعضاؤه، وشكلت منهم لجنة المراجعة قانون المجلس، فأقرت اللجنة أكثر مواده إلا ما تعلق منها بميزانية الحكومة؛ فإن اللجنة رأت أن للمجلس الحق في مراجعتها، مع أن شريف باشا قد شرع في القانون عدم جواز ذلك للمجلس، عملا برغبة المراقبين والدول الأوروبية؛ لأنهم كانوا يخشون تسرب الاضطراب ثانية إلى الشئون المالية؛ مما يؤدي إلى نقض أحكام قانون التصفية.
وكانت عرى الاتفاق بين الأعيان ورجال الجيش قد وثقت، ثم قوي جانب الجميع بثبوت قدم الحزب العسكري وتنصيب عرابي باشا في (ربيع الأول سنة 1299ه/يناير 1882م) وكيلا لنظارة الحربية إرضاء لذلك الحزب، فتمسكت اللجنة برأيها، ولم ير شريف باشا وسيلة إلى إجابة طلبه لعلمه أن الدول لا تسمح بذلك مطلقا.
وكانت الحكومة الفرنسية منذ مظاهرة 9 سبتمبر سنة 1881م ترى وجوب بسط إنجلترا وفرنسا شيئا من الإشراف على الديار المصرية. فلما رأس الوزارة الفرنسية المسيو «غمبتا» في شهر ديسمبر عمل بكل قواه على تنفيذ هذه السياسة، وعرض الفكرة على اللورد «غرنفل» وزير الخارجية البريطانية، موضحا له أن الحوادث الجارية بمصر تستدعي التدخل في شئون تلك البلاد محافظة على الأموال والمصالح الأوروبية.
ولم يكن من سياسة بريطانيا العظمى في ذلك الحين مشاركة فرنسا في بسط شيء من النفوذ على مصر، ولكن دفعتها الرغبة في إرضاء تلك الدولة - لما بينهما من التحالف - إلى إظهار شيء من الموافقة على رأي المسيو غمبتا، على أن هذا الوزير طالما عرض عليه اللورد غرنفل أن يطلب من الباب العالي أن يتدخل هو في أمر مصر ويحتلها بجنوده إن اقتضى الأمر ذلك؛ فكان دائما يقابل ذلك بالرفض.
ثم وجد المسيو غمبتا من عزم مجلس شورى النواب المصري على طلب فحص الميزانية فرصة للشروع في إنفاذ ما يرمي إليه؛ فعرض على اللورد غرنفل أن ترسل حكومتا إنجلترا وفرنسا - بالاشتراك - مذكرة إلى معتمديها بمصر ليخبرا الخديوي ب «رغبة دولتيهما في مساعدته ومساعدة حكومته للتغلب على المصاعب المتنوعة التي تزيد الارتباك والقلق في القطر المصري، وأن الدولتين على وفاق تام فيما يختص بمصر، خصوصا بعد ما حدث من الحوادث الأخيرة التي من أهمها اجتماع مجلس شورى النواب.»
فوافق اللورد غرنفل على إرسال المذكرة بعد تردد، واشترط في جوابه أن موافقة الحكومة البريطانية على ذلك لا يقيدها بالقيام بأي عمل في المستقبل للتدخل في مصر إن اقتضى الأمر ذلك؛ فرضيت الحكومة الفرنسية بالشرط، وأرسلت المذكرة وبلغت رسميا للخديوي في (19 صفر سنة 1299ه/8 يناير 1882م)، فقابلها الخديوي بالشكر والامتنان.
على أن المذكرة وقعت على غير الخديوي وقوع الصاعقة، وارتاب جميع الطبقات في نيات الدولتين، واعتقد أعضاء مجلس الشورى أنهم المقصودون بذلك، وأن الدولتين تريدان تقويض سلطة مجلسهم؛ فزاد اتحادهم مع رجال الجيش وتمسكوا بأذيال عرابي وحزبه. أما الباب العالي فثار خاطره أيضا لهذا العمل الذي فيه افتيات على حقوقه؛ إذ هو صاحب السيادة في مصر، وكان هو الأولى بالتدخل في شئونها.
فلما رأى شريف باشا ما كان للمذكرة من الأثر السيئ، طلب إلى الدولتين أن ترسلا مذكرة إيضاحية تفسر الأولى وتبين أن الدولتين لا ترميان إلى غرض سيئ. فوافقت الحكومة الإنجليزية على هذا الرأي، ولكن المسيو غمبتا عارض أشد المعارضة، وقال إنه يذهب بهيبة الدولتين، فعملت الحكومة الإنجليزية هذه المرة أيضا برأيه على غير رغبتها.
وفي هذه الأثناء كان يزداد سخط أعضاء مجلس الشورى، وازدادوا تمسكا برأيهم في أمر الميزانية. ولما رأوا أن شريف باشا يعارضهم طلبوا إلى الخديوي إقالته فاستقال. ثم شكل الخديوي وزارة جديدة في (26 ربيع الأول سنة 1299ه/15 فبراير سنة 1882) برياسة «محمود سامي باشا البارودي» طبقا لرغبة أعضاء المجلس، وجعل أيضا عرابي باشا وزير الحربية فيها.
محمود باشا سامي البارودي.
على أن إذعان الخديوي لرغبة الأعيان بهذه الصفة لم يقصد به إلا حل عاجل للمشكلة ريثما يتم الاتفاق على من يوكل إليه قمع هؤلاء الثوار بالقوة؛ لأنه يستحيل حكم البلاد بوزارة رأسها من المنتمين للحزب الثائر، ووزير الحربية فيها عرابي نفسه، وهو أكبر عامل في الثورة.
وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أخذ نفوذ الحزب العسكري في الازدياد يوما بعد يوم، حتى امتد إلى جميع أعمال الحكومة، وفي يوم 20 فبراير كتب «السير إدورد ملت» المعتمد البريطاني بمصر إلى حكومته يخبرها بأن المراقبة الثنائية أصبحت اسمية فقط.
ثم زادت الوزارة الجديدة من عدد الجيش، ورفعت رواتب رجاله بلا اكتراث بما يصيب الميزانية من جراء ذلك، ورقت كثيرا من الضباط بدون اختبار؛ فجر كل ذلك إلى اشتداد الخلاف بين الخديوي ووزرائه، وتفاقم الخطب حتى كان يظن أن العرابيين يرمون إلى عزل الخديوي، وتنصيب محمود باشا سامي مكانه.
كل هذه الأعمال حركت همة الدول الأوروبية من جديد. وكانت وزارة المسيو غمبتا في فرنسا قد سقطت وخلفه المسيو «دي فريسنيه»، ولم يكن هذا شديد الإصرار على التدخل في مصر كما كان سلفه، إلا أنه رأى أن فرصة عدم التدخل قد فاتت، وأن الحال في مصر وصلت إلى حد يستحيل معه السكوت؛ إذ ظهرت كل معالم الثورة في أنحاء البلاد.
وكان الباب العالي قد احتج على إرسال مذكرة إنجلترا وفرنسا، فرأت هاتان عرض المسألة على باقي الدول الأوروبية للنظر في الطريقة التي يجب بها الفصل في الأمر، فلم تبد الدول معارضة في النظر في الأمر، ولكنها لم تفعل شيئا فعالا للوصول إلى نتيجة، فبادرت الحكومة الفرنسية بمفاوضة الحكومة الإنجليزية في الأمر، فأقر قرارهما على إرسال أسطول من قبل الدولتين إلى مياه الإسكندرية، وتكليف الوزارة المصرية الاستقالة، ورأت الحكومة الإنجليزية فوق ذلك أن يطلب إلى الباب العالي أن يصدر أمرا إلى مصر يعضد به الخديوي ، ويستدعي زعماء الثورة إلى الأستانة للإجابة عن عملهم، فوافقت على ذلك الحكومة الفرنسية بعد تردد.
وفي (8 رجب/26 مايو) قدم معتمدا إنجلترا وفرنسا مذكرة إلى رئيس مجلس النظار طلبا فيها استقالته من الوزارة، وإبعاد عرابي باشا عن القطر المصري مؤقتا مع حفظ راتبه وألقابه، وأن يقيم عبد العال باشا وعلي فهمي باشا في الأرياف ولهما أيضا رواتبهما وأوسمتهما، فاستقالت الوزارة، ولكن لم يسافر أحد ممن ذكروا في المذكرة.
أما الأسطول الإنجليزي الفرنسي فقد وصل إلى مياه الإسكندرية حسب الاتفاق. وكان قائد السفن الإنجليزية «السير بوشمب سيمور»، فلما وصل وجد أن النفوذ كله في المدينة بيد الحزب العسكري، وأن الأحوال في هيج واضطراب، فأخبر دولته بذلك. وكانت الوفود من الأعيان والعلماء وغيرهم تذهب إلى الخديوي يرجونه إرجاع عرابي إلى منصبه، فلم يقبل منهم.
أما الباب العالي فإنه لما بلغه رجاء إنجلترا وفرنسا أراد أن يظهر بمظهر صاحب السيادة في البلاد، وقال إنه سيرسل سفيرا من قبله لفحص المسألة، وإنه لا داعي لبقاء أساطيلهما بالإسكندرية، فلم توافق الدولتان على استرجاع أساطيلهما، ورأتا أن مجرد بقائها بالمياه المصرية يكفي لإرهاب الثائرين، وإلقاء الرعب في قلوبهم.
ولما لم يجد هذا التأثير الأدبي نفعا، وازدادت الحالة خطورة يوما بعد يوم، دعت إنجلترا وفرنسا الدول الأوروبية إلى مؤتمر بالأستانة للنظر في المسألة المصرية، ودعي إليه الباب العالي، فلم يرض بإرسال مندوب من قبله اعتقادا أن حل المسألة المصرية من شأنه هو، لا من شأن مؤتمر يعقده غيره من الدول. ثم أسرع إلى إرسال المشير مصطفى درويش باشا مبعوثا من قبله إلى مصر لتفقد أحوال العسكرية. ومن الغريب أن الباشا المذكور قال في تقريره إلى الحضرة السلطانية إن العسكر محافظة على الطاعة والنظام، وطلب لضباط الجيش نحو 200 وسام، منها الوسام المجيدي من الطبقة الأولى لعرابي نفسه!
ثم اشتد غلو الحزب العسكري، وأخذ يجمع الجيوش ويعد العدة، فزاد خوف الأوروبيين المقيمين بالبلاد، حتى إن سكان الإسكندرية منهم تأهبوا للدفاع عن أرواحهم عند الحاجة، وبقيت الأحوال تزداد صعوبة واضطرابا حتى جاءت تلك الحادثة المشئومة الشهيرة بحادثة 11 يونيو أو «واقعة الأحد».
وأصل هذه الحادثة أنه في يوم (24 رجب سنة 1299ه/11 يونيو سنة 1882م) تشاجر رجل مالطي مع مكار مصري في الإسكندرية لامتناع المالطي عن إعطاء الأجر الكافي نظير ركوب حمار المكاري. وكان المالطي ثملا بالخمر، فطعن المكاري بمدية، فانتصر لكل منهما قوم من أبناء ملته، فتذمر بعض الرعاع من الوطنيين، وأرادوا أن يثأروا من الأوروبيين، ولا سيما أن حوادث الحركة العرابية كانت قد أوغرت صدور بعض الفريقين من بعض، وابتدأ الأوروبيون يطلقون النيران من نوافذ بيوتهم على كل مار من الوطنيين؛ فازداد غضب المتجمهرين، وتضاعف الخطب. ولم يوجد من يزجر الرعاع أو يشرح لهم ضرر فعلتهم، مع تمادي الأوروبيين المتحصنين في بيوتهم في إطلاق النار حتى عظم القتال بين الفريقين، ونهب كثير من مخازن المدينة، ثم صدرت الأوامر للجند بتفريق المتجمهرين، فلم يأت الغروب إلا وقد هدأت الأحوال وسكن الاضطراب، وقبضت الحكومة على كثير ممن وقعت عليهم شبهة القيام بهذه الثورة.
وقد كان لهذه الحادثة المحزنة أثر سيئ لدى الدول الأوروبية، وقللت من عطفهم على مصر والقائمين بالحركة العرابية فيها، وقالوا إن هذه الحركة يصحبها شيء من التعصب الذميم. وقد كان ذلك من أكبر المؤثرات فيما قرروه في المؤتمر الذي عقد في الأستانة للنظر في شئون مصر.
أما ما كان من أمر هذا المؤتمر، فإنه عقد بالأستانة في (6 شعبان/23 يونيو) وشرع أعضاؤه في التفاوض في الأمر، ولكن مفاوضاتهم سارت بغاية البطء لاختلاف مشارب الدول الأوروبية في أمر مصر، وخوف كل منها من تحمل المؤاخذة، بالرغم من اعتقادهم جميعا بأن الحالة في مصر أصبحت تدعو إلى التدخل بالقوة، وبقي الباب العالي محجما عن إرسال مندوب من قبله إلى المؤتمر. ثم عرض عليه المؤتمر في 6 يوليو أن يرسل قوة إلى مصر بشروط معينة لتثبيت عرش الخديوي بمقتضى التقاليد السابقة، فأخذ يرجئ ويماطل إلى أن أعلن في يوم (21 شعبان/10 يوليو) أنه سيرسل مندوبا إلى المؤتمر في اليوم الثاني.
على أن الفصل في أمر مصر كان في الحقيقة قد أفلت من يد الباب العالي والمؤتمر بإعلان قائد الأسطول الإنجليزي بالإسكندرية في فجر 10 يوليو المذكور أنه سيضرب قلاع المدينة إن لم تسلم له في مدة أربع وعشرين ساعة.
وذلك أنه منذ قدومه إلى المياه المصرية كان يلاحظ الهيج يزداد في المدينة يوما بعد يوم، ثم بلغه أن عرابي باشا يأمر بزيادة تحصين قلاع الثغر ليضرب منها الأسطول الإنجليزي، فطلب إبطال هذا التحصين، فأخبره عرابي أنه ليس بالقلاع أدنى حركة تحصين جديدة، وأن ليس بها إلا المدافع القديمة العهد، ولكن «سيمور» أبصر بعد ذلك أن الاستعداد في القلاع قائم على قدم وساق، فأصدر بلاغا إلى قناصل الدول بالإسكندرية في فجر 10 يوليو بأنه سيضرب المدينة إن لم تسلم إليه قلاعها.
وكانت الحكومة الإنجليزية قد عرضت على الحكومة الفرنسية أن تشرك أسطولها مع الأسطول الإنجليزي في ضرب المدينة إن اقتضى الأمر ذلك، فامتنع المسيو «فريسنيه» بعلة أن حكومته تأبى أن تتحمل تبعة هذا العمل. فعزم الأسطول الإنجليزي على الانفراد بالعمل، وفي الساعة السابعة من صباح (22 شعبان 1299ه/11 يوليو سنة 1882م) أطلقت العمارة الإنجليزية - وعددها 14 سفينة بين مدرعة ومدفعية - مدافعها على قلاع الإسكندرية، فجاوبتها قلاع الإسكندرية بعد 15 طلقة، واستمر تبادل النار بين الفريقين 10 ساعات، انتهت بدك تلك القلاع الضعيفة دكا من غير أن يصيب السفن الإنجليزية أذى يذكر.
وفي اليوم التالي تراجعت حامية المدينة إلى الداخل، وعند خروجها من الإسكندرية أمر أحد الأمراء «الآلايات» المدعو «سليمان داود» - بغير علم عرابي - أن تحرق المدينة؛ فاشتعلت فيها النيران ونهبها الرعاع. وفي يومي 24 و25 شعبان أنزل الأسطول الإنجليزي بعض الجنود فاحتلوا المدينة، فعاد إليها الأمن وأخذ الأهلون يرجعون إليها بعد أيام قلائل.
ثم أخذت الجيوش الإنجليزية والهندية تفد إلى الإسكندرية لمحاربة عرابي، بقيادة «جارنت ولسلي»، وكان عرابي قد عسكر بجهة «كفر الدوار» على بعد بضعة أميال من الإسكندرية، فلما وجد الإنجليز أن موقعه هناك حصين رأوا أن يدخلوا البلاد من الشرق من جهة قناة السويس. وعلم بذلك عرابي، فعزم على ردم القناة كي لا تمر منها السفن الإنجليزية ، ولكن المسيو ديلسبس حمله على الكف عن هدم هذا العمل الخطير، وقال إنه يمنع بحق حياد القناة مرور أي سفن حربية منها، فخدع عرابي بأقواله، ولم يقدر ديلسبس طبعا على إنجاز وعده، ونزلت الجنود الإنجليزية من طريق القناة؛ فاستعد العرابيون للقائهم بجهة «التل الكبير». وكانت أهالي القطر تمد جيش عرابي بحاجاته طوعا أو كرها، حتى اجتمع له من الخيل والبغال شيء كثير.
وكان الباب العالي طول هذه المدة يتباطأ في الفصل في أمر مصر، وأخيرا اشترك في مفاوضات مؤتمر الأستانة بإرساله مندوبين من قبله في 20 يوليو. ثم أعرب لرجال المؤتمر أنه مستعد لإرسال جيش لإخماد الثورة المصرية، فاشترطت عليه الدول شروطا خاصة، مؤداها أن لا يغير علاقة الدولة بمصر عما تقضي به التقاليد السابقة. وكانت في مقدمتهم في ذلك بإنجلترا؛ لأنها أصبحت منذ ضرب الإسكندرية أكبر الدول ارتباطا بالشئون المصرية، ولم تبد لها إحدى الدول شيئا من المعارضة لعلمها بوجوب قيام إحدى الدول بإطفاء الثورة.
فاشترطت إنجلترا على الباب العالي أن لا يرسل جنديا واحدا إلى مصر إلا بعد أن يصدر منشورا بأن عرابي باشا عاص للسلطان، وبعد إبرام اتفاق حربي مع إنجلترا بشأن أعمال الجيش التركي والإنجليزي بمصر.
فأخذ الباب العالي يعرض عدة صور بما يصدره في المنشور على إنجلترا - فتشير هذه بتعديلها حسبما تراه موافقا للأحوال - ثم كتب صورة نهائية ونشرها قبل أن يطلع مندوب إنجلترا عليها (22 شوال/6 سبتمبر)؛ فغضبت لذلك إنجلترا، وامتنعت عن توقيع الاتفاق الحربي؛ عند ذلك شرع الباب العالي يفاوض إنجلترا بشأن توقيع الاتفاق بالرغم مما حصل، وكادت الحكومة الإنجليزية تقبل ذلك في (29 شوال/13 سبتمبر) لولا أن جاءت الأنباء في ذلك اليوم بأن الجيوش الإنجليزية بددت شمل جيش عرابي في صبيحة ذلك اليوم عند التل الكبير؛ وبذلك زالت الأسباب الداعية إلى مفاوضة الباب العالي في هذا الشأن.
أما موقعة التل الكبير فكانت في السحر في الساعة الرابعة من صباح (29 شوال سنة 1299ه/13 سبتمبر سنة 1882م)، وكان عدد الجيش الإنجليزي فيها يبلغ 17400 مقاتل. وجيش عرابي نحو 27 ألف جندي ما بين نظامي وغير نظامي، فلم يجد هذا الفرق شيئا أمام العلم وحسن النظام، ولم تدم الواقعة أكثر من عشرين دقيقة انتهت بتبديد الإنجليز لجيش عرابي، وفر عرابي نفسه إلى القاهرة بعد أن بذل جهده عبثا في رد المنهزمين من جيوشه إلى أماكنهم، وأراد عرابي الوقوف للإنجليز في طريق القاهرة فخذله الناس، وانكسرت نفوس مساعديه.
فسار الإنجليز إلى القاهرة فدخلوها بلا مقاومة، وتسلموا القلعة وباقي الثكنات العسكرية في (22 ذي القعدة سنة 1299ه/5 أكتوبر سنة 1882م)؛ وبذلك ابتدأ احتلالهم للقطر المصري.
ثم سلم عرابي نفسه، وقبض الإنجليز على معظم زعماء الثورة.
وكان هذا قد نصب مكان السير إفلن بيرنج الذي نقل إلى منصب آخر بالهند.
الفصل السابع
عهد الاحتلال البريطاني (1) قدوم اللورد دفرين إلى مصر
دخلت مصر منذ عام (1299ه/1882م) في طور جديد، وهو الاسترشاد بدولة أوروبية عظيمة في السير في سبيل تهدئة أحوالها وتنظيم إدارتها. وقد سبق أن أوضحنا الأسباب التي دعت بريطانيا العظمى إلى إرسال جيش لاحتلال مصر، والآن نبين كيف امتد هذا الاحتلال إلى اليوم، مع ذكر أهم الأعمال العامة التي تمت في عهده.
بعد أن أودع عرابي السجن وأخمدت نار الثورة كان أول واجب إعمال التدبير لتهدئة أحوال البلاد ومنع حدوث مثل هذه الفتنة في المستقبل؛ لذلك أمرت الحكومة البريطانية اللورد «دفرين» - سفيرها في الأستانة - أن يسافر إلى مصر ويبدي للحكومة الخديوية ما يراه من المشورة والنصح، لاتخاذ الحيطة الكافلة بتثبيت عرش سمو الخديوي وإسعاد جميع طبقات الأمة. وكانت الحكومة قد سجنت - غير زعماء الثورة - عددا كبيرا من الأهلين، والعلماء لشبهات يسيرة. فلما حضر اللورد «دفرين» إلى مصر نصح للحكومة بالنظر في أمرهم، فعملت بمشورته، ثم أصدر الخديوي أمرا بالعفو عن جميع الضباط الذين تقل رتبتهم عن «البكبشي»، مع تجريدهم من رتبهم وحرمانهم من معاشهم.
اللورد دفرين.
ثم عينت «لجنة تحقيق» للنظر في أمر عرابي ومحمود سامي ، وعبد العال وطلبة وعلي فهمي، فأقرت محاكمتهم أمام مجلس عسكري بتهمة ثورانهم على الحكومة. فأثبت المجلس إدانتهم وحكم عليهم بالإعدام، ثم أبدل بالحكم أخف منه وهو النفي المؤبد إلى جزيرة «سرنديب» - سيلان - بالهند.
بعد أن دخلت الجنود الإنجليزية مصر واحتلتها لم يكن هناك داع للمراقبة الثنائية؛ إذ في إنجلترا وحدها الكفاية للمحافظة على الأموال الأوروبية، وفي بقاء المراقبة احتمال لفساد العلائق بين فرنسا وإنجلترا لتوقع الخلاف بينهما في الرأي، على أن الحكومة المصرية نفسها طالما وجدت المراقبة الثنائية حجر عثرة في سبيل أعمالها؛ ولذلك اقترح شريف باشا إلغاءها، فأيدته الحكومة الإنجليزية في رأيه وساعدته على إنفاذ رغبته بالرغم من احتجاج فرنسا، وتشنيع الصحف الفرنسية عبثا، وفي (9 ربيع الأول سنة 1300ه/18 يناير سنة 1883م) أصدر الخديوي أمرا عاليا بإلغائها، فغادر المراقب الفرنسي مصر بحجة قيامه بإجازة، وعين المراقب الإنجليزي مستشارا ماليا للحكومة المصرية.
ونظر اللورد دفرين أثناء إقامته بمصر في عدة أمور لإصلاح البلاد، فمن أهم ذلك إنشاء جيش مصري جديد؛ لأن القديم قد حل لقيامه بالثورة، ولأن إنجلترا كانت في ذلك الوقت تنوي استرجاع جيوشها من مصر في أقرب فرصة، فيحل الجيش الجديد محل الجيوش البريطانية. ولما لم يجد اللورد دفرين العدد الكافي من المصريين اللائقين لأن يكونوا ضباطا في الجيش، اقترح أن ينصب عليه قائد إنجليزي، ويضم إليه بعض كبار الضباط من الإنجليز، فوقع الاختيار على «السير إفلن وود» فنصب «سردارا» للجيش المصري في أوائل سنة (1300ه/1883م) وأخذ في القيام بتنظيم الجيش.
واقترح اللورد دفرين إصلاح الشرطة، فعهد بأمرها إلى «الجنرال بيكر» وألحقت إدارتها بوزارة الداخلية.
ونظر أيضا في تشكيل هيئات نيابية تساعد الحكومة في إدارة شئون البلاد؛ فاقترح إنشاء مجلس شورى لسن القوانين يؤلف من 26 عضوا، يكون بمثابة مرشد لمجلس النظار، وتشكيل جمعية عمومية مكونة من 46 من الأعيان، تجتمع كل سنتين مرة يسترشد بهم كل من مجلس النظار والشورى في الوقوف على رغبات أهل البلاد، على أن هذا النظام لم يمكن إنفاذه دفعة واحدة لعدم تدرب البلاد على الحكومة النيابية، ورأت إنجلترا إرجاءه إلى أن يتم هذا التدريب.
على أن إنجلترا لم تقصد بقاءها بمصر أمدا طويلا، بل كانت على العكس من ذلك عازمة على الجلاء عنها بعد أن ترسخ قدم الإصلاح فيها، وتخرج من الأزمة التي كانت سببا في نزول الجيش البريطاني الديار المصرية. يدل على ذلك ما جاء في خطاب الملكة فكتوريا يوم افتتحت البرلمان البريطاني في (7 ربيع الآخر سنة 1300ه/15 فبراير سنة 1883م) وتصريحات اللورد دفرين في التقرير الذي رفعه للحكومة البريطانية عن حالة مصر.
غير أنه حدثت أمور ومشاكل عاقت تقدم مصر على الوجه الذي تريده إنجلترا، فاضطرت للبقاء فيها إلى هذا اليوم. ومن أعظم هذه المشاكل قيام الفتن والحروب في السودان؛ فإنها - فضلا عن جعلها البلاد في خطر إذا انجلت عنها الجيوش البريطانية - عاقت سير الإصلاحات العديدة التي اقترحها اللورد دفرين، وهي تتناول أمورا كثيرة، أهمها الجيش والشرطة والهيئات النيابية والتعليم والمحاكم والري ومسح الأراضي وتخفيض الضرائب وإصلاح حال الفلاح وغير ذلك.
وبعد أن وضع اللورد دفرين الخطة للإصلاح الذي يريده في مصر عاد إلى مقره بالأستانة، وعهد بإنفاذ هذا الإصلاح إلى معتمد بريطانيا العظمى في مصر؛ بحيث يكون مركزه في ذلك مركز الناصح والمرشد للحكومة المصرية ووزرائها.
ثم اختير لهذا المنصب «السير إفلين بيرنج» - اللورد كرومر فيما بعد - فوصل إلى مصر في (9 ذي القعدة سنة 1300ه/11 سبتمبر سنة 1883م)؛ أي بعد مغادرة اللورد دفرين بأربعة أشهر، فبقي فيها يواصل هذا العمل إلى أن استقال من منصبه في صيف عام (1325ه/1907م).
ولما كان للحروب السودانية الأثر الأكبر في تأخير سير هذه الإصلاحات، حسن بنا أن نأتي على ذكرها أولا، ثم نعود إلى الكلام على الإصلاحات التي لم نشرحها بعد.
اللورد كرومر. (2) حروب السودان
استولى محمد علي باشا على السودان سنة (1235ه/1820م)، ولكنه لم يوطد فيه نفوذ مصر؛ فبقيت سلطة الحكومة عليه ضئيلة منذ هذه المدة، وكاد يكون الحل والعقد فيه بأيدي الباشوات الترك وجباة الضرائب من البشبزق وغيرهم ممن لم يكن لهم هم سوى جمع الثروة وابتزاز الأموال من أبناء السودان التعاس. وكان الشغل الشاغل لكل حاكم عام ولي السودان في هذه المدة إطفاء الثورات التي لم تخمد نارها قط في أنحاء البلاد، وصد هجمات الحبشة على الحدود السودانية.
وقد استتب النظام نوعا في المقاطعات الاستوائية في سنة (1291ه/1874م) على يد وال إنجليزي هو «الجنرال غردون»، ولكنه ما لبث أن غادر البلاد في سنة (1293ه/1876م) فعاد باشوات الأتراك إلى ظلمهم القديم، وبعد قليل قامت ثورة في السودان استفحل أمرها وانتهت بزوال حكم المصريين من تلك البلاد.
ومن أهم الأسباب التي أفضت إلى قيام هذه الفتنة:
أولا:
ظلم جباة الضرائب وحبهم للرشوة.
ثانيا:
وقوف الحكومة المصرية في وجه تجارة الرقيق.
ثالثا:
مؤازرة بعض رجال الجيش المصري للثائرين، وإطماعهم في النجاح إذا ثاروا على الحكومة، فقد قيل: إن «عرابيا» كان يرسل إشارات برقية إلى أهل السودان يحرضهم على مقاومة سلطة الخديوي.
ومما سهل الأمر على الثائرين جلاء الجنود المصرية عن السودان لإطفاء الثورة العرابية.
ثم استفحلت الثورة بزعامة رجل يدعى محمد أحمد ظهر في السودان وادعى أنه «المهدي» المنتظر؛ ولذلك لقب بالمهدي.
ولد «المهدي» في مدينة دنقلة عام (1259ه/1843م)، واشتغل في صباه مع عمه في صنع السفن بجزيرة أمام «سنار»، ثم ضربه عمه ذات يوم ففر منه، والتحق بأحد معاهد التعليم العربية التي كان يتعلم فيها الدراويش، فدرس بها الدين مدة، ثم ذهب إلى «بربر» ومنها إلى «كانا» على النيل الأبيض، فتقلد منصب «فقير» - شيخ - في سنة (1287ه/1870م) واستوطن بجزيرة «أبا» بالقرب من كانا المذكورة.
ثم أخذ صيته في الازدياد، فجمع ثروة طائلة، والتفت حوله التلاميذ، وتزوج ببنات أعاظم رؤساء قبائل البقارة؛ فعظمت بذلك عصبيته بين قبائل تلك الجهة. وفي سنة (1298ه/1881م) أخذ يكتب الرسائل إلى فقهاء السودان يخبرهم أنه هو المهدي المنتظر، وأن كل من لم يؤمن به هالك لا محالة، سواء أكان وثنيا أم مسيحيا أم مسلما. فشاع ذكره في السودان، حتى بلغ أمره مسامع الحاكم العام رءوف باشا في (أوائل رمضان سنة 1298ه/يوليو سنة 1881م). ولم يكد يسمع العلماء بأمره حتى أفتوا بأنه دجال، وكاد السودانيون أنفسهم ينفضون من حوله، بالرغم من جهلهم وتخريفهم، ولولا اسيتاؤهم من الحكومة في ذلك الوقت ما اندفعوا معه في مقاومتها.
المهدي.
فاستدعاه رءوف باشا إلى الخرطوم ليحضر في مجمع من العلماء ويقيم الحجة على دعواه، فأبى المهدي الظهور. وخرج رءوف باشا ليقبض عليه، فانقض عليه أتباع المهدي في الطريق وفتكوا بمن معه وقتلوه.
فلما خلفه «عبد القادر باشا حلمي» في ولاية السودان انتصر على أتباع المهدي - الدراويش - في بضع مواقع صغيرة. غير أن ذلك لم يذهب بقوتهم، وأخذت ثروتهم تتضاعف يوما فيوما حتى اتضح للحكومة المصرية المتباطئة في أمره أنها ليست بالأمر اليسير، بعد أن أهملت المهدي حتى انقض على مدينة «الأبيض» في (أوائل سنة 1300ه/1883م) واستولى عليها.
على أن مركز الحكومة المصرية إزاء هذا الحادث كان في شدة الحرج؛ لعدم وجود جيش مدرب لديها تمد به والي السودان، الذي لم يعدل منذ نشوب الفتنة عن استصراخها واستنجادها. وقد كان لإنجلترا جيش احتلال في مصر، لكنها لم ترغب إذ ذاك في التدخل في الأمر، كي لا تضطر إلى تجريد حملة على السودان كالتي جردتها على مصر. فأخبرت الحكومة أنها إذا أرادت إخماد الفتنة في السودان فليكن ذلك بالجيوش المصرية.
وفي ربيع سنة (1300ه/1883م) استخدمت الحكومة المصرية عددا من الضباط الإنجليز في الجيش المصري المؤلف لإنقاذ السودان، وعلى رأسهم «هكس باشا»، فتقلد قيادة الجيوش السودانية في (رمضان/يوليو)، وجعل وكيله «علاء الدين باشا» التركي، غير أن جيوشه لم تكن على ما يرام من التدرب، ومعظمهم - من جنود وضباط - كان من جيش عرابي المنحل وممن نبذهم «الجنرال وود» لعدم لياقتهم لجيشه الجديد، ذلك إلى قلة وسائل النقل، وعدم توافر الأموال الكافية للإنفاق على الحملة.
خرج هكس باشا بجيشه المختلط من الخرطوم في (ذي القعدة سنة 1300ه/سبتمبر سنة 1883م) يريد استرداد «الأبيض»، فوصل إلى «الدويم» دون أن يلقى أحدا من الأعداء، وقد أخذ التعب والظماء يفعلان بجيشه أكثر مما تفعله النيران، وبينا هم بين الدويم والأبيض إذ خرج عليهم الدراويش من كمين في الطريق، وأفنوهم عن آخرهم.
وصل خبر هذه الفاجعة إلى القاهرة في (المحرم سنة 1301ه/نوفمبر سنة 1883م)، فكان وقعه كالصاعقة في نفوس أولي الشأن؛ إذ به انقطع كل أمل في القضاء على المهدي عاجلا، وخشي الناس أنه عما قريب يأخذ «الخرطوم» نفسها.
إخلاء السودان
وكانت الحكومة الإنجليزية لا تزال مصرة على عدم إرسال جيش من قبلها إلى السودان، ورأت أن الجيوش القليلة التي يتسنى للحكومة المصرية إرسالها لا تفيد بشيء، بل ربما أدى إرسالها إلى زيادة الويل؛ فنصحت للحكومة المصرية بإخلاء السودان من خط الاستواء إلى جنوبي وادي حلفا، ريثما تتحسن الأحوال ويقوى مركز مصر ذاتها فتعود إلى فتح السودان من جديد. فلم يوافق «شريف باشا» رئيس الوزارة على إخلاء السودان بحجة أنه المورد الحيوي لمصر، ولأن الإقرار بسلخه عنها مسقط لحقوقها عليه، فيصبح نهبا للدول، فاعتزل منصبه وخلفه في رياسة الوزارة «نوبار باشا» فوافق على سلخه من مصر.
وكان في النية أولا إرسال عبد القادر باشا إلى الخرطوم لتولي استرجاع الجنود المصرية من السودان، ولكن قر الأمر أخيرا على إرسال غردون باشا - الجنرال غردون - الإنجليزي في هذه المهمة، لما له من النفوذ والمحبة عند أهل السودان، فيكون ذلك أكبر عون في هذا العمل الشاق الذي إن لم تراع فيه الحكمة ورباطة الجأش، استخف السودان بالحكومة المصرية وفتكوا بجيشها قبل أن يجلو عنهم، وكان يظن أن «غردون» يستطيع بما له من المكانة المذكورة أن يطيب خاطر القبائل فلا تنتشر الثورة أثناء جلاء الجيش المصري. وفي (ربيع الأول سنة 1301ه/يناير 1884م) أرسل غردون في هذه المهمة وجعل وكيله «الكولونيل استيوارت»، وكان من أحذق الضباط الإنجليز.
وفي أثناء ذلك كان أمر المهدي قد استفحل، وأخذت دعوته تنتشر في أنحاء السودان حتى لحقت السودان الشرقي؛ ففي (شوال سنة 1301ه/أغسطس سنة 1884م) وصلت رسل المهدي إلى تلك الجهة بالقرب من «سنكات» وأخذوا يثيرون القبائل على الحكومة. وكان زعيم هذه الحركة رجل من سلالة تركية قديمة يدعى «عثمان دقنة»، أصله تاجر رقيق جهة سواكن، ولما كسدت تجارته بتضييق الحكومة على الرقيق تألب عليها وانضم إلى المهدي، فلقبه أميرا من أمرائه، ولم يلبث أن انضمت إليه جميع قبائل السودان الشرقي، فلم يبق تحت نفوذ الحكومة المصرية إلا حاميات «سنكات» و«طوكر» و«سواكن» و«ترنكتات» على البحر الأحمر.
ورأت الحكومة المصرية أن ترسل لإنقاذ حاميتي طوكر وسنكات «الجنرال بيكر» مع رجال الشرطة الذين عهد إليه تدريبهم. وربما كان هؤلاء الرجال في الجملة خيرا ممن خرج بهم «هكس باشا»، وإن لم يكونوا على ما يرام من النظام والتدرب؛ إذ إن بعضهم لم يفق في تعلمه رجال الشرطة العاديين، وكثير منهم كان قريب العهد بمبادئ الحركات النظامية. خرجت هذه القوة لإنفاذ غرضها، فالتقت بالدراويش عند «الطيب» في (جمادى الأولى سنة 1301ه/فبراير سنة 1884م)، فانهزمت شر هزيمة؛ إذ كانت الجنود ترمي سلاحها وتلوذ بالفرار لقلة تدربهم على الحرب. وقد كان عدد رجال هذه الحملة 3700، فلم ينج منهم سوى 1300 رجل.
عند ذلك اضطرت الحكومة الإنجليزية بعد إبادة الجيوش المصرية القديمة والجديدة إلى فعل ما لم ترض به من قبل، وهو إرسال حملة إلى السودان؛ فأمرت القائد البحري «هيوت» بإنزال قوة في «سواكن»، وأرسلت إلى «ترنكتات» قسما من جيش الاحتلال بمصر بقيادة «السير جيمس جراهام»، وكانت حاميتا طوكر وسنكات قد اضطرتا إلى التسليم قبل أن تصلهما النجدة، فخرج «جراهام» إلى الطيب حيث هزم بيكر من قبل، فكسر الأعداء كسرة شنيعة، ثم جد في اقتفاء «عثمان دقنة» فالتقى به بجهة «طماي» ففتك بجيشه من قبل وأحرق معسكره، ولكنه لم يقدر على القبض عليه.
وبعد أن ألحق هاتين الهزيمتين بالدراويش اكتفى بالرجوع إلى سواكن، وباتت هذه المدينة هي وترنكتات في مأمن من العدو، ثم استدعي جراهام إلى مصر في (أواخر جمادى الأولى سنة 1301ه/مارس سنة 1884م).
غردون باشا.
أما غردون باشا فإنه بلغ الخرطوم في (19 ربيع الآخر سنة 1301ه/فبراير 1884م) فنصب حاكما عاما على السودان. وقد كان لقدومه في أول الأمر وقع حسن في نفوس القبائل، واستتبت السكينة في الخرطوم. غير أنه لم يشرع توا في إخلاء السودان حسبما كان معهودا إليه، بل أخذ يضيع الوقت في مخابرة أولي الشأن بالقاهرة في الطريقة التي يجب أن يحكم بها السودان بعد إخلائه، وعرض عليهم من ذلك عدة خطط ومشروعات، مندفعا في ذلك بخوفه على الأهلين من ثورة المهدي ومن الفوضى التي لا بد أن تنتشر في طول البلاد وعرضها عقب جلاء الجيش المصري. ومما اقترحه في هذا الشأن أن يرسل إليه «الزبير باشا» ليساعده في الجلاء، وبعد ذلك تعهد إليه ولاية السودان. وقد عرض هذا الاقتراح بإلحاح أكثر من مرة، ثم رأى أولو الشأن بعد رفضه بتة. على أن غردون كان في ذلك الحين يستهين بقوة المهدي ويطلب من الحكومة مرارا أن تمده بجيش «ليقضي على المهدي»، وأن تعدل عن إخلاء السودان.
ولا يخفى أن ذلك كان مخالفا للاتفاق الذي أرسل بمقتضاه إلى السودان، فلم ترسل إليه الحكومتان الإنجليزية والمصرية شيئا من الجند، وصار نطاق نفوذ المهدي يتسع يوما بعد يوم حتى عم القبائل التي بين «بربر» و«الخرطوم»، فانضموا إلى المهدي في (أواخر رجب سنة 1301ه/مايو 1884م)، فانقطع بذلك خط الرجعة على غردون، وأصبحت حالته تؤذن بالخطر.
حملة إنقاذ غردون
والظاهر أن الحكومة الإنجليزية لم تعرف بادئ الأمر الخطر الذي كان يتهدد «غردون» مع وجوده بلا جيش في السودان، فلما حدث ما تقدم ورأت الخطر يحدق به، أسرعت إلى إرسال نجدة من القاهرة لإنقاذه بقيادة «اللورد ولسلي».
1
وبينا هذه الحملة في طريقها أرسل غردون «الكولونيل استيوارت» في نفر من الرجال على باخرة من الخرطوم قاصدين مقابلة الحملة القادمة لنجدته، وإبلاغها ما يهمها معرفته عن الحالة في السودان. فمرت الباخرة على «بربر» دون أن تلاقي شيئا، إلا أنها اصطدمت بصخر قرب «أبي حمد»، وفتكت بمن فيها إحدى قبائل البدو غدرا بعد أن أنزلتهم في ضيافتها.
وفي يوم 30 ديسمبر وصل «ولسلي» بجيشه إلى «كورتي» فرأى أن يسير قوتين للقاء الدراويش جهة «المتمة»؛ قوة تذهب بطريق النيل، والأخرى بالصحراء، فوصلت هذه القوة الأخيرة إلى «المتمة»، وهزمت جيوش المهدي عند «أبي قليع» ثم بلغت «جوبات» في (3 ربيع الأول سنة 1302ه/20 يناير سنة 1885م)، وهنا اتصلت بالبواخر التي ذهبت بطريق النيل. وعلم «ولسلي» أن غردون في خطر، وأنه يخشى العاقبة كثيرا إذا تأخر وصول النجدة عن 24 يناير، فأسرع «ولسلي» إلى تسيير باخرتين بالجند لإنقاذه، ولكن هذه الرحلة لم تكن بالأمر السهل. وفي (8 ربيع الآخر/25 يناير) اصطدمت إحدى السفينتين بصخور الشلال السادس، فعطل المسير أربعا وعشرين ساعة.
وبينا هذه النجدة تعاني الوصول إلى «الخرطوم» إذ استولى الدراويش على المدينة، وقتلوا «غردون»، وذلك في (9 ربيع الآخر سنة 1302ه/26 يناير 1885م). ومما ساعد على سقوط المدينة خيانة «فرج باشا» قائد الحصون؛ فإنه انضم إلى جيوش المهدي في الليلة السابقة لسقوط المدينة.
وعند ذلك صدرت الأوامر للورد «ولسلي» أن يهاجم الخرطوم ليستردها، فشرع يهاجمها من ثلاث جهات، ولكن بعد قليل عدلت الحكومة الإنجليزية عن استمرار القتال لاشتغالها ببعض مناوشات على حدود الهند، وفي (22 رمضان/5 يوليو) أخليت مدينة «دنقلة»، وصارت «وادي حلفا» أقصى الحدود المصرية.
وكان هذا النصر قد ضاعف ثقة أتباع المهدي به، وظنوا أنه سيقودهم إلى فتح جميع ممالك الأرض، وأنه لن يموت إلا بعد فتح الحرمين. ولكن ما لبث أن خاب فألهم؛ إذ لم تمض عليه بضعة أشهر في عاصمته «أم درمان» حتى لحقته المنية كغيره من البشر في (9 رمضان سنة 1302ه/21 يونيو سنة 1885م). وكان قبل وفاته قد أوصى بالخلافة من بعده ل «عبد الله التعايشي»، فبايعه أتباع المهدي وسموه «خليفة المهدي». أما جثة المهدي فإنها دفنت في الحجرة التي فارقته الحياة فيها، ثم أقيمت عليها قبة صار الناس يزورونها للتبرك.
ولم يكد «التعايشي» يتسلم مقاليد الأمور حتى عزم على فتح مصر، ولكن الجيش المصري كان قد تم تدريبه، فخرجت من مصر فرقة بعض جيوشها مصرية وبعضها إنجليزية، وهزمت جيوش «الخليفة» بلا عناء عند «جنس» في (23 ربيع الأول سنة 1303ه/30 ديسمبر سنة 1885م) فسلمت مصر من غارته.
ولكن نفوذه عم السودان ولم يخرج عن دائرة سلطته إلا عدة من المقاطعات النائية؛ فإنها كانت من نصيب الممالك المجاورة لها؛ فأعطيت «مصوع» وما يجاورها لإيطاليا، وأعطيت «بوغوس» لملك الحبشة مكافأة له على مساعدته في تسهيل جلاء الجيوش المصرية من «أماديت» و«سنبيت» و«غلباط»، خصوصا أن هذه كلها بلغت مصر سالمة. وأعلنت إنجلترا امتلاك مقاطعة «بربرة» وزيلع وأوغندا، وضمت بلجيكا إلى مستعمراتها - الكنغو الحرة - وبعض الأقاليم المجاورة لها، وشرعت فرنسا في الاستيلاء على بحر الغزال والنيل الأبيض.
مضت كل هذه الحوادث ولم يفعل الباب العالي فيها شيئا يذكر، وإنما أرسل في آخر الأمر سفيرا إلى مصر ليساعد الخديوي في توطيد الأمن في السودان بالطرق السلمية، فابتدأت المفاوضات مع الدراويش، ولكن لم يكن لذلك أية نتيجة. على أن مصر كانت طول هذه المدة آخذة في النهوض من إفلاسها شيئا فشيئا، وقوي جيشها وصار يصد جموع الدراويش كلما حاولوا الاعتداء على الأراضي المصرية، وفي (ربيع الآخر سنة 1306ه/ديسمبر سنة 1888م) أجلتهم حامية سواكن عن الجهات المجاورة لها، فلم يعيدوا الكرة عليها بعد.
وفي سنة 1889م حدث حادث من أكبر حوادث هذه الحروب؛ إذ إن «ولد النجومي» - أحد الأمراء المستمسكين بدعوة المهدي - خرج في 13000 مقاتل يريد غزو مصر في (رمضان سنة 1306ه/مايو سنة 1889م)، فالتقى بجيش يقوده «السير فرنسيس غرنفل» عند «طوشكى»، فكانت هذه أول تجربة عظيمة لاختبار قوة الجيش المصري الجديد، فانتصر على جيش «ولد النجومي» انتصارا مبينا فلم ينج منه إلا 3000 رجل وصرع ولد النجومي نفسه وهو يقاتل في هذه الموقعة قتالا شديدا. وبعد هذه الموقعة أخذت قوة التعايشي في أسباب الضعف.
وفي سنة (1308ه/1891م) رأت الحكومة أن الدراويش لا يزالون في سواكن، وأن تجارة الرقيق سائرة بلا انقطاع بين بلاد العرب وفرض البحر الأحمر، فأرسلت عليهم حملة بحرية من سواكن إلى «ترنكتات»، فانهزم الدراويش بجهة «طوكر » وفر «عثمان دقنة» وقتل معظم من معه من الأمراء، ومن ذلك الحين هدأت الأحوال في السودان الشرقي.
استرجاع السودان
لم يأت عام (1313ه/1895م) حتى تقدمت مالية مصر وتحسنت حال جيشها؛ فصار يظن من السهل تجريد حملة على السودان لاسترجاعه. وكانت الحكومة إذ ذاك تنظر في مشروع آخر عظيم وهو إقامة خزان على النيل - خزان أسوان - ورأت أن ادخار المال لهذا المشروع النافع أولى من صرفه على الحروب السودانية، فكان يظن أن فتح السودان سيرجأ إلى ما بعد ذلك، لولا أن حدثت أمور خارجية اضطرت الحكومة إلى العمل بغير رغبتها؛ وذلك أن الأحباش اتحدوا مع الدراويش وشنوا الغارة على الطليان وهزموهم بجهة «عدوة» في (رمضان سنة 1313ه/مارس 1896م) وذاع الخبر أنهم عما قريب يهجمون على كسلة؛
2
ولذلك طلبت إيطاليا من إنجلترا - لما بينهما من الصداقة - أن تساعدها بإرسال حملة إلى السودان تتهدد الدراويش فتقل وطأتهم على المستعمرة الإيطالية الجديدة - مصوع والإريتريا.
وقد كان لدى إنجلترا حينئذ من الأسباب والاعتبارات ما يحملها على تلبية هذا الطلب، الذي أقل ما فيه سبق فرنسا إلى أعالي النيل وصدها عن التوغل في جنوبي السودان، والأخذ بثأر غردون الذي لم يزل قلب كل إنجليزي يدمى لمصرعه. فقررت إنجلترا إجابة دعوة إيطاليا، وفي الحال أعد لذلك جيش مكون من الجنود المصرية والإنجليزية، بقيادة «السير هربرت كتشنر» سردار الجيش المصري في ذلك الوقت - وهو اللورد كتشنر المتوفى غرقا سنة 1916م، وكان يشغل منصب وزير الحربية البريطانية.
اللورد كتشنر.
خرج كتشنر من مصر ووجهته دنقلة، فأمر بإنشاء خط حديدي من وادي حلفا، وكلما أنشئ منه جزء تقدم الجيش، حتى وصل في (ذي الحجة سنة 1313ه/يونيو 1896م) إلى جهة قريبة من «عكاشة». فبلغه هناك أن 3500 من الدراويش مجتمعون عند «فركة» جنوبي عكاشة على بعد 16 ميلا منها، فسار إليهم ليلا وفتك بهم فتكا ذريعا، ثم تفشى الهواء الأصفر في الجيش، ولكن تيسر التغلب على المرض وعلى غيره من المصاعب حتى سقطت «دنقلة» في يد الجيش المصري الإنجليزي في (15 ربيع الآخر سنة 1314ه/23 سبتمبر سنة 1896م)، وجلت جيوش التعايشي عن هذه المديرية بأكملها. ثم استمر الجيش في الزحف نحو الخرطوم، متغلبا على ما لاقاه من المصاعب في طريقه، حتى استولى على «أبي حمد» في 7 أغسطس سنة 1897م وعلى «بربر» في 31 منه، ووقف تقدم الجيش بعد ذلك عدة أشهر ريثما يتم إنشاء الخط الحديدي المخترق صحراء العطمور.
وفي (7 شعبان سنة 1315ه/أول يناير سنة 1898م) سمع السير هربرت كتشنر أن الدراويش سيهجمون على جيشه في جموع كبيرة، فبعث إشارة برقية إلى القاهرة يطلب المدد، فأرسل إليه قسم من الجيوش البريطانية، ثم وقفت الجيوش المصرية الإنجليزية وقفة المدافع إلى أن ترى فرصة ملائمة للزحف على الخرطوم.
وكان «الأمير محمود» - ابن عم التعايشي - قد عسكر بنحو 12000 مقاتل عند «النخيلة» على نهر عطبرة، فخرج كتشنر لملاقاته في (26 ذي القعدة/20 مارس) متوخيا التأني في مسيره، وفي (16 ذي الحجة/8 أبريل) التحم الجيشان فلم تدم الموقعة أكثر من 40 دقيقة، وانتهت بأسر الأمير محمود وقتل نحو 2000 من رجاله.
ولم ينته شهر أغسطس عام 1898م حتى تمكن السردار من حشد نحو 22000 مقاتل على بعد 40 ميلا شمالي الخرطوم، وعزم على لقاء الأعداء، وفي (15 ربيع الآخر سنة 1316ه/2 سبتمبر سنة 1898م) التقى بالدراويش في موقعة «أم درمان» الفاصلة التي لم تقم لهم بعدها قائمة؛ كان عددهم يتراوح بين 40 و50 ألف مقاتل، فقتل منهم أكثر من 11000 وجرح نحو 16000، ولم يخسر جيش السردار سوى 500 ما بين قتيل وجريح. وفي اليوم الرابع من شهر سبتمبر استولى الجيش الإنجليزي المصري على الخرطوم، ورفع على مكان مركز حكومتها العلمان المصري والإنجليزي أحدهما بجانب الآخر.
أما الخليفة التعايشي، فإنه فر من وجه الجيوش الفاتحة، وأراد في العام المقبل أن يغير على أم درمان، فسار إليه جيش السودان، وقتله وبدد شمل جيشه في (رجب سنة 1317ه/نوفمبر سنة 1899م). وبقتله انقضت دولة الدراويش.
3
واقعة أم درمان.
وقد هدأت أحوال السودان منذ فتح أم درمان بفضل حسن إدارة الحكومتين الإنجليزية والمصرية اللتين تحكمانه بالاشتراك. وفي (6 رمضان سنة 1316ه /19 يناير سنة 1899) عقد وفاق بين الحكومتين يعرف ب «اتفاقية السودان» وضحت فيه شروط حكم السودان، وألغي به ما كان للباب العالي من السيادة على تلك البلاد.
وما زال السودان في تقدم تدريجي مستمر منذ دخوله تحت حكم إنجلترا ومصر، وهو وإن كان للآن لم يكسب إحدى الحكومتين شيئا، وصرفت من خزانة مصر الخاصة مبالغ سنوية لإصلاحه، فإنه بلا شك سيعوض ذلك لوفرة موارده الطبيعية، خصوصا عندما يزداد عدد سكانه بعد أن نقص نقصا فاحشا أيام فتنة المهدي. (3) تقدم مصر منذ عام 1882م (خصوصا الأشغال العامة التي تمت بها منذ ذلك العهد)
يرجع التقدم العام الذي حدث بمصر منذ عام (1299ه/1882م) إلى أمرين أساسيين ؛ الأول: الإصلاحات الإدارية التي أجريت في مصالح الحكومة على اختلافها، والثاني: الأشغال العامة التي أجريت لتحسين الري وزيادة ثروة البلاد.
وقد كانت الحالة المالية في مقدمة ما نظر فيه بعد إخماد الثورة العرابية، وذلك من وجهتين؛ الأولى: حالة السكان وما يمكن عمله لتحسينها، والثانية: حل ميزانية الحكومة وكيف يتسنى وضعها على أساس متين بحيث يكفي الدخل المنصرف مع عدم الإضرار بتقدم البلاد.
فبالنظر في أحوال الأهلين اتضح أنهم في بؤس شديد، وأن المفروض على أرضهم من الضرائب يزيد كثيرا عن الحد المعتدل بالنسبة لقيمة ما تنبته الأرض من المحصول؛ إذ إن أثمان المحصولات كانت قد نزلت كثيرا في السنوات الأخيرة؛ فصار ثمن إردب القمح مثلا 75 قرشا بعد أن كان 109 قروش في (1292ه/1875م)، وكذلك ثمن الطن من السكر نزل من 23 جنيها إلى 15 جنيها. ذلك إلى ضعف الأرض بسبب إجهادها بزراعة القطن؛ إذ دلت الإحصاءات أن محصول الفدان من القطن في الأربع السنوات (1296-1299ه/1879-1882) نقص من ثلاثة قناطير ونصف إلى قنطارين وعشر قنطار.
فرأت الحكومة أن أول واجب عليها تحسين حال الفلاح، حتى إذا ما انتعش وزادت ثروته أدى ذلك حتما إلى زيادة دخل الحكومة؛ فخففت ضريبة الأرض في المديريات الفقيرة، وأبطلت ضريبة الملح وغيرها، وألغت السخرة التي هي في الحقيقة نوع من الضريبة.
4
غير أن هذه الإصلاحات وحدها لم تكن تكفي لتحسين دخل الحكومة والقيام بعبء الدين والشروط الثقيلة التي تكفلت بها مصر بمقتضى قانون التصفية؛ فبذلت إنجلترا وسعها لدى الدول في تخفيف هذه الشروط مخافة الوقوع في إفلاس نهائي، فزادت نسبة ما يخص الحكومة المصرية من الدخل بتخفيض نسبة ما يعطى لصندوق الدين، وصار للحكومة الحق أيضا في الاستيلاء على نصف ما يزيد من الدخل بعد دفع الأرباح، بدل أن كان جميعه يعطى لصندوق الدين لتسديد الأقساط.
ورأت الحكومة أيضا أن كل ذلك ربما لا يكفي لإصلاح حال المالية المصرية وهي على وشك الإفلاس، فتوسطت إنجلترا لدى الدول في عقد قرض جديد، لتستعين به مصر على وضع ميزانيتها على أساس متين، وللقيام بمشروعات عامة في الري تزداد بها ثروة البلاد حتى تتحسن ماليتها على مدى الأيام، وبعد الجهاد الطويل أمكن عقد قرض جديد بضمانة إنجلترا قدره 9000000 جنيه يسمى «الدين المضمون» في سنة (1302ه/1885م)، واشترط في عقده أن تنتظم حالة المالية المصرية قريبا، وإلا شكلت لجنة دولية أخرى للنظر في شئون مصر.
وقد خصص هذا المبلغ للأوجه الآتية: (1)
تعويض ما خسره أصحاب الأملاك بالإسكندرية وقت نشوب الفتنة في تلك المدينة أيام الثورة العرابية. (2)
سد العجز في ميزانية الحكومة لعامي 1882 و1883م. (3)
تحسين الري - وسيأتي الكلام على ذلك مفصلا.
وقد جعلت الحكومة نصب عينها أن لا يحدث أي فشل في تنظيم المالية، كي لا يفضي الأمر إلى تدخل الدول الأوروبية حسبما اشترطته في عقد الدين الأخير، فتوخت الاقتصاد التام في جميع أوجه الصرف، اللهم إلا في تحسين الري الذي كان من شأنه زيادة الثروة فيما بعد، والمساعدة الكبيرة في تثبيت الحالة المالية التي هي موضوع الخوف والقلق.
وقبل الانتقال إلى وصف الأشغال العمومية التي تمت بمصر في ذلك العهد، نقول كلمة عن المصاعب التي لاقتها إنجلترا من الدول في سبيل السير في عملها في مصر: كانت فرنسا أول من وضع العراقيل في سبيل إنجلترا في مصر؛ لحنقها من إلغاء المراقبة الثنائية واستئثار إنجلترا بأمر مصر، ثم عضدتها الروسيا في ذلك، وشاركهما الباب العالي طبعا في الاستياء، احتجاجا على استمرار الاحتلال البريطاني لمصر.
ثم كرر الباب العالي احتجاجه، وبعد المفاوضة مع إنجلترا تم الاتفاق في (المحرم سنة 1303ه/أكتوبر 1885م) على أن ترسل كل من الدولتين العثمانية والإنجليزية سفيرا إلى مصر لفحص شئونها والاتفاق على أجل ينتهي فيه الاحتلال البريطاني.
فأرسلت إنجلترا «السير درمندولف»، وأرسل الباب العالي «مختار باشا الغازي»، غير أنه لم يتم الاتفاق على تحديد أجل الجلاء لمعارضة فرنسا والروسيا في شروط الاتفاق، وكل ما نتج عن بحوث السفيرين أن جرت بعض مفاوضات مع الدراويش لم يكن لها أثر يذكر، وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام على السودان. وقد بقي مختار باشا بمصر إلى وقت قريب احتجاجا حيا على الاحتلال البريطاني.
على أنه قد حلت في عام 1885م مسألة من المسائل الدولية الكبرى، وهي بيان مركز قناة السويس من الوجهة الدولية، فحصل الاتفاق على أن تكون هذه الترعة مفتوحة لجميع السفن وقت السلم، وفي أوقات الحرب يسمح لسفن المتحاربين بالمرور من القناة بشرط ألا تقع بينها أعمال حربية إلى مسافة ثلاثة أميال من طرفي القناة، وأن لا يسمح للسفن الحربية التابعة للدول المتحاربة بالبقاء في الموانئ المصرية أكثر من 24 ساعة، وحفظ للحكومة المصرية الحق في عمل أي شيء تراه ضروريا للمحافظة على القناة.
وبقيت فرنسا تنظر شزرا إلى بقاء إنجلترا في مصر، وتضع العراقيل في سبيلها مهما يكن عملها في صالح مصر، حتى عام (1322ه/1904م). فعقدت الدولتان بينهما «الاتفاق الودي» المشهور، وبه قبلت فرنسا أن تطلق يد إنجلترا في مصر، في نظير أن تسمح إنجلترا بإطلاق يد فرنسا في مراكش؛ وبذلك حلت مشكلة من أكبر المشاكل الدولية الخاصة بمصر. وبمقتضى هذا الاتفاق أيضا صار جميع دخل الحكومة يرد إلى الخزانة المصرية، بعد أن كان جزء منه يورد إلى صندوق الدين توا، وكان لدى صندوق الدين مبلغ 10000000 جنيه متوافر من السنين الماضية، فسلمه إلى الحكومة لتستعين به على إنجاز بعض المشروعات العامة.
الأشغال العامة
قد كانت الأشغال العامة التي تمت بمصر منذ عام 1882م لتحسين الري وتوسيع نطاقه من أعظم الأمور التي سهلت تنظيم المالية المصرية، وسارت بالبلاد في طريق التقدم العظيم الذي نشاهده الآن؛ شرعت الحكومة منذ عام (1300ه/1883م) في الاهتمام بشئون الري؛ فبدأت في ذلك العام بإصلاح «القناطر الخيرية». أنشئت هذه القناطر في عهد محمد علي باشا - كما ذكرنا في غير هذا المكان - ولكنها أهملت مدة طويلة وقرر الخبيرون أن قد لحقها من الخلل ما يجعلها غير صالحة للاستعمال؛ إذ حدثت صدوع في عقود المنافذ، وجرى الماء تحت الأساس نفسه. وكان الغرض من إنشاء هذه القناطر في أول الأمر أن تحجز المياه وراءها حتى يرتفع سطحها عن المستوى الأصلي - بعد القناطر - بقدر 4,5 من الأمتار؛ وبذلك تستقي منها ثلاث ترع كبيرة سطحها أعلى من سطح النيل، وهي: الرياح البحيري، والرياح المنوفي، والرياح التوفيقي. على أن الرياح الأول يجري في الصحراء بعد تفرعه من القناطر بمسافة صغيرة، فلما أهمل تراكمت عليه رمال الصحراء وطمرته. أما الرياح الثاني فكان مستعملا عام (1300ه/1883م)، ولكن الثالث لا يزال مشروعا لم ينفذ بعد.
فرأت مصلحة الري أن من أول واجباتها إصلاح هذه القناطر العظيمة والترع التي تستقي منها؛ فوجهت إلى ذلك معظم عنايتها بين عامي (1301ه و1306ه/1884 و1889م). وقد قامت بعبء هذا العمل الشاق عاما بعد عام في أيام انخفاض النيل، بالرغم من عظم الصدوع التي بالبناء وما اعترض العمل من المصاعب، إلى أن أصلح الأساس وضمت الصدوع - بالأسمنت - وانتهى الأمر ببناء منطقة من الحجر حول الأساس لوقايتها. ومما زاد العمل صعوبة أن القناطر كانت تستخدم في أيام الفيضان فيما أعدت له، وقد قال أحد المهندسين في ذلك: «إن هذا العمل كان أشبه شيء بإصلاح ساعة بدون إيقاف أتراسها.»
وتم في أثناء ذلك كري رياح البحيرة، ومنعت عنه الرمال بزرع ضفافه بالأعشاب، وزيد أيضا في عمق رياح المنوفية، ووضع باب - هاويس - عند تفرعه. أما الرياح التوفيقي، وهو الذي يروي المديريات التي شرقي فرع دمياط، فحفر بين عامي 1887 و1889 .
ولم تكد تتم هذه الأعمال العظيمة حتى ظهرت فائدتها؛ فقد زاد محصول القطن بالوجه البحري في (1309-1310ه/1891-1892م) على متوسط محصول الإحدى عشرة سنة السابقة بنحو 1600000 قنطار. هذا إلى ما حدث من الزيادة في المحصولات الأخرى. وقد بلغت قيمة ما زاده محصول القطن وحده في مجموع المدة التي أصلحت فيها القناطر (1301-1306ه/1884-1889م) ما يربو على 5000000 جنيه.
أما نفقات هذا العمل فقد دفع معظمها من قرض عام 1885م، ولكن جزءا منها سدد مما حدث في الميزانية من زيادة الدخل على المصروفات.
ولا يخفى أن الغرض من القناطر ليس خزن المياه وقت الفيضان للانتفاع بها وقت انخفاض النيل، إنما كان الغرض منها حجز المياه حتى يرتفع سطحها فتصب في الرياحات الثلاثة العظيمة، فتروي هذه الوجه البحري بمياهها، ولو كان النيل منخفضا.
وقد أجري إصلاح آخر في القناطر عام (1314ه/1897م)، وذلك بإنشاء سد أصم أمام القناطر - نحو المصب - كي لا تندفق المياه دفعة واحدة بعد حجزها؛ فأصبحت تتسرب على دفعتين؛ وبذلك نقص الفرق بين مستوى المياه خلف القناطر وأمامها - فرق التوازن - وذلك يخفف من الضغط الشديد على القناطر أثناء الفيضان.
ومما زاد في انتظام توزيع المياه في الوجه البحري إنشاء «قناطر زفتى»؛ فإنها أيضا تحجز المياه وراءها حتى يعلو سطحها فتملأ الترع التي تتفرع من النيل عند هذه النقطة. وقد بلغت نفقات هذه القناطر 320000 جنيه، وتم إنشاؤها في سنة (1320ه/1902م).
وأجري منذ ذلك العام تعديل كثير في ترع الوجه البحري. وابتدأت الحكومة في إنشاء مصارف عظيمة في مديريتي البحيرة والغربية؛ وبذلك سيتسع نطاق أراضي مصر الزراعية وعلى مدى الأيام سيتم تجفيف بحيرة مريوط، وتصبح أرضا صالحة للزراعة.
على أن ما تم من الأعمال في الوجه البحري لم يصرف الحكومة عن الاهتمام بالوجه القبلي، إلا أن قلة المال والرجال حتمت عليها في أوائل هذا العهد الاقتصار في مصر العليا على المشروعات الصغيرة. وكان معظم الوجه القبلي في ذلك الحين يروى بالحياض؛ أي إنه وقت الفيضان تغمر مياه النيل المساحات الفسيحة من الأرض، فلا يتسنى مباشرة شيء من الأعمال الزراعية فيها إلى انخفاض النيل. ففي عام (1308ه/1891م) أنشأت الحكومة بجهة «قشيشة» ببني سويف سدا لتصريف المياه؛ فكان ذلك أكبر عون على تنظيم المياه التي تركد على تلك الأراضي الواسعة.
ولا يخفى أن هذه الطريقة - وهي الري بالحياض - معيبة، بالإضافة إلى مزايا الري الدوري؛ إذ به تجري المياه إلى الأراضي في الترع فيتسنى تنظيم توزيعها من حيث الزمن والمقدار معا؛ لذلك أقدمت الحكومة على مشروع عظيم وهو تحويل الري بالحياض إلى ري دوري في مديريات أسيوط والمنية وبني سويف والجيزة، فحفرت لذلك الترع، واهتمت اهتماما خاصا بترعة الإبراهيمية فوسعتها وأصلحتها.
وفي سنة (1315ه/1898م) شرعت في إنشاء «قناطر بأسيوط» لحجز المياه حتى ترتفع وتملأ ترعة الإبراهيمية، فتروي المديريات التي تمر فيها. وقد تم إنشاء هذه القناطر عام (1320ه/1902م) قبيل الفيضان، وكان النيل منحطا جدا في هذه السنة، فبادرت وزارة الأشغال بإغلاق أبواب القناطر، فارتفع سطح المياه في ترعة الإبراهيمية مترا ونصف متر، وقد قدر ما اكتسبه المزارعون من هذا العمل تلك السنة بما يربو على 600000 جنيه.
ولما رأت الحكومة ثمرة عملها في المديريات التي تقدم ذكرها، عولت على إجراء مثله في المديريات التي في أقاصي الصعيد؛ فأنشأت «قناطر إسنا» التي تم إنشاؤها عام (1327ه/1909م)، فأفادت مديريتي قنا وجرجا فائدة قناطر أسيوط في المديريات الشمالية.
ويلاحظ أن جميع هذه القناطر لا تخزن المياه لادخارها إلى وقت الحاجة، وإنما هي ترفع سطح الماء في النيل حتى يتسنى ملء الترع فتوزع المياه بها في أنحاء البلاد.
وكانت الحكومة قد فكرت منذ عام (1307ه/1890م) في مشروع لخزن مياه النيل وقت الفيضان للانتفاع بها وقت انخفاض النيل في ري جميع أنحاء مصر، فلا يحرم جزء منها من الزراعة. فتأخر إنفاذ المشروع إلى سنة (1315ه/1898م)؛ إذ ابتدئ في إنشاء خزان عظيم عند «أسوان» في نفس الوقت الذي ابتدأ فيه إنشاء قناطر أسيوط. وهذا البناء من أعظم ما شيده الإنسان، انتهى تشييده سنة (1320ه/1902م ) فكان طوله يبلغ 2156 مترا، وارتفاعه عن قاع النهر نحو 28 مترا، والفرق بين مسطح الماء قبله وبعده - فرق التوازن - 20 مترا، وبه 180 بابا، ويخزن المياه إلى ارتفاع يزيد على سطح البحر بنحو 106 أمتار. وقد بلغت نفقات إنشائه هو وقناطر أسيوط 4700000 جنيه، ولكنه أفاد من أول سنة من إنشائه فائدة تكاد توازي كل هذه النفقات؛ إذ لولاه في تلك السنة هو وقناطر أسيوط لكانت الطامة الكبرى على البلاد؛ فقد كان النيل فيها منخفضا جدا، ولم يكد يشعر بنقصه أحد، وجاء منخفضا مرة أخرى في عام (1323ه/1905م)؛ فكان الخزان أيضا أكبر عون للبلاد.
ويتضح من الجدول الآتي الفائدة التي عادت على مصر من هذه المشروعات العامة في سني انخفاض النيل:
سنة م
عدد الأفدنة التي لم تزرع (الشراقي)
1877
1000000
1888
269110
1889
188137
1902
128663
1904
46871
1905
45000
وعندما أنشئ الخزان كان الغرض منه إيجاد المياه اللازمة لجميع أراضي مصر المزروعة في أي وقت من السنة. ثم فكرت الحكومة في زيادة سعته بتعليته بحيث يمكن به ري 1000000 فدان في شمالي «الدال» لم تكن تصل إليها المياه من قبل. فتم هذا العمل عام (1330ه/1912م) وزاد مقدار ما يخزن وراء الخزان من المياه من 940000000 متر مكعب إلى 2420000000 متر مكعب، وهي زيادة هائلة جدا، وسببها أن الزيادة في ارتفاع الخزان زادت في امتداد المياه المحجوزة خلفه جنوبا إلى بعد 325 كيلومترا.
وقد تم بفضل إنشاء الخزان تحويل ري الحياض بمصر الوسطى إلى ري دوري، وعندما تجف بحيرة مريوط وغيرها سيرويها الخزان بمياهه طول أوقات السنة.
خزان أسوان.
على أن الحكومة لا تزال لديها مشروعات أخرى لتحسين الري؛ ففي نيتها أن تصلح ري المديريات الجنوبية، بإنشاء قناطر عند تفرع ترعة السوهاجية لتسهيل امتلاء تلك الترعة. وشرعت كذلك في إنشاء خزان آخر عظيم على النيل الأبيض، ليحفظ البلاد إذا اشتد الفيضان، ويكون بمثابة حوض عظيم لخزن مقادير وافرة من المياه. وقد ذكرنا أن نفقة إنشاء خزان أسوان وقناطر أسيوط بلغت 4700000 جنيه، ولكنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن مجموع ما اكتسبته مصر إلى الآن من وراء إنشائهما لا يقل عن خمسة أمثال هذا المبلغ. وكذلك بلغت نفقات تحويل ري الحياض إلى ري دوري بمصر الوسطى نحو 6500000 جنيه، ولكنه عاد على البلاد بفائدة تقدر بنحو 26750000 جنيه.
وبالجدول الآتي بيان دخل الحكومة ومصروفها في عدة سنوات، ولكن يجب عند الرجوع إليه أن نلاحظ أن ضريبة الأرض في تلك المدة نقصت عما كانت عليه:
السنة
الوارد
المصروف
1886
9241586
9232746
1890
10237000
9590000
1894
10161000
9470000
1895
10431000
9421000
1897
11093000
9709000
1901
11944000
9924000
1903
12464000
11720000
1905
14813000
12125000
1907
16368000
14280000
1908
15522000
14408000
1909
15887313
14900015
1910
15965693
14414499
1912
17515743
15470584
1913
17368616
15728785
وقد تم في هذا العصر أيضا إصلاحات أخرى كثيرة تناولت كل مصالح الحكومة. من أهم ذلك إصلاح المحاكم الأهلية؛ فإنها كانت قبل الثورة العرابية غير منتظمة، لا تحكم بمقتضى قانون خاص، وكانت الحكومة المصرية قد أحست بهذا النقص، وأعدت قانونا أهليا شبيها بالقانون الفرنسي لتجعله ساريا في جميع المحاكم الأهلية. فلما احتل الإنجليز مصر وابتدأت نهضة الإصلاح عقب قدوم اللورد دفرين، عرضت الوزارة المصرية هذا القانون فتمت الموافقة عليه، وعمل به.
وكانت المحاكم الأهلية قبل لا تنظر في قضايا الجرائم الكبيرة، بل كانت تنظر أمام لجان خاصة يرأسها المدير تسمى «لجان الأشقياء»، لم تكن أحكامها دائما مطابقة للعدالة؛ فتقرر إلغاؤها. على أن حالة المحاكم الأهلية كانت سيئة جدا، ولم يكن من السهل إصلاحها في وقت قريب؛ فبقي الإصلاح سائرا فيها ببطء إلى أن اقترح اللورد كرومر عام (1308ه/1891م) تعيين مستشار قضائي بوزارة الحقانية ليشرف على هذه المحاكم ويصلح ما اعتل فيها. فعارض في ذلك رياض باشا رئيس الوزارة واعتزل منصبه، فخلفه مصطفى فهمي باشا، ووافق على تعيينه.
5
بذلك دخلت المحاكم في طور إصلاح جدي؛ فنظمت أعمالها وسهلت حركتها وفصل منها القضاة الذين لم تتوافر فيهم شروط الكفاءة، وأصلحت مدرسة الحقوق لتخريج قضاة أكفاء. ثم زيد في عدد المحاكم تسهيلا للتقاضي بين أهل القطر. وفي الجملة يعتبر جوهر نظام المحاكم الحالي مستحدثا في هذا العصر.
كذلك عم الإصلاح باقي مصالح الحكومة؛ فنظمت أعمال المالية وضبط حسابها، ومسحت الأراضي وحدت الضرائب، وعينت لجبايتها مواعيد تناسب حال الفلاح، وألغيت السخرة، وبطل استعمال السوط - الكرباج - إلا في بعض أنواع العقاب. وزيد من الطرق الزراعية في أنحاء البلاد حتى صار مجموعها لا يقل عن 2500 كيلومتر، وسمح للشركات الأوروبية بمباشرة أعمال مالية شتى؛ فانتشرت بذلك سكك الحديد الضيقة في الوجهين القبلي والبحري، وفيها تسهيل كبير لنقل حاصلات البلاد. وأنشأت الشركات أيضا خطوط «الترام» في القاهرة والإسكندرية؛ فسهل الانتقال فيهما، كما أنشئ فيهما كثير من المباني العظيمة التي أكسبت هاتين المدينتين فخامة وجمالا تضارعان فيهما كثيرا من المدن الأوروبية العظيمة. ومن أعظم ما أنشأته الحكومة من هذه المباني قصر المحكمة المختلطة الكبرى بالإسكندرية، ودار العاديات المصرية بالقاهرة، ولا سيما البناء الأخير الذي أصبح بجماله وفخامته لائقا لأن يضم بين جدرانه تلك الكنوز النفيسة من المخلفات المصرية القديمة.
وكثرت العناية بالأمور الصحية، وانتشرت المستشفيات في أنحاء البلاد. ذلك إلى ما أنشئ من المكاتب والمدارس في جميع أطراف القطر، وإعادة عهد البعوث العلمية إلى أوروبا حيث يغترف الشبان المصريون من أبحر المعارف والعلوم الأوروبية.
وجملة القول أن في البلاد المصرية نهضة مباركة عظيمة، يجب على كل مصري معاضدتها، والسير بها إلى ما فيه خير مصر وفلاحها.
هو الذي قاد الجيوش البريطانية في واقعة التل الكبير.
كان الطليان قد استولوا على كسلة من المهدي في سنة 1894م، ولكنهم تخلوا عنها عام 1897م لكثرة النفقات التي يتطلبها حكمها، فعادت الجيوش المصرية إلى احتلالها (25 ديسمبر سنة 1897).
ولما فتح كتشنر باشا أم درمان رأى ألا يبقي لذكرى المهدي تعلقا بقلوب قبائل السودان؛ فأمر بهدم قبته ونبش قبره، وبعثرت عظامه في النيل، وبعث بجمجمته إلى دار التحف البريطانية. وقد أعجبت إنجلترا بفوزه فمنحته لقب «لورد الخرطوم» وصار من ذلك الحين يسمى «لورد كتشنر».
وبقي مسموحا بها لحماية شواطئ النيل وقت الفيضان فقط.
هو السير جون سكوت.
ملخص لأهم الحوادث في الباب الثالث
أهم الحوادث
هجريا
ميلاديا
عباش باشا الأول وسعيد باشا
1265-1279
1849-1863
عباس باشا الأول
1265-1270
1849-1854
إنشاء الخط الحديدي بين القاهرة والإسكندرية
1268-1272
1852-1856
مقتل عباس باشا الأول في قصره ببنها
ذي الحجة 1270
يوليو 1854
سعيد باشا
1270-1279
1854-1863
إذنه لديلسبس ابتداء بحفر قناة السويس
1271
1854
عقد الاتفاق النهائي لحفر القناة
ربيع الآخر 1272
يناير 1856
سن قانون الأراضي
1274
1858
موافقة الباب العالي على حفر القناة
1275
1858
ابتداء العمل في حفر القناة
رمضان 1275
يناير 1859
إمضاء عقد أول قرض مصري في لندن
1278
1862
وفاة سعيد باشا
1279
1863
إسماعيل باشا
1279-1296
1863-1879
افتتاح دار الآثار المصرية رسميا ببولاق
1280
1863
غلاء القطن بسبب الحرب الأهلية في أمريكا
1281
1864
شراء إسماعيل باشا مصلحة البريد للحكومة
1282
1865
جعل الوراثة في أكبر أنجال الخديوي
2 المحرم 1283
27 مايو 1866
شراء إسماعيل باشا مصوع وسواكن من الباب العالي
1283
1866
تشكيل مجلس شورى النواب
رجب 1283
1866
منح إسماعيل باشا لقب خديوي
ربيع الأول 1284
يوليو 1866
سن قانون 10 رجب بشأن التعليم وترقيته
1284
1867
إتمام حفر القناة وحفلة افتتاحها
شعبان 1286
نوفمبر 1869
تولية منزنجر السويسري على مصوع
1287
1870
إعلان ضم المقاطعات الاستوائية إلى مصر رسميا
1288
1871
انحطاط قيمة سهام قناة السويس لقلة الربح
1288
1871-1872
انعقاد مؤتمر دولي بلندن للنظر في أمر القناة
1290
1873
تقليد من الباب العالي مؤيد للتقاليد السابقة ومنح إسماعيل باشا استقلالا داخليا
1290
1873
فتح دارفور
1290
1873
تشكيل المحاكم المختلطة
ذي الحجة 1291
يناير 1875
الحملة على حوض نهر جوبا وجهات قسمايو
المحرم 1292
فبراير 1875
فتح هرر على يد محمد رءوف باشا
شعبان 1292
سبتمبر 1875
فشل حملة منزنجر على بلاد الحبشة
1292
1875
تنازل الدولة عن زيلع للخديوي مقابل جزية
1292
1875
بيع نصيب الحكومة من سهام القناة لإنجلترا
1292
1875
وفد «كيف» لإصلاح المالية المصرية
رمضان 1292
أكتوبر 1875
هزيمة الجيوش المصرية عند قرع
المحرم 1293
يناير 1876
افتتاح المحاكم المختلطة
1293
1876
إبرام الصلح بين مصر والحبشة بعد موقع قرع
ربيع الأول 1293
أبريل 1876
توقف إسماعيل عن دفع قيمة سندات الخزانة
ربيع الأول 1293
أبريل 1876
إنقاص الدين الموحد باتفاق إنجلترا وفرنسا
ذي القعدة 1293
نوفمبر 1876
عودة غردون وتنصيبه حاكما عاما على السودان
1294
1877
تشكيل لجنة التحقيق
ربيع الآخر 1295
أبريل 1878
وزارة مؤاخذة برياسة نوبار باشا
شعبان 1295
أغسطس 1878
التنازل عن معظم أملاك الأسرة الخديوية
شوال 1295
أكتوبر 1878
ثوران الجند وقبضهم على نوبار ورفرز ولسن
1295
1878
إقالة نوبار باشا وتنصيب الأمير توفيق
1295
1878
عدم رضاء الخديوي بقرارات لجنة التحقيق والوزارة وحله الوزارة
1296
1879
تنازل إسماعيل باشا عن أريكة مصر
رجب 1296
يونيو 1879
توفيق باشا (توليته)
شعبان 1296
أغسطس 1879
استقالة وزارة شريف باشا
29 شعبان 1296
18 أغسطس 1879
تشكيل وزارة برياسة رياض باشا
شوال 1296
سبتمبر 1879
تشكيل لجنة علمية للنظر في أمر التعليم
17جمادى الآخرة 1297
27 مايو 1880
إصدار قانون التصفية
8 شعبان 1297
17 يوليو 1880
تقديم العرابيين معروضا إلى رياض باشا
13 صفر 1298
15 يناير 1881
مظاهرة عابدين
15 شوال 1298
9 سبتمبر 1881
منشور عرابي لسفراء الدول يطمئنهم فيه
15 شوال 1298
9 سبتمبر 1881
تشكيل وزارة برياسة شريف باشا
20 شوال 1298
14 سبتمبر 1881
تنصيب محمد سلطان باشا رئيسا لمجلس الشورى
26 المحرم 1299
18 ديسمبر 1881
إرسال فرنسا وإنجلترا مذكرة إلى الخديوي تعدانه بالمساعدة إن اقتضى الحال
19 صفر 1299
8 يناير 1882
تنصيب عرابي باشا وكيلا للحربية
ربيع الأول 1299
يناير 1882
استقالة وزارة شريف باشا وتشكيل وزارة البارودي
ربيع الأول 1299
فبراير 1882
طلب فرنسا وإنجلترا استقالة الوزارة وإبعاد عرابي
رجب 1299
مايو 1882
حاثة 11 يونيو (واقعة الأحد)
24 رجب 1299
11 يونيو 1882
انعقاد مؤتمر في الأستانة للنظر في شئون مصر
6 شعبان 1299
23 يونيو 1882
ضرب الأسطول الإنجليزي قلاع الإسكندرية
22 شعبان 1299
11 يوليو 1882
موقعة التل الكبير
29 شوال 1299
13 سبتمبر 1882
أول ظهور المهدي
1298
1881
قدوم اللورد دفرين إلى مصر
1300
1882
صدور أمر عال بإلغاء المراقبة الثنائية
ربيع الأول 1300
يناير 1883
تنصيب السير إفلن وود سردارا للجيش المصري
1300
1883
تنصيب السير إفلن بيرنج معتمدا لإنجلترا في مصر
ذي القعدة 1300
سبتمبر 1833
استيلاء المهدي على مدينة الأبيض
1300
1883
خروج جيش هكس من الخرطوم لاسترداد الأبيض
ذي القعدة 1300
سبتمبر 1883
خبر إبادة جيش هكس باشا
المحرم 1301
نوفمبر 1883
خروج غردون إلى السودان لإخلائه
ربيع الأول 1301
يناير 1884
وصول غردون إلى الخرطوم
ربيع الآخر 1301
فبراير 1884
هزيمة الجنرال بيكر عند الطيب
جمادى الأولى 1301
فبراير 1884
جراهام يقهر عثمان دقنة عند طماي
جمادى الأولى 1301
مارس 1884
قطع المهدي خط الرجعة عليه
رجب 1301
مايو 1884
وصول حملة إنقاذ غردون إلى الشلال السادس
8 ربيع الآخر 1302
25 يناير 1885
استيلاء الدراويش على الخرطوم ومقتل غردون
9 ربيع الآخر 1302
26 يناير 1885
وفاة المهدي وتولي التعايشي الخلافة
رمضان 1302
يوليو 1885
قهر التعايشي عند جنس بعد عزمه على فتح مصر
ربيع الأول 1303
ديسمبر 1885
قهر ولد النجومي الزاحف إلى مصر في طوشكى
رمضان 1306
مايو 1889
إصلاح القناطر الخيرية
1301-1306
1884-1889
تهدئة السودان الشرقي
1308
1891
خروج كتشنر لاسترجاع السودان
1313
1896
واقعة أم درمان
ربيع الآخر 1316
سبتمبر 1898
اتفاقية السودان بين مصر وإنجلترا
رمضان 1316
يناير 1899
إنشاء سد قشيشة
1308
1891
إنشاء قناطر زفتى (انتهاؤها)
1320
1902
إنشاء قناطر أسيوط وخزان أسوان
1315-1320
1898-1902
إنشاء قناطر إسنا (انتهاؤها)
1327
1909
تعلية خزان أسوان (انتهاؤها)
1330
1912
Shafi da ba'a sani ba