Tarihin Misra Na Zamani
تاريخ مصر الحديث: من الفتح الإسلامي إلى الآن مع فذلكة في تاريخ مصر القديم
Nau'ikan
فلما ورد كتاب الموفق على ابن طولون قال: «وأي حساب بيني وبينه أو حال توجب مكاتبتي بهذا أو غيره؟» وكتب إليه بعد البسملة:
وصل كتاب الأمير - أيده الله تعالى - وفهمته، وكان - أسعده الله - حقيقا بحسن التخير لمثلي، وتصييره إياي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتقي الأعداء بحده؛ لأني دائب في ذلك، وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام، والمؤن الثقال باستجذاب كل موصوف بشجاعة، واستدعاء كل منعوت بغنى وكفاية بالتوسعة عليهم، وتواصل الصلاة والمعاون لهم صيانة لهذه الدولة، وذبا عنها، وحسما لأطماع المتشوفين لها والمنحرفين عنها، ومن كانت هذه سبيله في الموالاة، ومنهجه في المناصحة فهو حري أن يعرف له حقه، ويوفر من الإعظام قدره، ومن كل حال جليلة حظه ومنزلته.
فعوملت بضد ذلك من المطالبة بحمل ما أمر به، والجفاء في المخاطبة بغير حال توجب ذلك، ثم أكلف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا، وعهدي بمن استدعى ما استدعاه الأمير من طاعته أن يستدعيه بالبذل والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام لا أن يكلف ويحمل من الطاعة مؤنة وثقلا، وإني لا أعرف السبب الذي يوجب الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير - أيده الله تعالى - ولا ثم معاملة تقتضي معاملة أو تحدث منافرة؛ لأن العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى من سواه، ولا أنا من قبله. فإنه والأمير جعفر المفوض - أيده الله تعالى - قد اقتسما الأعمال، وصار لكل واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه؛ إنه من نقض عهده، أو أخفر ذمته، ولم يف لصاحبه بما أكد على نفسه فالأمة بريئة منه ومن بيعته، وفي حل وسعة من خلفه، والذي عاملني به الأمير من محاولة صرفي مرة، وإسقاط رسمي أخرى، وما يأتيه ويسومنيه ناقض لشرطه مفسدة لعهده، وقد التمس أوليائي وأكثروا الطلب في إسقاط اسمه وإزالة رسمه، فآثرت الإبقاء وإن لم يؤثره، واستعملت الأناة وإن لم تستعمل معي، ورأيت الاحتمال والكظم أشبه بذوي المعرفة والفهم، فصبرت نفسي على أحر من الجمر وأمر من الصبر، وعلى ما لا يتسع به الصدر، والأمير - أيده الله تعالى - أولى من أعانني على ما أؤثره من لزوم عهده، وأتوخاه من تأكيد عقده بحسن العشرة والإنصاف، وكف الأذى والمضرة، وأن لا يضطرني إلى ما يعلم الله - عز وجل - كرهي له أن أجعل ما أعددته لحياطة الدولة من الجيوش المتكاثفة، والعساكر المتضاعفة التي قد ضرست رجالها من الحروب، وجرت عليهم محن الخطوب مصروفا إلى نقضها، وفي حيزنا من يرى أنه أحق بهذا الأمر وأولى من الأمير، ولو أمنوني على أنفسهم فضلا عن أن يعثروا مني على ميل أو قيام بنصرتهم؛ لاشتدت شوكتهم، ولصعب على السلطان معاركتهم، والأمير يعلم أن بإزائه منهم واحدا قد كبر عليه وفض كل جيش أنهضه إليه على أنه لا ناصر له إلا لفيف البصرة، وأوباش عامتها، فكيف من يجد ركنا منيعا، وناصرا مطيعا، وما مثل الأمير في أصالة رأيه يصرف مائة ألف عنان عدة له فيجعلها عليه بغير ما سبب يوجب ذلك، فإن يكن من الأمير أعتاب أو رجوع إلى ما هو أشبه به وأولى، وإلا رجوت من الله - عز وجل - كفاية أمره، وحسم مادة شره، وإجرائنا في الحياطة على أجمل عادته عندنا، والسلام.
فلما وصل الكتاب إلى الموفق أغاظه غيظا شديدا، فأحضر موسى بن بغا، وكان عون الدولة وأشد أهلها بأسا وإقداما، فتقدم إليه في صرف أحمد بن طولون عن مصر، وتقليدها أماجور، فامتثل وكتب إلى أماجور كتاب التقليد وأنفذه إليه، فلما وصل إليه الكتاب توقف عن إرساله إلى أحمد بن طولون لعجزه عن مناهضته. ثم خرج موسى بن بغا عن الحضرة مقدرا أنه يدور عمل المفوض؛ ليحمل الأموال منه، ولما علم بتوقف أماجور عن مناهضة أحمد بن طولون كتب إليهما يأمرهما بحمل الأموال، وعزم على قصد مصر، والإيقاع بابن طولون، واستخلاف أماجور عليها فسار إلى الرقة.
وبلغ ذلك ابن طولون فأقلقه، ليس لأنه يقصر عن مناهضة موسى بن بغا؛ لكن لتحمله هتك الدولة، وأن يأتي سبيل من قاوم السلطان وحاربه وكسر جيوشه إلا أنه لم يجد بدا من المحاربة؛ ليدفع عن نفسه ما يكره، فتأمل مدينة فسطاط مصر فوجدها لا تؤخذ إلا من جهة النيل، فأراد - لكبر همته وتدبره - أن يبني حصنا على الجزيرة التي بين الفسطاط والجيزة (جزيرة الروضة) يكون معقلا لحرمه وذخائره وخاصته، ثم يشتغل بعد ذلك بحرب من يأتي من البر.
وقد زاد فكره من يقدم من النيل فأمر ببناء الحصن على الجزيرة، واتخذ مائة مركب حربي سوى ما يضاف إليها من العلابيات والحمائم والعشاريات والسنابيك والزوارق وقوارب الخدمة، وعمد إلى سد وجه البحر الكبير، وأن يمنع ما يجيء إليه من مراكب طرسوس وغيرها من البحر المالح إلى النيل بأن توقف هذه المراكب الحربية في وجه البحر الكبير؛ خوفا مما سيجيء من مراكب طرسوس كما فعل محمد بن سليمان من بعده بأولاده كأنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق، وجعل فيها من يذب عن هذه الجزيرة، وأنفذ إلى الصعيد وإلى أسفل الأرض لمنع من يحمل الغلال إلى البلاد؛ ليمنع من يأتي من البر الميرة.
وأقام موسى بن بغا بالرقة عشرة أشهر، وقد اضطربت عليه الأتراك، وطالبوه بأرزاقهم مطالبة شديدة حتى استتر منهم كاتبه عبد الله بن سليمان؛ لتعذر المال عليه، وخوفه على نفسه منهم، فخاف موسى بن بغا عند ذلك، ودعته ضرورة الحال إلى الرجوع فعاد إلى الحضرة، ولم يقم بها سوى شهرين، ومات من علة في صفر سنة 264ه.
هذا، وأحمد بن طولون يجد في بناء الحصن على الجزيرة، وقد ألزم قواده وثقاته أمر الحصن، وفرقه عليهم قطعا قام كل واحد بما لزمه من ذلك، وكد نفسه فيه، وكان يتعهدهم بنفسه في كل يوم، وهو في غفلة عما صنعه الله له من الكفاية والغنى عما يعانيه، ومن كثرة ما بذل في العمل قدر أن كل طوبة منه وقفت عليه بدرهم صحيح، ولما تواترت الأخبار بموت موسى بن بغا كف عن العمل، وتصدق بمال كثير شكرا لله على ما من به عليه من صيانته عما يقبح فيه عند الأحدوثة، وما رأى الناس شيئا كان أعظم من عظيم الجد في بناء هذا الحصن، ومباكرة الصناع له في الأسحار حتى فرغوا منه، فإنهم كانوا يخرجون إليه من منازلهم في كل بكرة من تلقاء أنفسهم من غير استحثاث؛ لكثرة ما سخا به من بذل المال. فلما انقطع البناء لم ير أحد من الصناع التي كانت فيه مع كثرتها، كأنما هي نار صب عليها ماء فطفئت لوقتها، ووهب للصناع مالا جزيلا، وترك لهم جميع ما كان سلفا معهم، وبلغت نفقات هذا الحصن ثمانين ألف دينار ذهبا، وقال سعيد بن القاضي من أبيات بشأن ذلك:
وإن جئت رأس الجسر فانظر تأملا
إلى الحصن أو فاعبر إليه على الجسر
Shafi da ba'a sani ba