وفي سنة 1674 نشر الفرنساوي شاردني بضعة سطور منها، ثم جاء الألماني كميفر في سنة 1712، وخصوصا الدانيمركي نيبهر في سنة 1765 فنشر نسخة منها مصححة بالضبط. وقد تيسر للعلماء بواسطة هذه النسخ أن يتعرفوا فيها ثلاثة أنواع من حروف التهجي، يقابل كل نوع منها لغة مخصوصة، على أن فك هذه الخطوط لم يتم ابتداؤه إلا في أوائل القرن الحاضر.
ففي 4 سبتمبر سنة 1803 ألقى «جورج فريدريك جروتفند» خطابه على الجمعية العلمية في جوتنجن أوضح فيها المبادئ التي ينبغي التعويل عليها في فك هذه الخطوط، ووجه شكيمة البحث إلى أبسط الطرق وأسهلها، وتصور أنها تحتوي على لغة فارس القديمة فاجتهد في أن يتعرف في خلالها أسماء وألقاب ملوك فارس مثل؛ كورش وداريوس واكسرسيس، فنجح في سعيه، وعين مدلول كثير من العلامات، ثم عاود أعماله رجلان آخران في وقت واحد وهما؛ لاسن في ألمانيا وأوجين برنوف في فرنسا، فتوصلا في سنة 1836 إلى إتمام فك الكتابات الفارسية التي كان في أوروبا نسخ كثيرة منها. وبعد ذلك ببضعة سنين أرسل هنري راولنسن من بلاد فارس نفسها ترجمة النقوش الطويلة الموجودة في بيهستون، التي حكى داريوس فيها تاريخ فتوحاته (وكان ذلك فيما بين سنتي 1846 و1849). (4) فك الكتابة المسمارية الآشورية والكلدانية
لما تمت قراءة النسخ الفارسية كان فك النسخ الغير الفارسية فيه بعض السهولة والتيسير، ففي سنة 1842 شرع المسيو بوتا، قنصل فرنسا في الموصل، في أعمال الحفر الكبيرة، وهو يرود أطلال خرزاباد، فعثر فيها على آثار ومخلفات هي جرثومة المجموعات الآشورية في متحف اللوفر بفرنسا، وبعد ذلك بقليل اكتشف الإنجليزي ليرد على كثير من القصور الكائنة بقرب نينوي القديمة.
فلما جاءت إلى أوروبا كتابات كثيرة من هذا القبيل أثارت في علمائها عوامل الجراءة والإقدام، فعكفوا على النظر فيها، والسعي في فكها، فمن سنة 1847 ترجم الفرنسويان «ف. دوسولسي»، و«آ. دولونجبيرييه» بعض أقاصيص قصيرة، ومن ذلك الوقت صارت حركة التقدم في هذا المضمار سريعة جدا، فإن «هنكس» في إنجلترا، و«راولنسن» في فارس، و«سولسي» و«أوبرت» في فرنسا أخذوا يدرسون كتابات طويلة، وعينوا بعد التحري الدقيق طريقة التهجي، ومدلولات العلامات، والقواعد النحوية، ولم يكن ذلك من الأمور التي يستقر الرأي عليها من غير أن تحدث جدالا طويلا مصحوبا بالإنكار، وعدم التصديق، فحسما لهذا النزاع أخذت الجمعية الآسيوية بلوندرة في عمل اختبار في سنة 1875، فجاءت نتائجه قاطعة لكل خلاف، مانعة لكل جدال، فإنها طبعت على الحجر كتابة آشورية لم يسبق طبعها، وأعطت نسخا منها لأربعة من علماء الآثار الآشورية كانوا في لوندرة وقتئذ، وهم: «هنكس»، و«أوبرت»، و«ه. راولنسن»، و«فوكس تالبوت»، ودعتهم إلى ترجمتها، فلما تمت التراجم، وقوبلت على بعضها ظهر فيها كلها اسم الملك تغلا ثفلاصر، بل إن حكاية الوقائع تكاد تكون بألفاظ واحدة، وكان الخلاف فيما بينها واقعا على مواضع ثانوية ليس لها مكان من الأهمية، حتى إن العلماء الذين كانوا لم يصدقوا إلى ذلك الوقت بصحة الاكتشافات اضطروا بقوة هذا البرهان للتسليم بصحته، والإقرار عليه، وصار علم الآثار الآشورية من العلوم التي يعترف بها جميع العلماء. (5) نصيب فرنسا في إنماء وترقية الأبحاث المختصة بعلم الآثار الآشورية
وما زال هذا العلم ينمو ويزداد من ذلك العهد، وقد كان لفرنسا فضل عظيم ويد طولى في تاريخ ترقيته؛ فإن العمال الذين ابتدؤا في تمهيد هذا السبيل وهو «بوتا» و«سولسي» و«لونجبيرييه» قد خلفهم بل فاقهم «أوبرت» و«مينان» ثم جاء عقيبهما «فرنسوا لونورمان» و«جيار» و«أميود» وقد اختطفهم الموت وهم في مقتبل الشباب، و«هاليفي» و«بونيون» وغيرهما ممن لا يزالون محافظين على بقاء تعليم هذا العلم وحفظه، وأن أعمال الفحر التي استمر فيها «بلاس» في نينوي ثم «فرسنل» و«أوبرت» في بقعة بابل سنة 1851 قد انقطعت بعدهم مدة تنوف على العشرين سنة، ثم عاودها الإنجليز فتحصلوا منها على ما أغنى المتحف البريطاني وجعله أهم مستودعات العالم المحفوظة فيها العاديات الآشورية، ولم يتحصل الموسيو «دوسارزك» قنصل فرنسا في البصرة إلا في سنة 1878 على الرخصة من الحكومة العثمانية بمباشرة البحث في كلديا، وقد عثر في بعثته الأولى على آثار هي عبارة عن تماثيل ملوك لاجاش، التي سبق الكلام عليها، وهي محفوظة في متحف اللوفر إلى اليوم.
خلاصة ما تقدم (1)
كانت الكتابة الكلدانية هيروغليفية محضة في أول الأمر، وفيها علامات تدل على معان مستقلة بالمفهومية ومقاطع، من غير أن يكون فيها حروف تتركب منها المقاطع. وأما الألفاظ فكانت تتألف من شرائط وأشكال تشبه المسمار أو الإسفين؛ ولذلك سميت الكتابة بالمسمارية أو الإسفينية، وقد يكون لبعض العلامات مدلولات كثيرة متنوعة؛ بحيث لا يكاد القارئ الكلداني يحترز من الخطأ إلا بدوام المراجعة في كتب التهجي، فإنها قد احتوت على معاني العلامات بكل دقة والتفات. (2)
وقد انتشرت الكتابة المسمارية في الشام وأرمينية وعيلام وفارس، وتعدلت كثيرا أو قليلا بحسب طبيعة اللغات التي استخدمها أهلوها، وقد كان قصر آشوربانيبال الذي اكتشف عليه في نينوي هو السبب في حفظ فنون الأدب عند الآشوريين والكلدانيين إلى يومنا هذا، وهي مرقومة فيه على صفحات من الخزف والفخار. (3)
ثم ما لبثت الحروف الآرامية أن قامت شيئا فشيئا مقام الهجاية المسمارية؛ حتى انقطع استعمال هذه مرة واحدة في أوائل القرون المسيحية، ولم يبتدئ القوم في فكها إلا في سنة 1802 وذلك بواسطة الكتابات التي على الطريقة الفارسية، فإن الألماني «جروتفند» استخرج من نقوش برسوبوليس هجاية أكملها بعده «لاسن» في ألمانيا و«برنوف» في فرنسا. (4)
وقد كان في أعمال الفحر التي باشرها المسيو «بوتا» في خرزاباد والمستر «ليرد» في نينوي مجال واسع للمباحث التي اهتم بها علماء أوروبا مدة عشر سنين (من سنة 1847 إلى سنة 1857) حتى توصل «لونجبيرييه» و«سولسي» و«أوبرت» في فرنسا و«راولنسن» و«هنكس» و«تالبوت» في إنجلترا إلى قراءة وترجمة الكتابات التي بالقلم الآشوري. (5)
Shafi da ba'a sani ba