Tarihin Hauka
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Nau'ikan
إما الثورة وإما العودة إلى نقطة الصفر
اشتهرت الثورة الفرنسية - التي اندلعت في الخامس من مايو 1789 - على غرار جميع الثورات الأخرى، بأنها «طوت صفحة الماضي». فإذا حاولنا البحث في تأريخ مرحلة اليعاقبة وما بعد اليعاقبة - وحتى عصرنا الحالي - عن الإنجازات الإيجابية للنظام القديم، فلن نجد شيئا. بل إن مصطلح «النظام القديم» نفسه، الذي عممه ميرابو في عام 1790، يعد تعبيرا تحقيريا؛ إذ يشير إلى مجتمع ظلامي ورجعي كان ينظر إليه على أنه مرتع للتعسف والمظالم. وحتى لا نحيد عن موضوعنا الرئيس، فقد سطعت شمس 1789، بعد ليل اجتماعي وطبي طويل، تحمل معها ربما رياح الإصلاحات الإنسانية الواسعة. وهكذا نجد أن الإصلاحات التي بدأت في نهاية عهد لويس السادس عشر، لم يتم إلغاؤها فحسب بفعل الأحداث (بينما كانت بالكاد قد بدأت) بل وحجبت أيضا، وكأنها أسقطت من التاريخ. فالثورة الفرنسية وحدها كان يمكنها إنتاج العمل الخيري الإنساني. وهكذا لم يكن للتاريخ الفرنسي، ذلك التاريخ الحافل بالتقدم والتضامن، أن يبدأ إلا مع بزوغ الثورة الفرنسية وبفضلها.
إلغاء الأوامر الملكية
في دفاتر التظلمات والشكاوى، كما في جلسات الجمعيات الإقليمية التي عقدت فيما بين عامي 1787 و1790، احتلت مسألة المساعدة العامة مكانة كبيرة، وهي المكانة نفسها التي حركت الرأي العام والسلطات منذ عقدين. استنكر الجميع الوضع المزري للمشافي، وكانت هناك مطالب في كل مكان تقريبا لإنشاء مآو للفئات الماثلة بالفعل في جميع مشروعات الإصلاح السابقة: الأيتام، والأطفال المهجورين، والمكفوفين، والصم والبكم، والمختلين عقليا ... طالبت بعض التظلمات بتخصيص مآو منفصلة لهذه الفئة الأخيرة: «فلتنشأ في كل محافظة دار يجرى فيها استقبال ومعالجة المختلين عقليا الذين يشكل وجودهم خطرا على المجتمع» (الدفتر الخاص بالطبقة الثالثة (أي العوام) في إقطاعية تروا). وركزت بعض الدفاتر القليلة بشكل أكثر تفصيلا على مسألة المختلين عقليا دون غيرها. فعلى سبيل المثال، نجد الدفتر الخاص بالإكليروس التابع لقهرمانية كليرمون، في أوفيرني، يطالب بإنشاء مؤسسة للمصابين بالهياج العقلي وأخرى للمصابين بالصرع، «يحصل فيه المرضى، مع العلاج اللازم، على متطلبات الإعاشة تبعا لحالتهم المؤثرة». كما كانت هناك مطالبات بأن تكون هذه المؤسسات «مزودة بالأطباء والجراحين المتعلمين». اهتمت بعض الدفاتر الأخرى بهذه القضية نفسها ونقلت - دون الإشارة إلى المرجع الأصلي - ما ورد في «تعليمات» 1785، أو استلهمت من هذا المنشور مباشرة بعض المبادئ والآراء على النحو التالي: «سنهتم في المشافي بصورة أكثر جدية من ذي قبل بفن شفاء المهووسين. فنحن نظن أننا فعلنا كل ما ينبغي القيام به، حين نضيق الخناق عليهم ونحتجزهم في أركان مظلمة قادرة على إفساد عقل الإنسان الأكثر اتزانا، ظانين أننا بهذا الشكل نكون حميناهم من إلحاق الضرر بأقرانهم» (الدفتر الخاص بالعوام التابع لدائرة جماعة الإكليروس المكرسين النظاميين التي أسسها القديس جايتان دي تيين [باريس]).
تجدر الإشارة على وجه الخصوص إلى إجماع جميع دفاتر التظلمات والشكاوى على المطالبة بإلغاء الأوامر الملكية التي كانت تعد رمزا لتعسف السلطة الملكية، حتى ولو كانت بعضها تأمل في إمكانية إجراء بعض الترتيبات على النحو التالي: «فليسمح للعائلات، بالنسبة إلى حالات الجنون أو العته أو غير ذلك من الاضطرابات التي تستدعي تأديبا وإصلاحا وليس عقابا، بتقديم عريضة إلى مقر محكمة المشرفين الملكيين المختصة، والتي قد تأمر، بعد إجراء تحقيق غير قضائي، بأن يجري حبس المتهم لفترة طويلة نوعا ما في إحدى الإصلاحيات» (دفتر الإكليروس التابع لإقطاعية رانس).
لقد ورد مبدأ إلغاء الأوامر الملكية في إعلان النوايا الذي أصدره الملك، وعرض على مجلس النواب في الثالث والعشرين من يونيو 1789: «يدعو جلالة الملك [...] الجمعية الوطنية بفئاتها الثلاث - رجال الدين والنبلاء والعوام - إلى البحث واقتراح الوسائل الأكثر ملاءمة للتوفيق بين إلغاء الأوامر الملكية المعروفة باسم الخطابات المختومة، والحفاظ في الوقت نفسه على السلامة العامة والأمن، مع اتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة، سواء للحفاظ على شرف العائلة في بعض الحالات، أو للإسراع في قمع بدايات التمرد والعصيان، أو لحماية الدولة من آثار وجود عقل إجرامي مدبر لدى القوى الأجنبية.» ظن هذا الملك (الذي أصبح مجردا من ألقاب التفخيم) أنه لا يزال سيد الموقف، ولكن هيهات، فما حدث بالتحديد هو أنه بعد انتهاء هذه الجلسة مباشرة انقلب كل شيء رأسا على عقب؛ إذ لم يعد أسلوب الترويع والترهيب يجدي نفعا مع طبقة العوام.
نص إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي تم التصويت عليه في السادس والعشرين من أغسطس 1789، في مادته السابعة على ما يلي: «لا يجوز اتهام أي إنسان ولا القبض عليه ولا سجنه إلا في الحالات التي يحددها القانون ووفقا للأشكال التي ينص عليها. ويجب أن يعاقب كل من يلتمس إصدار أوامر تعسفية أو يرسلها أو ينفذها أو يأمر بتنفيذها.» أما عن الإلغاء الملموس للأوامر الملكية، فكان لا بد من انتظار عريضة مستقلة، في نوفمبر 1789، لكي تقرر الجمعية التأسيسية إنشاء لجنة للخطابات المختومة، وهي تلك اللجنة التي كان ميرابو أحد أعضائها. بعد نقاشات مطولة هيمن عليها القلق والانشغال ليس بوضع المختلين عقليا، وإنما بمصير الجانحين (إن أحدا - بدءا بميرابو الذي احتجز فيما مضى في فنسين بموجب أمر ملكي بناء على طلب والده - لم يتحدث عن كونهم ضحايا أبرياء)، صوتت الجمعية التأسيسية على قرارات إلغاء الأوامر الملكية في جلستيها اللتين عقدتا يومي 16 و26 مارس 1790، «لقد وصلت الجمعية الوطنية أخيرا إلى اللحظة السارة للقضاء على الأوامر التعسفية، وتدمير السجون الغير القانونية، وتعيين أجل محدد لإطلاق سراح السجناء المحبوسين فيها، لأي سبب كان أو بأي ذريعة.» ومع ذلك، ارتأت الجمعية المذكورة «أنه من الضروري تمديد فترة حبس أولئك الذين احتجزوا بسبب الجنون، لفترة طويلة بما يكفي لمعرفة ما إذا كان يجب إطلاق سراحهم بموجب حكم نهائي، أم معالجتهم والاعتناء بهم في المشافي القائمة بحيث يجري تفتيشها وإدارتها بمنتهى اليقظة والحكمة والإنسانية تبعا لما تقتضيه حالتهم.» وصدر قرار يقضي بإطلاق سراح جميع الأشخاص المسجونين في منازل الاحتجاز الجبري في غضون ستة أسابيع، ما لم يكن قد صدر حكم بإدانتهم أو بالقبض عليهم واقتيادهم إلى السجن، أو «ما لم يكن قد تم اعتقالهم بسبب الجنون». ونصت المادة التاسعة على أن «الأشخاص الذين اعتقلوا بسبب الجنون سيستجوبون، لمدة ثلاثة أشهر، اعتبارا من تاريخ نشر هذا القرار، وبناء على طلب النائب العام، من طرف القضاة وفق ما هو معمول به، وبأمر من هؤلاء القضاة سيزورهم الأطباء الذين سيقدمون، تحت إشراف مديري الدوائر، تقريرا حول حالة المرضى الحقيقية حتى يتسنى - تبعا للحكم الذي سيصدر بناء على وضعيتهم - الإفراج عنهم أو معالجتهم في المشافي التي ستخصص لهذا الغرض.»
وقد نفذت بالفعل عمليات التفتيش ولكن بأعداد قليلة نسبيا؛ نظرا لتزايد الاضطرابات السياسية. وكانت تجرى على طريقة سؤال وجواب (أو بالأحرى غياب الجواب). وكتب الضباط المحليون بكاين في الثاني والعشرين من يونيو 1791 بشأن طلب اعتقال: «ينبغي لنا الامتثال [للقرارات الجديدة] وعدم إحياء النظام القديم الذي كان يعتدي على حرية الأفراد.» في الواقع، اعتمدت لجنة الخطابات المختومة في المقام الأول على ما وردها من وثائق وتقارير مكتوبة في إطار التحقيق الموسع الذي أطلقته في جميع المشافي العامة، ودور الاحتجاز الجبري ومستودعات التسول المنتشرة في أرجاء المملكة. وسرعان ما تدفقت تقارير وافية للغاية؛ لأنه لا أحد من مديري المؤسسات أراد أن يبدو بصمته متواطئا في جريمة «الأوامر التعسفية» (وهو ما يفسر بالتأكيد، دون مزاح، قيام رئيس دير الرهبان الفرنسيسكان في دونجون أون بوربونيه بالرد سريعا «للوفاء بقرارات سادتنا أعضاء الجمعية الوطنية»). ذكر بالطبع في تلك التقارير المجانين المسجلون بالفعل في القوائم التي سبق إعدادها من قبل الإدارة الملكية، في بعض الأحيان منذ ما يقل عن عام مضى. فنجد محافظ قصر سومور يعرب عن استيائه قائلا: «لقد أرسلت بالفعل مرتين بيانا بحالة ثلاثة سجناء مجانين ما زالوا محبوسين لدي.» وهكذا ظهر المختلون عقليا على الساحة، ولا سيما أن العديد من دور الاحتجاز الجبري، التي امتثلت على الفور لقرارات الجمعية الوطنية، تخلصت من عبء الجانحين المحبوسين لديها. على سبيل المثال، أطلقت دار ماريفيل سراح 34 جانحا خلال صيف 1790، وهكذا تبقى من بين الخمسة والأربعين نزيلا المحتجزين بالقوة في الدار ثمانية وثلاثون مجنونا. في بعض المؤسسات، كما في جمعية سينليس الخيرية، لم يتبق في دار الاحتجاز الجبري إلا المجانين.
أصرت جميع المؤسسات على أن المجانين المحتجزين لديها مختلون عقليا بالفعل ووصفت جنون كل واحد منهم؛ فهذا يأكل فضلاته، وتلك «تبحث عن وسيلة للانتحار، وفيما عدا ذلك فهي في غاية الوداعة والاستقامة»، وذاك «يشكل مصدر رعب للدار؛ حيث يجري احتجازه منذ عام 1773 على أثر قتله لشقيقه.» في الواقع، العديد من هؤلاء المختلين عقليا كانوا محتجزين منذ فترة طويلة لدرجة أنهم أصبحوا «عاجزين عن العودة إلى المجتمع، حتى ولو كان ذلك لسلامتهم الخاصة». «فلا يمكن للمرء أن يستعيد حريته بعد أن حرم منها طيلة 22 عاما دون أن يصاب بصدمة قوية يعجز دماغ ضعيف وغير متزن كدماغه عن احتمالها ومقاومتها؛ الأمر الذي قد يفضي إلى حالة من الهيجان والعنف مما قد يستدعي في نهاية المطاف حبسه من جديد.»
وقد رفضت بعض المؤسسات، مع تقديمها للإحصاءات المطلوبة، أن يتم اعتبارها كدور احتجاز جبري. كما هي حال «المشفى العام للمختلين عقليا في مدينة إكس آن بروفانس»: «هذا المشفى ليس بتاتا دارا للاحتجاز الجبري، ولكنه مؤسسة خيرية يديرها مواطنون؛ مأوى مخصص لبؤساء المدينة والإقليم الذين يعانون من شقاء فقدان العقل.»
Shafi da ba'a sani ba