Tarihin Hauka
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Nau'ikan
ومن نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، أصبحت وظيفة مجنون البلاط، منصبا يتهافت عليه الجميع. وقد قام هنري الثاني، ملك إنجلترا، بمنح قطعة أرض للمهرج التابع له، المدعو روجيه المجنون. أما عن جيوم بيكولف ، وهو المجنون التابع لجون ملك إنجلترا أو ما يعرف ب «جون بلا أرض»، فقد ترقى إلى مرتبة النبلاء ومنح قطعة أرض إقطاعية قابلة للتوريث، شريطة أن يظل في خدمة الملك طوال حياته. وفي فرنسا، اعتبارا من عام 1316، أصبح تكليف المجنون وراثيا. وظلت طريقة تعيينهم أمرا غامضا.
2
ففي بعض الأحيان، كان الأمير يتبناهم إذا صادفهم في طريقه، وفي أحيان أخرى، كان يرسل في طلبهم من العائلات الموجود بها أفراد مجانين؛ مما تمخض عنه انتشار المجانين المحترفين أكثر من المجانين الحقيقيين المصابين بأمراض عقلية.
وتشهد مجموعة الصور والرسوم، وخاصة الزخارف والنقوش، التي تمثل القرون الأخيرة من العصور الوسطى؛ على إعطاء دور سياسي لمجنون البلاط. فنجد الملك والمجنون يظهران في هذه الرسوم وهما يقفان وجها لوجه، وطولهما متساو. يجلس الأول على عرشه، لابسا التاج وممسكا بالصولجان الملكي في يده. أما الثاني، فيبدو واقفا غير مرتب الهندام، أحيانا عاريا تماما، وحليق الرأس وممسكا هو الآخر بصولجان في يده؛ وهي الهراوة، التي أصبحت اعتبارا من نهاية القرن الخامس عشر الميلادي بمنزلة هوس، وهي عبارة عن عصا ينتهي طرفها برأس مهرج مثير للسخرية مزينة بغطاء على شكل أذن حمار، وكان غطاء الرأس هذا هو نفسه الذي يرتديه مجنون البلاط ويضعه على رأسه. وهكذا، تتجسد المواجهة أو بالأحرى يتجسد الحوار بين رمزية النظام والاتزان من جهة، ورمزية الفوضى والإفراط من جهة أخرى. أحيانا، نجد الملك يرفع إصبعا علامة على الورع والتهذيب. وقد كان إضفاء طابع الغموض مقصودا في هذه الصور الممثلة للجنون. ترى من هو صاحب النفوذ الأقوى؟ العقل أم الجنون؟
عيد المجانين
صورة أخرى من صور إعادة إحياء الجنون تتمثل في احتفالات المجانين، وهي طقوس حقيقية تأسست في القرون الأولى من العصور الوسطى، متوارثة عن أعياد الإله ساتورن التي كانت تقام في الحقبة الرومانية وكان يحل فيها العبيد محل السادة. كانت هذه الطقوس - التي يجري فيها تبادل الأماكن وتختلف مراسمها من مقاطعة إلى أخرى - تسمح للجميع بأن يفرجوا عن أنفسهم ويطلقوا لانفعالاتهم المكبوتة العنان، كما كانت تبيح لهم ممارسة الفسق والمجون في الفترة ما بين السابع عشر والثالث والعشرين من شهر ديسمبر. يبدأ الاحتفال بقيام الكتبة وبعض أعضاء الإكليروس بانتخاب «رئيس طائفة المجانين»، ويجرى تنصيبه وسط أجواء من الألحان الساخرة، وذلك قبل أن تشيعه الجماهير بفرح إلى «منزله» حيث يقام احتفال هناك، يشرب فيه الحاضرون الخمور بكثرة وينشدون مزامير هزلية. ثم يختار واحد من بين الجموع لينصب «أسقف المجانين»، وأحيانا كان يلقب ب «بطريرك المجانين». وسعيد الحظ الذي يقع عليه الاختيار، كان يرافقه رجل دين متنكر على نحو ساخر حتى يوصله إلى باب منزله. وكان يجري توصيله إما راكبا على فرس أو برميل خشبي، وإما جاثما على ظهر حمار مرتديا تاجا أسقفيا. وطوال مسيرة هذا الموكب، كانت تتعالى صيحات المباركة والتهليل ويراق الخمر. وكان هذا الاحتفال، المقصور في أغلب الأحيان على المدن الكبرى، يبلغ أوجه في الكاتدرائية أو في المجمع الكنسي؛ حيث كانت تجرى محاكاة ساخرة لطقوس الخدمة الكنسية أو صلاة القداس. وكان الحاضرون يأكلون لحم خنزير على المذبح أو يقومون بلعب النرد. وكان يتم حرق النعال البالية في المباخر القديمة، وشرب الخمر في حقة القربان المقدس. وكانوا يطوفون بهذا الموكب في جميع أرجاء وشوارع المدينة وهم يطلقون دعابات ماجنة وفاسقة وسط مناخ عام من النشوة والسكر.
وبالطبع، نستطيع أن ندرك أن الكنيسة قد سعت جاهدة لمحاربة هذه الأفعال الماجنة. في عام 1451، أصدر مجلس كنيسة إفرو تحذيرا نص على ما يلي: «سنعاقب بالحرمان الكنسي أي شخص من القساوسة أو رجال الدين التابعين لنا في حالة قيامه بالإتيان بأي تصرفات غير مقبولة في كنيستنا؛ من قبيل إطلاق الدعابات والتكلم بسفاهة أو بوقاحة وممارسة ألعاب غير شريفة.» ورغم ذلك تكررت هذه المحظورات. وعلى نحو ما، كانت هذه الفوضى التي تسود خلال بضعة أيام، وربما يوم واحد، بمنزلة ضمانة لإحلال النظام والاستقرار خلال بقية العام. وتظل الانتهاكات تتخذ مظهرا احتفاليا حتى في شططها.
صور رمزية
إن الجنون الذي أعادت المسيحية إحياءه في القرون الوسطى، هو الجنون بصورته الاستعارية، وليس الجنون بمعناه الفلسفي والأخلاقي؛ أي جنون العالم. وقد برز هذا الجنون على وجه الخصوص في كتاب «سفينة الحمقى» لمؤلفه سباستيان برانت (نشر للمرة الأولى في مدينة بازل، في عام 1494). وقد كتب هذا المؤلف في الأصل باللغة الشعبية ثم سرعان ما ترجم إلى اللاتينية (ولم تكن هذه هي العادة في ذلك الزمن). رأى برانت، باعتباره عالما إنسانيا مسيحيا، أن قراءة الكتاب المقدس لا تعالج البشر من رذائلهم ولا تصحح نقائصهم؛ ولذلك قدم في هذا الكتاب نصوصا هجائية عن البشر على هيئة أبيات شعرية بلغ عددها سبعة آلاف بيت. العالم مجنون وسريع الزوال بالنظر إلى المنحوتات الخشبية العديدة التي صورت «السفينة»، والتي أسهمت في نجاح هذا الكتاب (حتى وإن كان من المؤكد اليوم أن هذه المنحوتات ليست من أعمال دورر)، نجد أن إحداها تعطينا المفتاح لما سيحدث في اليوم الأخير على النحو التالي: بينما يقوم القديس بطرس في المقدمة باجتذاب سفينة مملوءة بالمؤمنين المختارين نحو البر، يجلس المسيح الدجال، المستلهم من الوحش المذكور في سفر الرؤيا، على عرش مقام على سفينة محطمة ومقلوبة، صاريها في الماء، ويحيط بها مجانين يغرقون في حين يسعى آخرون جاهدين للوصول إليها. وقد حقق هذا العمل الأدبي لبرانت نجاحا ساحقا. ويعد هذا الكتاب، الذي جرت ترجمته واستكماله وتقليده، والذي استلهم منه الدعاة في مواعظهم، بمنزلة كتاب رئيس في الأدب الأوروبي في بداية العصر الحديث.
ويتكرر الموضوع نفسه لدى توماس مورنر عندما اقتبس الفكرة في كتابه «طرد الأرواح الشريرة من المجانين»، الذي تم تأليفه سنة 1512. ويؤكد توماس مورنر في هذا الكتاب، وبشكل أكثر وضوحا من برانت، على هوية الجنون والخطية. كما نجد الموضوع عينه في كتاب «انتصار الجنون»، الذي تم تأليفه في بداية القرن السادس عشر الميلادي. وعلى الرغم من أن الرسوم التوضيحية الواردة بهذا الكتاب تبدو أكثر فجاجة وأقل عددا من تلك الواردة في كتاب «السفينة»، فإنها لا تقل عنها بلاغة وتأثيرا. فنجد المجانين، بلباسهم التقليدي، يقودون العالم منذ بدايات الأزمنة: «مع حواء، أم كل البشر.» وفينوس ، بعد حواء، لم يكن لها دور قيادي قوي. وكانت تجلس على مركبة تقودها حيوانات شيطانية على هيئة تيوس، وكانت هذه الكائنات تقول: «عربة نقل الشهوة، لإرضاء الحمقى والسفهاء.» ومن جانبها، كانت فينوس تصدر الأوامر، فتقول عن نفسها: «دعيت إلهة السفهاء؛ لأنني أدعو إلى الفسق وشهوات الحب.»
Shafi da ba'a sani ba