Tarihin Hauka
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Nau'ikan
وتتعدد الأعمال الأدبية التي تشهد على مدى الاهتمام الذي حظي به هذا الموضوع. في القرن الثاني عشر نجد: «الجنونان»، و«تريستان»، و«إيبوميدون»، و«روبرت الشيطان»، و«أماداس وإيدوان»، و«إيفان أو فارس الأسد»، و«برسيفال». في القرن الثالث عشر نجد: «جنون لانسلوت»، وسلسلة «لانسلوت» النثرية، ورواية «تريستان»، و«معجزات نوتردام»، و«كليوماديس»، و«ملياسين»، و«لعبة المخبأ الشجري».
1
ويبدو أن هذا الأدب، الموجه إلى جمهور أرستقراطي حصري، أقرب إلى الواقعية منه إلى الصور الاستعارية عند تصوير الجنون، حتى إذا كان هؤلاء المجانين ينتمون إلى مستوى اجتماعي رفيع. فترسم لنا هذه الأعمال الأدبية لوحة دقيقة وحقيقية إلى حد بعيد تصور لنا حالة المجنون الهائج (أو بالأحرى المجنون «الغاضب»، والحانق على نفسه، مثل «هرقل الساخط») الهائم على وجهه شريدا، وحيدا. والأبطال المصابون بلوثة الجنون يتحدثون بلهجة عبثية، ويمزقون ملابسهم ويركضون «عراة، وهم يصرخون ويصيحون». وسلوكهم في الغالب يكون عنيفا كما جرى تصوير نوبات الجنون بطريقة «سريرية» للغاية: وهكذا نجد، في رواية «ملياسين»، سيلندا تقذف الحجارة، وتغطي نفسها بالطين، وتعض، وتخربش، وتسحب الناس من شعورهم، وتريد أن تقضم يد الطبيب ثم تريد قضم يديها. وفي مسرحية «لعبة المخبأ الشجري»، نرى مجنونا، وهو أحد «الدراويش»، ساخطا وهائجا، ينبح، ويقول إنه ضفدع ثم يقول في موضع آخر إنه ملك، ويدخل إلى إحدى الحانات صارخا: «إلى الخارج! النار! النار!» كما كان الأبطال يحلقون رءوسهم «حتى يظهروا بمظهر المتسكعين المستهترين والمخبولين» (إيبوميدون)، وهكذا، لم يعد الرأس الحليق علامة على التحضير لإجراء علاجي، وإنما كان بمنزلة وسم أو علامة على الذبول وفقدان الحيوية أو سمة مميزة، على شاكلة إكليل الرأس عند رجال الدين.
وتعد رواية «إيفان أو فارس الأسد»، التي كتبها كريتيان دي تروا في الفترة ما بين 1177 و1181، أكثر الروايات - ربما حتى أكثر من «تريستان» و«لانسلوت» و«برسيفال» التي اختبر أبطالها أيضا الجنون - تمثيلا لهذا الاتجاه الأدبي الذي شهد نجاحا ساحقا. كانت السيدات الجميلات والآنسات النبيلات (وبالطبع، بعض الشبان أيضا) قد تعبن من قعقعة السيوف وأصوات الحروب والأناشيد الملحمية. وهكذا، كان اللقاء بين العاطفة القاتلة والجنون مقدرا. فقد هجر إيفان لودين ليسعى وراء المجد. ولكنه لم يف بوعده بالرجوع في خلال عام، فمنعته زوجته من العودة إليها مرة أخرى. ومن ثم، أصيب إيفان بالجنون. و«لم يكن يكره شيئا بقدر كرهه لنفسه». وهرب إلى الغابة وعاش فيها «كرجل ممسوس هائج ومتوحش». كان يلتهم فرائسه نيئة. وقد تحدث كريتيان دي تروا في هذه الرواية عن «الحنق، والعواصف والأعاصير» (وليس بالإمكان استعراض كل هذا دون التفكير في مرض توهم الذئبية). ثم يختلط الخيال بما يشمله من سحر وأحداث خارقة للطبيعة بأحداث الرواية. فها هو إيفان ينقذ أسدا (ومن هنا جاء اسم الرواية) كان يصارع ثعبانا، ومنذ ذلك الحين، يصبح هذا الأسد ملازما له ويرافقه في جميع مغامراته. وهكذا لم يكن ينقصه شيء حتى ينشد الشفاء وقد ناله بالفعل؛ بفضل ناسك أشفق عليه وعامله بحنو حتى جعله في نهاية المطاف يقهر الخوف. ثم استعاد إيفان صحته عقب قضاء ليلة حضانة المرض. وبعد أن استعاد حب زوجته، تخلى نهائيا عن مغامراته.
خلاصة القول أن الحب الذي يصيب الإنسان بالجنون هو نفسه الذي يشفيه. وقد اختبر بطل الرواية الاثنين بسبب المرأة ذاتها، إنها تلك «السيدة» ذات المتطلبات والشروط التي تبدو قاسية في كثير من الأحيان ولكنها تهدف إلى «خدمة الحب». وذلك هو الدور الذي اضطلعت به لودين بالنسبة إلى إيفان، وإيدوان بالنسبة إلى أماداس، والملكة جونيفر بالنسبة إلى لانسلوت. وقد كان يحلو لمؤرخ الأدب العظيم جوستاف لانسون أن يكتب قائلا: إن تلك الحقبة تمثل بداية عهد المرأة، حتى وإن كانت هذه الفكرة المثالية لا تزال حلما بعيد المنال.
نعود من جديد إلى فرساننا الذين كانوا يركضون عراة في الغابات في حالة هياج، عندما تتملكهم نوبات الجنون. وقد تحدث العديد من المؤرخين بشكل متكرر عن الطبيعة الحيوانية والوحشية للمجنون. وبالإمكان الحديث أيضا عن العودة إلى البراءة بوصفها مرحلة أولية وعابرة في الطريق الطويل الذي يتعين على الإنسان أن يسلكه من أجل «خدمة الحب». يظل المجنون الهائم على وجهه عاريا؛ لأن أحدا لم يعطه ملابس، ويكون همجيا ومتوحشا؛ لأنه لا يجد مأوى، ويظل عنيفا؛ لأنه مضطر دوما إلى الدفاع عن نفسه وحمايتها من اضطهاد أصحاب العقول الرشيدة الذين يطاردونه بضراوة بمجرد أن يلمحوه. ترى، بالنظر إلى الرمز الذي يعود إلى القرون الوسطى والذي يصور لنا «مجنونا ممسكا بهراوة»، هل انقلبت الآية؟ وتزخر المؤلفات الأدبية في العصور الوسطى بهذه المطاردات القاسية. فنجد، على سبيل المثال، تريستان المجنون «كان الجميع يسخرون منه ويستهزئون به، ويقذفونه بالحجارة على رأسه». وكان يضرب ويقص شعره ويلطخ بالرماد من قبل الرعاة. وكان الناس يستقبلون المجنون عند دخوله المدينة أو القرية بصيحات الاستهزاء والسخرية وبالضرب المبرح. كان يتم إلقاء القمامة وإطلاق الكلاب عليه. وكان عامة الناس يتعاملون معه بمنتهى القسوة وكأنهم سعداء لعثورهم على شخص مسكين أكثر بؤسا وشقاء منهم. كما كانوا يظهرون نفورهم واشمئزازهم من أي شخص مختلف عنهم، وكان هذا هو السيناريو المتبع، على نحو مبتذل، لإثناء المجنون عن البقاء في هذه الأماكن ولإرغامه على الرحيل.
مجانين أجراء «أحيا» مجتمع العصور الوسطى الجنون ولكن على هيئة نمط المجنون الأجير أو المهرج (بيد أن هذه الكلمة لم تظهر إلا في القرن السادس عشر الميلادي). وقد ارتبط هؤلاء بالبلاط الملكي وأيضا بقصور الإقطاعيين ورجال الدين المسيحي، غير أنه في هذه الحالة الأخيرة، حرمت روما وجودهم من حيث المبدأ. وقد اعتاد الأمراء، في وقت مبكر للغاية، على أن يحيط بهم، إضافة إلى الحيوانات الأليفة، بعض الكائنات الكريهة مثل: الأقزام، أو الحدب، أو المجانين، وأحيانا كل هؤلاء في الوقت نفسه، وكانت وظيفتهم تقتضي إبهاج وتسلية رب البيت وضيوفه الجالسين إلى موائد طويلة في الشتاء.
ولكن، هل كان هؤلاء المهرجون مجانين حقا أم أنهم كانوا يكتفون بتصنع الجنون؟ بالطبع، كانوا مزيجا من الاثنين معا. وعلى أي حال ، فالنعوت التي وصفوا بها تنطبق على الفئتين، وهي: أحمق ، معتوه، مخبول (و «مجنون»
fol
في اللغة الفرنسية القديمة). إن المجنون الحقيقي الفاقد لرشده لا يمكن أن يضحك الناس لوقت طويل؛ ولذا كان لا بد لهؤلاء الأجراء أن يضيفوا قليلا من السخافة والحماقة حتى يصبح الدور مسبوكا. فما يهم هو إضحاك الناس. في القرون الأولى من العصور الوسطى، كان المهرج متعدد المهارات، فكان يقوم بالألعاب البهلوانية، وبالتمثيل الإيمائي، وبتقديم عروض بصحبة حيوانات مدربة. ابتداء من القرن الثالث عشر الميلادي، ظهر التخصص الذي ميز المهرجين عن لاعبي الخفة الذين كانوا يتنقلون من قصر إلى قصر لتقديم عروضهم، بينما يظل المجنون مقيما في بلاط معين. ذلك المهرج، أو البهلوان، المعروف عنه سرعة البديهة، والمشهور بقدرته على إلقاء نكات ودعابات والإتيان بأفعال مشينة أو التفوه بكلمات بذيئة، والثرثرة في الكلام عن أي شيء، لم يكن يثير بحق ضحك الملك أو السيد الإقطاعي إلا عند قيامه بالتهكم، وأحيانا بشكل قاس، على المدعوين. وتبلغ البهجة ذروتها حين يضيف إلى هذه الأفعال مواهبه في تقليد الآخرين. وكل الكلام الذي لا يجرؤ السيد الإقطاعي على قوله لأحد تابعيه وجها لوجه، كان يقوله لهم بنبرة دعابة. وبهذا الشكل لا يمكن لأحد أن يعيب على هذا الكلام، ألم يصدر عن مجنون؟ وفي وقت لاحق، بدءا من عصر النهضة، كان بعض المهرجين، المختفين وراء عرش الحاكم، يوقعون الرعب في نفوس الحاشية. وبالطبع، لم يكن المهرج - مما يدل على أنه ليس مجنونا تماما - يتحدث إلى الملك عن عيوبه بمثل هذه الصراحة المطلقة، حتى وإن كان يخاطبه بطريقة حميمة وغير رسمية، بل وفجة في بعض الأحيان. لكن ألم يكن كافيا بالنسبة إلى المجنون، مثل ذلك المخبول التابع للملك لير، أن يكون هو الوحيد القادر على التعامل مع الملك بمثل هذه الحميمية؟
Shafi da ba'a sani ba