Tarihin Hauka
تاريخ الجنون: من العصور القديمة وحتى يومنا هذا
Nau'ikan
ويبلغ التشاؤم ذروته حين يكون جنون الإنسان أمرا مثيرا للحزن أكثر من موته: «ابك على الميت لأنه فقد النور وابك على الأحمق لأنه فقد العقل. قلل من البكاء على الميت فإنه في راحة أما الأحمق فحياته أشقى من موته» (سفر يشوع بن سيراخ، 22، 10-12).
ونتيجة لذلك، كان من الصعب معرفة مصير المجانين «الحقيقيين»؛ فقد كان ينتظرهم بالطبع مصير لا يحسدون عليه، في إطار مناخ ديني متعصب إلى أبعد حد عن الحضارات المؤمنة بعدة آلهة، وفي سياق بيئة دينية ترفض، بل وتحرم اللجوء إلى السحر. وهكذا، كان للعديد من هؤلاء المجانين - المنبوذين من مجتمعهم والمختبئين في الغابات حيث يعيشون حياة بدائية وهمجية - دور في مولد أسطورة الاستذآب (وهي كلمة مشتقة من الأصل اللغوي «الرجل الذئب»، الذي عرف فيما بعد بالمذءوب). ويعد نبوخذ نصر، ملك بابل، خير مثال على ما نقول؛ فلتوقيع العقاب على هذا الملك، الذي قام بغزو مملكة يهوذا ودمر معبد أورشليم (في مطلع القرن السادس قبل الميلاد)، على غروره، ضربه يهوه بالجنون؛ حيث اعتقد نبوخذ نصر أنه تحول ليس إلى ذئب ولكن إلى ثور، على غرار صور الثيران الكثيرة التي تزين جدران قصره. وقد انطلق ليعيش على نحو بدائي في حدائقه الشاسعة، معرضا نفسه لسوء الأحوال الجوية، ولم يعد يأكل إلا الحشائش وأطال شعره وأظفاره. ولكن ملك بابل لم يتعرض للعقاب إلا لفترة مؤقتة («سبعة أزمنة»، كما ذكر الكتاب المقدس دون إعطاء مزيد من التوضيح). ثم صار بإمكانه أخيرا «استعادة رشده» والتضرع في تذلل إلى الله الذي قبل طلبته ومن عليه بالشفاء.
ولكن من يمكن أن يكون مجنونا دون أن يكون خاطئا؟ «إنه ذلك الذي يخرج بمفرده في الليل، ويبيت في المقابر، ويقذف الحجارة، ويمزق ملابسه، ويفقد ما يعطى له» (تكملة التلمود). وإلى جانب هذا التعريف «الإكلينيكي» المبهم، أكد التلمودي ريش لاكيش، في القرن الثالث بعد الميلاد، أن الإنسان لا يخالف أحكام الدين إلا إذا دخلت إليه روح الجنون.
وقد ذكر الكتاب المقدس بعض حالات الجنون، بمفهوم المرض العقلي، أشهر هذه الحالات هو شاول، أول ملوك شعب بني إسرائيل، وقد حدث ذلك قبل الميلاد بألف عام (حسبما ذكر في سفر صموئيل الأول ، من الإصحاح التاسع إلى الإصحاح الحادي والثلاثين). بعد أن شاخ شاول وأصبح معتل المزاج، لم يكن هناك إلا قيثارة داود، الذي كان لا يزال راعيا للغنم، هي التي بإمكانها تهدئته. «فكان يرتاح شاول ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء» (سفر صموئيل الأول، 16، 23). ومع ذلك، ها هو الحديث عن الأرواح الشريرة، حتى وإن كان سفر الملوك يقدم لنا الخلاصة في قوله: «وذهب روح الرب من عند شاول، وبغته روح رديء من قبل الرب.»
لقد صور كل من رمبرانت ولوكاس دي ليدن في لوحاتهم، شاول مكتئبا ومصابا بالعين. كما كان الملك الشيخ مصابا أيضا بجنون العظمة، أو البارانويا، وبالغيرة من نجاح داود زوج ابنته التي كان شاول نفسه قد زوجه إياها بإرادته؛ هربا من انتقام شاول الذي يعد نموذجا لثنائية المضطهد-المضطهد، وكان يتعين على داود الالتجاء إلى بلاط ملك مدينة جت. وهناك، خوفا على حياته، تصنع هو نفسه الجنون حتى يبدو بمظهر المسالم، غير العدائي: «كان يضع علامات على مصراعي الباب ويترك لعابه يسيل على ذقنه.» لدى رؤيته، صرخ الملك قائلا: «أنتم ترون جيدا أن هذا الرجل مجنون، فلماذا إذن أحضرتموه إلي؟ أينقصني مجانين حتى أكون بحاجة لرؤية ذاك يفعل حماقاته؟» وهكذا، انتحر شاول بعدما عاش وحيدا، ومهزوما من قبل الفلسطينيين في جبل جلبوع؛ مما يثبت أن روح الرب كان قد فارقه. وخلفه داود وبلغت مملكة إسرائيل في عهده أوج قوتها.
يعتبر العهد الجديد أقل تناولا لموضوع الجنون كما أنه أقل تشاؤما بهذا الصدد من العهد القديم؛ فلم يعد يصور الجنون على أنه سلاح في يد إله يميل إلى الانتقام والقصاص، بل نجد هناك إحياء للتقليد القديم المتعلق بالأرواح والشياطين، والذي يعد مترسخا في إيمان الحضارات المتعددة الآلهة. فها هو يسوع يشفي الصريع: «فانتهره يسوع، فخرج منه الشيطان. فشفي الغلام من تلك الساعة» (متى، 17، 18). أيضا، في كورة الجدريين، أتى إلى يسوع رجل كان منذ زمان طويل لا يلبس ثوبا، ولا يقيم في بيت، بل يعيش في القبور (في المغارات التي كانت منتشرة في هذه المنطقة). وكان يربط بسلاسل لمنعه من التحرك ولكنه كان دائما يكسر قيوده. وعندما سأله يسوع عن اسمه، أجاب الرجل قائلا: «لجئون»؛ لأن شياطين كثيرة دخلت فيه. ولأن الشياطين خافت أن يأمرها يسوع بالذهاب إلى الهاوية؛ طلبت إليه أن يأذن لها بالدخول في قطيع من الخنازير كان يمر في ذلك الوقت. وما إن دخلت الشياطين في الخنازير حتى اندفع القطيع إلى البحيرة وغرق. أما عن الإنسان الذي خرجت منه الشياطين، فقد كان «جالسا عند قدمي يسوع، لابسا وعاقلا» (لوقا، 8، 26-39).
وفيما يتعلق بالجنون المجازي، فله مكانة محدودة، ولكن مميزة، في العهد الجديد. بداية أليس هو جنون يسوع نفسه؟ فالشعب اليهودي الذي جاء المسيح ليعظه، ألم يقرن الكرازة بالجنون، بل واعتبرها جنونا يعاقب عليه الدين التقليدي؟ وهكذا نجد الآية مقلوبة، فالمسيح مخلص البشرية، يعد عمله الخلاصي على الصليب جنونا بينما هو الحكمة في أجلى صورها، على العكس من ذلك، تعد حكمة العالم، وفطنته الكاذبة، هي الجنون بعينه: «إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلا لكي يصير حكيما! لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله.» وفي موضع آخر: «فإن كلمة الصليب عند الهالكين [بمعنى الخطأة] جهالة [بمعنى جنون]، وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله» (القديس بولس الرسول، في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس).
ها نحن الآن في القرن الأول الميلادي وقد بلغنا بالفعل مرحلة متقدمة على طريق التصوف المسيحي. فلنعد إلى جنون العبرانيين كما كان يبدو لنا قبل عدة قرون من ميلاد المسيح وذلك حتى نوضح إلى أي مدى كان مثل ذلك التصور الباعث على التشاؤم بخصوص الجنون يحبط سلفا أي محاولة للتفكير النظري بشأنه. إننا أكثر قربا من الناحية الجغرافية، ولكن على طرفي نقيض من الناحية الفكرية، من وضع البحث الفلسفي والطبي الذي كرس مفكرو اليونان الكلاسيكية، ومن بعدهم مفكرو روما القديمة، أنفسهم له، ابتداء من ظهور المفهوم الأساسي لمرض الروح أو النفس.
الفصل الثاني
مرض الروح
Shafi da ba'a sani ba