وقنابر تحكي القضاء المنزلا
تنسيك بدرا والنضير وخبيرا
وحروب عكة والبسوس وكربلا
من مبلغ الأتراك أن جنودهم
هزموا وأن حسينهم ولي إلى
ولم يقف في وجه إبراهيم باشا غير الدروز، فأنهم اجتمعوا في «وادي التيم» وناجزوا جيشه القتال في وقائع متعددة أشهرها واقعة «وادي بكا» حيث أحاط إبراهيم باشا ومعه أثنا عشر ألف مقاتل نظامي بخمس مئة من الدروز فقاتلوه طول النهار وأبوا أن يستسلموا إليه إلى أن ماتو جميعا. وما نجا منهم غير 25 شخصا. اخترطوا سيوفهم وشقوا الجند النظامي على كثافته، وخلصوا بين الجند كله. وقد عرفت منهم واحدا عمر طويلا اسمه أمين المصفى من قصبة بمقلين، وأما دروز حوران فالتجأوا إلى اللجاه واتفقوا مع عرب السلوط، وساق عليهم إبراهيم باشا جيشا فكسروه مرارا وقتلوا منه مقتلة عظيمة، وبقى الدروز عصاة على إبراهيم إلى أن أنصرف من سورية ولكن الأمير بشير الشهابي الوالي على جبل لبنان لأن إلى إبراهيم باشا لأنه كان ذهب إلى مصر وتعاهد مع محمد علي، فلما زحف إبراهيم إلى الشام مهد له كثيرا من المقبات ولم تمنع إبراهيم باشا ثورة الدروز من أن يزحف إلى الأناضول ويهزم جيش الدولة عند قونية، وأن يتقدم من هناك إلى بورسة، فوقع الهلع في الأستانة، وقد كان خوف الروس من محمد على أعظم من خوف الترك. وذلك أن الروس فكروا في أن محمد علي قد يستولى على القسطنطينية وينظم تركيا كما نظم شئون مصر، ويؤسس دولة جديدة شابة غير الدولة العثمانية التي كان حل بها الهرم، فعرضت الروسيا على السلطان محمود محالفة عسكرية في وجه محمد علي، وأنزلت خمسة عشر ألف جندي بقرب الأستانة، وكانت على نية زيادة هذا الجيش حينما نبه السلطان سفيرا إنجلترا وفرنسا إلى خطر وجود العساكر الروسية في الأستانة، وقالا له: إن الأولى به أن يقبل شروط محمد علي، وهي إضافة سورية كلها وولاية «آطنة» إلى مصر تحت سيادة السلطان من أن يستعين بالروسيا صاحبة الطمع السرمد في القسطنطينية، وهكذا افتتح السلطان بإعطاء سورية وكيليكية إلى محمد علي، ولكن السلطان لم يكن ليرضى من قلبه مصالحه محمد علي على هذا الشرط وبقى يجهز العساكر ليقاتل إبراهيم باشا ويرده إلى الوراء فزحفت العساكر العثمانية تحت قيادة حافظ باشا، وتلاقى الجمعان في «نزب» وكان مع إبراهيم باشا جيش كبير من العرب، فانكسر حافظ باشا كسرة شنيعة وغنم إبراهيم أكثر مدافعه، ومات السلطات محمود من الغم عند سماع خبر هذه الهزيمة وذلك سنة 1839.
السلطان عبد المجيد
وتولى السلطنة ولده الكبير السلطان عبد المجيد، وكانت الدولة أصبحت بدون جيش تقريبا، وكان أمير البحر أحمد باشا اختلف مع المصدر الأعظم فذهب وسلم الأسطول العثماني إلى محمد علي في ميناء الإسكندرية. فصارت الدولة مضطرة إلى الصلح مع محمد علي إلا أن الروسيا وإنجلترا والنمسا وبروسيا عقدت مع السلطان عبد المجيد معاهدة سنة 1840 بموجبها لا يبقى لمحمد علي سوى مصر التي تعود إمارة له ولذريته وفلسطين التي يتولاها بصورة مؤقتة، وعليه أن يخلي سورية وبلاد العرب وجزيرة كريت، وبقيت فرنسا خارجة عن هذا الاتفاق، لكنها لم تصل في مساعدة محمد علي إلى العمل، وذلك بما رأته من تألب أوروبا عليه. فصار محمد علي يقاوم بدون سند من جهة الدول، وكانت قوة إبراهيم باشا أكثرها في عكة، فجاء الأسطول الإنجليزي وضرب عكة بالقنابر، وطير مستودع البارود والذخيرة فاستسلمت عكة وسحب إبراهيم جيشه إلى مصر، وكانت الدولة تريد الخلاص من محمد علي تماما إلا أن الإنجليز كانوا عقدوا معه معاهدة لإبقاء مصر في يده، فأجبروا الدولة على مراعاة هذه المعاهدة.
وأما الأمير بشير الشهابي حليف محمد علي فلما التزم إبراهيم باشا إخلاء سورية لم يتبعه إلى مصر، بل بقى يرجو أن يصلح أموره مع الدولة، وكان الأمر والنهي وقتئذ في يد الإنجليز، فلما نزل إلى صيدا وقابل أمير البحر الإنجليزي سمع منه ما يدل على أن إنجلترا لا تريد إبقاءه أميرا على لبنان، ثم أتوا به إلى بيروت وأبلغوه أن الدولة العثمانية قررت عزله فليختر بلادا يقيم بها، فاختار فرنسا. فقال له الإنجليز لك أن تسكن في أي بلد شئت ما عدا فرنسا، ومصر، فاختار مالطة، ثم وجد مالطة في عزلة عن الدنيا كلها فسعى في التحويل إلى استامبول، وجاء إليها وبقى فيها إلى أن مات. وكان قد تعين الأمير بشير قاسم الشهابي واليا على جبل لبنان وكان الفرق بينه وبين ابن عمه في الحزم والعزم وحسن التدبير كما بين الأرض والسماء، فما مضى على ولايته إلا أشهر قلائل حتى سخط عليه مشايخ الدروز أصحاب الإقطاعات، لأنه كان بذئ اللسان، فكانت بذاءته تجرح في قلوبهم، على حين لا يوجد في الدنيا بلد كجبل لبنان يهتم أهله قبل كل شيء بالآداب وحفظ اللسان فقر والدروز الاجتماع لخلع الأمير بشير قاسم، فانتصر له النصاري لأنه منهم، فوقعت الوقائع بين الفريقين في «دير القمر» سنة 1841 وتسمى هذه الوقائع في لبنان بالحركة الأولى. فعزلت الدولة الأمير بشير قاسم، وأرسلت عمر باشا النمساوي إلى جبل لبنان فأخذت فرنسا تسعى في إعادة الحكم إلى آل شهاب بناء على كون الطائفة المارونية ترغب في ذلك، إلا أن الدروز وسائر الطوائف غير المارونية عارضوا رجوع الحكم إلى الشهابين، فبعد أخذ ورد بين الدول تقررت قسمة الجبل إلى قسمين يفصل بينهما طريق دمشق، وجعلت الدولة الأمير أحمد عباس الأرسلاني واليا على القسم الجنوبي والأمير حيدر إسماعيل أب ياللمع واليا على القسم الشمالي، وألحقت بلاد جبيل باشوية طرابلس. فأغضب هذا التدبير الطوائف الكاثوليكية وحاميتهم فرنسا. ولكن الدول الأخرى حبا بالتوازن وبمقاومة نفوذ فرنسا التي تريد السياة في جبل لبنان عضدت الدولة العثمانية في الترتيب الجديد. وهن انجلترة، وبروسيا. وأمريكا والروسيا. وتألف في كل من القائمقاميتين ديوان مختلط تتمثل فيه كل الطوائف وما مضت سنوات قلائل على هذا النظام حتى تشاجر الدروز والنصارى مرة أخرى، وحصلت وقائع بين الفريقين، فسكنت الدولة هذه الفتنة.
وجاء شكيب أفندي ناظر الخارجية من الأستانة فرتب الأمور، وعزل الأمير أحمد أرسلان بسبب حصول الفتنة في أيامه، وجعل مكانه أخاه الأمير أمينا فتبقى إلى سنة 1859 فخامة والده الأمير محمد الأرسلاني، وفي مدة هذا ثارت العامة في فضاء كسروان وكلهم هناك من الموازنة، وكانت ثورتهم على مشايخهم آل الخازن فطردوهم واستولوا علي أملاكهم، وقتلوا منهم فذهبوا إلى بيروت يشتكون إلى الوالي التركي، فرأى الوالي أنه لابد من حرب لقمع ثورة الأهالي، فرأى الأولى أخذ المسألة بالسياسة فطال الأمر ببني الخازن، فالتجأوا إلى مشايخ الدروز لأنهم أصحاب إقطاعات مثلهم، وبين الفريقين تكافل إقطاعي طبيعي. فقرر مشايخ الدروز الزحف على كسروان وإعادة بني الخازن إلى بيوتهم، فقامت من أجل ذلك قيامة المارونيين الذين في بيروت وفي بلاد الشوف وجزين، وقالوا. إنهم لا يرضون بذهاب الدروز إلى كسروان يقاتلون إخوانهم، فوقع التنافر بين الفريقين، وبدأ المارونيون بالحركة. ثم انفجر الدم في حوادث جزئية في البداية، واجتمع المسيحيون في زحلة وزحف منهم عدة آلاف قاصدين قضاء الشوف على تفاهم مع نصارى الشوف بأن يثوروا من جهتهم فيضعوا الدروز بين نارين، واعتمدوا على كثرة عددهم لأن الدروز لا يزيدون على السدس بالنسبة إلى النصارى، ولكن الدروز المشهورين بالشجاعة وبحسن الانقياد إلى رؤسائهم في الحروب قابلوا ذلك الجيش الذي زحف إليهم، وذلك في «ظهر البيدر» شرقي عين صوفر، وجرت معركة تقهقر فيها النصارى إلى «قب الياس» ثم حصلت وقائع أخرى كان الفوز في جميعها للدروز، ثم جمع خطار بك العماد جمعا كبيرا من الدروز وقصد مدينة زحلة حيث تجمع فيها النصارى من كل جهة فوقعت واقعة شديدة انتهت أيضا بأن النصارى تركوا زحلة واستولى عليها الدروز وأحرقوها . وكانت قصبة دير القمر المسيحية الواقعة في وسط بلاد الدروز تدافع بشدة الدروز الذين يهاجمونها، فلما سقطت زحلة خارت عزائم أهالي دير القمر فاستولى عليها الدروز، وأعمل الجهلاء منهم السيف في أهلها، وقتلوا مقتلة عظيمة. ولكن عند ما بلغ الخبر آل أرسلان، وآل جنبلاط، وآل نكد، أرسلوا رجالهم إلى دير القمر وأنقذوا ألوفا من بقايا السيف من المسيحيين وآووهم، وقاموا بإعاشتهم إلى أن جاءت وزراء الدولة والدول وبدأوا بالتحقيق عن الحوادث، وكذلك حصلت حادثة كهذه في حاصبيا وأخرى في راشيا وكان الدروز مع كونهم أقل عددا يتغلبون على النصارى، وكانت تقع من الجهلاء بعد الفوز حوادث مؤسفة لأمراء فيها إلا أنه في جميع هذه الوقائع لم يكن الدروز هم البادئين بالشر، وكيف يبدأون وزعمائهم هم أصحاب الإقطاعات الوافرة وتحت حكمهم عشرات ألوف من النصارى وفي أيديهم أكثر الأملاك. فكان لا يخفي عنهم وهم عقلاء محنكون أن الفتنة تكون سبب انقراض نعمتهم، وتؤل إلى جعل الحكومة على نسبة عدد الطوائف فيفقدون أكثر امتيازاتهم، بخلاف النصارى الذين كانوا يرون أنهم لا يحصلون على المساواة، ولا يتخلص ذلك العدد الكبير منهم عن حكم الدروز إلا بثورة تجبر الدولة على إنصافهم، فقضية أن الدروز كانوا مستوليين على أكثر كثيرا مما يحق لهم بحسب العدد هذه قضية لا نزاع فيها.
Shafi da ba'a sani ba