وليتصور بعد ذلك بلادا خلفية تمتد مئات الأميال إلى داخلية أفريقيا المشهورة بخصبها ووفرة خيراتها، وما تنتجه من مقادير الذرة والخمر والثمار اللذيذة المتعددة الأنواع، ولينظر بعد هذا إلى جزائر سيسيليا وكورسيكا وسردينيا والبلياريك، ويدرك بالتصور أنها كانت جميعا بلدانا كبيرة الثروة كثيرة الخصب، وكلها تابع للسيادة القرطجنية.
وانظر أيضا إلى الشاطئ الإسباني - انظر بعين التصور - مدينة قرطجنة هناك بحصونها وجيوشها، ومعادنها الذهبية والفضية التي يشتغل فيها عشرات الألوف من الأرقاء، وتصور أساطيل السفن تمخر على الدوام، من بلاد إلى أخرى على شواطئ بحر الروم ذهابا وإيابا إلى صور فقبرص فمصر فجزيرة سيسيليا فإسبانيا، تحمل الذرة والكتان والصباغ الأرجواني والبهارات والعطورات والأحجار الكريمة والحبال والشرع للمراكب، والذهب والفضة في أشكال مختلفة ، وبعد هذا ترجع بالدور إلى قرطجنة؛ لتفرغ في الخزائن ما احتملته من أنواع الثروة، فتزيد الموجود منه عند القرطجنيين أضعافا. ليتصور القارئ كل هذا والخارطة مفتوحة أمامه؛ لكي يرى جليا العلائق الجغرافية التي تربط تلك الأماكن بعضها ببعض، فترتسم في ذهنه من ذلك صورة إجمالية صحيحة تمثل له القوة القرطجنية، حينما بدأت في حروبها الهائلة مع رومية.
أما رومية فتختلف في موقعها وحالتها عن ذلك، فقد ابتنى رومية أناس من تروادة هاموا على وجوههم في هاتيك الأنحاء، فنمت زمانا طويلا بهدوء وبطء متمشية على مبدأ الحياة والنشاط الداخليين، وكانت الأقاليم المختلفة في شبه الجزيرة الإيطالية تنضم إلى رومية واحدها بعد الآخر، فتألف من عشائرهم شعب كان على الغالب فطريا زراعيا، فحرثوا الحقول واقتنصوا الوحوش الضارية وربوا المواشي على تنوعها، وقد بدا منهم ما دل على أنهم جنس - خليط من الأجناس البشرية - حائز على نظام بديع متفوق، سعى بالتدريج لإيجاد صفات الثبات والنشاط والقوة فيه جسديا وعقليا؛ الأمر الذي استوجب إعجاب الجنس البشري كله به.
خص القرطجنيون بالذكاء - والرومانيون سموه دهاء - وبالنشاط والإقدام على الأعمال الكبرى وبالثروة الطائلة، وكان مزاحموهم من الجهة الأخرى موصوفين بالنبوغ والشجاعة والقوة، يصحبها جميعا تصميم أكيد هادئ راسخ ونشاط غريب أصبح بعد ذلك، في كل جيل وفي أذهان الشعوب، ملازما لكلمة «الرومانيين» عينها، وكان رقي الأمم بطيئا في الأزمنة القديمة أكثر منه الآن، وبقيت هاتان الدولتان المتزاحمتان مثابرتين على النمو المتتابع والتوسع في الملك، كل منهما على جانبها الخاص من ذلك البحر العظيم الذي فصلهما عن بعضهما مدة خمسمائة عام قبل أن تدانتا من الاصطدام. أخيرا حدث التطاحن المنتظر وكان ابتداؤه كما يأتي:
يرى الناظر إلى الخارطة أن جزيرة سيسيليا منفصلة عن جسم البر ببوغاز ضيق يسمى بوغاز مسينا، واسم هذا البوغاز متخذ من بلدة مسينا على الجانب السيسيلي، وقبالة مسينا على الجانب الإيطالي قامت في ذلك الزمن بلدة اسمها راجيوم، وحدث أن جماعات من الجيوش غير المنظمة استولت على كلتا البلدتين، فأتى الرومانيون وأنقذوا بلدة راجيوم ، وأنزلوا بالجنود التي احتلوها عقابا أليما، وأقبلت حكومة سيسيليا لإنقاذ بلدة مسينا، فلما رأت الجنود التي كانت فيها أنها مهددة على تلك الصورة أرسلت إلى الرومانيين، تقول لهم إنهم إذا أتوا لنجدتهم وحمايتهم يسلمونهم مسينا.
فالجواب على هذا السؤال استلزم رفع القضية إلى مجلس الشيوخ الروماني، وسبب لذلك المجلس إشكالا وارتباكا عظيمين؛ إذ بدا لأعضائه أن التحيز لخوارج مسينا ليس من الأمور الملائمة، في حين أنهم هم الرومانيون قد عاقبوا خوارج راجيوم بصرامة، ومع ذلك فإن الرومانيين كانوا مدة الأعوام الطوال ينظرون بعين الغيرة والحسد إلى تعاظم صولة قرطجنة وامتدادها، ورأوا أن الفرصة قد سنحت لهم لملاقاتها ومقاومتها، وكانت حكومة سيسيليا إذ ذاك تراسل قرطجنة طالبة منها النجدة لاسترجاع المدينة.
وكان في تلبية قرطجنة ما طلبته حكومة سيسيليا منها ما يؤدي إلى إقامة جيش قرطجني قبالة الشاطئ الإيطالي؛ وعلى مرأى منه وفي نقطة يسهل عندها على ذلك الجيش أمر القيام بحركات عدائية والاعتداء على البلاد الرومانية، وبالجملة فإن المسألة كانت مما يسمى في لغة السياسة ضرورة سياسة. وبعبارة أخرى: إنها مسألة متعلقة بمصالح أحد الجانبين التي وجد فيها حقها قويا إلى حد يحمل على تضحية كل اعتبارات العدالة واللياقة والشرف في سبيل الاحتفاظ بها، ومن المعلوم أن قضايا عديدة من نوع الضرورة السياسية، كثيرا ما تحدث في إدارة شئون الشعوب في كل أدوار العالم.
فالنزاع من أجل مسينا كان في آخر الأمر معتبرا في نظر الرومانيين مجرد علة أو عذر، أو بالحرى فرصة سانحة للابتداء بالكفاح الذي كانوا منذ زمن طويل راغبين في الإقدام عليه، وقد برهنوا على عظمتهم ونشاطهم الموصوفين بالخطة التي اتخذوها في بدء العراك، فهم كانوا يعرفون جيدا أن قوة قرطجنة قائمة بالأكثر على سيادتها البحرية، وأنه لا رجاء لهم في خوض غمرات الحرب معها على شيء من الأمل بالنجاح، إلا إذا حاربوها وقهروها في ذلك الميدان.
ولم يكن عندهم في ذلك الحين سفينة واحدة أو بحار واحد، في حين أن بحر الروم كان غاصا بسفن القرطجنيين وبحارتهم، على أن ذلك لم يثبط من عزائمهم ولا خاموا لما علموه من الميزة العظمى التي لعدوهم عليهم، فشرع الرومانيون في الحال يبنون قوة بحرية عظيمة تجعل كفتهم البحرية مساوية لكفة قرطجنة.
واستغرق الاستعداد وقتا غير يسير؛ لأنه لم يتعين على الرومانيين أن يبتنوا السفن فقط، بل كان عليهم أن يتعلموا كيف يبنونها، فتلقنوا أمثولتهم الأولى من سفينة قرطجنية كانت قد دفعتها العواصف إلى الشاطئ الإيطالي، فاستولوا عليها وجاءوا بالنجارين لكي يدرسوها وبقطاعي الأشجار ليوجدوا منها خشبا للشروع في بناء مثلها على سبيل التقليد، فدرس النجارون تلك السفينة بتدقيق وقاسوا كل قسم منها، ولاحظوا كيفية بناء الأقسام المختلفة وطريقة ربطها معا جسما واحدا.
Shafi da ba'a sani ba