ولكن سيبيو أعلن بعد أيام قلائل أنه غير فكره عن أخذ السفن معه، وقال بوجوب تحطيمها هناك، وقد يكون تصميمه على هذا ناتجا عن حسبانه إياها عديمة الفائدة للرومانيين بالنظر إلى صعوبة تجهيزها بالرجال، ومن المعلوم أن السفن بدون رجال لا فائدة منها، وتوجد دول كثيرة في هذا العصر قادرة على ابتناء أساطيل كبيرة، لولا ما يحول دون قيامها بذلك من قلة الرجال الذين يتجردون لهذه الخدمة.
فلعل هذا هو أحد الأسباب الذي حمل سيبيو على عدم أخذ السفن القرطجنية إلى بلاده، وربما أراد أيضا بذلك أن يظهر لقرطجنة وللعالم بأسره أن تصميمه على أن أخذ سفن العدو لم يكن الغرض منه تقوية دولته بما سلبه من قوى العدو المغلوب؛ بل إنه أراد به حرمان المحاربين الطامحين إلى نيل القوة والمجد والوسيلة التي تساعدهم على تعكير مياه السلام، وإقلاق راحة الجنس البشري ببعثات فتوحاتهم وعوامل صولتهم من حين إلى آخر.
وكيفما كان الحال فإن سيبيو صمم النية على تحطيم السفن وعدم تسييرها معه إلى بلاده، ففي ذات يوم ضربه موعدا لذلك أصدر أمره بجمع السفن في البوغاز قبالة قرطجنة وأحرقها هناك، وكان عددها خمسمائة سفينة وعلى هذا ألفت أسطولا ضخما وغطت من البحر مسافة غير يسيرة، وفي اليوم المعين احتشدت جماهير الناس على الشاطئ؛ ليشاهدوا ذاك اللهيب الهائل.
وكان التأثير المحزن الذي سببه ذلك المشهد المؤلم قد تفاقم كثيرا بما كان يغلي في صدور أهل قرطجنة من مراجل البغضاء والحقد على أعدائهم، حتى إن الرومانيين أنفسهم الذين شاهدوا ذلك المنظر المهيب من معسكراتهم على الشاطئ شعروا بتأثير حرك فيهم العواطف، ولكن على صورة تختلف كثيرا عما كان القرطجنيون يشعرون به؛ فإن وجوههم كانت مشرقة بالجذل والابتهاج الناجمين عن فوزهم على أعدائهم، عندما أبصروا ألسنة اللهيب المخيف مندلعة من هاتيك السفن العديدة وأعمدة الدخان تستر صفحات الجو، وتغطي مياه البحر مذيعة للعالم تدمير قرطجنة وتذليل كبريائها بحيث لا تقوم لها بعده قائمة، وبعد أن أنجز سيبيو عمله هذا كما أراد أقلع قاصدا رومية، وكانت إيطاليا بأسرها قد امتلأت بأخبار مآتيه وأنباء انتصاراته وتمكنه من سحق قوة هنيبال؛ لأن رومية لم تعد بعد الآن تخشى صولة ذلك القائد العظيم وترتعد لذكر حروبه، ذلك لأنه قد ترك في وطنه مغلول الأيدي معدوم القوة ذليلا بحيث إن الخوف من وجوده مرة أخرى في إيطاليا يهددها بفتوحاته قد انتفى إلى الأبد، وعلى هذا كان الشعب الروماني الذي ذاق البلاء المر من هنيبال وصولته والذي عادت إليه الآن ذكرى الدواهي الكبار التي رماه بها القائد القرطجني أيام وجوده في إيطاليا يهلل لسيبيو ويلقبه بمنقذ البلاد العظيم، وهكذا كان الرومانيون ينتظرون وصول سيبيو بفارغ الصبر؛ لكي يرحبوا به ويحتفلوا بمقدمه، فلما دنا الوقت واقترب من رومية خرجت جماهير غفيرة للقائه، ونظم رجال الحكومة مواكب مهيبة للترحيب به، وجلبوا معهم تيجان وأكاليل من غار وأزهار مختلفة، وقابلوه بالتهليل وهتاف الفرح والانتصار الباهر، ومنحوه لقب أفريقانوس كذكرى شرف لانتصاراته - وكان هذا شرف جديد - بإعطاء الفاتح اسم البلاد التي دوخها، وقد ابتدع ذلك اللقب خصيصا ليكون جزاء لسيبيو المخلص الكبير الذي أنقذ المملكة من أعظم الأخطار وأروعها، وأراحها من أكبر الأعداء الذي كانت ترتعد فرقا لذكر اسمه. أما هنيبال فمع أنه سقط فهو لم يعدم نصيبا ولو يسيرا مما كان له من القوة والمهابة في قرطجنة، فإن أمجاد مآتيه الحربية ما برحت تزين سجاياه بهالة من الشرف جعلته موضوع الإجلال والاحترام وأبقت له عددا كبيرا من الأصدقاء والمريدين ، وأعطي وظيفة سامية في البلاد فبذل جهده في تنظيم الشئون الداخلية وتحسين الإدارة من كل وجه، على أنه لم يبلغ من ذلك المراد الذي رامه.
ويقول المؤرخون إن المقاصد التي رام إتمامها حسنة، والطرق التي اتخذها لبلوغ الغاية منها حكيمة في ذاتها، إلا أنه لما كان لا يزال متعودا الأمر المطلق والسيطرة التي لا تعرف قيدا ولا حدا، شأن القائد العسكري وجد من الصعب عليه كثيرا استعمال الرفق والتؤدة والتساهل واحترام السوى، الأمور التي لا يستغنى عنها في التأثير على الناس واكتساب مناصرتهم في إدارة القضايا المدنية.
فهنيبال الذي جرى على طبيعته العسكرية المتصلبة لم يجار القوم كما تقضي بذلك الضرورة؛ ولهذا أوجد لنفسه عددا كبيرا من الأعداء الذين بذلوا ما وسعهم بالمكائد والدسائس وبالمقاومة الظاهرة أيضا لإسقاطه وإذلاله، فخفضوا من كبريائه وحقروه، فآلمه ذلك كثيرا وكان هذا دأبهم معه في كل حادثة توقعت لهم معه رجوع سيبيو إلى رومية، وفي غضون ذلك طرأت أسباب حملت قرطجنة على محاربة قبيلة أفريقية مجاورة لها، فاقتاد هنيبال حملة عسكرية جندها من سكان المدينة لمحاربة تلك القبيلة.
واتصل ذلك بالرومانيين الذين أقامو الجواسيس في قرطجنة؛ ليطلعوهم على كل ما يجري فيها، فحذروا أهل قرطجنة من الإقدام على الحرب، قائلين إن ذلك مخالف للمعاهدة المسطرة بين البلادين؛ ولهذا فإن رومية لا تسمح لهم بذلك، ولما كانت حكومة قرطجنة تكره المخاطرة في إغاظة رومية وتتحاشى جهد الإمكان الدخول معها في حرب يقتاد فيها سيبيو جيوش الرومانيين، أرسلت من فورها الأوامر إلى هنيبال بالعدول عن الحرب والرجوع إلى المدينة.
فأرغم هنيبال على الإذعان والطاعة، ولكنه إذ كان متعودا عدم المبالاة بجيوش رومية وأساطيلها مهما بلغ من عددها وعدتها، فلا نرتاب في أن روحه العالية قد استكبرت الأمر وتألمت كثيرا إذ رأت أنها قد قهرت وقمع من نخوتها بكلمة واحدة؛ فإن كل ما كان الرومانيون يستطيعون حشده من القوات ضده حتى عندما كان على أبواب رومية لم يكن ليعبأ به، والآن بكلمة تهديد واحدة آتية من عبر البحار ومرسلة إليه وهو في جوف صحارى أفريقيا القاصية تجرده في دقيقة واحدة من كل قوته.
ومرت السنون وهنيبال قلق منزعج لا يهدأ له روع بالنظر إلى اضطراره لاحتمال الذل والاستكانة والقهر الذي حكم عليه به القضاء والقدر، فكانت نفسه العالية التي لم تصبر على ضيم من قبل عاملة على التفكير الدائم وتدبير الخطط التي تمكنه من اكتشاف وسيلة يتوصل بها إلى تجديد العراك مع عدوته القديمة، والنيل منها مدفوعا إلى ذلك بعامل الغيظ والطموح واستعادة المجد القديم.
يذكر دارسو التاريخ أن قرطجنة كانت في الأصل مستعمرة تجارية تابعة لصور، وهي مدينة على الشاطئ الشرقي من بحر الروم، وكانت سوريا وفينيقية مجاورتين لصور، وكانت هذه البلدان على درجة عظيمة من المقدرة التجارية وعلائقها مع قرطجنة ولائية إلى الغاية، بحيث إن سفنهما التجارية جميعا كانت تمخر البحر ذهابا وإيابا بينهما، فإذا ما نابت إحداها نائبة أو حلت بها نكبة كانت بالطبع تتوقع من البلدان الأخرى المساعدة والحماية، فإن قرطجنة كانت تعد فينيقية بمثابة أم لها، وفينيقية تحسب قرطجنة بنتها.
Shafi da ba'a sani ba