وكان سيبيو واحدا من أولئك القواد الذين اقتادوا جيوش الرومانيين في البلدان الأجنبية، وقد تولى قتال القرطجنيين في إسبانيا، وكانت الأنباء الواردة من جيشه باعثة على الاستبشار والحماسة المتناهيين في رومية، فهو قد كان ينتقل من نصر إلى نصر، ومن اجتياح مقاطعة إلى التغلب على أخرى حتى أوشكت البلاد الإسبانية بجملتها أن تصير تحت مطلق سيطرته، فقهر جميع القرطجنيين الواحد بعد الآخر وثابر على الزحف إلى أن وصل إلى قرطجنة الجديدة، فحاصرها وافتتحها وبسط سلطة رومية على البلاد كلها.
وعاد سيبيو بعد ذلك إلى رومية فائزا منصورا فتلقاه الأهلون بالتهليل والتبجيل، وفي الانتخابات التي تلت انتخبوه قنصلا، وفي توزيع المقاطعات وقعت سيسيليا تحت قيادته ومنح مطلق الحرية في العبور من هنالك إلى أفريقيا إن أراد، وتعين على القنصل الآخر أن يلاحق العراك في إيطاليا ضد هنيبال، وهكذا حشد سيبيو جيشا جرارا وهيأ أسطوله وأقلع قاصدا سيسيليا.
وكان أول عمل قام به بعد وصوله إلى مقاطعته تدبير حملة عسكرية يسير بها إلى أفريقيا بالذات، فهو لم يتم له ما أراده من مواجهة هنيبال رأسا بأن يزحف بجيشه لمعاركته في جنوب إيطاليا؛ لأن ذلك كان من حق زميله المطالب بتلك الناحية، ولكنه يستطيع شن الغارة على أفريقيا ويهدد قرطجنة نفسها، وهكذا صمم النية على هذا الأمر بكل ما اشتهر عنه من الإقدام والحمية وحسن التدبير.
فنجح أيما نجاح وكان جيشه الممتلئ غيرة والمتشرب روح قائده وحماسته، والذي كان واثقا بالفوز يزحف من معركة إلى أخرى كما فعل في إسبانيا منتقلا من نصر إلى نصر، فقهر مدنا كثيرة واجتاح مقاطعات، وعارك كل الجيوش التي استطاع القرطجنيون توجيهها ضده، ونكل بها أو دحرها بخسائر فادحة، وفي آخر الأمر أحدث في شوارع قرطجنة ومنازلها مثل الخوف والرعب والاضطراب التي أحدثها هنيبال في رومية عندما كان منتصرا.
وهال القرطجنيين ما رأوه من بطش سيبيو وتولاهم اليأس والقنوط، فأرسلو إليه السفراء يلتمسون منه الصلح وإبداء الشروط التي يريدها مقابل ذلك للانسحاب من البلاد، فأجابهم سيبيو بأنه غير قادر على عقد صلح؛ لأن ذلك من شأن مجلس الشيوخ الروماني الذي هو مأموره.
على أنه ذكر لهم بعض الشروط التي يميل إلى رفعها لمجلس الشيوخ في رومية؛ فإذا قبلوا بها منحهم هدنة أو توقفا وقتيا عن القتال إلى أن يرجع جواب المجلس من رومية، فوافقه القرطجنيون على الشروط التي عرضها، وقد كانت ثقيلة جائرة ولكن الرومانيين يدعون أن القرطجنيين لم يرضوا بتلك الشروط في الباطن، وإنما تظاهروا بذلك؛ لكي يتوفر لهم الوقت الكافي لاستدعاء هنيبال الذي كانوا واثقين بأنه لو كان في أفريقيا لأنقذهم من بطش الأعداء.
وهكذا كان فإنهم عندما وجهوا سفراءهم إلى رومية بعثوا رسلا إلى هنيبال أيضا يطلبون منه إنزال جنوده في البحر بالإسراع الممكن، وأن يترك إيطاليا عائدا إلى الوطن؛ ليخلصه وينقذ مدينته التي هي مسقط رأسه من الدمار المحتم، هذا إن لم يفت الوقت على ذلك، فلما وصل الرسل إلى هنيبال وعلم ما جرى تولاه الذهول والحزن الشديد والأسف لانقلاب الحالة على تلك الصورة، فقضى بعد ذلك ساعات طويلة في التألم لما جرى، فكان تارة يئن متوجعا وطورا يسكت كأنه في غيبوبة، وحينا يصيح بأعلى صوته ويقذف من فيه اللعنات محمولا على ذلك كله بعظيم انفعاله.
ولكنه بعد هذا لم يستطع المقاومة وتخييب آمال مواطنيه، فبذل جهده في الرجوع إلى قرطجنة، وكان مجلس الشيوخ الروماني في الوقت نفسه قد رد المسألة التي عرضت عليه إلى سيبيو؛ ليرى رأيه فيها يحملها رسل مع التفويض المطلق لحكمته، فإن رأى أن يتابع الحرب تابعها وإن رأى الصلح عقده، ولكنهم أرادوا العلم بالشروط التي يعقد عليها ذلك الصلح، وكان هنيبال قد وصل إلى قرطجنة، وهناك جند جيشا كبيرا وجمع إليه من كان قد سلم من الجيوش التي قهرها سيبيو، وزحف في طليعة ذلك الجيش لملاقاة العدو.
فسار خمسة أيام وابتعد عن قرطجنة بين الخمسة وسبعين ميلا والمائة ميل، فتدانى من معسكر سيبيو، وعندئذ وجه الجواسيس لاستطلاع طلع عدوه، فأمسك حراس جيش سيبيو أولئك الجواسيس، وساقوهم إلى مضرب القائد لإعدامهم كما توقعوا، ولكن سيبيو بدلا من أن ينزل بهم العقاب الأليم أمر بأخذهم للتجول في معسكره ورؤية كل شيء هناك، ومن ثم أطلق سراحهم ليرجعوا إلى هنيبال، ويطلعوه على كل ما اختبروه.
وكانت المعلومات التي نقلها الجواسيس إلى هنيبال دالة على قوة جيش سيبيو وعظم معداته، فدهش هنيبال مما سمعه عن عدوه وفضل المفاوضة لعقد صلح بدلا من المخاطرة في معاركته، وبناء على ذلك بعث إلى سيبيو يطلب منه ضرب موعد لمقابلة شخصية، فأجابه سيبيو إلى ذلك، وتعين مكان اللقاء بين المعسكرين، وإلى هذا المكان جاء القائدان في الأجل المضروب باحتفال مهيب وعدد كبير من الحاشية والأتباع.
Shafi da ba'a sani ba