فتركوا مواقفهم على عجل وبمزيد الارتباك، وساروا يريدون ملاقاة العدو الذي تصوروه مقبلا عليهم تاركين المضيق بلا حراس، وفيما هم يلاحقون النيران المتحركة على قرون الثيران في ذلك الليل المدلهم متدافعين يمينا وشمالا، وساقطين في أودية يتعذر عليهم النهوض منها، وهم لا يهتدون إلى عدوهم انسل هنيبال بكل سكينة مع جيشه، وفروا من ذلك المضيق إلى حيث أصبحوا في مأمن من بطش عدوهم.
ومع أن فابيوس لبك هنيبال وحال دون وصوله إلى رومية، فإن الناس ضجروا من هذه الطريقة في المماطلة وعدم القيام بشيء جازم يزيل مخاوفهم ويبعد الخطر عنهم، وكان مينوسيوس رئيس خيالته يحرض فابيوس دائما على منازلة هنيبال، فلما يئس من حمله على ذلك أصبح هو نفسه ناقما متضجرا وغير راض عن هذه الخطة، ومال الجيش الروماني إلى مينوسيوس، فكتب هذا إلى رومية يشكو بمرارة من تهاون المسيطر فابيوس، وتردده المستمر في أمر منازلة العدو.
وكان هنيبال عالما بكل هذا من جواسيسه ومن مصادر أخرى جديرة بالثقة، استخدمها ذلك القائد الداهية وبرع في كيفية التوصل إليها، وقد انشرح صدر هنيبال - كما لا يخفى - بما عرفه من الشقاق الحاصل في معسكر الرومانيين وعن استياء القوم من فابيوس، وكان يعد مثل هذا العدو الذي يحاكيه في التأني والحذر والمراقبة أعظم خطرا عليه وعلى جيشه من أمثال القواد الآخرين كفلامينيوس ومينوسيوس المعروفين بالطيش والحدة والتسرع والذي يستطيع هو جرهم بسهولة إلى مأزق متجهم ويبطش بهم.
وخطر لهنيبال أن يقوم بمساعدة مينوسيوس من حيث السعي لجعل فابيوس غير محبوب من الشعب، وفي بحثه للتوصل إلى طريقة تسهل له القيام بذلك استخبر من بعض الجنود الذين فروا من معسكر فابيوس أن لهذا المسيطر حقلا عظيم القيمة في تلك الناحية، فأرسل طائفة من الجند إلى ذلك الحقل وأمرها بتخريب كل الأملاك المحيطة به وتعطيلها وقطع أشجارها، وبعدم مس حقل فابيوس بأقل ضرر.
وكان قصد هنيبال من هذا أن يحمل الشعب في رومية على الاعتقاد بوجود تفاهم سري بين فابيوس وهنيبال، وأن فابيوس قد تأخر عن منازلة أعداء البلاد والذود عنها بمحاربتهم في الحال باتفاق معلوم تم بينه وبين القرطجنيين، فكان بذلك خائنا لبلاده، فنجح هذا التدبير أيما نجاح؛ لأن النفور من فابيوس وانتقاد تهامله، والصراحة في تقريعه ملأت البلاد من أقصاها إلى أقصاها وتخللت المعسكر بالذات، ففي رومية ضج الناس طالبين إرجاع فابيوس بلا إبطاء متظاهرين برغبتهم في وجوده بينهم للقيام بالاشتراك معهم في حفلات دينية عظيمة، وهم في الحقيقة يبغون إبعاده عن المعسكر، وإيجاد فرصة لمينوسيوس يهاجم فيها هنيبال.
وفكروا أيضا في تدبير طريقة تساعدهم على تجريده من سلطته وما منحوه من القوة، فهم قد عينوه مسيطرا مطلقا لمدة ستة أشهر ولم تكن تلك المدة قد انتهت فأرادوا تقصيرها، فإذا عجزوا عن ذلك يحددون سلطته ويقللون من نفوذه، فذهب فابيوس إلى رومية تاركا قيادة الجيش لمينوسيوس، ولكنه أوصاه بألا ينازل هنيبال مطلقا، ولا يعرض الجيش الروماني لأي خطر، بل يسير على نفس الخطة التي سار هو نفسه عليها.
ولكنه لم يمض على وجوده في رومية إلا القليل من الوقت، حتى سمع أن مينوسيوس قد حارب هنيبال وانتصر، ووصلت إلى رومية أنباء ورسائل مملوءة بالفيش والمباهاة، وكتب رسمية إلى مجلس الشيوخ الروماني حافلة بامتداح مينوسيوس، وما أقدم عليه وما أبداه من الحزم والدربة، أما فابيوس فإنه شرع في فحص وقائع المعركة وتفاصيلها وقابل الشيء بآخر فوجد ما ظهر بعدئذ أنه الحق الذي لا ريب فيه من أن مينوسيوس لم يحرز نصرا.
واتضح له من ذلك أن مينوسيوس قد خسر نحو خمسة أو ستة آلاف رجل، وأن هنيبال لم يخسر أكثر من ذلك، وأظهر فابيوس للمجلس أن البلاد لم تحرز ميزة ولا ربحت شيئا، وألح فابيوس على المجلس بوجوب اتباع الخطة التي رسمها هو من بدء تعيينه، وأبان له الخطر الكبير الذي ينجم عن المجازفة والمفاداة بكل شيء في معركة واحدة كما قد فعل مينوسيوس، ذلك فضلا عن أن مينوسيوس قد عصى أوامره التي كانت واضحة، ولا تأويل فيها وأنه مستحق للعزل والرجوع إلى رومية.
فأغضب كلام فابيوس أعداءه وسل سخائمهم، وأثار نيران غضبهم عليه، فقالوا: «دونكم رجلا لا يقاتل الأعداء الذين أرسل ليبطش بهم ولا يدع غيره يقاتلهم؛ حتى إنه في هذا الحين وهو بعيد عن الجيش، وعندما انتصر وكيله في القيادة على الأعداء ما برح ينكر حقيقة ذلك الانتصار، ويحاول الغض من مقدرة مينوسيوس وإنكار كل ميزة حصلت من ذلك النصر الذي أحرزه، فهو يريد إلقاء العثرات في سبيل الحرب؛ وذلك لكي يتمتع بالقيادة العليا والسيطرة على البلاد التي منحناه إياها إلى وقت طويل.»
وبلغ النفور من فابيوس حدا حمل الناس على عقد اجتماع طلبوا فيه بإجماع الرأي جعل مينوسيوس مساويا له في القيادة. على أن فابيوس لم يتريث في رومية لحضور البحث في هذا الأمر بل غادرها حالما انتهى الأمر الذي حضر لأجله، وسار يريد المعسكر فلحقه رسول وهو على الطريق يحمل إليه كتابا يتضمن قرار الشعب الذي يقضي عليه باعتبار مينوسيوس زميلا له ومساويا له في كل أمر، وسر مينوسيوس مما قر عليه رأي الأمة دون ريب، وقال عند سماعه ذلك: «الآن سنرى ما الذي نستطيع القيام به.»
Shafi da ba'a sani ba