اللهم باسمك أبتدئ، ولك أحمد، وبك أستعين، مصليا ومسلما على نبيك المصطفى ورسولك المجتبى سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه المرسلين. وبعد، فأقول - وأنا الملتجئ إلى الله أحمد بن إبراهيم الصابوني الحموي - إنني قد تصفحت كثيرا من الكتب التاريخية، وبحثت عن الآثار الخطية فلم أعثر لمدينة حماة على كتاب يذكر حياتها التاريخية ويعرب عن ماضيها وحاضرها.
ومن يعلم أن مدينة حماة من المدن القديمة ذات التاريخ العالي، ومنبت الرجال الأفاضل والملوك الأعاظم أصحاب المكانة الرفيعة، يعجب من تقاعد رجالها الغابرين ذوي الفضل كيف لم يخدم أحد منهم بلدته بوريقات يرقم فيها ما يكون لمعاصريه ومن بعده سميرا ودليلا. ولقد أنهضني لهذه المهمة أحد أصدقائي الأفاضل، فقمت بها متتبعا الآثار، ومقتفيا صحيح الأخبار، متمثلا بقول المعري:
والمرء ما لم تفد نفعا إقامته
غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
آملا ممن قرأ في هذا التاريخ وعثر على نقص أو زيادة أو غلط أن يصلح بقلمه ما رأى؛ فإن الإنسان محل النسيان، سيما وقد مضت الألوف من السنين، وقدم العهد وأصبح البحث عن الماضين وأحوالهم عسرا. على أن تاريخنا هذا مهما قصر فلا يخلو من فوائد عظيمة لم يطلع عليها الكثيرون، هدانا الله إليها فحفظناها فدوناها وقدمناها خدمة للمواطنين.
طليعة
من المعلوم لدى العقلاء الباحثين أن فن التاريخ شريف جدا، يطلع الناظر فيه على أحوال الأمم الماضية فيقيس بينهم وبين الحاضرين بمقياس العقل، ويعلم أسباب الانحطاط والرقي وكيف كان سير سكان البلدان وعوائدهم وأخلاقهم ليقتدي بالجيد ويتباعد عن الرديء. على أن العلوم التي ظهرت في هذا العصر والاختراعات التي وجدت لم تكن إلا نتيجة الأبحاث التاريخية واكتشاف أحوال السالفين ومدنيتهم. كلما تباعد الإنسان عن هذا الفن جمد فكره وسمج طبعه. وأي جهل فوق جهل من لم يعلم أمته ومبدأها وسكان موطنه وأصلهم إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تحصى.
الأمة إذا عنيت بتاريخ أسلافها دعاها ذلك الاعتناء إلى الاقتداء بهم والسير على طريقتهم، وعرفت كيف عرفوا أن يحيوا حياة طيبة ويستثمروا أرضهم ويعمروا أوطانهم. إن من الضروري أن يكون لكل مدينة تاريخ على حدة ليعنى أهلها به وليكون ذكرى لهم ولمجد آبائهم الغابرين، اللهم إن كان المؤرخ منصفا ولم يجعل قلمه سنانا يطعن به نحور قوم انتصارا لآخرين، ولقد تجرد تاريخنا هذا عن الغاية واتبع خطة الإنصاف إن شاء الله.
تمهيد
من المعلوم أن أصل المدن القديمة أن تأتي شرذمة من الناس إلى مكان ذي ماء، فتأخذ من أعواد شجره فتعمل ما يشبه الأكواخ فيسكنونها لتقيهم الحر والبرد، ثم يأخذون من الماء جداول يسقون به ما ينبت من الخضر والفاكهة والقمح وبعض الحبوب ليقوم بأجسادهم وحياتهم، ثم إذا حسنت أحوالهم وتمشوا في سبيل الحضارة شوطا وسطا بدلوا تلك الأكواخ ببيوت من خشب أو حجارة يرصفونها على حسب معرفتهم البسيطة، ثم يجيء دور العمران بتبدل الأزمان فيعملون البيوت الواسعة والقصور المشيدة، ويتهافتون إلى مضاهاة مجاوريهم بزخارف البنيان وتنضيد الأثاث؛ فتكثر بذلك أسباب المدنية. وعلى هذا اختار سكان حماة الأقدمون لسكناهم هذا الوادي العميق المتسع للانتفاع بماء النهر بسهولة.
Shafi da ba'a sani ba