المقدمة
1 - الفنون الجميلة
2 - الجمال ومعاييره وحدوده
3 - عصر الانحطاط
4 - الفنون الإسلامية
5 - أصل الرسم الحديث: مدرسة فلورنسا
6 - الرسم بالزيت: المدرسة الفلمنكية
7 - نجوم النهضة
8 - نحو البندقية
9 - مجد البندقية
10 - نهضة الفن في ألمانيا
11 - المدرسة الفلمنكية
12 - نهضة الفن في إسبانيا
13 - فن الرسم في هولندا
14 - هولندا في القرن السابع عشر
15 - نهضة الفن في فرنسا
16 - الرسامون الإنجليز في القرن الثامن عشر
17 - رسم الأشخاص في إنجلترا
18 - الثورة الفرنسية والفنون
19 - رسم المناظر الطبيعية عند الإنجليز
20 - الرسامون الإنجليز في عصر فكتوريا
21 - فرنسا في القرن التاسع عشر
22 - هويسلر وتأثير الشرق الأقصى
23 - النزعة التقريرية والتأثرية في فرنسا
24 - الوحوش والتكعيبيون والاستقباليون
المقدمة
1 - الفنون الجميلة
2 - الجمال ومعاييره وحدوده
3 - عصر الانحطاط
4 - الفنون الإسلامية
5 - أصل الرسم الحديث: مدرسة فلورنسا
6 - الرسم بالزيت: المدرسة الفلمنكية
7 - نجوم النهضة
8 - نحو البندقية
9 - مجد البندقية
10 - نهضة الفن في ألمانيا
11 - المدرسة الفلمنكية
12 - نهضة الفن في إسبانيا
13 - فن الرسم في هولندا
14 - هولندا في القرن السابع عشر
15 - نهضة الفن في فرنسا
16 - الرسامون الإنجليز في القرن الثامن عشر
17 - رسم الأشخاص في إنجلترا
18 - الثورة الفرنسية والفنون
19 - رسم المناظر الطبيعية عند الإنجليز
20 - الرسامون الإنجليز في عصر فكتوريا
21 - فرنسا في القرن التاسع عشر
22 - هويسلر وتأثير الشرق الأقصى
23 - النزعة التقريرية والتأثرية في فرنسا
24 - الوحوش والتكعيبيون والاستقباليون
تاريخ الفنون وأشهر الصور
تاريخ الفنون وأشهر الصور
تأليف
سلامة موسى
المقدمة
إذا استثنينا الفصول الأربعة الأولى من هذا الكتاب، وبعض الفصول التي رأينا حذفها، أمكننا أن نقول إنه ملخص عن كتاب السير «وليم أوربن» «خلاصة الفن»، فقد تقيدنا بآرائه وإن لم نتقيد بصوره، بل أخذناها من مصادر كثيرة أخرى، ولم نذكر كل الذين ذكرهم من الرسامين بل اقتصرنا على المشهورين.
والغاية من إخراج هذا الكتاب هي أن نقدم للقراء مجموعة فاخرة من الصور والرسوم المشهورة في أوروبا، مع لمحة من تاريخها وتاريخ الرسامين الذين أدوها، ووصف الظروف التي بعثت الفنون وعملت على تطويرها في الأزمنة المختلفة، أما الفصول الأربعة الأولى فقد حاولت فيها أن أشرح النظرية العامة عن الفنون الجميلة، وأبين أوجه الانحطاط الذي يعتريها، ولذلك فأنا المسئول عما أبديت فيها من رأي .
وعندنا الآن نهضة فنية ابتعثها من الموت الأمير يوسف كمال وهو رجل لا يتكلم كثيرا ولكنه يعمل كثيرا، فقد أسس مدرسة الفنون الجميلة فكانت البذرة الصالحة لفن الرسم في مصر، وقد جلب لها معلمين أكفاء من أوروبا وأنفق عليها عشرات الألوف من الجنيهات، وهو إلى الآن ما زال دائبا في هذا العمل الشريف، ومن بين أساتذة هذه المدرسة الأستاذ «سانتس» الذي استحدث في الصحف المصرية الفن الكاريكاتوري.
وإلى جانب هذه المدرسة نشأ هواة آخرون تعلموا باجتهادهم، فكان الرسم مهواتهم التي أكبوا عليها وبرعوا فيها، وتألف من هؤلاء وهؤلاء «جمعية محبي الفنون الجميلة» التي أقامت أول معارضها سنة 1923 في مصنع الأستاذ فؤاد عبد الملك، والفضل في تأسيس هذه الجمعية للأمير يوسف كمال، ومحمد (بك) محمود خليل، وفؤاد (أفندي) عبد الملك.
وحدث أن اثنين من الرسامين المصريين أرادا أن يرحلا إلى إيطاليا لدرس القدماء، ولم يكن في استطاعتهما أن ينفقا على هذه الرحلة والبقاء طويلا في رومية، وكانا وهما في مصر يعملان في تعليم الرسم بالمدارس المصرية، فاتفق كلاهما على أن يعمل أحدهما عمل الآخر في مصر ويرسل له مرتبه، ثم يعود الآخر إلى مصر فيعمل عمل الأول، وهكذا يتعاونان على الارتحال إلى المدينة الخالدة، وكان هذان الاثنان هما: راغب عياد، ويوسف كامل، فلما علمت الحكومة بهذا المجهود الشريف تبرعت بنفقات بعثة تتعلم الرسم في إيطاليا.
وكانت هذه البعثة الأولى تتألف من محمود مختار المثال المعروف ثم هؤلاء الرسامين: محمد حسن، ويوسف كامل، وراغب عياد.
ورأت وزارة المعارف أن تنهض بالفن المصري الحديث فأسست مكتبا للفنون، ثم ما زال هذا المكتب يكبر حتى صار له رئيس، هو وكيل الوزارة للفنون الجميلة الأستاذ أحمد نجيب الهلالي (بك).
الفصل الأول
الفنون الجميلة
الفنون الجميلة كما نسميها الآن، أو الآداب الرفيعة كما كان يسميها العرب، هي: الموسيقى، والشعر، والنثر، والبناء، والرسم، والنحت، والرقص، والغناء، والتمثيل.
وغاية هذه الفنون جميعها هو الجمال، ولكن الجمال ليس شيئا موضوعيا له حقيقة أصلية في الكائنات التي حولنا من حي وجماد، وإنما هو ذاتي في أذهاننا، فالعالم أو الكون نفسه ليس جميلا أو قبيحا، وإنما الجمال والقبح اعتباران ذهنيان أي: قائمان في أذهاننا فقط.
ويمكننا أن نوضح ذلك بالمقابلة بين صورة فوتوغرافية تؤخذ عن حقل أو حيوان أو إنسان وبين هذه الصور نفسها يرسمها رسام ماهر من رجال الفن العبقريين، فأما من حيث النقل واتباع الأصل فالصورة الفوتوغرافية أمينة تطابق الأصل أكثر من الصورة التي يرسمها الرسام، ولكننا مع ذلك نستحسن صورة الرسام ونقول إنها تفضل الصورة الفوتوغرافية.
والسبب في ذلك أن الجمال ذاتي وليس موضوعيا، نعني أنه في ذهن الرسام وليس في ذات الحقل أو الحيوان أو الإنسان، فإذا كان الرسام عبقريا يدرك ببصريته مرامي الفنون استطاع أن ينفذ إلى ما لا تنفذ إليه الآلة الفوتوغرافية وينقل لنا روح المنظر كما ينقل لنا جسمه، فمهمته ليست النقل الساذج كما هي مهمة الآلة الفوتوغرافية، لأن عليه أن يفسر ويكشف لنا عما خفي عن أنظارنا من آيات الجمال في المنظر الذي يرسمه.
فنحن لا نرى في صورة الرسام خياله هو كما نرى أيضا صورة المنظر الأصلي، نعني أنه لا يقنع بالمحاكاة وإنما هو مع نقله يفسر ويشرح ويكسب الطبيعة التي ينقل عنها شيئا من خياله ومن بصيرته في معنى الجمال.
ولهذا السبب كثيرا ما نعجب بالصورة يرسمها الرسام لحقل أو حيوان أكثر مما نعجب بهذا الحقل أو هذا الحيوان نفسه؛ لأننا ونحن بإزاء الصورة نرى تفسيرا، بينا نحن أمام الحقل أو الحيوان لا نرى سوى الطبيعة، فالرسام يكسب بخياله جمالا جديدا للطبيعة التي ينقل عنها.
وخيال الرسام أبعد في إدراك الجمال من الطبيعة التي ينقل عنها، فقد حكي عن «موسلر» الرسام الإنجليزي أن سيدة وقفت تنظر إلى رسمه، فلما تأملته انتقدت عليه مخالفته للطبيعة فأجابها: «هو كما قلت مخالف للطبيعة، ولكن أما كنت تودين أن تكون الطبيعة كذلك؟» وهذا يجرنا إلى البحث عن الأصل أو الباعث الذي يبعثنا على ممارسة الفنون الجميلة، فإننا عند التأمل لا يسعنا إلا الاعتراف بأننا نمارس الفن الجميل لأننا نبتغي منه جمالا نرى فيه ما يرضينا أكثر من الحقائق الواقعة التي حولنا؛ أي: أننا نرى في الطبيعة نقصا نحاول بخيالنا أن نكمله بالفن الجميل.
مثال ذلك أن الفخاري قد يصنع قدرا من الطين يشويها على النار فتخرج سوداء كابية، فيعمد إلى تزيينها وزخرفتها بالألوان والرسوم، فهو إنما يجملها بهذه الزخارف لأنها في الأصل قبيحة، ولكن هب أن صائغا قد صنع كوبا من الذهب الخالص، فهل نحتاج ونحن ننظر إلى هذا الكوب إلى أن نطلب من هذا الصائغ أن يزينه ويزخرفه بالألوان والرسوم؟ كلا، فالصائغ وهو يصنع هذا الكوب من الذهب لا يحتاج إلى أن يمارس فيه فن الرسم، ولكن الفخاري وهو يصنع القدر من الطين يحتاج إلى ممارسة فن الرسم.
فالذي يبعثنا على ممارسة الفنون أننا لا نرضى برؤية الطبيعة ساذجة؛ لأنها في سذاجتها ليست جميلة، فلو كنا نأكل ونشرب في صحاف وأكواب من ذهب لما احتجنا إلى زخرفتها، ولكن المواد التي نصنع بها أدوات الطعام والشراب ليست جميلة فنحن نجملها بالفنون.
ولو كانت الأحجار التي نبني بها منازلنا حسنة تمتع العين برؤيتها لما احتجنا إلى أن نكسوها بالطلاء ونجملها بالرسوم، ولو كان سواد الناس حائزين صفات الجمال لما احتجنا إلى صنع التماثيل ورسم الرسوم للوجوه الجميلة، ولو كنا نتكلم فيلذ للناس سماع كلامنا كأنه الغناء لما تعلمنا الغناء، ولو كان في حفيف الشجر وهفيف الرياح وتغريد الطيور ما يقنعنا ويستهوي أفئدتنا لما احتجنا إلى فن الموسيقى، ولو كنا نمشي كأننا نرقص لما ظهر فن الرقص.
فالذي يبعثنا على ممارسة الفنون الجميلة أننا لا نجد في الطبيعة ما يرضينا ولا نجد في مواد الصناعة ما تشتهيه نفوسنا من الجمال، وهناك مواد جميلة، ولكنها قليلة لا تكفي الناس، وهي لجمالها لا نحب أن نزينها، فلو كان الدرج الذي نرتقي عليه إلى منازلنا من البلور الصافي لارتقيناه ساذجا لا نقش عليه، ولو كانت أدواتنا المنزلية من الذهب لقنعنا بها ساذجة أيضا.
والحرير من الأقمشة الفاخرة، ولذلك نعجب به إذا كان ساذجا، والمرأة الجميلة نعجب بها أكثر كلما أنقصت من ثيابها، وإنما التكحل فن يقوم مقام الكحل.
واعتبر ذلك في جميع الفنون حتى النثر والشعر، فإنه إذا كان المعنى عميقا يبلغ القلب ويعكس لنا حقيقة بارعة، لم نحتج إلى الزخارف اللفظية التي تسمى بالبلاغة، وإنما نحتاج إلى هذه الزخارف إذا سخف المعنى، كما يحتاج القماش السخيف إلى مختلف الصبغ والحواشي لإخفاء سخافته، وأكثر الكتاب في العربية انغماسا في الزخارف اللفظية هو الحريري؛ لأنه لا يعالج من المعاني سوى النزر التافه.
ونحن والطبيعة كلها من أصل واحد؛ ولأننا نشترك في وحدة الأصل نشترك أيضا في الغايات، فما هو راق جميل عند الطبيعة كذلك هو راق جميل عندنا.
فنحن نعرف من قصة التطور في العالم أن الجماد سبق النبات، وهذا سبق الحيوان، ثم نعرف من تطور الأحياء كيف أن الحياة ظهرت أولا في أشكال حقيرة في خلايا منفردة كالميكروبات، ثم متصلة بلا نظام كالإسفنج، ثم فيها بعض النظام الهندسي مثل نجمة البحر والقشريات، ثم السمك، ثم حيوان اليابسة من برمائيات وزواحف، وأخيرا نرى في رأس التطور الطيور واللبونات.
فإذا صح أننا والطبيعة نتفق في النظر، وجب علينا أن نرى الجمال في أرقى أحيائها ونراه في أدون درجاته في أدنى أحيائها أو حتى في جمادها، وهذا هو الواقع الذي نحس به، فأقل المناظر جمالا بل أكثرها قبحا هو منظر الطبيعة الجرداء الخالية من أمارات الحياة؛ أي: منظر الجماد.
ولكننا نحس بشيء من الجمال إذا رأينا صورة للأعشاب والنبات، ويزداد هذا الإحساس إذا رأينا حيوانا.
ولكننا نتدرج في استجمال الحيوان، فليس منا من يقول: إن صورة الإسفنج جميلة تساوي الجمال الذي نحس به عندما نرى صورة سمكة، وصورة السمكة دون صورة الفرس أو الطاووس.
وخلاصة القول أن الحياة أجمل من الجماد، والحيوان أجمل من النبات، وأرقى الحيوان وهو الإنسان أجملها أيضا، فنحن نصنع التماثيل للإنسان حبا في جماله، وقلما نصنع تمثالا لحيوان إلا إذا كان من أرقى اللبونات التي ننتمي إليها مثل الفرس أو الكلب أو الأسد.
وقد يعترض علينا بأننا أحيانا نحب الجماد ونستجمله، كما يحدث لنا عندما نرى السحاب وقت الشفق أو عندما نصنع ثعبانا من البلور أو عندما نتزين بفصوص اللؤلؤ والماس والياقوت، وهذا صحيح، ولكن لو أن هذه الأشياء كانت حية لزاد استجمالنا لها، وهل يمكنك أن تتصور الشفق حيوانا به روح الحيوان وفيه سر الحياة، أو هل يمكنك أن تكسب هذا الثعبان من البلور أو فصوص الجواهر بالحياة دون أن تقول: إنه ليس في العالم أجمل منها؟ فهذه الأشياء جميلة وهي جامدة، ولكنها كانت أجمل جدا لو كانت حية.
ولكن ما الذي يجعلنا نقول: إن هذا الشيء جميل وذاك الآخر غير جميل؟
إن هذا الذي يجعلنا نقدر الجمال ونتوخاه ونحبه هو شيء آخر غير هذا العقل الذي يوازن ويقابل ويبرهن ويعرف الأسباب والنتائج، فنحن نفهم الجمال بشيء آخر نسميه «البصيرة»، وهذه البصيرة هي نفسها تلك التي نفهم بها الدين، وهي التي تحملنا أحيانا كثيرة على التصوف، وهي تلك التي تحملنا على الحب، والرغبة في الخير والشجاعة، والأريحية والتضحية، فالعقل وحده لا يعرف سوى الفائدة المادية المحسوسة، ولكن البصيرة تناقض العقل أحيانا وتطالبنا بأن نضحي بذواتنا، بينما العقل يدعونا إلى الفرار والنجاة.
ولنضرب مثلا بالموسيقى، فنحن لا نفهم الأنغام والألحان بعقولنا، وإنما ندركها ببصيرتنا، والأغلب أن هذه البصيرة أقدم في النفس البشرية من العقل، بدليل أننا نجد من الحيوان ما يلذ له سماع الموسيقى، وهذه الموسيقى تحدث في نفوسنا من الطرب ما لا نستطيع أن نقول إنه معقول، ولو أننا اجتمعنا عشرة أو عشرين نفسا نسمع أحد الألحان، فرأينا بعضا منا يستطيره الطرب أكثر من الآخرين، لما قلنا إن هذا البعض أذكى من الآخرين، وإنما نقول: إنه أبصر بالموسيقى، والذكاء من صفات العقل، ولكن الطرب من صفات البصيرة، فالشهيد يتقدم للنار وهو في طرب الاستشهاد، والمحب يعانق حبيبته وهو في طرب الحب، كما أن الوطني يتقدم للدفاع عن وطنه وهو في طرب الشجاعة الوطنية، ونحن نقف أمام الصورة الجميلة ونحن في طرب كأنه السحر والبصيرة ألصق بالحياة وأعرف بغاياتها من العقل، ولذلك فنحن نجزم بأن الشجاعة والحب وتوخي الجمال غايات ملهمة ترسمها لنا البصيرة، ولكن العقل يخدمها بالعلم، كرجل الفن يتوخى الجمال ولكنه يتوسل إليه بالصنعة، فالعقل يصنع الآلة الموسيقية، ولكن اللحن من شأن البصيرة، والعقل يدبر الألوان والأصباغ ويدرس كيمياءهما للصورة، ولكن البصيرة تكشف لنا سر الجمال فيها.
فالفن للبصيرة والإلهام، والصنعة للعقل والعلم، وكلاهما ضروري للاتقان.
والفنون الجميلة هي الصلة بين الإنسان والطبيعة، ففي الطبيعة إيقاع نرى مثله في الموسيقى والشعر والرقص، وصور الطبيعة وأشباحها من حيوان ونبات وجماد نرى مثلها في فني النحت والرسم.
ولكن رجل الفن لا يقتصر على محاكاة الطبيعة، بل هو يتجاوز حقيقتها إلى خياله ويتسامى بها إلى أرفع ما تلهمه إليه بصيرته، وليس شك في أن الفنون قامت في الأصل على المحاكاة، وكانت تقنع بذلك، كما أن الطفل إذا أراد أن يرسم أو يصنع تمثالا من الطين لا يتجاوز الحقيقة.
ولكن من الرؤية تنشأ الرؤيا؛ أي من الحقيقة ينزع رجل الفن إلى الخيال، وإذا كنا قد قلنا إن الفنون هي الصلة؛ أي الجسر، بين الإنسان والطبيعة، فهي أيضا الجسر بين الحقيقة والخيال.
ولكننا ونحن نجنح إلى الخيال نرتكز على الحقيقة، لأننا نحن من الطبيعة وهي منا، وإنما نحس ونحن على رأس التطور بمغزى هذا التطور، فنستكنه روحه ونتجاوز حاضره إلى مستقبله، فإذا لم تخطئنا بصيرتنا حططنا على الحقائق الخافية التي لم تتكشف عنها الطبيعة بعد.
ففي الطبيعة مثلا إيقاع يتضح في الجماد كما في تيارات البحر وأمواجه، وفي تعاقب الليل والنهار، وفي النبات؛ في غذائه وراحته ونموه ونضوجه، وهو أوضح في الحيوان حين يرقص ويغرد، ولكن رجل الفن يستكنه الروح في هذه المظاهر، فيخرج منها برؤيا الموسيقى والشعر والرقص، فهو مع تجاوزه الحقيقة يجعل أساسه فيها، كذلك المثال يرى البشر والحيوان أجساما مختلفة وهيئات متفاوتة فينظر من وراء هذه الأجسام والهيئات إلى الغاية التي يرمي إليها التطور، وإلى الروح التي وراء هذه المناظر، فينحت لنا من الحجر رجلا يمثل الشجاعة أو امرأة تمثل الحب.
فالفنون الجميلة في أدنى مراتبها محاكاة، وفي أعلاها تفسير ورؤيا والفنون الجميلة جميعها متجانسة، كما يتضح لنا من الألفاظ التي نستعملها، فالروي في الشعر هو الإيقاع في الموسيقى والرقص، وأحيانا يمكن الكاتب الناثر أن يرسم «صورة» قلمية لما هو بشأنه من الوصف، و«البيت» من الشعر يوهمنا أن الشاعر «يبني» الكلمات كأنه معماري، وهناك «موسيقى» الألوان، والراقص الماهر يرقص على اللحن الموسيقي.
وهذا التجانس يجعل الأديب؛ أي رجل الفن، محيطا بالفنون جميعها أو أكثرها أو واقفا على غاياتها، وإن كان جهله بالصنعة اللازمة لكل منها يعوقه عن ممارستها في غير الفن الذي يختص به، وصلة الاشتراك بين جميع الفنون هي وحدة الأصل فيها؛ أي تلك البصيرة التي تنفذ إلى ما وراء المظاهر في الطبيعة فتفسر وتتخيل وتتسامى بهذه المظاهر.
ولكن يجب ألا يفوتنا هنا أن نقول إن الفنون الجميلة مع أنها تنبع من معين واحد هو البصيرة فهي تبتعد أو تقترب من الذهن بنسبة متفاوتة، وأبعد الفنون عن الذهن هي الموسيقى، حتى إننا لا نحب ونحن نسمع لحنا جميلا أن يفسده علينا أحد بغناء يرافقه؛ لأن في الغناء من المعاني الذهنية ما نراه غير متفق مع اللحن الذي يخاطب بصيرتنا ويطربنا دون أن يطالبنا بتعليل ذهني، فإننا نقنع بتلك الأنغام تسري إلى نفوسنا فتجعلنا ننبض لها كأننا الصدى.
وأقرب الفنون إلى الذهن هو الشعر الذي تنطوي معانيه أحيانا على الحكمة تغذو العقل ويمكن المناقشة فيها، يليه بعد ذلك العمارة التي تتصل كثيرا بعلم الهندسة، ثم الرسم والنحت، ولكن يجب ألا ننسى أن الأساس الأصيل للفنون هو البصيرة، وأن أحب الفنون إلينا لهذا السبب وأطربها لأفئدتنا هو أبعدها عن الذهن نعني الموسيقى، وأن الكاتب الذي يستطيع أن يجعل من قصته أو نثره أو شعره أيا كان شيئا يشبه الموسيقى في الطرب، دون أن نجنح إلى الذهن، هو أقرب الكتاب إلى أن يجعل ما يمارسه فنا جميلا.
وللفنون عيوبها، فنحن نعرف مثلا أن الشعر قد يسقط أحيانا إلى أن يكون نظما، وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين النظم والشعر أمكننا أن نقول: إن الأول يعتمد على الذهن، فهو معقول ولكنه غير جميل، والثاني يعتمد على البصيرة، فهو جميل ولكن لا يمكن أن يوصف بالعقل، فلو أن أحدا نظم قواعد الحساب أو قواعد النحو أو النظام الدستوري في قصيدة أو قصائد، لما استطعنا أن نقول: إنه كاذب، لأنه يعالج حقائق نعترف بها، ولكنا مع ذلك نقول: إنه نظام، لأنه يجنح إلى الذهن دون البصيرة، ويطلب الواقع دون الخيال، وينقل دون أن يفسر، ويقنع بالرؤية ولا يستطيع الرؤيا.
وأكبر عيوب الفن الأنانية، فالرجل الذي لا تسخو نفسه بالحب للعالم وكائناته لا يستطيع أن يرى جماله، فأنت لا تستطيع أن تصف امرأة جميلة، وتجيد الوصف، ما لم تكن تحبها، فالحب أساس الإحساس بالجمال، فنحن نستجمل الزهر والحيوان والإنسان والطبيعة الجامدة لأننا نحبها، وما لا نحبه نستبشع منظره، فالكاتب أو الشاعر أو الرسام أو المثال الذي تغمر نفسه الكراهة، وهو دائم الحقد على الناس، لا يمكنه أن يجيد فنا من الفنون الجميلة.
ومن عيوب الفن المحاكاة، فنحن لا نقنع من الرسام بأن ينقل لنا صورة فوتوغرافية، ولا من الموسيقى بأن يحاكي تغريد الطيور، وإنما نطلب من كل منهما أن يتجاوز ذلك إلى روح الطبيعة وينقلها لنا.
وربما كان أكبر العيوب التي تعاب بها الفنون هو العرف الاجتماعي الذي يقضي على رجل الفن بأن يحد من بصيرته، ويكف خشية العقاب عن ممارسة أشياء تدعوه نفسه إلى ممارستها في الفنون، فقد حرم مثلا رجل الفن العربي من ممارسة النحت والرسم من الطبيعة الحية بحكم العرف الديني.
وهذا العرف قد تصنعه الهيئة الاجتماعية حين تلزم رجل الفن بأن يراعي الأخلاق ولا يتمادى في الحرية، فتمنعه مثلا من أن ينحت أو يرسم رجلا أو امرأة عارية، مع أن دواعي فنه قد تدعوه إلى ذلك، أو حين يضع الدين حدودا للفنون، فيحد بذلك بصيرة الأمة، كأن يحرم النحت أو الرسم، أو حين ينشأ بين أهل الفن نفسه عرف يحد من نزعة التجديد، كأن يرسم الرسام أو ينحت المثال على غرار من سبقوه فلا يبتدع وإنما يقنع بالجري على خطة السلف، والبدعة شرط أساسي للرقي سواء أكان ذلك في البصيرة أم العقل، في الفنون أو العلوم، وذلك لأن الجمود يناقض الطبيعة التي تدأب في الرقي والتطور، فإذا لم ينزع رجل الفن نزعتها ويرقى ويتطور ويبتدع فإنه يخالف أهم شروط الفن الصحيح، وهو استكناه روح الطبيعة وسبقها إلى مراميها.
ويمكننا أن نلخص هذا الفصل في الكلمات التالية على سبيل التذكير:
إن الجمال ذاتي؛ أي: في رأس رجل الفن وليس في الطبيعة.
إن الباعث الذي يبعثنا على ممارسة الفن أننا لا نجد في الطبيعة أو المواد التي حولنا مشتهانا من الجمال.
إننا والطبيعة نتفق في الغاية، فأرقى الأحياء في التطور هي أيضا أجملها في نظرنا.
إننا ندرك الجمال ببصيرتنا وليس بذهننا، فالجمال يطرب النفس ولو كان غير معقول.
الفن هو الصلة بين الإنسان والطبيعة، ولكن رجل الفن لا يقنع بنقل الطبيعة بل يتجاوزها إلى كنهها ومرماها، فهو يبني فنه على أساس من الواقع، ولكنه يتسامى به إلى الخيال، وهو في ذلك لا يناقض الطبيعة بل يسبقها إلى غايتها.
الفنون كلها متجانسة؛ لأنها تنبع من معين واحد هو البصيرة، وعلى ذلك يمكن أن نقول: إن أقربها إلى البصيرة وأبعدها عن الذهن هو أفضلها.
للفنون الجميلة عيوب كثيرة منها الجنوح إلى العقل دون البصيرة، ومنها الأنانية، ومنها المحاكاة، وأكثر هذه العيوب شيوعا هو العرف الذي يحد من حرية رجل الفن.
الفصل الثاني
الجمال ومعاييره وحدوده
الجمال في أشكاله المختلفة لا يختلف فيه الناس إلا بمقدار تربيتهم الفنية التي تزيد البصيرة الطبيعية نورا وتورثهم هذا الذوق الذي نراه على أكمله في رجل الفن، فجميع البشر على السواء يتذوقون الجمال الساحر في الزهرة الزاهية، والشجرة النضرة، والوجه المشرق، ويجمعون على أن في الفرس رشاقة هي نقيض السماجة التي ترتسم على وجه الخنزير أو الكركدن، ولكن للوسط أثرا في تربية الذوق، فالزنجي والياباني والأوروبي والمصري كلهم يتفقون إجمالا على ماهية الوجه الجميل ولكنهم يختلفون تفصيلا، ولكن يجب ألا نبالغ في هذا الاختلاف لأن الواقع أن الزنجي يستجمل المرأة الجميلة كما كان ينحتها المثال الإغريقي قديما أو كما يرسمها الرسام الإنجليزي الآن كما نستجملها نحن، وذلك لأن الوسط الذي أثر في ملامح المرأة الزنجية لم يؤثر بعد في بصيرة الزنوج، ونحن المصريين نعرف أننا نستجمل الوجه الأوروبي الجميل كما يستجمله الأوروبيون بلا أدنى فرق، مع أننا في هيئة الوجه نختلف بعض الاختلاف، وعندما نتأمل صور الوجوه التي يرسمها رجل الفن الياباني يريد بها أن يصور الجمال، نراها قريبة الشبه جدا من الشكل الأوروبي، مع أن الوجه الياباني في حقيقته يختلف جد الاختلاف من الوجه الأوروبي.
إن للتربية والعرف والوسط بعض الأثر الذي لا ينكر في تكوين الذوق الفني، فالفتاة التي نشأت لا ترى من الرجال سوى الرجل الحليق، لا يمكنها أن تستجمل الشاب الملتحي إلا بعد تربية جديدة، والزنجي الذي لم ير قط في حياته امرأة بيضاء يشك، لأول ما يرى امرأة بيضاء، في سلامة صحتها، والفلاح يتزين بالألوان الزاهية الزاعقة بينما الرجل المهذب يقنع بالألوان الخفيفة، ولكن كل هذه تفاصيل لا قيمة لها أمام البصيرة التي يشترك فيها جميع الناس ويتفقون فيها على معنى الجمال في الشخص أو الصورة أو التمثال أو البناء.
ولكن الأمم تتفاوت في النزعة التي تنزعها نحو الجمال، فقد كانت النزعة السائدة عند المصريين القدماء هي الدين، فكان المثال إذا نحت تمثالا قصد منه إلى معنى الخلود والهدوء الديني، وكان الإغريق القدماء ينزعون إلى الجمال الذي عبدوه في أشخاص آلهتهم وأبطالهم وفي رياضتهم وألعابهم حتى صاروا لسائر الأمم أسوة وإيحاء، فليس هناك الآن أديب يخدم فنا من الفنون إلا ويستلهم الإغريق القدماء، بل الفلسفة الحديثة نفسها قد نحت هذا النحو، وهذا على خلاف الرومان الذين كانوا ينزعون نزعة عملية تتجه نحو الاستعمار وتشييد البناء، حتى عرفوا أشياء كثيرة عن الهندسة، فكانوا أشبه بالعلماء منهم بالأدباء، أما نزعتنا نحن الآن فهي النزعة الاقتصادية التي تجعلنا كلنا منهمكين في جمع المال والاستكثار من العقار.
وربما كان سؤالنا عن السعادة، ومن هو أسعد الناس، خير ما يدلنا على نزعة كل أمة من حيث الفن، فقد سأل الإغريق أنفسهم هذا السؤال، وأجابوا عن لسان أرسطوطاليس بأن الرجل السعيد يجب أن يكون جميلا، وذلك لأنهم قد انغمسوا في الفنون ولابسوها في معيشتهم ورياضتهم حتى صاروا يعتقدون باستحالة السعادة إذا لم تقرن إلى الجمال، وكانوا مع تقديرهم للفنون يرون أن الإنسان الحي يجب أن يمثل الجمال في شخصه، ولو وضعت مثل هذا السؤال للمصري القديم لأجابك أن الرجل السعيد هو الذي ترضى عنه الآلهة، بينما الروماني يرى السعادة في كثرة العبيد ووفرة المساكن، أما نحن فلا نكاد نتخيل السعادة إلا مقرونة بالثروة.
والفنون الجميلة تتأثر بالنزعات الأدبية، فهنا الرسم أو النحت التقريري، مثلما هناك القصة التقريرية التي تصف الأشياء والحوادث كما تقع، وهناك الرسم الخيالي الذي يقصد إلى المثل الأعلى كما أن هناك القصة الخيالية، وكذلك هناك الرسم التأثيري الذي ينقل الأثر الذي ينطبع في الذهن من المنظر دون الإحاطة بتفاصيل هذا المنظر، وقد نجد في الشعر والقصة مثل هذه النزعة، وهناك النزعات الطبيعية التي تنقل عن الطبيعة أو تنسخها، ولكن كل هذه النزعات في الأدب والفنون تنتهي حتما إلى أن تكون خيالية، فالأديب والرسام لا يقنعان بتقرير الأشياء على حالها، وإنما هما يرسمان الواقع ولو كان قبيحا لكي يتوسلا به إلى الخيال والمثل الأعلى، وإلا لو كان الواقع غاية، لقنع الرسام التقريري بأن يرسم لنا جسم الإنسان كما يرسم في كتب التشريح.
وكلمة أخرى نقولها قبل ختام هذا الفصل عن الفنون الجميلة، فإنها لاعتمادها على البصيرة دون العقل أو لاعتمادها على الأولى أكثر من الثاني، أو لأن البصيرة هي التي ترسم الغايات والعقل هو الذي يهيئ الوسائل، تتسم الفنون هذه بشيء من مسحة الخلود، فالأدب والفنون الجميلة خالدان لاعتمادهما على البصيرة، وذلك لأن هذه البصيرة قديمة في الإنسان ، بل ربما كانت في القرون البعيدة الماضية أقوى منها الآن، ومن هنا إعجابنا بفنون القدماء دون علومهم.
ويجب ألا ننسى هنا أن النزعة العقلية تكاد تناقض نزعة البصيرة، ومن هنا احتقار رجل العلم الذي يبني علومه على العقل للفنون الجميلة القائمة على البصيرة، وقد يصح أن نتساءل هنا: ما هو مصير الفنون في المستقبل إذا انبسطت العلوم وصارت السيطرة للعقل؟
الفصل الثالث
عصر الانحطاط
يعتري الانحطاط الفنون الجميلة من جملة نواح، أولها المنع من الناحية الدينية، فقد كانت الفنون الجميلة تجد عند المصريين والإغريق من القدماء أسعد الفرص لأن تتجلى وتتمثل ذلك لأن للوثنية معابد فخمة وأصناما تزينها ورسوما تنقش على جدرانها.
ولكن لما فشا التوحيد عن اليهودية أولا ثم المسيحية ثم الإسلام، أخذ الموحدون يحاربون الوثنية ويهدمون الأصنام ويحرمون على الناس اقتناءها أو رسم الأشخاص، والهيئات الاجتماعية القديمة كانت هيئات ارستقراطية، تنحصر الثروة في الطبقة العالية وسائر الأمة تعيش في فقر، فلم يكن للفنون قدرة على أن تعيش ما لم تجد هذا العون من المعابد؛ لأن أفراد الأمة كانوا من الفاقة بحيث لا يستطيعون شراء التماثيل والصور، فلما ماتت الوثنية ماتت فنون الرسم والنحت والبناء، وذلك لأن البناء أيضا كان يقوم على المعابد، وهو شديد الالتصاق بفني النقش (الرسم والنحت)، وبتحريم هذين الفنين اعتراه هو الآخر بعض الانحطاط، والطبقة العالية في كل أمة هي أولى الطبقات التي تسيطر على الدين أو الدين يسيطر عليها، فيجب أن تتخذ مظاهره، ولذلك نجد أنها بعد أن كانت تحمي الفنون الجميلة في عهود الوثنية صارت تقاومها في عهود التوحيد المختلفة.
ولكن الأديان لم تؤثر في الفنون من هذه الناحية فقط، بل لها تأثير آخر، فمن المتفق عليه أن الفنون الجميلة تعد من الترف، ولكن الأديان ترمي جميعها باختلاف في الدرجة إلى التقشف والزهد وإساءة الظن بالترف، ومن هنا كان بعض سخطها على الفنون الجميلة.
وعصر الانحطاط في الفنون الجميلة يبتدئ في أوروبا من أول انتشار المسيحية إلى زمن النهضة، ومصر تابعة لأوروبا في هذا الانحطاط أيضا، فقد حطم المسيحيون الأصنام وهدموا المعابد في إيطاليا واليونان ومصر وسورية، ونشأ على هذه الحطامة فن بيزنطي منحط نرى للآن صوره في كنائس مصر والأستانة، ويتسم هذا الفن بأن العرف يأخذ من الرسام الاعتبار الأول، وأكثر الرسوم تعنى بالقديسين والعذراء والسيد المسيح.
وقد بنى المسيحيون الأول فنونهم على الآثار الوثنية القديمة على الرغم من كراهتهم لها واجتهادهم في تحطيمها ومحوها، فصورة العذراء وابنها ترجع إلى الصور المصرية القديمة التي كانت تمثل الربة العذراء إيسيس وابنها أوزوريس، وصورة القديس جرجس الذي يرى للآن نقشه على الجنيه الإنجليزي تمثل أسطورة ترجع إلى عهد انتشار الثقافة القديمة.
والرسوم البيزنطية تجري كما قلنا على العرف، فالرسامون يعنون بالهالة المنيرة حول الرأس أكثر مما يعنون بملامح الوجه وأعضاء الجسم، وللتذهيب مقام عندهم أكثر من مقام الألوان الطبيعية التي تعكس لون البشرة الإنسانية، أما الفنون عند الأمم الإسلامية في القرون الوسطى، ونعني هنا الزمن الواقع بين ظهور الإسلام والنهضة العربية الحديثة، فقد اقتصرت على فني البناء والزخارف، وذلك لأن النحت والرسم قد حرما تحريما باتا إلا عند الشيعة من الفرس، فإن رسم الوجوه عندهم لم يحرم، ولذلك فإن الزخارف الإسلامية اتخذت أشكالا هندسية ليس فيها صورة إنسان أو حيوان.
الفصل الرابع
الفنون الإسلامية
لما كان العرب في جزيرتهم لم يرحلوا عنها بعد إلى مصر والعراق وسورية عقب النهضة الإسلامية كانوا يجهلون الفنون الجميلة شأن البدو في كل مكان، فلما اختلطوا بالأمم المتحضرة في هذه الأقطار نقلوا عنها فنونها الشائعة بعد أن حذفوا منها ما لا يتفق وروح الإسلام، وصبغوا سائرها بالصبغة الإسلامية، ولذلك فالفنون الإسلامية هي في الواقع فنون مصرية أو عراقية أو هندية أو فارسية، ونحن في مصر نعرف أن الكنائس القبطية القديمة كانت تزين بالمشربية والفسيفساء، وكلتاهما نراهما بعد ذلك في المباني الإسلامية.
وقد نزع الإسلام نزعة توحيدية، وجعل للتوحيد المقام الأول في الإيمان، فتأثرت الفنون من هذه الناحية بحذف كل ما يختص برسم الإنسان أو الحيوان أو نحت تماثيلهما، وذلك لأن الصور والتماثيل تومئ إلى الأوثان التي يخشى على التوحيد منها، ولكننا نجد أمتين إسلاميتين هما: الفرس، ومصر (مدة الفاطميين) تسامحتا بعض التسامح في الرسم والنحت حتى كانت ترى قي قصور الفاطميين مناظر الرقص والصيد والغزلان، وكانت كتب الفرس وقصورهم تزين أيضا بصور الحيوان والنبات، ولكن هذا لا يطعن فيما نثبته من معارضة الإسلام لهذين الفنين، بل هو أجدر بأن يؤيد ما قلناه، وذلك لأن فارس ليست سنية، وكذلك مصر أيام الفاطميين كانت شيعية، والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام وخروج على جمهور المسلمين، فاتفاق مصر في ذلك العهد مع الفرس وتسامحهما في الرسم والنحت للحيوان والنبات يدلان على صحة قولنا، ومما هو جدير بالذكر أننا لا نرى بين المسلمين في سورية أو شمال إفريقية ما يدل على أن رسم الحيوان أو الإنسان أو نحت التماثيل لهما كان يرخص فيهما لأحد.
ولما وجد رجال الفن المسلمون أن الدين يعارض النزعة الفنية في الرسم والنحت عمدوا إلى تصوير الجمال عن طريق الذهن لا عن طريق البصيرة، فجعلوا فنونهم ذهنية، ولذلك فإنهم بالغوا في إتقان الصنعة مع إهمال الفن، إلا حيث يميل الفن بطبيعته لأن يكون ذهنيا كما نرى مثلا في البناء، فإنهم أقاموا عددا كبيرا من المباني الفخمة، وكذلك في الشعر ألفوا القصائد الرائعة، ولكنهم أتقنوا الصنعة هنا دون الفن، فإن لهم القصائد ولكن ليست لهم الدراما أو الملحمة.
والفنون الإسلامية على وجه العموم هي فنون الذهن، تنقصها البصيرة والرؤيا والخيال، وهي تميل إلى إتقان الصنعة مع تناسي الغاية من الفن، ولذلك فإن مقامها لم يكن عظيما عند المسلمين، حتى إننا قلما نجد اسم الصانع مدونا بجانب أحد النقوش أو حتى العمارات، وإهمال اسمه يدل على الاحتقار الذي كان يضمره له مستخدموه.
وقد سار فن الرسم الإسلامي في ثلاثة اتجاهات: (1)
الزخارف الهندسية المتقابلة من أقواس وخطوط تتقابل فترتاح العين إلى شكلها الهندسي. (2)
الزخارف التي تعود في الأصل إلى «باعث» من رسم حيوان أو نبات يعمد الرسام إليه فيطيل في بعض أعضائه أو يفرطحها أو يشرشرها حتى يخفي أصله ثم يجعله يتقابل مع شكل آخر لا يختلف معه، فيحصل على شكل هندسي يمتاز من الزخارف الهندسية المحضة بما فيه من هذا «الباعث» الذي يزيد حلاوته في العين. (3)
لما رأى المسلمون ضيق الميدان الذي يمكنهم أن يستخدموا فيه مواهبهم الفنية اضطروا إلى أن يجعلوا من الخط العربي فنا، فزينوه وزخرفوه حتى صار له جمال خاص.
وأقدم الآثار العربية في مصر هو جامع عمرو، ولكن الإصلاحات المتكررة قد تعاورته حتى لا يمكن الآن أن يقال إن به شيئا من أيام عمرو، ولذلك لا يمكننا أن نستشهد به على تطور الفن المعماري الإسلامي، ولكن يمكن أن يقال بلا خوف كبير من الخطأ: إن العصر الذهبي الأول لهذا الفن هو عصر الفاطميين الذين ذكرنا جرأتهم في تزيين قصورهم برسوم الحيوان، ويلي الفاطميين الأيوبيون، ولكن هؤلاء لا يبلغون ما بلغه المماليك بعدهم، ففي أيام الصناعات فشت العمارات والمساجد العظيمة في القاهرة وراجت الصناعات وظهر المقرنص الذي يرى فوق أبواب المساجد، و«الباعث» لهذا المقرنص هو القناديل لأنها تمثل قناديل مدلاة قد مسح عليها العرف مسحة هندسية كما هو الشأن في الفنون الإسلامية.
الفصل الخامس
أصل الرسم الحديث: مدرسة فلورنسا
جوتو. تشني. أوركينا. انجليكو. لبي. بوتيتشلي. تشيمابو
بقي الرسم مدة العصور المظلمة يجري على عرف الكنيسة وتتغلب عليه طريقة بيزنطية، هذه الطريقة التي ما زلنا نراها في الكنائس القبطية في مصر حيث تتشابه الوجوه وتجمد الأجسام ويحيط بها كلها هالة القداسة، وترسم الصورة الصورة على فرش مذهب فلا يمكنك أن تميز من النظر إلى الوجوه اختلافا في العاطفة أو الأخلاق.
وقد كان الدين أساس الحياة في القرون الوسطى ولذلك فإنه جمع من ناحية بين فلسفة الإغريق واللاهوت، كما جمع أيضا بين النظر الديني والفنون، وكما استعمل كتاب الكنيسة فلاسفة أفلاطون وأرسطوطاليس للدفاع عن الدين، كذلك استعملوا الرسم لخدمة الدين، فكانت موضوعات الرسام لا تخرج عن رسم الملائكة والعذراء والمسيح والقديسين، وكان العرف هو القاعدة التي يجب على الرسام ألا يتخطاها، وكان الرسام إذا أراد أن يرسم المسيح صوره في هيئة طفل ساذج جميل الوجه باسم المحيا، أو ربما صوره شيخا في هيئة قاض كبير، أما العذراء فكان هم الرسام أن يبعد عنها ما استطاع تلك اللوثة الإنسانية لكي يجعلها أشبه بالملائكة منها بالناس، ولذلك فإنك لا تحس منها بعاطفة الأمومة، وفي كلتا الحالتين يحاط المسيح والعذراء بهالة القداسة التي تخرجهما من صف الآدميين.
ولكن في القرن الثالث عشر نرى بذرة النهضة الأوروبية في آراء «روجر بيكون» الذي يدعو إلى ترك التقاليد ووضع العقل فوق النقل، وأيضا في طريقة الرسم الجديدة في إيطاليا حيث شرع الناس يفهمون من المسيحية أنها ديانة الحب، وأكسب هذا الاعتقاد الجديد صورة إنسانية للعذراء تمثل الحب بالأمومة.
ولعل أول من مسح هذه المسحة على الدين هو القديس فرانسيس، فإنه جمع بين حب الطبيعة والإيمان بالدين، فكان يخاطب الطبيعة ويتآخى مع الطير والسمك ويطرب في لذة الاجتماع بالخليقة والاشتراك معها في طرب الصوفية، فنقل الدين بذلك من جمود القاعدة وضيق العرف الكنسي إلى رحابة الطبيعة وما فيها من ألوان مختلفة.
وأول من نقح في الطريقة البيزنطية هو «جوني تشني» وهو رجل فلورنسي ولد سنة 1240 ومات سنة 1302، وهو ما يزال في رسومه يتبع على وجه الإجمال قواعد بيزنطية ولكنه يمسح على رسومه مسحة إنسانية جديدة فيها معاني العطف والحب، وقد كلف بأن يزين الكنيسة التي دفن فيها القديس فرانسيس برسومه، فكان هذا القديس بصوفيته إلهاما له يبعثه على اتخاذ البدعة بدلا من التقليد في الفنون، ومما يذكر أيضا أن تلميذه «جوتو» كان من عظماء رجال النهضة.
ويمكن مؤرخ النهضة الفنية أن يبدأ بجوتو فهو الفاصل الحقيقي بين النهضة وبين تقاليد بيزنطية، وكان جوتو في صباه راعيا يرعى الغنم، وحدث ذات مرة أن رآه تشني وهو قاعد يرسم فأعجبه رسمه وطلب من أبيه أن يأذن للصبي بمرافقته لكي يتتلمذ له فأذن الأب.
ولما كلف تشني بتزيين كنيسة القديس فرانسيس خص جوتو ببعض الرسوم التي تمثل حياة القديس ، وهنا ظهرت عبقرية التلميذ حتى تفوق على معلمه؛ إذ إنه أبدى كما يقول رسكين: «خروجا على التقاليد والعرف والمثل الأعلى» وعمد إلى الطبيعة ينقل عنها.
وقصد إلى روما وهناك كلف أيضا بتزيين بعض الكنائس، فرسم صورة «البكاء على القديس فرانسيس» وأيضا صورة «عيد ميلاد هيرودس»، ونعرف بعد ذلك أنه ذهب حوالي سنة 1306 إلى «بدوا» لأن المعروف أن دانتي الشاعر كان هناك في ذلك الوقت، وكان يوعز إلى الرسام برسم واختيار بعض الموضوعات، وهذا يدلنا على مكانة جوتو الذي كان يعرفه بترارك أيضا ويصادقه.
ومن المفيد أن نقابل بين رسم تشني «العذراء وابنها» ورسم جوتو «البكاء على القديس فرانسيس» لكي نعرف الفرق بين العهدين أو بين المعلم والتلميذ، فما زالت على صورة تشني المسحة البيزنطية: هالات من نور حول الرءوس وفرش مذهب للصورة، ولكن التنقيح في القواعد البيزنطية واضح من المسحة الإنسانية التي على الوجوه، أما صورة القديس فرانسيس والرجال الذين حوله يبكونه فليس فيها شيء من قواعد بيزنطة، وإنما كل ما يعاب عليها النقص في الصنعة أي في الأبعاد ودقة التصوير ونحو ذلك، وليس هذا غريبا إن اعتبرنا أن جوتو قد شرع في محاولة جريئة ففيه النقائص التي تلازم كل مبتدئ، فهو أول من ترك موضوع القداسة الجامدة إلى نشاط الطبيعة فصار يرسم الحقول والأشجار والحيوان والإنسان.
وقد كان جوتو مع عبقريته في الرسم معماريا عظيما بنى البرج المعروف الآن باسمه في فلورنسا، ولما عاد إلى هذه المدينة التي هي مدينته الأصلية لقي الترحيب والإكرام من أهلها سنة 1334 وتعين هناك مديرا للأعمال في الكاتدرائية الكبرى، وبقي هناك يعمل في الرسم والعمارة إلى أن مات سنة 1337.
ومن الفلورنسيين الذين انتفعوا بالطريقة الجديدة التي وضعها جوتو نجد «أوركنيا» صاحب صورة «تتويج العذراء» وهو مع لزومه السذاجة الطبيعية لم يبلغ مبلغ جوتو في تصوير نشاط الطبيعة.
وهذه النزعة نحو الطبيعة التي أوجدها جوتو في المدرسة الفلورنسية تفرعت فرعين: أحدهما نفسي، والآخر جسمي، فرجال الفرع الأول اتجهوا نحو اتقان التصوير للعاطفة القوية العميقة مع الحركة والعمل، بينما رجال الفرع الثاني اتجهوا نحو تقرير الواقع مع التدقيق في رسم الأعضاء بحيث ينطبق الرسم على الحقيقة، واستطاع هؤلاء أن يتغلبوا على صعوبات الصنعة كتحقيق الأبعاد الخطية والهوائية ودرس التشريح للأجسام العارية في الكون والحركة وسائر التفاصيل الخاصة بالأحياء والجمادات لونا وشكلا، وبذلك أمكن الخروج من العرف والقواعد البيزنطية.
ويلي أوركنيا في النهضة الفلورنسية رجل راهب له شهرة لا تقل عن شهرة جوتو، وإن كانت عبقريته الفنية دونه وهذا الراهب هو «الأخ انجليكو» الذي ولد سنة 1387 ومات سنة 1455، وكان من رجال الفرع النفسي في التصوير، ولكنه كان مع ذلك يجيد رسم الجبال والأزهار والأشجار، حتى ليظن الإنسان أن هذا هو موضوعه الأصلي الذي خص فنه فيه، ولكن الحقيقة أن انجليكو لم يرسم هذه الأشياء إلا لأنها وسطه الذي عاش فيه معظم حياته إذ قضى في قرية كارتونا وقرية فيوسول خمسين سنة، فلم يختلط بالمدن الكبرى مثل فلورنسا أو روما إلا بعد ذلك، ولكن هواه وبراعته يتجهان نحو تصوير الحالات النفسية، فقد كتب عنه فارساي يقول: «إن ملائكته التي يرسمها تبدو كأنها كائنات من الفردوس»، وذلك للخيال الذهني الذي قاده إلى تصويرها، وهذا الخيال كان يخالف الطبيعة.
وقال عنه موتهور: «إن رسومه التي يصور فيها الاستشهاد توهمك بأنه يرسم صبيانا أو شبانا قد اتخذوا هيئة الشهداء والجلادين، أما رجاله الملتحون فيبكون بكاء النساء، ولذلك فهو لا يقنعك بأنه يصور لك الحقيقة، ولكنه عندما يلزم موضوعه الخاص به، وعندما ينقل إليك رقة الشعور أو الفرح العظيم الصامت للقلب أو الحزن الرقيق أو الطرب الديني، فإن لصوره تأثير الصلاة الصامتة للطفل».
وصورته «البشارة» التي تمثل الملك وهو يبشر العذراء بالمولود تدل على صدق ما قاله موتهور، فهم الرسام هنا أن ينقل إليك صورة التقوى والدين أكثر مما يريد أن يدقق في رسم الأشخاص.
ومن رجال ذلك العصر أيضا «الأخ لبي» ولا بد أن القارئ يقف هنا متأملا هؤلاء الرهبان الذين انسلخوا من الرهبانية إلى الفنون، ولكنه إذا عرف أننا نتكلم عن عصر النهضة التي ليست شيئا آخر سوى الخروج من التقاليد الدينية إلى الدرس البكر في مسائل الحياة والطبيعة، وإذا عرف أن الثقافة والفنون كانت مدة القرون الوسطى خاضعة للرهبان مصبوغة بالدين حين كانت الأديار مثوى الآداب، لم يتعجب بعد ذلك من أن تكون بداية النهضة في الفنون على أيدي بعض الرهبان، ولكن هؤلاء الرهبان كانوا خارجين على تقاليد الكنيسة وإن لم يشعروا بذلك، لأن روح الزمن كانت قد انضجت العقول، وهيأتها للثورة والخروج.
و«لبي» هذا يمتاز عن «انجليكو» بأن العذارى عنده أشبه ببنات فلورنسا منهن ببنات السماء، فهو يفهم الجمال النسائي كما هو في طبيعته، ويجيد رسم الأزهار كما تدل على ذلك صورته «البشارة».
ويمثل «لبي» الروح العلمية في الرسم، فقد درس الأبعاد درسا دقيقا ورسم معركة حربية لأول مرة في تاريخ النهضة، ولم يحاول أحد بعده رسم معركة حربية إلا بعد مضي قرن كامل على وفاته، ورسم هذه المعركة يدل على ميل رجال الفن في ذلك الوقت إلى الانفصال من الدين، وقد ولد «لبي» سنة 1406 ومات سنة 1469.
وفي سنة 1447 ولد «بوتيتشلي» الذي مات سنة 1535 وفي عصره تم الانفصال بين الدين والفن، فقد كانت الكنيسة راعية الفنون مدة القرون الوسطى وفي بداية النهضة، فكان الرسامون والمعماريون يعملون لها، ولكن القرن الخامس عشر كان يتسم بالتجديد، وظهر فيه رعاة آخرون للفنون غير الكنيسة.
وكان هؤلاء الرعاة لا يبالون بالدين، ولا يكلفون الرسامين لزوم القصص التورائية أو الإنجيلية، ولذلك فإننا نجد بوتيتشلي يرسم صورا تمثل القصص الإغريقية القديمة مثل صورته «الربيع» حيث ترى في الوسط «الزهرة» ربة الحب تنتظر قدوم الربيع يحوم فوقها «قوبيد» الربيب الصغير الذي يقنص القلوب ويوقعها في شباك الغرام، وعلى يمينها الفتيات الثلاث وعطارد رسول الآلهة، وعلى يسارها يتقدم الربيع تدفعه إلى الأمام بلطف «فلورا» ربة الزهر ويحذوه «زفير» الذي يمثل النسيم، وأينما تطأ قدماها تظهر الأزهار، وهذه صورة تدل على الجراءة التي اتسم بها ذلك الزمن، لأنها لو ظهرت في القرون الوسطى لعوقب صاحبها واتلفت لإحتوائها على آلهة وقصص وثنية.
وقد تعلم «بوتيتشلي» على يدي «لبي» وكان متأثرا به يتبع طريقته إلى أن ترك «لبي» مدينة فلورنسا في مهمة، فلما انفرد «بوتيتشلي» ترك لعبقريته العنان في التأليف فصار يرسم الناس كما يراهم، ولا يمسح عليهم مسحة التواضع الديني.
ولما ذاعت شهرته في فلورنسا استدعاه البابا إلى رومية حيث رسم فصولا من تاريخ موسى، وبعد سنتين عاد إلى فلورنسا، وهناك وجد «سافونا رولا»، وهو رجل كان متحمسا للدين وعمد إلى الكتب فأحرقها، وتأثر بأقواله بعض الرسامين حتى أتلفوا ما رسموه من الأوثان والآلهة، وهذا يدل على أن الصراع بين الدين والنهضة كان ما يزال قائما، ولكن الجمهور الذي كان «سافونا رولا» يحمسه إلى الدين عاد فانقلب عليه وأحرقه هو نفسه.
ورأى «بوتيتشلي» هذه الحوادث في مدينته فحزن، وخصوصا عندما رأى أن الأسرة التي كانت ترعاه قد انهزمت ونفيت من المدينة، وهي أسرة مديتشي، بل حين رأى أخاه يتلف رسومه السابقة بيده للإشارات الوثنية التي فيها.
وممن يذكرون أيضا في عصر هذه النهضة تشيمابو الذي ولد سنة 1240 ومات سنة 1302 وأحسن رسومه صورة العذراء وابنها.
الفصل السادس
الرسم بالزيت: المدرسة الفلمنكية
فان ايك. مملنك. ماسيس. مابوز
لا نعرف كيف نشأ الفن في إقليم الفلمنك، وكيف كان في طفولته وحداثته، فإننا نجده لأول ما نجده راقيا مبتدعا يجري على أسلوب تقريري يراعي الدقة في تصوير الحقائق دون تزيين أو زخرفة.
وقد كان الرسم الشائع في أوروبا الغربية إلى نهاية القرن الثالث عشر، مثل العمارة الشائعة أيضا في ذلك الوقت وبعده، قوطيا، ما زلنا نراه في أوراق اللعب حيث ترى صور الملوك والملكات، وهذا الرسم القوطي لا علاقة له بتاتا برسم الإيطاليين من مدرسة فلورنسا، ولذلك فإن فضل المدرسة الفلمنكية وانتقالها من هذا الرسم القوطي إلى الرسوم المتقنة التي أدتها عظيم جدا.
ويجب عند المقابلة بين المدرسة الفلمنكية والمدرسة الفلورنسية أن نميز بين الأساس الذي قامت عليه كل منهما، فأساس الأولى هو الفن القوطي، وأساس الثانية هو فن الكنيسة أي الفن البيزنطي، ولذلك فإن الفلورنسيين لزموا إلى حد ما الموضوعات الدينية، وكان معظم رسومهم على جدران الكنائس، أما الفلمنكيون فإنهم خرجوا بالفن من حظيرة التقاليد الدينية إلى رسم أشخاص الأغنياء وتصور الأثاث، وهناك سبب آخر ساعد على بلوغ هذه النتيجة، وهو أن الكنائس في إيطاليا لا يخيم الظلام على جدرانها لأن الجو في أغلب أوقاته في صحو ونور، ولذلك فإن الرسم على الجدران يمكن رؤيته وتقديره، ولكن الغيوم تتغلب في المناخ الشمالي، فلا يكون للرسوم التي ترسم على الجدران الداخلية في هولندا أو ألمانيا تلك القيمة أو ذلك الجمال الذي نجده لها في إيطاليا أو إسبانيا، ولهذا السبب اتجهت جهود الفنيين في الشمال إلى تزيين زجاج النوافذ بدلا من تزيين الجدران، لأن الزجاج يسطع عليه الضوء مهما ضعف فيبدي ما فيه من رسوم.
وقد اشتهر في المدرسة الفلمنكية رجلان شقيقان، هما: هوبرت فان ايك، وجان فان ايك، وفضلهما لا يقتصر على استحداث الرسوم التي لا علاقة لها بالموضوعات الدينية، بل يتناول أيضا طريقة الرسم بالزيت التي اخترعها أحدهما وزاولها كلاهما، فإن الرسم كان قبل ذلك يعتمد على الماء والأصباغ، وكان الرسم يستعين أحيانا وهو يجبل أصباغه بمح البيض، ولكن هذين الشقيقين استعملا الزيت الحار وزيت الجوز في جبل الأصباغ، وشاعت عنهما هذه الطريقة، وتقدم فن الرسم بهذه البدعة خطوات إلى الأمام.
ولا يعرف إلا القليل عن تاريخ هذين الشقيقين، وهذا بخلاف الرسامين في إيطاليا، ولكن فسارى كتب تاريخهم مع تفاصيل حياة كل منهم، وكان هو نفسه رساما في القرن السادس عشر.
والمعروف أن «هوبرت» ولد سنة 1365 في قرية قريبة من كولونيا، والظاهر أنه تعلم في هذه المدينة، فلما بلغ سن الشباب تركها إلى مدن الفلمنك حيث كانت «غنت» و«بروج» قد أحرزتا شأنا في الرخاء والتجارة، وفي غنت أدى هو وأخوه ذلك الرسم العظيم الذي يسمى «عبادة الحمل»، وهو من الرسوم الكبيرة، ولا تقل مساحته عن ألف قدم، أما شقيقه «جان» فأصغر منه بعشرين سنة، إذ ولد سنة 1385، وهو أدق في الصنعة وأعمق بصيرة في الفن وأبعد شهرة، وقد اشتغل بالسياسة ورحل إلى إسبانيا وبرتغال في خدمة فيليب، وهو أول من اتبع الأسلوب التقريري، وابتدع تصوير الأشخاص، وكان إذا رسم شخصا لم يترك في وجهه أو جسمه أي علامة أو قبح حتى ينقله، كما ترى رسمه «الرجل الحامل للقرنفل»، وهذه روح غريبة لا تدل على الرغبة في تصوير الحقيقة وكراهة المبالغة والتزيين فقط، بل تدل أيضا على أن الهيئة الاجتماعية التي عاشت في ذلك العصر كانت سليمة من الزهو والغرور قانعة بالواقع، والفن ظاهرة من ظواهر الاجتماع، فإذا كان هذا الاجتماع مختلا لم يسلم الفن من الخلل، وتجد في هذه الصورة دقة عجيبة في نقل الصغائر والتفاصيل حتى عروق اليد وأسارير الوجه واضحة، ومن ينظر إلى الصورة وقد افتر الثغر يكاد ينتظر منها أن تخاطبه.
ولجان فان ايك صورة أخرى عن زوجين من الطبقة المثرية تمثلان عنايته بنقل الأثاث وتفاصيل الملابس مما يجعل لها قيمة تاريخية زيادة عما لها من القيمة الفنية، وهذان الزوجان هما: «جان أرنولفيني وزوجته»، بل بلغت عنايته حدا عجيبا في نقل ظل الزوجة في المرآة المستديرة التي بالوسط.
ويلي هذين الشقيقين في الشهرة «هانز مملنك» الذي ولد حوالي سنة 1430 ومات سنة 1494، ولا نعرف تفاصيل حياته على وجه التحقيق، وإنما الأرجح أنه تعلم في كولونيا ثم قضى سائر حياته في بروج حيث كان يملك دارا وعقارات أتاحت له العيش في رخاء، وقد زين مستشفى سان جون في بروج بطائفة من رسومه.
وفي تزيين المستشفى في بروج في إقليم الفلمنك ما يجعلنا نلمح شيئا من هذه الروح الشمالية التي تختلف عن روح الجنوب في إيطاليا مثلا حيث نجد آثار الرسامين في الكنائس.
ولم يكن مملنك خلوا من الروح الدينية فإن أحسن آثاره في الفن ما رسمه من الصور عن حياة القديسة «اورسولا»، ولكن العناية بالمستشفيات وتزيينها في القرن الخامس عشر يعد بدعة تدل على روح الزمن وترينا أن الشماليين أدركوا في ذلك الوقت أن البر لا يقتصر على الأعمال الدينية بل يتجاوزها إلى الأعمال المدنية.
وأحسن ما تركه «مملنك» هو صورة الدوق كليف، فهي تمثل جمال الشباب قد امتزج إلى راحة الإيمان، وهذه الصورة من النفائس التي يزدان بها الآن المتحف الوطني في لندن.
وحوالي هذا الزمن نجد أن الرسم قد انطلق تماما من التقاليد الدينية؛ لأن الحياة المدنية كان شأنها قد ارتفع، فظهرت طبقة من التجار والصيارفة وأصحاب المصانع لها من الجاه والثروة ما يجلب إليها ذلك الاحترام الذي كان مقصورا على رجال الدين أو على الأمراء والملوك، فنرى مثلا رساما مثل «كانتان ماسيس» الذي ولد سنة 1466 ومات سنة 1530 يعيش في انفرز، وينقل لنا صورة صيرفي مع زوجته، وقد اشتغل هو بعد النقود والتفتت هي إليه بعد أن كانت تقرأ في كتاب ديني مذهب، وقد بالغ الرسام في الدقة حتى رسم على المرآة المستديرة صورة نافذة مفتوحة.
وبوفاة ماسيس يختم العصر الأول للمدرسة الفلمنكية، وهو عصر الاستقلال والابتعاد عن إيطاليا وتقاليدها البيزنطية الضعيفة، أما الرسامون الفلمنكيون بعده فقد تأثروا بإيطاليا مثل «مابوز» الذي ولد سنة 1472 ومات سنة 1535، فإنه أدخل الطريقة الإيطالية بعد أن زار إيطاليا وعرف هناك دافنشي، وأحسن ما خلقه من الرسوم صورة «مرجريت تودور» التي ترى للآن في ادنبرج في إسكوتلاندة.
الفصل السابع
نجوم النهضة
دافنشي. أنجلو. رفائيل
من يقرأ حياة دافنشي بتفاصيلها الصغيرة يمكنه أن يمثل في ذهنه تلك الاضطرابات الذهنية التي أصابت الناس في عصر الانتقال من القرون الوسطى إلى القرون الحديثة، نعني بذلك الزمن الذي عاش فيه دافنشي بين ميلاده سنة 1452 ووفاته سنة 1519.
ففي حياة دافنشي رأت أوروبا دخول الأتراك إلى القسطنطينية، وهزيمة المسيحيين أمام المسلمين، كما رأت اكتشاف أميركا، وفي كلتا الحادثين ما يدفع إلى التفكير، ووضع العقل فوق النقل، والرأي فوق العقيدة، والشك مكان اليقين.
ويمثل دافنشي عصره، لأنه عبقري أحاط في دراسته وهمومه الذهنية بطائفة كبيرة من العلوم والفنون كأنه كان يجوع إلى التجارب والمعارف، فكان رساما كما كان مثالا يصنع التماثيل، وكان عالما أدرك بذهنه أن جبال الألب كانت تحت الماء، وكان يدرس الرياضة درس الهوى والتعلق والشغف، وكان لا يكف عن التجارب الجديدة حتى صنع مرة طيارة، ولم يمنعه من الاستمرار في تتميم اختراعها إلا حماسة تلاميذه الذين خشي عليهم من اقتحام الهواء، وكان يخترع آلات الحرب وأدوات السلم، وكان موسيقيا ماهرا، ومع ذلك وضع أحسن كتاب في زمنه عن التشريح، قال عنه فسارى:
يحدث أحيانا أن السماء تهب أحد الأشخاص من الجمال والنعمة والقدرة بحيث أن كل ما يعمله يبلغ من الروعة الإلهية أن يسبق جميع ما يعمله سائر الناس، ويثبت بوضوح أن عبقريته إنما هي هبة من الله وليست اكتسابا بالحذق الإنساني، وقد رأى الناس هذا في ليوناردو دافنشي الذي لا يمكننا مهما فعلنا أن نبالغ في جماله الشخصي، والذي كان له من القدرة الخارقة ما كان يستطيع به أن يحل أية معضلة تعترضه.
ولم يبالغ فسارى في هذا الوصف فقد كان دافنشي موهوبا، يجمع إلى قوة جسمه التي كان يمكنه بها أن يلوي نعل الفرس بيده، جمال طلعته ورقة نفسه، حتى ذكر عنه أنه كان يشتري العصافير من التجار ثم يطلقها في الهواء.
وقد أرسله أبوه إلى المدرسة، ولكنه «كان يدرس عدة أشياء ثم يتركها»، ومع ذلك كان مع نزقه هذا يلزم شيئا لا يتركه وهو الرسم، فأخذه أبوه إلى الرسام «فروشيو» لكي يتتلمذ عنده، ويحكى أن فروشيو هذا كان يعمل في إتمام صورة كبيرة تمثل «يوحنا المعمدان» وهو يعمد المسيح، وكان قد كلف بعمل صورة أخرى، فاضطر للسرعة أن يكلف دافنشي بأن يرسم على الصورة أحد الملائكة، وقام دافنشي بهذا العمل، وكان الملك الذي رسمه خيرا من الملائكة التي رسمها أستاذه، فلما عاد فرشيو تعجب لهذه العبقرية التي تفجرت من هذا التلميذ، ولكنه في الوقت نفسه تأسف لأن تلميذا لم يدرب يجيد الرسم أكثر منه، ويقال إنه من ذلك الوقت لم يتناول الريشة وقصر نفسه على نحت التماثيل.
وذاعت شهرة دافنشي بعد ذلك فطلبه الدوق سفورتسا لكي يكون في خدمته في ميلان، وهناك رسم الصورة المشهورة: «العشاء الأخير» الذي مثل فيه المسيح بين تلاميذه عندما أخبرهم بأن واحدا منهم سيخونه، وكان دافنشي لتشعب خواطره بين العلم والفن والرياضة يتباطأ في عمله، وكان يصنع هذه الصورة لأحد الأديار القريبة من ميلان فلما أبطأ شكاه رئيس الدير إلى الدوق، وأرسل هذا إلى دافنشي يلومه على تباطئه، فأجابه دافنشي بخطاب جميل قال فيه:
بقي علي من الصورة رأسان لم أتمهما بعد، فإني أشعر بالعجز عن تصور الجمال السماوي الذي يتمثل في مولاي (المسيح)، والرأس الآخر الذي يجعلني أفكر هو رأس يهوذا الخائن، فإني أعتقد أني لن أتمكن من تصوير وجه هذا الرجل الذي استطاع أن ينطوي على نية الخيانة لمولاه بعد أن انتفع به كل هذا الانتفاع، ولكن رغبة في توفير الوقت، فإني لن أفكر كثيرا في هذا الرأس، بل أقنع بوضع رأس رئيس الدير، فهذا هو رأيي الذي لا أجد خيرا منه الآن.
وضحك الدوق من هذه الفكاهة الجميلة وطلب من رئيس الدير ألا يقلق دافنشي بعد ذلك بشكاويه وإلحاحه في السرعة.
ولدافنشي صورة أخرى أشهر من صورة «العشاء الأخير» هي صورة «موناليزة» المشهورة باسم «الجيوكندة» فقد قضى فيها ثلاث سنوات وهو لا يتمها، إما لأنه كان كل يوم يجد في هذه المرأة معنى جديدا يريد أن ينقله إلى اللوحة، وإما لأنه أحبها، فكان يتعلل بالتأخير لأنها كانت تأتيه كل يوم، وكان بالطبع يخشى إذا كملت الصورة أن يمنعها زوجها من الذهاب إلى مرسمه، ويبدو من تاريخه أن حبه لها كان عذريا.
وترك دافنشي الدوق وانضم إلى فرنسيس ملك فرنسا الذي أحبه واحترمه وحمله معه إلى فرنسا، وهناك مات، وكانت صورة «موناليزة» معه لم تفارقه، حتى إن الملك أراد أن يضعها في قصره، فرجاه دافنشي أن يتركها له حتى يموت، وهي الآن في متحف اللوفر في باريس، وقد ذكر فسارى أنه بلغ من عناية الملك فرنسيس بهذا الرسام أنه عندما سمع بمرضه زاره وحمل رأسه بين يديه، وكان دافنشي في غيبوبة، فلما أفاق ووجد الملك يعنى به ويحنو عليه تأثر ومات.
ويجدر بنا هنا قبل أن نتكلم عن النجمين الأخيرين أن نذكر واحدا عاصر الثلاثة وهو غرلندايو الذي ولد سنة 1449 ومات سنة 1494، وهو يمثل ديمقراطية الفن، فقد كان أولئك العظماء الثلاثة يرعاهم البابا أو الملك أو الأمير، أما هو فقد جعل مرسمه دكانه الصغير الذي كان يبيع منه إكليلا اخترعه وصار يصنعه لكي يضعه السيدات على رءوسهن، والروح المسيحية التي وضعت جمال النفس فوق جمال الجسم واضحة في رسومه، فهو يصور جمال النفس ولا يبالي بالجسم، وهذا يخالف المألوف عند الأمم القديمة أيام الوثنية، فإنها كانت تفهم الجمال في الجسم، وأحسن صور غرلندايو هي صورة «الجد وحفيده»، وأنف الجد قبيحة بل وجهه دميم، ولكن الناظر إليه يستشف جمالا في النفس في عاطفة الأبوة المرتسمة عليه وهو يحنو على حفيده الصغير، وله أيضا صورة جيوفانا ترنابيوني.
أما النجم الثاني فهو ميخائيل أنجلو الذي ولد سنة 1475 ومات سنة 1564، وهو يفوق دافنشي في الرسم والنحت، ولكن دافنشي يسمو عليه في الحكمة، وقد عاش دافنشي لذلك سعيدا أما أنجلو فقد كان يضيق بالناس وبنفسه.
وقد كان والده قاضيا وأراد أن يربي ابنه على أن ينشأ تاجرا، ولكن عبقرية الصبي أبت إلا الظهور والتفجر، واضطر أبوه أن يلحقه بمرسم غرلندايو وهو في الثالثة عشرة، ولكنه مال إلى النحت أكثر مما مال إلى الرسم.
وكانت أسرة مديتشي لها السيطرة والاسم في ذلك الوقت، وكان لورنتسو عميدها، فبسط عليه رعايته وعين له مرتبا وخصه بالتعليم في «مدرسة الحديقة» التي كانت قد أنشأها لتخريج المثالين.
وحوالي سنة 1490 اهتزت فلورنسا بذلك المدعو «سافونا رولا» فقد كان هذا الرجل راهبا رأى حواليه أمارات الانتقال من التقاليد الدينية إلى العصر الحديث عصر الشك، فكبر عليه ذلك وأخذ يدعو إلى كراهة العلوم والفنون، وكانت الكتب تجمع وتحرق علنا في ميادين فلورنسا، وكان كثيرون يهجرون أعمالهم لكي يدخلوا في الرهبانية، ورأى ميخائيل أنجلو ذلك فلم يتأثر به بالعكس عمد إلى الوثنية الإغريقية فصار ينقل عنها، وصار يصنع التماثيل الرائعة للآلهة «باخوس» و«ادونيس» و«قوبيد».
وبقي سافونا رولا يصلي ويعظ الناس في الشوارع، ويسب البابا، ويصب اللعنات على المترفين والكافرين والذين يقرءون الكتب الوثنية، إلى أن سئمه أهل فلورنسا فأحرقوه سنة 1498، ونصروا بذلك النهضة التي أوشكت أن تموت في مدينتهم.
وكان ميخائيل أنجلو قد فر من البندقية في هذه المدة ثم عاد إليها، وكان أحد التجار قد اشترى منه تمثاله «قوبيد» وباعه لأحد الكرادلة في روما بعد أن أوهمه أنه تحفة قديمة صنعها الإغريق، ولكن الكردينال عرف الغش ووقف على الحقيقة، ثم فرح لهذا الغش عندما تحقق أن إيطاليا حديثا يمكنه أن يصنع تمثالا يشبه تماثيل قدماء الإغريق، وبعث من فوره في طلب أنجلو الذي قصد روما وهناك بقي في رعاية الكردينال.
وبقي مدة في روما وهو متشبع بالروح الوثنية، ولكن وثنيته انتهت قبل أن يبرح روما إلى فلورنسا سنة 1501 حيث صنع تمثالا لداود.
وبقي في فلورنسا أربع سنوات لم يسعد فيها، ولذلك فإنه ما كاد البابا يوليوس الثاني يستدعيه إلى روما حتى رحل إليها، وهناك عرض عليه البابا أن يبني له ضريحا، فسافر ميخائيل أنجلو إلى مقالع كرارة واقتلع المرمر الذي يحتاج إليه، ثم عاد إلى البابا فرآه قد أبدل رأيه، فإن أحد الذين حوله أوهموه أن بناء الضريح في حياته فأل سيئ، فأحجم البابا عن المضي في مشروعه وطرد المثال من قصره.
وعاد أنجلو إلى فلورنسا، ولكن البابا عاد فاستدعاه، فلما بلغ روما أخبره البابا بأنه يريد أن يكلفه رسم السقف في مصلى سستين، وكان أنجلو يؤثر النحت على الرسم، فنصح له بأن يستخدم رفائيل بدلا منه، فأصر البابا على إنفاذ كلمته.
وفي 10 مارس من سنة 1508 كتب ميخائيل أنجلو هذه العبارة: «اليوم أنا ميخائيل أنجلو المثال قد شرعت في رسم المصلى».
وفي السنة التالية كتب يقول: «ليست هذه مهنتي ... فأنا أضيع وقتي».
ولكنه بعد أربع سنوات وهو راقد على ظهره انتهى من رسم السقف الذي يعد الآن من مفاخر الفن الإيطالي. وقد قسم السقف ثلاثة أقسام كل قسم منها مجزأ ثلاثة أجزاء، فالقسم الأول يشتمل على خلق الدنيا في ثلاثة أجزاء: أولها الله عز وجل يفصل بين النور والظلام، وثانيها يخلق النجوم، وثالثها الله يبارك على الأض، والقسم الثاني يحتوي على سقوط الإنسان في ثلاثة أجزاء أيضا: أولها خلق آدم، وثانيها خلق حواء، وثالثها الإغواء والسقوط، والقسم الثالث يحتوي على الطوفان، وهو أيضا ثلاثة أجزاء: أولها تقدمه نوح، وثانيها الطوفان، وثالثها سكر نوح.
وقد أصيب المثال بآلام وأوجاع من بقائه أربع سنوات وهو ينسطح كل يوم لكي يرسم السقف حتى بقي بعد ذلك مدة إذا أراد أن يقرأ أو يرى شيئا جليا رفعه فوق رأسه على ما اعتاد من أيام الرسم.
وعاد إلى فلورنسا، وكانت قد ذاعت شهرته وصار أهل فلورنسا يفاخرون به، وقادهم الحب له إلى الاغترار به، فأقاموه في ثورة لهم مديرا للتحصينات يقاتل أسرة مديتشي، وفر من المدينة التي انهزمت، وعادت هذه الأسرة التي كان يحاربها فاستخدمته وأذلته.
ولكن البابا بولس الثالث أنقذه من هذا الذل، فكلفه برسم «يوم القيامة»، ثم عاد فكلفه بصنع القبة التي ما تزال روما تفتخر بها.
وقد زاره فسارى في أواخر سنيه وذكر عنه فقره، وأنه لا يأكل سوى القليل من الخبز والنبيذ، وأنه مع ذلك لم يكف عن النحت، فقد صنع لنفسه خوذة يلبسها على رأسه ويضع فيها الشمعة، فيقوم في الليل ويكب على عمله في ضوء هذه الشمعة التي لم تكن تشغل إحدى يديه.
وقبل أن يموت بيوم أحس باقتراب الأجل المحتوم فأوصى وصيته بحضور خادمه وأصدقائه وجاء فيها قوله إنه «يوصي بروحه لله وبجسمه للأرض».
أما النجم الثالث فهو رفائيل الذي ولد سنة 1483 ومات سنة 1520 وهو في السابعة والثلاثين من عمره، وقد قضى هذه الحياة القصيرة يتقلب في السعادة بخلاف تلك الحياة الطويلة التي قضاها ميخائيل أنجلو في الشقاء والفقر.
وقد درس رفائيل في فلورنسا فاستدعاه البابا إلى روما سنة 1508 وهناك شرع في تزيين قصر الفاتيكان، ثم تعين المعماري الأول لكنيسة القديس بطرس والأمين لآثار رومية القديمة، وكان جميل الوجه لا يمشي في روما إلا وحوله حاشيته، حتى يحكى عنه أنه وهو في سيره التقى بميخائيل أنجلو، فقال له هذا بلهجة الحسد وهو يرى الحاشية التي حوله: «تسير هنا كأنك قائد على جيش».
فأجابه رفائيل: «وأنت تسير كأنك الجلاد يقصد إلى النطع».
ومعظم رسوم رفائيل دينية، وهو أفضل من رسم «العذراء» وأكسبها جمالا وشبابا لا يجدهما الإنسان عند أي رسام آخر، ومات في يوم ميلاده سنة 1520 بحمى لم تمهله سوى بضعة أيام.
الفصل الثامن
نحو البندقية
مانتنيا. كوريجيو. بليني. جورجوني
إذا ذكرت الفنون في إيطاليا كان لفلورنسا والبندقية أكبر المقام، بل لهما أكبر المقام في أوروبا لأنهما أساس النهضة الفنية، وهما تذكران لظهورهما، ولأن نصيبهما من نهضة الفنون كان عظيما، ولكن إلى جانبهما ظهرت جملة مدن أخرى في شمال إيطاليا عني أعيانها وأغنياؤها بالفنون مثل: بدوا، وبولونيا، وبارما، وفرارا.
وقد كان للنهضة الإيطالية أسباب اقتصادية، فإن الفنون لا تنشأ وتزدهي بين الفقر والفاقة، فالفن الجميل نبات يحتاج لنموه إلى روح الرفاهية ووسط الرخاء إن لم نقل إنه يحتاج إلى عادات الترف، وذلك لأن الصورة الجميلة أو التمثال الرائع لا يقتنيه إلا رجل قد استراح من هموم المعاش الضروري، ووجد في وقته وماله تلك السعة التي تتيح له التأنق وإحاطة نفسه بضروب الترف الكمالية.
وقد كان الجزء الشمالي من إيطاليا بين القرن الثالث عشر والسادس عشر في نهضة اقتصادية أساسها التجارة بين أوروبا والشرق، فظهرت البندقية وفلورنسا وجنوا، وظهرت فيها طبقة غنية تعزى إليها في ذلك الوقت رعاية الفنون.
وقد كانت فلورنسا الأولى في رعاية هذه النهضة، ولكن لم يمض وقت طويل حتى انتشر رجال الفن في المدن الأخرى التي حولها أو القريبة منها عندما كثر الرسامون وضاقت بهم فلورنسا، وأعظم المدن التي تناولت النهضة من فلورنسا وسارت بها شوطا بعيدا هي البندقية، تلك الجمهورية الغنية التي ما تزال آثارها الفنية ماثلة يتمتع بها كل زائر، بل يمكن أن نقول: إن منازل أغنيائها هي الآن تحف عجيبة من المرمر الذي ينهض من بين الماء كأنه الجواهر، ولكن قبل أن نذكر عظماء البندقية يجب أن نجول جولة قصيرة في المدن الصغيرة التي انتشرت فيها الفنون الجميلة قبل أن تبلغ البندقية وتزدهي فيها.
ففي «بدوا» حيث كانت هناك جامعة قد شرعت في درس الإغريق والرومان وجد أحد الخياطين المدعو «سكوراتشوني» أن الأهالي والطلبة يعنون بالآثار ويسخون في دفع أثمانها أكثر مما يعنون بالأزياء، فعمد إلى الإتجار بالآثار وملأ حانوته بالتماثيل، وكان الطلبة يزورونه لكي يصوروا هذه التماثيل، وفي سنة 1441 ادعى هو نفسه الرسم ودخل عضوا في «نقابة الرسامين» في بدواه والأرجح أنه هو نفسه لم يرسم وإنما كان يغذو شهرته بأعمال تلاميذه، ومن هؤلاء التلاميذ صبي صغير يدعى «مانتنيا» تبناه صبيا، وما فتئ الصبي يلاحظ التماثيل ويقلد الطلبة الذين يترددون على الحانوت للنقل حتى حذق الصنعة وأخذ ينقل هو نفسه هذه التماثيل ويدرس قصص الإغريق وكان بليني (الأب) الرسام المعروف قد عرف هذا الخياط وصادقه ورأى من عبقرية هذا الصبي ما أعجبه، ونشأت بينهما صداقة أثمرت زواجا بين مانتنيا وابنة بليني.
واستقل عندئذ مانتنيا وترك الخياط الذي تبناه وصار يعمل لنفسه، واستدعاه البابا أنوسنت الثامن لكي يزين جدران البلفدير بصوره وأحرز ثروة كبيرة فاشترى عقارا في مدينة «مانتوا» ومات بها سنة 1506.
وكان مانتنيا وثني المزاج للنشأة الأولى التي نشأها في دكان الخياط بين التماثيل الإغريقية، ولذلك فإنه يتناول الموضوعات القديمة مثل «انتصار يوليوس قيصر»، وأحسن رسومه صورة «برناسوس» التي رسم فيها رباوة برناسوس في اليونان التي هي وطن ربات الفنون التسع وهن يمثلن الفنون الجميلة، وعلى الرباوة فينوس أي الزهرة مع أبولو وبجانبه قوبيد الصغير ينفخ في البوق وترقص الربات حولهم، وقريب منهم وقف عطارد رسول الآلهة ومعه جواده المجنح ينتظر وحي الآلهة للشعراء ورجال الفن على الأرض.
ولكن يعاب على مانتنيا أن أشخاصه جامدة، فهو يرسم الشخص وكأنه ينقله عن تمثال من المرمر وليس عن شخص حي.
ومن أعظم الرسامين الذين يصلون بين عهد فلورنسا وعهد البندقية أو يبدءون عهد البندقية ثلاثة هم: كوريجيو، وبليني، وجورجوني. أما كوريجيو فلا يعرف إلا القليل عن حياته. فقد ولد سنة 1494 ومات سنة 1534 وقضى معظم عمره في مدينة بارما، وكان وثني المزاج إلى حد ما، يحب تصوير الأساطير الإغريقية، وصورته «تربية قوبيد» من أجمل ما خطته ريشة رسام في الخيال والصنعة، وقد ذكر عنه فسارى أنه «كان مغرما بالإدخار مثل جميع الناس الذين يحملون عبء الأسرة حتى صار مقترا مبالغا في التقتير»، ويعزو سبب موته إلى أنه حمل عبئا كبيرا من النقود النحاسية فأثقله حملها وهو سائر في الشمس، حتى عطش فشرب وهو ضائق بالحر والجهد فأصابته حمى مات بها وهو في الأربعين.
أما بليني فاسم يطلق على ثلاثة من الرسامين، أولهم: يعقوب بليني (الأب) الذي زار الخياط في بدوا وزوج ابنته لمانتنيا، ثم أبناه جنتيله بليني الذي ولد سنة 1429 وجوني بليني، ولم يكن الفرق بينهما في السن سوى سنة أو سنتين، وكان الجميع قد انتقلوا إلى البندقية التي أخذ أغنياؤها - وهم في ذلك الوقت أغنى أغنياء العالم - يستخدمون الرسامين في تصويرهم وينقدونهم أعلى الأجور.
والبندقية تقوم في البحر، شوارعها خلجان وقنوات، وهي لذلك رطبة الهواء، وقد وجد الشقيقان أن طريقة الرسم الفلمنكية أي مزج الأصباغ بالزيت توافق هذه المدينة أكثر من الطريقة السابقة، فاصطنعاها في رسومهما في كنائس البندقية ومجلس الدوق، قال فسارى يصفهما: «كان الشقيقان يعيشان منفصلين، ولكن كان كل منهما يحترم الآخر كما كانا كلاهما يحترمان والدهما، حتى إن كلا منهما كان يعد نفسه ويصرح بأنه دون الاثنين الآخرين».
ولكن الصغير جوني كان أبرع في الرسم من أخيه وأبيه، وقد حدث أن سفير البندقية في الأستانة كان قد اقتنى بعض الصور التي رسمها جوني على القماش، فرآها السلطان محمد الثاني وأعجب بها إعجابا عظيما، وطلب من هذا السفير أن يستدعيه لكي يرسمه، فأرسل السفير إلى دوق البندقية يطلب من المجلس الإذن بسفر جوني إلى الأستانة، ولكن المجلس ضن بجوني وأرسل أخاه جنتيله، وهناك في الأستانة رسم جنتيله بليني صورة محمد الثاني، وعاد إلى البندقية مزودا بخطاب من محمد الفاتح للدوق والمجلس يمتدح فيه براعة الرسام ويوصي به، ومات جنتيله سنة 1507 أما أخوه جوني فقد عاش بعده عشر سنوات ودفن في البندقية.
وللأخوين عدة صورة يعرف منها للآن صورة «الدوق لورندانو» رئيس جمهوية البندقية، وهي لجوني بليني، وصور أخرى تزدان بها كنائس البندقية ومجلس الدوق.
وقد علم جوني بليني طائفة بارزة في الشهرة منهم جورجوني وتسيانو المعروف عند الإنجليز باسم تيتيان، وقد ولد جورجوني سنة 1470 ونشأ في الريف، وكان والداه يشتغلان بالفلاحة، وكان يجمع بين الموسيقى والرسم، يجيد النفخ في الناي كما يجيد الغناء، وكثيرا ما كان يزين رسومه بالآلات الموسيقية، وكان يقول بأن الرسم يؤدي من المعاني أكثر من النحت، ولكي يثبت صحة قوله: «رسم جسما عاريا قد التفت تحت أقدامه فسقية من الماء الصافي يعكس ماؤها صورة الجسم من الأمام، وعلى أحد الجانبين من الفسقية رسم درعا، الدرع صورة أحد جانبي الجسم لأن المعدن يعكس صورة الأشياء، وفي الجانب الآخر من الفسقية مرآة تعكس صورة الجانب الثاني من الجسم».
وله من الصور الآن غير آثاره في البندقية «صورة شاب» و«صورة العذراء على العرش»، ومات جورجوني سنة 1510 لأنه كان يحب فتاة مرضت بالطاعون فلزمها ولم يتركها فانتقلت إليه العدوى ومات وهو في الرابعة والثلاثين.
الفصل التاسع
مجد البندقية
تسيانو. تنتوريتو. فيرونيز. موروني
كانت البندقية في وقت من الأوقات أغنى دولة في العالم تكاد تحتكر التجارة بين أوروبا وآسيا وإفريقية، وكان لها أكبر أسطول.
ولكن ذهبت قوتها كما ذهب غناها ولم يبق لها من المفاخر سوى هذه الآثار الفنية التي تركها لها الرسامون.
وأساس الفن في البندقية هو الفن الفلورنسي، فقد أخرجت فلورنسا المعلمين الذين علموا البندقيين أو علموا من علموهم. وإذا ذكرت البندقية في الفنون طار الخيال إلى تسيانو الذي يسميه الإنجليز «تيتيان».
وقد ولد هذا الرسام العظيم سنة أو حوالي سنة 1482. ويقال إنه بلغ التسعين من عمره وهو في خدمة البندقيين. ولم تكن البندقية بلدته الأصلية ، فإنه نشأ في قرية صغيرة على جبال الألب، ولا نعرف شيئا كثيرا عن طفولته أو صباه، وإنما نجده حوالي سنة 1516 رساما معروفا في البندقية بعد وفاة جورجوني وبليني، وقد تعين في تلك السنة رساما للحكومة.
قال فسارى عنه: «كان جميع الأمراء والعلماء والأعيان الذين يزورون البندقية يقصدون إليه ... ولم يكن تسيانو عظيما في فنه فقط، بل كان نبيلا أيضا في شخصه».
وأعظم ما يعرف به تسيانو الآن صورته للإمبراطور شارل الخامس «فإنه صوره عقب انتصاره في واقعة أوجسبرج وكافأه الإمبراطور بألف قطعة من الذهب. وكان بعد ذلك كلما صنع له صورة كافأه بمثل هذا المبلغ. وكان تسيانو إذا رسم المرأة أخرجها وسطا ناضجا في الأنوثة، لا هي شابة ولا هي عجوز، حتى في صوره الوثنية أو المسيحية. ومات سنة 1576 وبلغ من إعجاب البندقيين به وحبهم له أنهم خالفوا أوامر الحكومة التي كانت تقضي بدفن الموتى خارج المدينة لتفشي الطاعون، ودفنوه في إحدى الكنائس التي زين هو نفسه جدرانها برسومه.
وظهر بالبندقية بعده «تنتوريتو» الذي تتلمذ له وهو صغير، ولكن تسيانو طرده لسبب غير معروف. فقد روى بعضهم أنه غار منه، وروى آخرون أنه كان يعصيه. والأرجح أن السبب الثاني هو الصحيح.
وقد ولد «تنتوريتو» بالبندقية سنة 1518 وكان سريعا في عمله. حكي عنه أن «الأخوة سان روكو» عرضوا على الرسامين أن يقدم كل منهم رسما لسقف الغرفة الخاصة بالطعام. فذهب كل منهم إلى مرسمه يفكر في الرسم. ولكن «تنتوريتو» قصد إلى هذه وقاس السقف واشترى القماش ورسم الرسم عليه وذهب وعلقه. فلما كان اليوم المعين لفحص الرسوم رأى الرهبان أن «تنتوريتو» قد انتهى من عمله فأجازوه، ولم يلتفتوا إلى ما عمله الآخرون.
ويمتاز «تنتوريتو» بأنه رسم أكبر صورة هي صورة الفردوس في قصر الدوق، يبلغ عرضها 84 قدما. كما يمتاز أيضا بأنه آخر الرسامين الإيطاليين الذين عنوا برسم المواقف الدينية. بل يمكن أن يقال إنه بموته سنة 1594 أدى الفن الإيطالي مهمته وصار على الأمم الأخرى أن يتموا ما بدأته فلورنسا والبندقية.
وكان يعاصر «تسيانو» و«تنتوريتو» رجل آخر تعلم منهما هو «بول فيرونيز» الذي ولد سنة 1588. وكان مولده في فيرونا. ولكن قضى حياته في البندقية. وهو الذي زين قصر الدوق بجملة مناظر فخمة تتسم بالأبهة والفخامة والجسامة. وأحسن صوره هي صورة «أسرة دارا أمام الإسكندر المقدوني».
وكان «بول فيرونيز» يحب ملذات الدنيا ومسراتها وينقل بعض هذه المسرات إلى رسومه، حتى أدى ذلك إلى محاكمته أمام «محكمة التفتيش»، فقد كلف بأن يرسم «العشاء الأخير» للمسيح فما كان منه إلا أن حشد الصورة بالطعام الشهي والشراب الكثير والخدم والحرير. فلما علمت «محكمة التفتيش» بذلك استدعته وقنعت بتوبيخه. وقد رسم بعد ذلك صورة «عبادة المجوس» فتوقى فيها تلك الملذات التي كان هو نفسه غارقا فيها. ومن أحسن صوره صورة «رؤيا القديسة هيلانة للصليب».
ومن عظماء الرسامين في البندقية «موروني» الذي ولد سنة 1520 ومات سنة 1578. وكان يجيد رسم الأشخاص. بل يمكن أن نقول: إن جميع البندقيين من الرسامين كانوا يجيدون رسم الأشخاص، لأن سكان البندقية كانوا تجارا يتنافسون في رسم وجوههم ويكافئون الرسام بأكبر قيمة. وموروني مشهور برسمه لأحد الخياطين، وبرسم آخر لأحد النبلاء الإيطاليين.
وقد أنجبت البندقية عددا غير قليل من الرسامين غير هؤلاء من «لوتو» الذي كاد يستوحي الفن البيزنطي القديم من حيث الروح والإيمان. أما من حيث الصنعة فإنه إيطالي.
الفصل العاشر
نهضة الفن في ألمانيا
دورير. هولبين
اتفقت النهضة الفنية في ألمانيا والنهضة الدينية، ولكنهما لم تشتركا ولم تتعاونا، بل سارت كل منهما في طريق ونهجت إحداهما نهجا يخالف النهج الذي اتخذته الأخرى. وبعبارة أوضح نقول: إن الكنيسة الكاثوليكية ساعدت النهضة الفنية كما لا بد أن القارئ قد لاحظ ذلك بين رجال الفن في فلورنسا والبندقية، فإن معظم أعمالهم الفنية أتموها بمساعدة الكنيسة البابوية التي تجيز تزيين جدرانها بالصور والتماثيل، بل كانت تتسامح أيضا في نقل الصور الوثنية القديمة ولا تعد هذا كفرا.
ولكن لما ظهرت البروتستانتية في ألمانيا على يد لوثر سنة 1517 كان من دعوتها تطهير الكنائس من التماثيل والصور. وقد كان وما يزال لصورة العذراء والإيمان بشفاعتها شأن كبير في الكنيسة الكاثوليكية. والعذراء من الموضوعات التي توحي إلى رجل الفن. وتجعله يصور الأنوثة والأمومة في شخص أم المسيح. ولكن الدعوة البروتستانتية قاومت الإيمان بالعذراء، وأنزلتها من مكانتها التي لها في الكنيسة الكاثوليكية. ولذلك لا نجد أن الفن يزكو في البيئة البروتستنتية كما زكا في البيئة الكاثوليكية. ويمكن مع ذلك أن نقول: إن الفن انتفع كما استضر بهذا التطبيق؛ لأنه وجه نظر رجاله إلى موضوعات أخرى لا تمت إلى الدين.
وقد رأينا نهضتين: إحداهما في إيطاليا في مدينتي فلورنسا والبندقية، والأخرى في أقاليم الفلمنك حيث عرف الرسم بالزيت. والنهضة الألمانية تعتمد على النهضة الفلمنكية أكثر مما تعتمد على النهضة الإيطالية.
وهذه النهضة الألمانية تكاد تنحصر في رجلين. هما: دورير، وهولبين.
أما «دورير» فقد ولد سنة 1471 ومات سنة 1528. وهو من أصل هنغاري، ولد أبوه في هنغاريا ولكنه رحل إلى نورمبرج وأقام بها منذ سنة 1471. ونشأ الصبي شغوفا بالرسم، فألحقه أبوه بأحد الرسامين وهو غير راض عن هذه الحرفة. ولكن عبقريته تفجرت بعد مدة قليلة، وذاعت شهرته، ورحل إلى البندقية، وهناك التقى بجوني بليني. ومما يحكى عنه وهو هناك، أن بليني أعجب بالطريقة التي يرسم بها الشعر حتى ظن أن دورير قد اخترع ريشة خاصة لرسم الشعر. فلما عرف كل منهما الآخر، طلب بليني من دورير أن يهدي إليه ريشة من تلك الريش التي يرسم بها الشعر. فأخرج له دورير كل ما عنده من الريش فإذا بها عادية. فتعجب بليني، ولم يكد يصدق ما قاله دورير حتى رسم أمامه بإحدى هذه الريش بعض هذا الشعر الذي يعجب به.
وكان في البندقية في ذلك الوقت جالية ألمانية استدعته لكي يزخرف لها بعض الأبنية الدينية الخاصة بها. وبلغ من إعجاب البندقيين له أن عرضوا عليه ما يسمى «حرية المدينة» أي أن يكون بندقيا. وقد عرضت عليه الفرس ذلك أيضا عندما زارها.
وأحسن رسومه صورته التي رسمها بنفسه، وفيها من السذاجة المقرونة إلى الكرامة ما يجعل الإنسان يقف متأملا في هذا الوجه الجميل. وكذلك له رسوم أخرى ما زالت باقية مثل «آدم» و«حواء» و«صلب المسيح».
وفي سنة 1518 استدعاه الإمبراطور مكسيمليان إلى أوجزبرج فرسمه هو وحاشيته. وقد أعلن لوثر المبادئ البروتستينية في حياته، ولكنه بقي محايدا. وهذا هو السبب في أن الإمبراطور مكسيميليان لم يجد ما يمنعه من أن يبعث في طلبه. ويبدو من أخلاقه وأعماله بعد ذلك أنه كان بروتستنتيا.
أما الرجل الثاني فهو «هولبين» الذي ولد سنة 1497 ومات سنة 1543. ولما مات دورير 1528 كان هولبين شابا لا يزيد عمره عن 31 سنة يرسم في لندن، ولكنهما يختلفان كثيرا. فإن دورير قديم ليست فيه تلك الروح الجديدة التي كانت تضطرم في صدر هولبين. وهذه الروح الجديدة هي الطباعة الجديدة، واكتشاف أميركا، وذلك الشك العلمي الجديد الذي أخذ مكان العقائد القديمة.
وقد نشأ هولبين في أسرة تتشغل بالرسم ولكن لم يشتهر فيها أحد. وهناك من يقول إنه زار إيطاليا، وليس هناك ما يدل على ذلك في تاريخه. والمعروف عنه أنه نزل في بازل ولوسيرن. قال السير أوربن:
وقد كان أستاذا في فنه إلا أنه كان من طراز آخر غير طراز دورير، فكان يحترف الرسم ويبغي إتمام عمله اليومي على أكمل وجه، ولكنه لم يحاول أن يوضح للناس كيف يجب أن يعيشوا أو أن ينفذوا إلى خفايا الحياة. وكان قانعا بأن يرسم ما يراه فينقله نقلا صادقا رائعا، إلا أنه كان حكيما يعيش في عصر الخداع والغش، فكان يحجم عن أن ينفذ إلى ما تحت السطح. فهو إذا رسم رجلا مثل يعقوب ماير قنع بوصف أخلاقه، ولكن دورير يحاول أن يطلعك على نفسه.
ولما رأى هولبين أن النهضة البروتستنتية تحول دون رواج الرسم شرع يرسم قصصا غير دينية مثل أمثولة «رقص الموت».
وفي سنة 1526 رحل إلى إنجلترا بدعوة من السير توماس مور صاحب الكتاب عن «الطوبى» وهناك رسمه هو وأسرته. ثم اتصل بالجالية الألمانية في لندن ورسم بعض الأشخاص، فأقبلوا عليه وربح منهم أموالا غير قليلة. ثم طمع أن يبلغ الملك هنري الثامن، وكان يعتقد أن السير توماس مور يكون الوسيلة إلى ذلك. ولكن الملك غضب على السير توماس لأنه رفض أن يوافق على طلاقه لامرأته، فتوسل إلى الملك برسم بازداره روبت تشزمان، وعرف الملك بعد ذلك فقبل رسمه. وكان في أثناء إقامته في إنجلترا يتردد على بازل ويرسم صور الأمراء والأعيان في أوروبا. «وكما لم يكن لدورير وهولبين سلف عظيم، كذلك لم يكن لهما خلف عظيم، واحتاجت أوروبا أن تنتظر أربعا وثلاثين سنة قبل ميلاد رسام عظيم خارج إيطاليا وذلك هو: روبنز».
الفصل الحادي عشر
المدرسة الفلمنكية
روبنز. فانديك
لم يكن «روبنز» رساما فقط، بل كان أيضا سياسيا يختلط ببلاطات الملوك والأمراء ويثقف ذهنه بمختلف العلوم والفنون. وقد نشأ في بيت من البيوتات الكبيرة؛ إذ كان أبوه جون روبنز قد تربى في إيطاليا، وعاد إلى إقليم الفلمنك موطنه الأصلي، وقضى معظم حياته في انفرز. وكان إقليم الفلمنك في ذلك الوقت خاضعا لحكم إسبانيا، فلقي جون روبنز اضطهادا دينيا وسياسيا جعله يرحل بأسرته إلى كولونيا.
وهناك تعرف إلى وليم الصامت وعرف زوجته أميرة أورانج. ثم زادت العلاقة بينهما إلى حب انفضح أمره، فحبس جون روبنز ولم يطلق سراحه إلا بعد أن تم الطلاق بين وليم الصامت وزوجته. ومات بعد خروجه من السجن بزمن قليل أي في سنة 1587.
وولد الرسام بطرس روبنز في وستفاليا سنة 1577؛ أي أنه كان قد بلغ العاشرة عند وفاة أبيه. وعادت أمه إلى انفرز فلم يتعلم الصبي كثيرا، ولكنه التحق بمرسم ابن عمه.
ويجب أن نذكر هنا أنه منذ وفاة ملبوز سنة 1533 لم يظهر رسام عظيم قبل بطرس روبنز. ولم يلبث عند ابن عمه ستة أشهر حتى تركه إلى مرسم رجل آخر أشهر منه يدعى «فاينيوس». وكان أحسن ما لقيه من هذا المعلم حثه له على زيارة إيطاليا. ورحل بطرس إلى البندقية، وعرف الدوق مانتوا فدخل في خدمته وتمكن من زيارة فلورنسا ودرس رسومها. وحضر زواج ماري دي مديتشي بملك فرنسا، ثم أرسله الدوق على رأس بعثة إلى ملك إسبانيا مزودا بالهدايا من الجياد والرسوم.
وعاد من إسبانيا إلى إيطاليا ونزل في جنوه. ثم بلغه أن أمه مريضة في انفرز فسافر إليها سنة 1608، وكان في هذا الوقت قد صار له شأن وذاعت له شهرة فطلب إليه الأرشدوق البير في بروكسل أن يترك الدكتور مانتوا لكي يكون رسام البلاط. وقبل روبنز هذا التعيين، ولكنه اشترط أن يكون مقامه في انفرز مدينته الأصلية. وهناك تزوج بزوجته إيزابيلا سنة 1609.
وفي السنة الثانية وضع روبنز ترسيما لقصره شيده على الطراز الإيطالي، وقضى هناك اثنتي عشر سنة وهو لا يشتغل بشيء آخر سوى الرسم.
وهناك رسم صورتين شهيرتين هما: «رفع الصليب» و«النزول من الصليب».
وكان من عادة روبنز أن يستعمل تلاميذه في إنجاز صوره، ثم يقنع هو بالمسحة أو اللمسة الأخيرة. وأنشأ مصنعا في انفرز لصنع الصور. وقد نشأ على يديه طائفة كبيرة من الرسامين منهم «فانديك».
وفي سنة 1622 طلبت ماري مديتشي ملكة فرنسا من روبنز أن يحضر لكي يزين قصر لوكزمبرج. وما تزال صوره إلى الآن تزين جدران هذا القصر. وكانت الغاية من هذه الرسوم رفع شأن أسرة مديتشي. ومن أعجب ما هدته إليه عبقريته أنه صور الملك هنري الرابع وهو ينظر إلى صورة زوجته نظرة الإعجاب والعشق، وحاط الصورة بآلهة الحب.
ولما مات الأرشيدوق البير استدعته زوجته لكي يكون مستشارها في بروكسل. وكانت سياستها في ذلك السعي في صداقة هولندا وإنجلترا وإسبانيا، والوفاق بين هذه الدول الثلاث مع مجانبة فرنسا. وسافر روبنز إلى الهاي لكي يعقد محالفة بين الفلمنك والهولنديين سنة 1623.
وسافر بعد ذلك إلى باريس، حيث عرف الدوق بكنجهام. وهو الحاكم الحقيقي في ذلك الوقت لإنجلترا أيام الملك تشارلس الأول الذي قتله الثائرون. وأرسله بكنجهام إلى إسبانيا لكي يجس نبض الحكومة وهل ترضى في محاربة فرنسا التي كان هذا الدوق يكرهها لمخاصمته للدوق ريشليو.
وبلغ روبنز مدريد وهناك رسم الملك فيليب الرابع، وعرف فلاسكس الرسام الإسباني. وكان روبنز أكبر منه بنحو 22 سنة.
وسافر روبنز بعد ذلك موفدا من قبل فيليب الرابع إلى إنجلترا، وهناك رسم الملك تشارلس سنة 1629 ووضع أساس الصلح بين إنجلترا وإسبانيا. ومما يدل على كياسته أنه مهد لهذا الصلح بصورة رسمها وقدمها هدية لملك إنجلترا وهو «بركات السلام» وفيها «منيرفا» ربة الحكمة تدفع الحرب إلى الوراء بينما السلام يستقبل الغنى والسعادة وأبناءهما المبتسمين.
ومما يحكى عنه أنه عندما بلغ لندن قال له أحد الإنجليز الذين بالبلاط: هل مولاي السفير يلهو أحيانا بالرسم؟
فأجاب روبنز: كلا. إنما ألهو أحيانا بالسفارة.
وأنعم عليه الملك بلقب سير سنة 1630، وهي السنة التي عاد فيها إلى انفرز. وكانت زوجته قد ماتت، فتزوج فتاة صغيرة تدعى «هيلين» لم تبلغ السادسة عشرة. وقضى بعد ذلك سبع سنوات يهنأ بالزراعة والرسم. ولم ينغص بشيء سوى مرض النقرس.
وكان سريعا في الرسم حتى يحكى عنه أن الملك فيليب كلفه برسم جملة صور. وكان رسوله يتعجله. فقال له ذات يوم: «سأرسمها كلها بنفسي لكي ننتهي منها بسرعة». وهذا يدل على سرعة يده في الرسم وعلى أنه كان يوكل عنه غيره في تأدية بعض الصور.
قال موتهور عنه يصف رسومه الطبيعية: «إننا لا نجد هنا نزاعا بين العناصر، بل نجد كل شيء يلمع بالندى والرطوبة. وفي الأشجار بهجة تشبه بهجة الأطفال السمان الذين قاموا من المائدة وشبعوا».
وقال أورين: «لقد قيل إن هناك مناظر طبيعية تهدئ النفس وتسكنها، وأخرى تنشطها. ومناظر روبنز هي من هذا الصنف الثاني، فإنه لم يكن يتصوف في نظره إلى الطبيعة بل كان يقترب منها بلا هيبة تحدوه كبرياء الرجل القوي الذي يحترم القوة».
ويقارب روبنز في شهرته وإن كان مع ذلك دونه «فانديك» الذي ولد في انفرز سنة 1599. وقد تعلم الرسم على أيدي كثيرين أشهرهم روبنز. ولما أن بلغ رشده كان قد برع في الرسم، حتى إن سفير إنجلترا في الهاي دعاه إلى زيارة إنجلترا فقصد إليها سنة 1620. ولكنه لم يمكث طويلا بل عاد إلى انفرز، وهنا أغراه روبنز بزيارة إيطاليا فعمل فانديك بإشارته.
وانتفع فانديك من هذه الزيارة ، وعاد وقد قويت فيه ملكة التمييز بين الألوان والقدرة على أداء التفاصيل، وسافر إلى إنجلترا حيث رسم الملك تشارلس الأول على جواده، وكان الثائرون قد استولوا على هذه الصورة بعد أن قتلوا الملك ثم باعوها حتى وقعت في يد أمير بافاريا، وبقيت هناك إلى أن اشتراها منه الدوق مارلبرا. وما زالت في بيته إلى سنة 1885 حين ابتاعتها الحكومة هي وصورة «العذراء» لرفائيل بمبلغ 87000 جنيه.
وكان فانديك رقيق المزاج ضعيف الجسم، وانغمس في الملذات فلم يتحمل جسمه أضرارها. وقد مات سنة 1641 وهو في الثانية والأربعين من عمره. وكان يؤمن بالخرافات ويبحث عن «حجر الفلاسفة» وأنفق في البحث عنه قوته وماله.
الفصل الثاني عشر
نهضة الفن في إسبانيا
الجريكو. فلاسكس. موريلو
ترجع نهضة الفن في إسبانيا إلى إيحاء الفلمنك ثم إلى إيحاء الإيطاليين. وليس هذا غريبا إذا عرفنا أن الفن الفلمنكي انتشر في بلجيكا وهولندا، وهذه الثانية كانت من ممتلكات إسبانيا ولم تنل استقلالها إلا بعد حروب دينية طويلة.
وكان فان إيك الفلمنكي قد زار إسبانيا في سنة 1428، وتبعه آخرون جرأهم على الرحلة إليها ما لقيه هو من تقدير وحظ ثم دخلت بعد ذلك نابولي وصقلية في دائرة الممتلكات الإسبانية، فاتصل الإسبان بالفن الإيطالي.
وكان الفن قد ظهر في نابولي وارتقى على يد كرافاجيو الذي ولد سنة 1569 ومات سنة 1609. وكان قد استقل بأسلوب خاص في نقل الطبيعة كما هي، فكان بذلك رائدا للأسلوب التقريري أو التحقيقي في حين أن معظم الرسامين في زمنه كانوا يقتصرون على نسخ رسوم العظماء، فكان هو طليعة الرقي الجديد بينما الكثرة الغالبة حوله من الرسامين كانوا قد انحطوا ودخلوا في طور النسخ والقنوع بما أداه عظماء فلورنسا والبندقية. ولكرافاجيو رسوم قليلة باقية أهمها وأبدعها صورة «الغش في الكوتشينة». ورسومه كلها ناصعة الألوان. ولكن هذه النصاعة لم يبلغها إلا بالمبالغة في رسم الظل، بحيث يهمل الاندغام والتدرج بين الألوان فيجعل النور أضوأ والظلام أحلك من حقيقتيهما. وقد ورث عنه هذا النقص فلاسكس.
وانتقلت طريقة كرافاجيو إلى إسبانيا على يد ربيبرا، وهو رسام إسباني غير مشهور توفي سنة 1656. ولكن إسبانيا كانت قد تأثرت برسام أجنبي ولد في جزيرة كريت، ولذلك أطلق عليه اسم «الجريكو» أي الإغريقي، وكانت ولادته سنة 1545 ووفاته سنة 1614، وقد زار البندقية وتتلمذ لتسيانو، وفي سنة 1575 هاجر إلى إسبانيا ونزل في طليطلة، وهناك في مدينة طليطلة وجد تلك الحركة الدينية التي أحدثها لويولا زعيم اليسوعيين ومنشئ فرقتهم، وقد سبق أن ذكرنا للقارئ ما كان من التأثيرات المختلفة التي أحدثتها الحركات الدينية في فن الرسم، وكيف أثرت حياة القديس فرانسيس ثم حياة الراهب سافونا رولا ثم ظهور النهضة البروتستانتية، والآن نقول: إن النهضة اليسوعية كان لها أثر غير صغير أيضا في فن الرسم في إسبانيا، فقد كانت الغاية من هذه النهضة مكافحة البدعة الجديدة التي أوجدها لوثر؛ أي البروتستنتية، ولكن سبيل هذه المكافحة هو تطهير الكنيسة الكاثوليكية ولذلك نجد أن الموضوع الذي استهوى الجريكو فأجاد رسمه هو «المسيح يطرد الصيارفة من المعبد»، وهذه الصورة أشبه شيء بالرمز لنهضة لويولا الذي يريد أن يطهر الكنيسة كما أراد المسيح أن يطهر المعبد من المرابين.
وإذا ذكرت إسبانيا من ناحية الرسم خطر بالبال «فلاسكس» أعظم رساميها، بل من أعظم الرسامين في العالم، وقد ولد في إشبيلية سنة 1599 وكان أبوه برتغاليا وأمه إسبانية، فلما بلغ الرابعة عشرة دخل مرسم رجل رسام غير مشهور يدعى «هريرا» لم يبق عنده إلا بضعة أشهر ثم تركه إلى رجل آخر أشهر منه يدعى «باشيكو»، فبقي هناك يتتلمذ له نحو خمس سنوات، وتزوج سنة 1618 ابنته، فعمل باشيكو على مساعدته وتقديمه وإذاعة اسمه.
وكان من مواتاة الظروف لفلاسكس أن ارتقى العرش سنة 1621 فيليب الرابع واستوزر الكونت اوليفاريز، وكان والد هذا الكونت حاكما على إشبيلية، وفيها نشأ ابنه فلما صار وزيرا أخذ الرسامون في إشبيلية وغيره من طلاب المصالح والمناصب يتقدمون إليه بحق الاشتراك في الانتساب إلى مدينة إشبيلية. وقصد فلاسكس إلى مدينة مدريد سنة 1623 وهناك سعى له الكونت أولفاريز حتى اقتنع الملك بأن يقعد له حتى يرسمه.
ومن ذلك الوقت ذاعت شهرة فلاسكس، وصادقه الملك وأحبه وجعله رسام البلاط وعمره وقتئذ لم يكن سنوى 24 سنة، وعمر الملك 18 سنة. وكان الملك يزوره كل يوم في غرفته بالقصر، وكان قد جعل هذه الغرفة مرسما يرسم فيه الملك وسائر أعضاء الأسرة والنبلاء.
وفي سنة 1628 زار روبنز مدريد وعرف فلاسكس الذي انتفع بنقده ونصيحته، وخصوصا عندما نصح له بزيارة إيطاليا التي كانت في ذلك الوقت محج رجال الفن يقصدون إليها لمشاهدة نفائس المدن في عواصمها الكبرى. وأصاع فلاسكس لنصيحته ورحل إلى إيطاليا حيث زار البندقية ورومية ونابولي، ثم عاد إلى مدريد واستأنف أعماله بالقصر.
وعاد سنة 1649 إلى زيارة إيطاليا ثم رجع إلى مدريد بعد أن شاهد معظم الصور الفنية واشترى طائفة كبيرة منها للملك. فتمت بذلك تربيته ونفذت بصيرته إلى دقائق لم يكن يلتفت إليها في أول نشأته.
وفي عالم الرسم اثنان كل منهما شغف بإحدى الصور. هما: رمبرانت الهولندي الذي شغف برسم صورته وترك منها عددا كبيرا ما يزال للآن يزين المتاحف والقصور، وفلاسكس الذي شغف برسم الملك فيليب الرابع حتى إنه ما يزال من رسومه للآن 26 رسما غير ما أضاع الحريق منها.
قال أوربن: «يمكننا أن نعرف ثمرة هذا الإكباب على رسم أنموذج واحد في فلاسكس، وذلك بمشاهدة هذه الرسوم التي قدرت له أن يدرك ما يدركه في النهاية كل رسام، وهو أنه إذا أراد أن يتفوق فإنما سبيل هذا التفوق لا يكون في موضوع الرسم بالذات وإنما في طريقة المعالجة لهذا الموضوع. ولم يكن فلاسكس ينشد وحيه أو إلهامه في طرافة الموضوع الجديد، وإنما كان ينشدهما في الدأب المتواصل في زيادة الفحص وترقية الرسم لشيء سبق أن رآه».
وكانت علاقة الرسام بالملك علاقة الصداقة والاحترام المتبادل، حتى كان يلزم أحدهما الآخر وتسقط بينهما التكاليف التي توجبها عادات البلاط. وكانت سلواهما الرسم والصيد واقتناء الخيول والكلاب. ومن أحسن الصور التي رسمها صورة ولي العهد كارلوس الذي لم يعش إلى أن يرتقي عرش إسبانيا. وقد رسمه في هيئة ملوكية وهو قابض على العصا، ولكنه مع ذلك مسح عليه مسحة الطفولة التي تحببه إلى كل من يرى هذه الصورة الفريدة. ومن رسومه الفريدة صورة «ايزوب» التي تمثل فليسوفا قد أنهكه الدرس والفقر فهو سيئ اللباس مشعث الشعر قد تغضن وجهه وبرزت عظامه وذهبت عن عينيه لمعة الشباب. ولعله صور فيها أحد أصدقائه الكثيرين المفلوكين الذين كان يعرفهم قبل أن يرتقي إلى معرفة الملك.
وتعين بعد ذلك «مارشال القصر» فكان يؤدي أعمالا كثيرة جعلته يهمل الرسم. وفي سنة 1659 كان الكردنال مازران الفرنسي قد عقد صداقة جديدة بين فرنسا وإسبانيا بعقد الزواج بين لويس الرابع عشر وماري تيريز الإسبانية. وحضر فلاسكس هذا الزفاف، وكان عليه أن يهيئ جميع ما تتطلبه الأبهة الملوكية. فأنهكه العمل، فلما عاد إلى مدريد في السنة التالية سنة 1660 مات.
وأعقبت وفاته فترة من «الجاهلية» في إسبانيا ترجع إلى سيادة رجال الدين الذين ما زالوا سائدين حتى نسي اسم فلاسكس. ولكن منذ خمسين سنة أخذ هويسلر في إنجلترا ومانيه في فرنسا يشيدان بذكر فلاسكس وكأنما قد اكتشفاه، فبعثت شهرته من جديد.
وتعرف إسبانيا برسام آخر هو دون فلاسكس ولكنه على شيء من النبوغ الذي يجعل لرسومه بعض القيمة للآن، وهو «موريلو» الذي ولد سنة 1600 ومات سنة 1667. وقد نشأ أيضا في إشبيلية وسافر إلى مدريد وانتفع بمعرفته لفلاسكس. ثم عاد إلى إشبيلية وهناك رسم تلك الرسوم التي تمثل الطبقات المنحطة مثل الشحاذين والفقراء ونحوهم. ومن أشهر رسومه «اثنان يأكلان الشمام والعنب» وهي تمثل حالة إسبانيا الاجتماعية في ذلك الوقت، حالة القوة في الدولة والضعف في الأمة. فكانت الدولة مشهورة بالغنى والسلاح والحروب، والأمة تتمرغ على تراب الفقر. وله صورة أخرى هي «حمل العذراء» وهي تمثل السذاجة والحلاوة في العذراء التي تتطلع إلى فوق بنظرة ممزوجة من الدهشة والأمل. وقد اشترت الحكومة الفرنسية هذه الصورة سنة 1852 بمبلغ 23400 جنيه.
ولم يظهر في إسبانيا رسام آخر بعد «فلاسكس» و«موريلو» إلا بعد مضي نحو مائة سنة وهو «جوبا» الذي سنذكره بعد.
الفصل الثالث عشر
فن الرسم في هولندا
هالز، رمبرانت
ظهر الرسم في هولندا بعد أن أينع في إقليم الفلمنك. وكانت هولندا قد أوشكت على الخراب أمام النوازل التي أنزلتها بها إسبانيا. ولم تكن هذه النوازل مما يهون على أمة أن تكابدها وتبتسم للدنيا، وخصوصا إذا عرفنا أن الهولنديين كانوا أمة صغيرة والإسبان في ذلك الوقت يؤلفون إمبراطورية كبيرة. ولذلك نجد حياة الهولنديين مصورة في رسوم «فرانز هالز» التي تبدو وعلى الوجوه مسحة القلق والغم والاضطراب. وهذه هي المدة التي كان الكفاح فيها شديدا بين الهولنديين والإسبانيين والخاتمة مجهولة. ولكن بعد أن انتصر الهولنديون واضطرت إسبانيا إلى الاعتراف باستقلالهم نجد الوجوه في رسوم «هالز» قد استبشرت وانطلقت. والفن هو مرآة الحياة.
والمعروف عن «فرانز هالز» أن أباه خرج أو فر بأسرته من هارليم، المدينة الهولندية المشهورة، والإسبان يحاصرونها، إلى مدينة انفرز البلجيكية. ولولا فراره لما عرف العالم هذا الرسام، فإن الإسبان عندما دخلوا المدينة ذبحوا السكان. وهناك في انفرز ولد له «فرانز هالز» سنة 1580.
ولا يعرف متى رجعت أسرة فرانز هالز إلى هارليم ولا كيف تعلم الرسم. وإنما هناك بضعة حوادث تثبت أنه كان في سنة 1616 مقيما في تلك المدينة وله زوجة قد شكته إلى ولاة الأمور لأنه أساء معاملتها. وأنه قد طلب إليه رسميا أن يكف عن الإساءة إلى زوجته ويتجنب مخالطة السكيرين. وقد ماتت الزوجة بعد هذه الشكوى بقليل.
ولا يمكن أن يتحقق الإنسان من مقدار التبعة التي تحملها «فرانز هالز» في هذه الحادثة، ولكن يجب ألا ننسى أن تهمة الإدمان لا تتفق وإجادة الرسم. فإن اليد المرتعشة، والذهن المخبول، لا يهيئان الرسام لأن يكون عظيما. وقد تزوج «هانز» بعد ذلك وعاش مع زوجته الثانية خمسين سنة دون شقاق أو خصام. ومما يدل على أنه كان رجلا محترما أنه تعين وهو في الرابعة والستين رئيسا لنقابة الرسامين في هارليم.
ولكن الذي لا يمكن إنكاره أنه كان يحب الشراب ومجالسة الإخوان. وهذا واضح من بعض رسومه التي يمثل فيها النور في تشردهم ولعبهم، كما يمثل في رسوم أخرى العازفين في الشوارع. ثم حدثت له أزمات مالية آخر حياته تثبت تبذيره، فقد حجز عليه الخباز سنة 1652. وبعد عشر سنوات ضاق بعيشه حتى طلب من المجلس البلدي أن يتصدق عليه، فدفع له 150 فلورينا. وبعد سنتين عين له معاشا سنويا قدره 200 قطعة من الذهب.
وقد بدأ حياته الفنية في عاصفة الحرب الوطنية التي شرعت فيها هولندا قبل أن يولد بنحو 12 سنة والتي استمرت مدة طويلة في حياته، ورأى بعينيه الاستقلال يتحقق لبلاده والحرية تنتزع انتزاعا من الإسبان فتأثر فنه بذلك.
ومن أحسن الصور التي رسمها صورة «الفارس الضاحك» وهي تمثل فارسا هولنديا قد ارتسم على محياه الاستبشار والابتسام، وذلك عندما حالت الأحوال واتضح للهولنديين أن النصر سيكون حليفهم. ومن أحسن رسومه أيضا صورة «المربية مع الطفل» وقد أوشك الطفل أن ينفجر بالضحك. ومثل هذه الصورة لا يمكن أن يرسمها رجل سكير يعق أولاده كما يتوهم الإنسان من شكوى زوجته الأولى.
ومات «فرانز هالز» سنة 1666. وهو في مقدمة الرسامين الهولنديين لا يبذه سوى «رمبرانت». قال أوربن:
هناك فرق أولي بين هالز ورمبرانت. فإن هالز قضى معظم عمره في زمن الحرب، أما رمبرانت فقد بلغ فنه النضوج، وأتم معظم رسومه بعد عقد الصلح. ولذلك عاش هالز في وسط الحياة النشيطة المتحركة التي لا تتيح للناس التفكير والهدوء. وقد نقل صورة هذه الحياة في رسومه. أما رمبرانت فقد أمضى عمره بعد شبابه في عصر السلام والهدوء عندما أتاحت الظروف لهولندا أن يكون لها من الفراغ ما تفكر فيه، وتتأمل عظمة استقلالها الذي نالته كما أتيحت أيضا مسائل حياتها. فيمكن أن نقول إن هالز كان يمثل فروسية هولندا ونشاطها بينما رمبرانت يمثل عمق تفكيرها.
وقد ولد «رمبرانت» سنة 1607 في مدينة ليدن، وهي مدينة هولندية كبيرة تمتاز بجامعة كبيرة. وقد كان أبوه يريد أن يعلمه في الجامعة، ولكن الصبي لم يؤهل نفسه لذلك، فإنه قضى معظم وقته في المدرسة وهو يرسم الرسوم المختلفة على هوامش الكتب ولا يؤدي شيئا من واجباته المدرسية . فأخرجه أبوه وألحقه بمرسم أحد الرسامين، الذي لم يبق عنده إلا قليلا ريثما أتقن الصنعة. أما الفن فقد كان يعرفه بسليقته وقوة بصيرته.
وفي سنة 1631 انتقل «رمبرانت» من ليدن إلى أمستردام. وهناك عرف أسرة غنية طلبت منه أن يرسم صورة فتاة تدعى «ساسكيا فان اولينبورج»، فرسمها وتبادل الاثنان الحب وتزوجا سنة 1634.
وقد عاش الاثنان في هناء مدة طويلة. وكان هذا الحب المتبادل الذي هو أساس السعادة بين الزوجين موفورا بينهما، بل من ينظر إلى رسم الزوجة وهي قاعدة على رجل زوجها لا يتمالك من الشعور بهذا السرور الذي يجمع بينهما. وكان لزوجته دخل يستعين به على تحقيق الرفاهية التي كان يحبها، وكان هو نفسه كثير الربح من رسومه. وقد أثث منزله وزينه بأفخر الرياش والتحف، مما يدل على هناء الحياة الزوجية التي كان يشعر به ويستزيد منه.
ولكن هذا الهناء لم يدم فقد ماتت زوجته بعد أن مات له ولدان منها. ولم تترك سوى ولد واحد هو «تيطس» الذي ما تزال صورته ترى للآن في لندن.
وقامت منازعات بشأن ميراث زوجته بينه وبين أهل زوجته عقب وفاتها؛ لأنه غاظهم منه زواجه بالخادمة.
ومات ابنه ولم يترك سوى طفلة ولدت بعد وفاته. فعاش «رمبرانت» بعد ذلك يعاني صنوف الفاقة، وأعلن إفلاسه لكثرة ديونه التي كان يقع فيها حتى في أيام الرخاء الأولى مع زوجته الأولى، كما يدل على ذلك أنه عندما ماتت أمه وورث منها نصف طاحون احتاج إلى أن يتهارب من الدائنين بتنازله عن حقه لأخيه.
ومات في سنة 1669 وهو وحيد فقير. ومن أشهر رسومه صورة «العجوز» التي صور فيها الشيخوخة وحاطها بمعاني الحب والاحترام والرقة. أما غرامه بنفسه فكان كبيرا جدا حتى رسم نفسه عدة مرات في أعمار مختلفة. وأحسن ما فيه أن ينقل العاطفة ويعبر عن الفكر المستتر وراء الوجه. وهذا واضح في جميع صوره.
الفصل الرابع عشر
هولندا في القرن السابع عشر
جيراردو. دوهوش. فرمير. بوطر. جوب. هوبيما. دي فلت
عقدت معاهدة مونستر سنة 1648 بين إسبانيا وهولندا . وبها استقلت هولندا وزال عنها كابوس الاضطهاد الإسباني، فسارت في طريق الرقي الاقتصادي والفني. ولم يمض عليها نحو قرن حتى صارت من أكبر القوى البحرية في العالم.
وعم الرخاء الأهالي، وبعمومه دخل الفن في طور جديد من حيث نزعته وبواعث رجاله. فقد كان إلى الآن في أوروبا يصور حياة العظماء من ملوك وأمراء، أو كان رجل الفن يستخدم ريشته في رسم جدران الكنائس أو تزيين القصور بالحوادث التاريخية. وذلك لأن الكنيسة والبلاط كانا يستأثران بالسلطان المادي والسياسي. ولكن هولندا أزالت هذين السلطانين إذ ألغت البابوية كما ألغت الملوكية فصارت بروتستنتية كما صارت جمهورية. ولهذا نجد أن الفن الهولندي في القرن السابع عشر يمثل الحياة العادية أكثر مما يمثل حياة العظماء. أما الحياة الإكليريكية أو حياة القديسين التي نراها في إيطاليا فلا نجد ما يمثلها في هذا الوقت في هولندا.
وقد كان لهذا التطور في الفن الهولندي ربح وخسارة. أما الربح فهو دخول الفن في ميادين جديدة من حياة الأمة وتمثيله لأحوال معايشها المختلفة في الريف والحضر والبر والبحر. وأما الخسارة فترجع إلى أن رجل الفن وجد بالاختبار أن الجمهور والعامة يحبون الصنعة أكثر مما يحبون الفن. وذلك لأن الصنعة يسهل على العامي أن يفهمها؛ لأنها لا تزيد عن أن تكون تدقيقا في نقل الأصل الطبيعي. أما الفن فيحتاج إلى خيال الرسام الذي يصعب على العامي أحيانا أن يفهمه. وهذا هو عين ما نجده في الأدب. فالأديب الكبير لا يبالي بالصنعة مقدار ما يبالي بها الأديب الناشئ الذي يعنى بالألفاظ والتزويق والبهرجة. وذلك في حين أن للأول من ثقافته وهمومه الذهنية ودراساته المختلفة ما يلفت نظره إلى ما هو أهم من هذه الفسيفساء اللفظية يفهمها العامي ويعجب بها ويتذوق أسلوبها أكثر مما يستطيع فهم ما يكتبه الأديب الكبير.
وكذلك الحال في فن الرسم. فالعامة لا يمكنها أن تفهم الفن الإيطالي الراقي أو فن رمبرانت، لأن خيال الرسامين الذين أدوا تلك الرسوم السامية التي ما تزال للآن تزين المتاحف والقصور والكنائس كان من السمو كما كانوا هم أيضا من الثقافة بحيث يتجاوز خيالهم أذهان العامة. وكانت الطبقات الراقية من الكهنة والعظماء المتعلمين يفهمونهم ويساعدونهم. أما الديمقراطية الجديدة، ديمقراطية العامة، فلم تفهمهم في هولندا. ولذلك تغلبت الصنعة على الفن وأخذ النقل الساذج المتقن من الطبيعة مكان الخيال والاختراع.
وهذا النقل المتقن يصور لنا حياة الهولنديين في القرن السابع عشر ولكنه لا يلهمنا. فنحن نكاد نرى فيه صورا فوتوغرافية متقنة. فإذا نظرت إلى طائر رسمه أحد هؤلاء الرسامين ألفيت كل ريشة فيه قد رسمت بألوانها وظلال ألوانها كأنك ترى الأصل، ولكنك تقف عند هذه الحقيقة ولا تعدوها إلى الخيال. وليست هذه غاية الفن.
ولذلك نرى في القرن السابع عشر في هولندا طائفة كبيرة من صغار الرسامين مثل «جيراردو» الذي ولد سنة 1613 ومات سنة 1675. ومن أحسن رسومه صورة «بائعة الدجاج» نعني لحم الدجاج، لأن الأوروبيين لا يشترون الدجاج حيا ويكلفون أنفسهم مشقة ذبحه في البيوت.
ومنهم «بطرس دوهوش» الذي ولد سنة 1629 ومات سنة 1677. وله ميزة على أقرانه من حيث اهتمامه بتصوير النور عندما تقع أشعته على أنحاء الغرفة، كما يتضح للقارئ من رسمه الذي يمثل فيه غرفة في منزل هولندي بها فتاة «التارنة» تقرأ في ضوء الشمس الذي ينسكب على جدار الغرفة من النوافذ.
ومنهم «مومير» الذي ولد سنة 1632 ومات سنة 1675. وكان يمتاز بالدقة في تصوير الألوان. ومن أحسن رسومه «رأس فتاة». وفي هذا الرسم من حلاوة الصبا وبزوغ الشباب ما يجعل الصورة ذكرى لمن يراها. وهي تفوق عصره في الفن والخيال.
ومنهم «بول بوطر» الذي ولد سنة 1625 ومات سنة 1654 ويمتاز بما له من الرسوم الريفية. وهولندا بلاد تعنى بالزراعة من زمن قديم بل هي الآن أعظم أمة في القدرة على استغلال الأراضي وأقدر أمة على استخراج الحاصلات الزراعية، ولذلك كان من الطبيعي أن يعنى رساموها بتصوير حياتها الريفية. وأحسن رسوم «بوطر» هو رسمه «العجل» وهو عجل أوروبي بارد، إذا تأملته خيل لك أنه يجتر فليس فيه شيء من معاني الفحولة.
وممن رسموا الماشية في هولندا «البرت جوب» الذي ولد سنة 1620 ومات سنة 1691 وله مناظر ريفية مثل منظره «عند النهر».
ومن عظماء الرسامين في هذا القرن «مندرت هوبيما» الذي ولد سنة 1638 ومات سنة 1709. فإنه ينزع إلى شيء من الخيال يميزه عن سائر الرسامين الهولنديين في ذلك الوقت، ورسومه عن الطبيعة من أبدع ما خلفه من التحف الفنية. وأحسن رسومه «الطريق». وقد كانت رسومه وحيا للمدرسة الإنجليزية التي عنيت برسم الطبيعة والأشجار والأنهار والجبال. وهنا يجب أن نلاحظ أن حب الطبيعة والريف والرياضة الخلوية نشأ في الأمم الشمالية، حيث الطبيعة في الجمال دون ما هي عليه عند الأمم الجنوبية مثل إيطاليا أو إسبانيا. فالرياضة البدنية الخلوية هي من المخترعات الاسوجية أو الإنجليزية أو الألمانية. وحب الطبيعة والدعوة إليها هما أيضا من خصائص أهل الشمال في أوروبا. وهذا مع العلم بأن السماء أصحى في الجنوب مما هي في الشمال والطبيعة أزكى نباتا وحيوانا في الجنوب أيضا. وكذلك الفن نحا نحو الطبيعة في الشمال، في هولندا أو إنجلترا. ولا ترى هذا النحو عند رجال الفن في جنوب أوروبا. وتكاد توهمنا هذه الشواهد بأننا نحب الطبيعة والريف والشمس والصحو بمقدار ابتعادنا عنها. فنتخيلها في الرسم، ونتغنى بها في الأدب، وننزع إليها في الرياضة. أما إذا كنا نعيش بينها ونلابسها في حياتنا فإننا لا نقدرها ولا نهيم بها.
وكما كانت هولندا أمة زراعية كذلك جاء عليها وقت كانت فيه أمة بحرية كبيرة كادت تنازع إنجلترا سيادة البحار. ولذلك نجد أن الفن الهولندي قد تناول موضوع الحياة البحرية. وأشهر من قام بذلك «فان دي فلت» الذي ولد سنة 1633 ومات سنة 1707، فقد صور البحر في سكونه وهياجه. وأشهر رسومه صورة «العاصفة» التي تمثل الكفاح بين الأمواج والملاحين.
الفصل الخامس عشر
نهضة الفن في فرنسا
واطو. بوشيه. شاردن. فراجونار. جروز
ظهر فن الرسم في فرنسا في القرن السابع عشر وقد نزع نزعتين: إحداهما نزعة ديمقراطية تمت إلى الفلمنكيين والهولنديين ويعنى فيها الرسام برسم أحوال الطبقات الوسطى والفقيرة، والأخرى نزعة أرستقراطية تمت إلى الإيطاليين ويعنى فيها الرسام برسم حياة العظماء والملوك وتزيين القصور.
وأعظم الرسامين الفرنسيين في القرن السابع عشر هو «أنطون واطو» الذي ولد سنة 1683 ومات سنة 1721. وكان مولده في فالنسين قريبا من الحدود الفرنسية الفلمنكية. ولما حاول أن يتعلم الرسم رفض أبوه أن يساعده لأنه كان يرغب في أن ينشأ نجارا مثله. ولما بلغ التاسعة عشرة فر إلى باريس، وهناك عرف أحد التجار الذي يتجرون بالصور الدينية فاشتغل عنده بنقل هذه الصور. ولم يكن الطبع بالحجر قد عرف بعد، فكانت الصور ترسم باليد. ويحكى عنه في ذلك الوقت أنه قصد إلى غرفته التي يأوي إليها على سطح أحد المنازل ومعه قماشه وريشته وأصباغه، ولكنه نسى صورة «القديس نقولا» الذي كان عليه أن ينقلها. وجاءت زوجة التاجر تحمل معها هذه الصورة إليه، ولكنها عندما بلغت غرفته وشرعت في توبيخه لأنه نسي الأنموذج الذي ينقل منه، حانت منها التفاتة فرأت أنه قد رسم صورة هذا القديس معتمدا على ذاكرته فقط ولم ينس شيئا من التفاصيل.
وترك هذا العمل الذي يشبه السخرة واشترك مع رسام آخر يدعى جيلو، ولكنهما افترقا لأن جيلو رأى أن شريكه أبرع منه في الرسم وعرف في ذلك الوقت أمين قصر لوكزمبرج، فصار يتردد إليه يرسم ما حوله من الأشجار ويدرس ما في جدرانه من الرسوم التي زينه بها روبنز، وفيها وصف حياة ماري دو مدسيس (مديتشي). وتشبع «واطو» برسوم روبنز، حتى أثر بذلك في الفن الفرنسي فجعله يتجه نحو الطريقة الفلمنكية الهولندية بدلا من الاتجاه نحو إيطاليا. ومن أحسن رسومه في ذلك الوقت رسمه «السيدة تلبس ملابسها».
وكان يحن إلى رؤية إيطاليا محج الرسامين في كل وقت، ورغب في أن ينال الجائزة المالية التي تمنحها الأكاديمية لكي يسافر بها إلى إيطاليا، وكان قد سافر إلى بلدته وهناك أدى بضعة رسوم تمثل حياة الجيش، فأخذ لوحتين كبيرتين من هذه الرسوم وتوسل بالرجاء إلى أن علقتا على جدران الأكاديمية. وحدث أن أحد الأعضاء وهو المسيو دولا فوس رآهما وأعجب بهما. فسأل عن الرسام وتعرف إليه. فلما بثه «واطو» دخيلة سره وأنه يرغب في أن يظفر بالجائزة لكي يسافر بها إلى إيطاليا أجابه المسيو دولا فلوس بأنه ليس في حاجة إلى ذلك لأنه يحسن الرسم كالإيطاليين إن لم يفضلهم. وسعى له هذا العضو حتى جعله هو نفسه عضوا في الأكاديمية. وكان هذا خيرا من الجائزة، لأنه أذاع شهرته فأقبلت عليه الدنيا وراجت رسومه.
ولكنه لم يتمتع كثيرا بهذه الشهرة، فقد كان مصابا بالدرن الذي تفشى في رئتيه أيام البؤس الأولى، فلما كان في السابعة والثلاثين ساءت حاله فكان لا يستطيع العمل إلا قليلا، وكان يحب العزلة والاعتكاف وهما من الصفات الذهنية التي يحدثها التدرن في نفس المصاب به. وخطر له أن يسافر إلى إنجلترا سنة 1719، وهناك لقي توفيقا، ولكن الجو القائم والرطوبة أثرا في صحته فعاد إلى فرنسا وقد تبدلت نفسه، فصار يكب على الصلاة وقراءة الأناجيل وينتظر الموت. وكان قد آوى إلى كوخ في قرية صغيرة تدعى نوجان أقام بها إلى أن مات سنة 1721. وكان آخر ما أداه من الرسوم رسم «صلب المسيح».
ومن الرسامين في ذلك العصر «بوشيه» الذي ولد سنة 1703 ومات سنة 1770، وقد نال جائزة الأكاديمية وهو حوالي العشرين من العمر. وقد عرف تلك المرأة الجميلة المدام دو بومبادور وأتحفها بطائفة كبيرة من رسومه. كما أنه ابتدع بدعة جديدة في الألوان، وهو أن يتخفف منها كلها فلم يستعمل الألوان الصارخة التي كانت شائعة في زمنه.
ومن رسامي ذلك العصر أيضا «شاردن» الذي ولد سنة 1699 ومات سنة 1779. وكان ديمقراطي النزعة ينشد الجمال بين الفقراء من الصناع والتجار والعمال. ومن أحسن رسومه صورة طباخة تصنع الفطير، وعلى الرغم من أنه كان يعيش في زمن من أفسد الأزمنة، هو ذلك الزمن الذي هيأ التربة لنبات الثورة، فإنه لم يغتر ببهارج الطبقة السائدة ولم ينشد الجمال إلا في سذاجة الطبيعة وسلامة النفس.
ومن أحسن الرسامين في ذلك العصر «فراجونار» الذي ولد سنة 1732 ومات سنة 1806. وقد نال جائزة الأكاديمية سنة 1752. ورحل إلى إيطاليا فقضى فيها أربع سنوات. وعاد إلى باريس فنال الحظوة بين النبلاء، وهو أشبه الرسامين من هذه الناحية ببوشيه الذي كان يحظى برعاية المدام دي بومبادور عشيقة الملك.
قالت الليدي دلك الإنجليزية: «لقد وجد بوشيه في فراجونار خلفا صادقا. فإن أزياء البلاط وعاداته بما فيها من التصنع الكبير، حتى في التظاهر بالبساطة ولزوم الطبيعة، ثم مزاج الهيئة الاجتماعية التي كانت تنغمس في الشهوات على الرغم من ادعائها للحنان والعطف، كل هذا كان سببا لتلك الأكاذيب الكثيرة التي تجري في حياة الناس العادية ... وحدائق فراجونار كلها سرور ولكن ما فيها من آلام وعواقب وخيمة كان يتجاهلها الرسام في رسومه. كما أن الأمراض والأحزان كان الناس يتجاهلونها في الحياة الواقعة أيضا».
والفن كما سبق أن قلنا مرآة الحياة. وقد صور هذه الحياة التعسة بين نبلاء فرنسا كل من «فراجونار» و«بوشيه» ونقلاها في رسومهما بروح الإعجاب لا بروح الاستيلاء. وكان ذلك دليلا على مقدار الغفلة المتسلطة على هؤلاء النبلاء الذين اكتسحتهم بل ذبحتهم الثروة الكبرى.
وقد كان يعاصر «فراجونار» رسام آخر هو أعظم من ذكرناهم شهرة وهو «جروز» الذي ولد سنة 1725 ومات سنة 1805، وهو يمثل أفكار جان جاك روسو في تصوير البساطة وسذاجة الإيمان، وقد نال شهرته لصورة رسمها عن «والد يشرح الكتاب المقدس لأسرته». وحياته تشبه حياة «واطو» من نواح كثيرة. فقد كان والد كل منهما نجارا يعارض ابنه في اتخاذ الرسم صناعة. وكما فر «واطو» كذلك فر «جروز» إلى باريس. وكلاهما نال شهرته حوالي الثلاثين: الأول بدخوله عضوا في الأكاديمية، والثاني بعرضه هذه الصورة التي ذكرناها. وقد تألم كل منهما في آخر حياته: الأول بالمرض، والثاني بالفقر.
وأصل هذا الفقر الذي وقع فيه «جروز» هو زوجته، فقد أحبها وهو يعلم بفساد أخلاقها. ولكنه كان يمني نفسه بإصلاحها، وقد خلدها في رسم بديع هو «رأس فتاة تتطلع» فإن هذه المرأة لم تكف عن فسادها وزادت على ذلك أنها أتلفت ماله وأضاعت كل ما كان يدخره. وجاءت الثورة الفرنسية فكانت عنصرا جديدا لم يألفه «جروز » فمات غريبا عنها لا يعنى به أحد.
الفصل السادس عشر
الرسامون الإنجليز في القرن الثامن عشر
هوجارث. ولسون. رينولدز
لم يكن «هوجارث» أول الرسامين الإنجليز، ولكنه كان أول من اعتمد على بصيرته في الرسم دون النسخ الذي كان دأب الذين سبقوه. وهو لم يكن فقط ... «أول رسام إنجليزي وطني، وأول من نظر إلى الحياة الإنجليزية نظرا إنجليزيا ورسمها بدون تصنع أو تأثير أجنبي، بل كان أيضا أول من جعل الصور محبوبة عند الشعب».
ولد «هوجارث» سنة 1697. وكان أبوه معلما مستنيرا، فلم يعارض في أن ينشأ ابنه رساما. وكان السير ثورنهل قد أنشأ جمعية للفنون، وكان يلقي فيها محاضرات، فصار هوجارث يواظب على حضورها، ولكنه سئمها في الآخر عندما رأى أن الرسم مقصور على النسخ من الصور القديمة. وكان يقول: «النسخ أشبه الأشياء بصب الماء من إناء لإناء» أي أنه كان يرغب في أن يستنبط ماءه بنفسه من الحياة ذاتها.
ولكنه بقي يلازم مرسم السير ثورنهل لأنه أحب ابنته. ولم يكن يطمع في أن ينال رضا السير ثورنهل بزواجه بابنته، ولذلك عمد إلى الفرار بها وتزوجها. وبقي الزوجان أربع سنوات وهما بعيدان عنه حتى ساعده الحظ ورفعه إلى مكانة الكفء لمصاهرة السير ثورنهل، فاصطلحا وأسس لنفسه مرسما في لندن.
ولم يبتغ «هوجارث» حظوة النبلاء والطبقة العالية، ولكنه كان يرسم الطبقات المتوسطة والوضيعة كالممثلين والخدم وأفراد أسرته. وهو يرسم هؤلاء على حقيقتهم. ومن أجمل رسومه رسم «فتاة الجنبري» التي تنبض بالحياة ويكاد ينطلق وجهها مؤديا تلك المعاني التي توضحها العينان والفم.
وقد ابتدع طريقة جديدة في الرسم، وهي أن يؤلف القصة ثم يرسمها فصلا بعد فصل. وقد كان الرومان ينقشون على الأعمدة والجدران الرسوم الخاصة بوقائع الإمبراطورة، وكان جوتو يرسم أسفار التوراة، ولكن «هوجارث» كان يؤلف القصة ثم يرسمها. وكثيرا ما كان يضمنها العبر والعظات في الأخلاق. وله سلسلة تسمى «زواج المودة» تعمد فيها نقد الأخلاق في الأسر الراقية وتهزئة ما يتصنعه أفرادها من ثقافة وكبرياء.
وكان مع بلوغه حالا حسنة من اليسار متواضعا يكره الأبهة. خرج ذات مرة من مرسمه فسار إلى منزله والمطر يهطل، وقد نسي أن له مركبة فاخرة تنتظره، فأصابه برد فمات سنة 1764.
ويعد «ولسون» الحلقة التي تصل بين «هوجارث» و«رينولدز» كما يعد ثلاثتهم واضعي الأساس لنهضة الفن في إنجلترا. وكان مولد «ولسون» سنة 1714. وكان أبوه قسيسا فقيرا، ولكن أمه كانت متصلة بأسرة كبيرة تعرف قيمة الفنون. فلما رأى بعض أفرادها ميل الشاب إلى الرسم بعثه إلى لندن ليتعلم. وقد بدأ برسم الأشخاص، ولكنه اشتهر برسم مناظر الريف والطبيعة. وحدث ذات مرة أنه دعي سنة 1748 إلى رسم ولي العهد والدوق يورك ومعلمهما، ونال أجرا كبيرا تمكن به من أن يرحل إلى إيطاليا لكي يدرس صور عظماء النهضة الإيطالية. وهناك رسم بعض المناظر الطبيعية.
وعاد إلى إنجلترا فلقي حظوة كبيرة بين الأغنياء الذين صاروا يتغالون في شراء صوره، إلا أن الحظ عاد فانقلب عليه حتى قضى سنيه الأخيرة وهو في فاقة بالغة إذ لم يكن ينال من الطعام سوى الخبز.
أما سبب نكبته فيرجع إلى أن الجمهور لم يداوم على طلب المناظر الريفية والطبيعية التي كان يرسمها، وأيضا إلى حادثة صغيرة حدثت له. فقد رسم منظرا من حدائق كيو وعرضه، فأراد الملك أن يشتريه. فبعث إليه اللورد بوت، وكان هذا اللورد من الإسكوتلانديين المتزمتين الذين لا يفهمون الفكاهة. فلما شرع يساومه في الثمن أجاب الرسام أن الثمن 60 جنيها لا ينزل عنه. واستكثر اللورد بوت هذا الثمن فأجاب الرسام مداعبا: «قل لجلالة الملك يدفع الثمن أقساطا».
واستكبر اللورد بوت هذه الكلمة وأنزل بالرسام غضب البلاط الذي استتبع أيضا غضب النبلاء. ولولا أن «ولسون» كان قد تعين أمينا لمكتبة «الأكاديمية الملوكية» بمرتب 50 جنيها في العام قبل أن يفوه بهذه الدعابة لهلك جوعا. ومات بعد فاقة مؤلمة سنة 1782 عند أقاربه في ويلز.
ومعظم الرسوم الباقية لولسون هي مناظر طبيعية لإنجلترا وإيطاليا. ولم يكن أثره مقصورا على أن جعل الرسوم الطبيعية محبوبة، بل هو جعل الريف الإنجليزي نفسه محبوبا بما أظهر فيه من محاسن يغفل عنها الزائر المتنزه، ولكنها تتضح في الرسم الذي تؤديه اليد الماهرة والخيال السامي.
وأعظم الثلاثة هو بلا شك «رينولدز» الذي ولد سنة 1723 في ميناء بليموث، وهناك عرضت له فرصة حسنة لزيارة إيطاليا. فقد نشأ الفتى يحب الرسم واتفق أن قبطان إحدى البوارج الراسية في تلك المياء رآه هناك وأحبه وأعجب برسومه وأفضى إليه الفتى بهواه في رؤية إيطاليا وكانت البارجة على وشك السفر إلى البحر المتوسط فعرض عليه القبطان أن ينقله إلى إيطاليا.
وهناك أخذ يدرس الرسوم المشهورة في رومية والبندقية وفلورنسا. ولما عاد إلى لندن أقام له مرسما عاش فيه عزب يقول عن نفسه إنه قد تزوج فنه. وكان أصم يعيش مع أخته وسائر قريباته. ولم يكن بيته يخلو من حلاوة الطفولة وجمال الصبا. ورسومه الخاصة بالطفولة مأخوذة من أعضاء أسرته. ولما تأسست «الأكاديمية الملوكية» تعين رئيسا لها. قال لوكاس: «لم يكن الناس يطلبون رينولدز إعجابا ببراعته في الرسم، بل حبا لمحادثته. ومع أنه لم يكن ينشد مصادقة الطبقة العالية فإنه كان يعرف قيمتها. وهناك من ذوي الأذهان السامية من صادقوه مثل: بورك، وجولد سمث، وجونسون، فكان منزله مركزا للمسامرة والأنسة».
ومن أحسن رسومه صورة «الآنسة بوت تمثل طائس». وطائس هذه هي الفتاة الإغريقية التي رافقت الإسكندر المقدوني في حروبه، فلما مات أخذها بطليموس الأول فولدت له ثلاثة أولاد. وصورته الثانية «الطفل صمويل» وقد جعلها رمزا لسذاجة الإيمان، وصورته «وقت السذاجة».
ومما يؤسف له أن «رينولدز» كان يحب من الألوان أزهاها وأنضرها، فكان يمزج أصباغه ببعض مستخرجات القار. ومن المعروف أن القار يذوب في الحر، كما يتضح لنا ذلك في الصيف في الشوارع المفروشة بالأسفلت، ولذلك فإن بعض رسومه تلفت واختلطت أصباغها.
وكان «رينولدز» قد فقد إحدى عينيه فحزن لذلك كثيرا في آخر أيامه، وبقي في خشية العمى إلى أن مات سنة 1792. وقد دفن باحتفال رسمي في كنيسة القديس بوليس أكبر كنائس لندن. وكان أديبا يجيد الكتابة كما يجيد الرسم. وله الآن كتاب يدعى «محاضرات عن الرسم» هو مجموعة المحاضرات السنوية التي كان يلقيها على طلبة «الأكاديمية».
الفصل السابع عشر
رسم الأشخاص في إنجلترا
جينز بورا. رومني. رايبورن. هوبنر. لورانس. كوفمان
ولد «جينز بورا» سنة 1727 أي قبلما يبلغ «رينولدز» الرابعة من عمره. وقد بقي الاثنان طول حياتهما يتباريان في ميدان الفن مع شيء من التحاسد. ويحكى عن «جينز بورا» أنه وهو صبي صغير كان شغوفا بالرسم حتى إنه شهد ذات مرة رجلا يتسور بستانا للسرقة فرسمه، وكانت هذه الصورة التي رسمها دليلا اهتدت به الشرطة للقبض على السارق. ولكنه لم يكن يستعمل هذه البراعة لمصلحة الأمن العام على الدوام، فقد حدث أنه أراد أن يحصل على إجازة من المدرسة، فأرسل خطابا لناظرها عن لسان أبيه، وأجاد نقل خطه وإمضائه، ونجح في نيل الإجازة. ولكن أباه عرف بعد ذلك حقيقة ما جرى.
ولما رأى أبوه أنه لا ينتفع بالمدرسة؛ إذ يقضي معظم وقته في الرسم، أرسله إلى لندن وهو في الخامسة عشرة حيث تتلمذ لرسام فرنسي يدعى جافلو. وكان في الوقت نفسه طالبا بمدرسة للرسم، فلما حذق شيئا من أصول الرسم التحق بمرسم فرانسيس هيمان فبقي عنده نحو أربع سنوات. وعاد سنة 1745 إلى مدينته الأصلية في ولاية سفوك حيث شرع يرسم بالأجر. وكان رسمه مقصورا على الأشخاص، ولكنه كان من وقت لآخر يرسم المناظر الطبيعية والريفية.
وتزوج «جينز بورا» وهو في التاسعة عشرة بفتاة تدعى «مارجريت بور» وكانت تمتاز فوق الجمال بدخل لا يقل عن مائتي جنيه في العام. وجعل الزوجان مقامهما في مدينة ابزويك حيث اشتغل بالرسم وجنى منه ربحا متوسطا. وكانت معيشته في هذه المدينة سعيدة إذ ولدت له بنتان. وكان يقضي أوقات فراغه من الرسم في التعرف على الكمنجة التي برع فيها أيضا.
وفي سنة 1760 رحل إلى مدينة باث، وكانت إذ ذاك مزار العلية والأغنياء في لندن وسائر المدن الكبرى. وصار يرسم الأشخاص ويرفع من أجوره حتى ازداد دخله. ولكن سعادته البيتية تناقصت بنسبة هذه الزيادة، فإنه تعرف إلى كثير من السيدات اللواتي أثرن الغيرة في نفس زوجته. وزاد شقاؤه عندما اختلت أعصاب زوجته وبنتاه وفسدت قواهن العقلية.
وفي سنة 1768 تعين «عضوا مؤسسا» في الجمعية الملوكية في لندن، ولكنه لم يبرح باث إلا في سنة 1774 حين قصد إلى لندن واستقر فيها.
وكانت شهرته قد سبقته فما هو أن استقر حتى توافد عليه الكبراء والأغنياء يطلبون منه أن يرسمهم، وكلفه الملك برسم شخصه. وهنا بدأت المنافسة بينه وبين «رينولدز» ويقال إن أحسن رسومه وهو «الغلام الأزرق» لم يرسمه بهذا اللون إلا لأن «رينولدز» كان قد حاضر تلاميذه بشأن الألوان فأشار عليهم بألا يكثروا من استعمال اللون الأزرق. فأراد «جينز بورا» أن يناقضه ورسم هذا الرسم الفريد. وكذلك المظنون أنه أكثر من هذا اللون في رسمه الفريد الآخر «المسز سيدونز» لهذا الغرض أيضا.
وكانت «المسز سيدونز» ممثلة بارعة الجمال رسمها كل من «رينولدز» و«جينز بورا». ومن المقابلة بين الرسمين تتضح طريقة كل منهما وعبقريته. وكان عمر الممثلة وقت الرسم حوالي الثامنة والعشرين، ففي الصورة التي رسمها «رينولدز» نجد التأكيد واضحا من ناحية إظهار ذكائها وفهمها. أما «جينز بورا» فقد رسمها امرأة جميلة رشيقة. وكان لكل منهما مهواة تدل على مزاجه الذهني. فقد كان الأدب مهواة «رينولدز». أما «جينز بورا» فلم يكن يهوى سوى الموسيقى. وهو لم يكن يجيد العزف فقط، بل كان أيضا يطرب للسماع. ويحكى عنه أنه سلم أحد العازفين صورة عظيمة لأنه طرب لعزفه.
وقد جمع مالا عظيما من رسمه للأشخاص، أما صوره الريفية والطبيعية فلم تجده شيئا حتى إنه عندما مات كانت جدران منزله كاسية بهذه الصور. ومات سنة 1788 بسرطان ظهر في عنقه. وقد طلب وهو على فراش الموت «رينولدز» واستغفره. لإساءاته الماضية، وقال له: «سنذهب كلنا إلى السماء ومعنا فانديك».
ويلي «جينز بورا» في الشهرة في رسم الأشخاص «رومني» الذي ولد سنة 1734. وقد أهمل تعليمه في الصغر، وكان يعاون أباه في حانوت صغير يملكه. فلما بلغ العشرين رأى رجلا رساما جوابا يسير من مدينة إلى أخرى ويرسم للناس بأجور بخسة، ففتنت الشاب «رومني» حياة التجوال وسار معه تاركا أباه. وشرع يتعلم الرسم ولكنه في السنة التالية مرض، وكانت ممرضته فتاة ساذجة أحبها وتزوجها بحكم عاطفة الحنان التي تشتد وقت المرض والوحدة، وكانت هذه الغلطة الكبرى في حياته فإنه عندما ارتفعت أحواله ونبغ في الرسم، ورحل إلى لندن وأقام بها، لم يستطع أن يحضر معه زوجته لسذاجتها. فبقي طول حياته منفردا في لندن.
ولما أقام في لندن نشط في الرسم، فكثرت أرباحه واستطاع عندئذ أن يتوفر على بعض الرسوم التاريخية مثل: «وفاة ولف»، و«وفاة الملك إدوارد» التي نال عليها جائزة جمعية الفنون. واستطاع بما أحرزه من الثروة أن يسافر إلى إيطاليا، ونزل في رومية حيث أخذ يدرس رسامي النهضة. وفي عودته إلى لندن زار البندقية وبارما.
وكان رسم الأشخاص قد ذاع بين الناس في ذلك الوقت، حتى إن «رينولدز» عندما بلغت تركته 80000 جنيه، وبلغ دخل «رومني» 3635 جنيها في سنة 1785. وهذه أرقام ضخمة إذا عرفنا أن قيمتها وقتئذ كانت أضعاف قيمتها الآن.
وأحسن ما يذكر به «رومني» الآن صورته للفتاة «أماليون» التي عرفت بعد ذلك باسم «الليدي هاملتون». وكانت هذه الفتاة فقيرة تعيش بحماية من يدعى «شارل جريفل». فلما ضاق سلمها لعمه السير هاملتون. وقد أحبها «رومني» وبقي خمس سنوات وهو يرسمها رسوما مختلفة، وقد كثرت الأقوال عن علاقتهما، ولكن الأرجح أن حبه لها كان أفلاطونيا وأن إعجابه بجمالها كان فنيا أكثر مما كان جنسيا. وهذه الفتاة هي التي عشقها بعد ذلك اللورد نلسون.
ومن رسومه المشهورة «المسز روبنسون» أو «برديتا». وهي ممثلة كانت في «حماية» ولي العهد الذي صار بعد ذلك جورج الرابع. ولكنه تخلى عنها بعد أن أعطاها صكا بعشرين ألف جنيه لم يدفعها. وماتت المسكينة سنة 1800 فقيرة مفلوجة.
وفي الصورتين نجد عطفا من «رومني» يكاد يكون عطف الأب على ابنته أكثر مما نجد غراما، فقد رسم الليدي هاملتون والمسز روبنسون وكأنه يعطف على حالهما. ويريد أن يظهرنا على الجوهرة المكنونة من الجمال التي في كل منهما. وله صورة أخرى تعرف باسم «ابنة القسيس» لا يعرف أصلها.
ولم يستدع «رومني» زوجته إلى لندن استحياء من الجمهور المتمدن أن يرى هذه الفتاة الساذجة كما سلف، ولكنه كان يبعث إليها بالمعونة المالية. ولما اقتربت وفاته قصد إليها فمات بين ذراعيها سنة 1802.
وقد أنجبت إسكوتلاندة رساما عظيما في ذلك الوقت هو «رايبورن» الذي ولد سنة 1756 في ضاحية من ضواحي أدنبره. ودخل المدرسة ولكنه كان يقضي وقته في رسم المعلمين والتلاميذ رسوما كريكاتورية، فأخرجه أبوه وألحقه بصائغ حتى يتعلم منه صياغة الذهب، ولكنه دأب في الرسم حتى برع فيه، وأسس مرسما له في أدنبره. وحدث أن قصدت إليه سيدة أرملة لكي يرسمها، فأحبها وتزوجها. وكان لها مال أغناه عن ابتذال نفسه في الرسوم التجارية.
وفي سنة 1785 زار لندن والتقى هناك برينولدز، فحثه هذا على زيارة إيطاليا «لكي يتشبع بميخائيل أنجلو». وعرض عليه المعونة المالية التي ظن أنه يحتاج إليها، ولكن «رايبورن» لم يكن في حاجة إليها. وسافر إلى إيطاليا ومكث في رومية سنتين، وعاد سنة 1787 إلى أدنبره حيث استفاضت شهرته. وبقي إلى يوم وفاته سنة 1823 وهو في سعادة وإقبال يغبط عليهما، ولم يذهب إلى لندن للرسم. فقد استمع لنصيحة لورنس الذي قال إنه خير له أن يكون أول رسام في أدنبره من أن يكون «أحد» الرسامين في لندن.
قال أوربن: «والأرجح أن رايبورن كان سديد النظر حين استقر رأيه على الإقامة في إسكوتلاندة فإن مما يشك فيه أن حبه للصدق والحق في رسومه كان يجد من يرضى به في لندن، وكان أقوى رسام في المدرسة الإنجليزية في القرن الثامن عشر، ولم ينجح أحد قط في رسم شخص الإنسان على القماش كما نجح هو. ومع أنه قد ترك لنا بضعة رسوم فخمة للنساء فإن تفوقه كان في رسم الرجال. وأحسن رسومه هو رسم «السير جون سنكلير» وهو رسم يمكن أن يعد من حيث الحيوية والوقار والقوة من أحسن رسوم الرجال في العالم».
ومن الرسامين المعروفين في ذلك الوقت «هوبنر» الذي ولد سنة 1758 ومات سنة 1810. وأحسن رسومه «المسز جوردان» و«ولي العهد» و«الكونتس أوكسفورد». وكان رجلا مثقفا يشبه رينولدز، وله مقالات بديعة في مجلة الكوارترلي، ولكن لما كانت هذه المجلة تعبر عن رأي الأحرار، وهم في ذلك الوقت من المغضوب عليهم في البلاط، فقد أضاع «هوبنر» مركزه في البلاط لانتمائه إلى هذه المجلة. والطبقة العالية التي تشتري الرسوم وتغالي بها تتبع البلاط، ولذلك فإنه فقد فيهم نصراء للفن.
ومن الرسامين في ذلك الوقت أيضا «لورانس» الذي ولد سنة 1769 ومات سنة 1830، وكان رئيسا للأكاديمية الملوكية. وكان أبوه يدير خانا صغيرا، فكان الصبي يتلهى برسم النازلين في الخان. وبرع في ذلك حتى أذن له أصحاب البيوت الكبيرة في نقل الصور المشهورة التي تزدان بها بيوتهم. وفي سنة 1791 صار عضوا في الأكاديمية على سبيل الاستثناء؛ لأن سنه لم تكن قد بلغت الخامسة والعشرين. وتعين رساما للملك، فكان هذا التعيين فاتحة الإقبال له، فإنه لم تمض عليه مدة طويلة بعد ذلك حتى صار رئيسا للأكاديمية. وكان «هوبنر» أجدر منه بالرياسة، ولكن انتسابه إلى حزب الأحرار أضره.
قال أوربن: «وشهرته الآن أقل مما كانت في حياته وذلك لضعف أصيل مكين في فنه وأخلاقه. فما زلنا نعجب بما في رسومه من لطافة التمييز، ولكن لم يكن فيه حب الصدق والحقيقة اللذين كانا فيمن سبقوه. وإذا قوبلت رسومه برسومهم، تراءت لنا كأنها متصنعة ماسخة. وأحسن ما له هو صورة «الليدي بليسنجتون».
ومن الرسامين الذين ينتمون للمدرسة الإنجليزية في ذلك الوقت الرسامة «انجليكا كوفمان» التي ولدت سنة 1741 وماتت سنة 1807. وكان أبوها سويسريا هاجر إلى إنجلترا، وكان يشتغل بالرسم. فنشأت الفتاة في وسط الفنون وعلقت بالرسم حتى أدخلها أبوها مدرسة الأكاديمية في زي شاب، لأن قواعد المدرسة كانت تحول دون دخول الإناث. ثم سافرت إلى إيطاليا فزارت مدن الفن مثل: ميلان، وفلورنسا، ورومية، والبندقية. وفي هذه المدينة الأخيرة عرفت سفير إنجلترا الذي أعجب برسمها وحملها على أن تعود إلى إنجلترا.
وعرفتها الملكة وأحبتها. ودخلت الأكاديمية «عضوا مؤسسة». وحدث أن خدعها رجل ألماني سافل تزوجته وهي تعتقد أنه الكونت دو هورن، فإذا به خادمه، وتخلصت منه بعد أن دفعت له 300 جنيه واشترطت عليه الرحيل إلى ألمانيا. ولم تستطع الزواج إلا بعد وفاته سنة 1780، وتزوجت رساما بندقيا يدعى «أنطونيو زوكشي» وعادت معه إلى إيطاليا حيث بقيت في رومية إلى وفاتها سنة 1807. وأحسن ما يعرف لها من الصور الآن صورتها.
الفصل الثامن عشر
الثورة الفرنسية والفنون
دافيد. جيرار. لوبران. جروس. أنجر. جويا
لكي نعرف الأثر العظيم الذي أحدثته الثورة الفرنسية في الفنون يجب أن ننظر قليلا في حالة الفنون الفرنسية في القرن الثامن عشر. ففي سنة 1648 تأسست «الأكاديمية» الفرنسية وغايتها ترقية القنون، ولكنها سارت في خطة تناقض هذه الغاية، فإن «رجال الفن الذين لم يكونوا أعضاء بهذه الأكاديمية أو منتسبين إليها لم يؤذن لهم بعرض رسومهم للجمهور، بل أعضاء الأكاديمية أنفسهم لم يكن لهم أن يعرضوا رسومهم في مكان آخر غير الأكاديمية، وقد طرد واحد من الأكاديمية يدعى «سير» لأنه عرض صورته «طاعون مارسليا» لكي تباع. والمنحة الوحيدة التي كانت الأكاديمية تمنحها لغير الأعضاء هي الإذن بالعرض يوما واحدا في ميدان دوفين في «معرض الشباب» بحيث لا تزيد مدة العرض عن ساعتين».
وفي هذا ما ينبه القارئ إلى الخطر الذي يمكن أن يحدث للثقافة والفنون من المجامع العلمية إذا لم يكن المؤسسون لها يقظين يحسبون للرغبة الطبيعية في هذه الهيئات في الاحتكار والسيطرة. ولنا نحن من ذلك عظة.
فهذه الأكاديمية الفرنسية أخرت الفنون بدلا من أن ترقيها، ولذلك لما جاءت الثورة أذنت «الجمعية الوطنية» لجميع رجال الفن سواء أكانوا أعضاء أم غير أعضاء بالأكاديمية أن يعرضوا رسومهم، وألغت بذلك احتكار الأكاديمية للعرض. ومن الأرقام يتضح للقارئ مقدار التقدم بإلغاء السلطة الأكاديمية. فقد كان المعروض من الصور قبيل الثورة سنة 1789 والملوكية قائمة 350 صورة، فزادت إلى 794 سنة 1791 أي مدة الثورة. وفي سنة 1795 بلغ العدد 3048 صورة.
وهذه الأرقام تدل القارئ على أن ما نحسبه نظاما مفيدا قد يكون تقييدا مضرا، وأن الحرية على ما فيها من قليل من الفوضى والاضطراب خير من المبالغة في التقييد بدعوى النظام.
وفي سنة 1793 قررت حكومة الثورة دفع مكافآت لرجال الفنون تبلغ قيمتها السنوية 442000 فرنك. وتأسس متحف في اللوفر لجميع التحف الفنية. وبينما كان الرعاع يهدمون الآثار الفنية، كان رجال الثورة يجمعون كل ما يستطيعون جمعه منها وصيانته.
وكانت النزعة الفاشية في الفنون مدة الثورة تنحو نحو القدماء وتستوحي الإغريق والرومان، وكان الميل إلى الرومان أكثر من الميل إلى الإغريق، ولعل هذا هو السبب لإخفاق الثورة في إنجاب رجل عظيم من رجال الفن.
ويعد «دافيد» الذي ولد سنة 1748 وتوفي سنة 1825 من أحسن من يمثل تأثير الثورة في الفنون. وقد رحل إلى روما، وأخذ هناك في درس القدماء. ولا نعني القدماء من الرسامين في عهد النهضة، بل قدماء الرومان أيام الإمبراطورة، ولذلك فإنه كان يختار لرسومه موضوعات قديمة. وعاد إلى باريس فكان من حزب روبسبير، وكاد يتعرض للخطر. ولكنه كف عن السياسة واعتكف في مرسمه، فنجا بذلك من عواصف الثورة. ولما أسس «معهد فرنسا» على أنقاض الأكاديميات القديمة تعين «دافيد» عضوا لكي يختار سائر الأعضاء.
ولما ظهر نابليون وارتفع شأنه كان «دافيد» من أعظم المعجبين به، وقد قعد له نابليون جلسة واحدة فشرع في رسم الرأس ولكنه لم يتمم الجسم لسأم نابليون، ولأنه كان يحب أن يظهر للناس كما يتخيلون على رأس جيش أو وهو على جواده في المعمعان أو نحو ذلك، ولذلك رسمه رسما خياليا في صورة «نابليون يعبر جبال الألب».
وأحسن ما خلفه «دافيد» هو صورة «المدام ريكامييه»، مع أنه كان يعتقد أنها غير جديرة به وكاد يتلفها لهذا السبب. وقد حدث له أنه قبل أن يكمل الصورة تركته هذه السيدة وقصدت إلى رسام يدعى «جيرار» وثب حديثا إلى الشهرة لكي يرسمها، فلما مضت مدة لم تعجبها الصورة فعادت إلى «دافيد»، ولكنه أجابها بقوله: «نحن يا سيدتي لنا نزق النساء فلنترك الصورة حيث وقفنا».
ولما انهزم نابليون سنة 1815 نفى «دافيد» من فرنسا. فقصد إلى بروكسل حيث مات سنة 1825. وإلى «دافيد» يعزى إحياء هذه النزعة إلى درس القدماء من إغريق ورومان.
ومن أحسن الرسامين في ذلك العصر المدام «فيجيه لوبران» التي ولدت سنة 1755 وماتت سنة 1842. وكان أبوها رساما مات وهي في الثانية عشرة فاستأنفت هي عمله وصارت لها شهرة وهي بعد في الخامسة عشرة. وتزوجت المسيو لوبران، وكان يتجر بالرسوم والتحف الفنية وعنده مجموعة من الصور، وجدت هي الفرصة الحسنة في درسها والنقل عنها. واختيرت عضوا في الأكاديمية سنة 1783. وكانت ترسم أعضاء الأسرة المالكة، وقد رسمت الملكة ماري أنطوانت وأولادها. ولما اشتعلت الثورة خشيت عواقبها فنزحت إلى إيطاليا، وهناك احتفل بها الرسامون وأكرموها، وتنقلت في العواصم الأوروبية. ثم عادت إلى فرنسا سنة 1801، وعادت فغادرتها إلى إنجلترا ثم هولندا، ولم تعد إليها إلا سنة 1809.
ولم تتأثر بالثورة لأنها قضت معظم وقتها خارج فرنسا، ولذلك فإننا لا نجد فيها تلك النزعة إلى القديم التي نجدها في دافيد. ولا يمكن أن ننسبها إلى مدرسة خاصة، فإنها لا تنتسب إلى المدرسة الفرنسية إلا من حيث الرعوية والزمن فقط، فهي في الواقع أممية الذوق والنزعة. وأحسن ما خلفته من الصور هو رسمها لنفسها مع ابنتها.
ويعد «البارون جروس» من تلاميذ دافيد. ولكن هذه التلميذة كانت شؤما عليه، وكانت سببا لانتحاره. وقد ولد سنة 1771 وتوفي سنة 1835. ودخل مرسم دافيد سنة 1785 وما زال يمارس الرسم عنده حتى أشبع بطريقته وحبه للقدماء. وسافر إلى إيطاليا ونزل في جنوه، وهناك عرف جوزفين التي صارت بعد ذلك إمبراطورة فرنسا فقدمته لنابليون الذي أحبه وأذن له برسمه في الصورة المعروفة باسم «نابليون في اركول».
وقد كان يمكنه أن يكون زعيم نهضة في الرسم لو لم يتأثر بالنزعة إلى القدماء التي غرسها فيه دافيد. فقد بقي طول حياته تصطرع في نفسه نزعتان: إحداهما تنزع به إلى رومية وأثينا، والأخرى تنزع به إلى ما يسمى الحركة الرومانية.
وهذه الحركة الرومانية شاعت في الأدب والفنون منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر. وكانت ترمي في الفنون إلى مخاطبة العواطف بدلا من مخاطبة الذهن، ولكنها كانت في الأدب ترمي إلى النزوع نحو القرون الوسطى.
وقد درس «جروس» روبنز وفانديك وتأثر بهما من حيث المبالغة في الألوان. ورأى الحرب بنفسه. إذ حوصر وهو في جنوده بالجيوش الفرنسية. فقاده ذلك من حيث لا يدري إلى أن يخرج على أستاذه دافيد. وفي سنة 1804 عرض صورته «المرضى بالطاعون في يافا» في باريس، فأثارت الحماسة في نفوس الشبان المشتغلين بالرسم حتى جللوها بالزهر.
ولما سقط نابليون وأعيدت أسرة نابليون البوربون إلى العرش بقي «جروس» آمنا، بل أنعم عليه الملك بلقب بارون. وكان دافيد في ذلك الوقت ينعي على تلميذه تركه للقدماء وإضاعة وقته في رسم الأشياء الحاضرة، ويهيب به إلى أن يعود إلى رسم الصور التاريخية، وهو يعني بذلك تاريخ رومية وأثينا. وكان «جروس» يتهم نفسه بخيانة المبادئ التي وضعها أستاذه. ولما مات دافيد أراد «جروس» على سبيل الشكران له أن يرسم صورا قديمة فرسم «هرقل وديوميد». ولكنها عند عرضها لم تنل سوى استهزاء الرسامين الجدد الذين شرعوا يدركون من الحركة الرومانية معاني أسمى من الدعوة إلى رسم الموضوعات القديمة. وفي سنة 1835 انتحر «جروس» بأن أغرق نفسه بعد أن يئس من صد تيار الحركة الرومانية الجديدة.
ولكن زعامة الدعوة إلى القديم كانت في يد «أنجر» أشد غرضا وأقوى سبيلا مما كانت في يد جروس. وقد ولد سنة 1780 ومات سنة 1867. وسافر إلى رومية سنة 1806 وبقي هناك 18 سنة «يرسم ليتعلم ويصنع الصور ليعيش». وكان أحسن القديم عنده ما سبق النهضة الإيطالية، فهو لم يكن يميل إلى رومية والإغريق بمقدار ما كان يميل إلى أولئك الرسامين البدائيين في إيطاليا.
ولما عاد إلى فرنسا وجد نفسه زعيما للدعوة إلى القديم. وثم اختلاف بين دافيد وبينه، فالأول كان يدعو إلى اتخاذ الموضوع القديم، أما «أنجر» فكان لا يبالي بأي موضوع يرسمه. ولكن المهم عنده أن يرسم على الطريقة القديمة، وليس شك في أنه انتفع بهذه الفكرة، وخصوصا عندما كان يرسم الجسم الإنساني العاري. وأحسن ما خلفه من الصور هو «العين»، وهذه الصور تحفة ثمينة تمثل فتاة عارية قد وقفت وعلى كتفها دن أو جرة لتستقي من العين. وقد شرع في رسمها سنة 1824، ولكنه تركها، ثم عاد إليها فأتممها سنة 1856. فجمع بين خيال الشاب وصنعة الشيخ الخبير. ومن أحسن رسومه أيضا صورة «جان دارك» الفتاة الريفية التي قادت الجيش الفرنسي وطردت الإنجليز من فرنسا ثم أحرقت بالنار بتهمة الهرطقة.
ومن أغرب ما يذكر عن تأثير الثورة الفرنسية أن الرجل الذي تأثر بها ونزع نزعتها لم يكن فرنسيا بل إسبانيا، وهو «جويا» الذي ولد سنة 1746 ومات سنة 1828. فقد قضى عمره يدعو بريشته إلى الثورة، فيهزئ الملوكية والكهانة والدين والمجد الحربي. وكانت إسبانيا ترزح تحت أسرة البوربون كما كانت فرنسا قبل الثورة، وكان البلاط الإسباني في غاية الانحطاط.
ونشأ «جويا» في أراغون، وكان أبوه فلاحا، ولكن الفتى أبدى ميله منذ صباه إلى الرسم. فأرسله أبوه إلى مرسم أحد الرسامين في سراقسة، وانتقل إلى مدريد وتصعلك بتعرفه إلى الفئات المنحطة وكان يطارد من مكان إلى آخر، وأخيرا تزوج بأخت أحد الرسامين المعروفين في البلاد، فاتصل بالملك شارل الثالث ورسمه وصلحت حاله بعد ذلك، وكان يرسم أشخاص الطبقة العالية وكأنه يريد أن يفضحهم، فالأصباغ واضحة في الوجنتين، والكحل والتزجيج ظاهران، ولكن إسبانيا كانت من الانحطاط بحيث لم تكن مثل هذه الأعمال مما تلام عليها امرأة.
ومن أحسن ما رسمه صورة الدوقة الفا التي سماها «الماجة العارية»، ويقال إنه نوى أن يرسمها في الأصل عارية، ولكن زوجها فاجأه فرسم عليها ثيابا رقيقة لئلا يشك الدوق في أمانة زوجته، ثم أعطى الصورة الكاسية للدوق وصنع صورة أخرى عارية استبقاها لنفسه.
وله رسوم كثيرة عن الأسرة المالكة، وقد تعمد أن يرسم أشخاصها بهيئات تبعث الاشمئزاز في نفس الناظر إليهم، ورسم سلسلة من الصور سماها «الأهواء» لتهزئة الحالة الاجتماعية والدينية، كأنه يرسم نساء متدينات يعبدن فزاعة من تلك الفزاعات التي تنصب في البساتين لطرد الطيور، أو يرسم القسوس وهم يصلون بلا تقوى أو خشوع، أو يرسم الجثة وقد انتفضت من القبر وكتب على أصبعها «العدم» كأن الآخرة التي بعثت فيها لا تحتوي على شيء سوى العدم، أو كأن يصور جهل القسوس في صورة مثل «المسحور» حيث ترى كاهنا مرعوبا بالعفاريت التي تتراءى له بهيئة الحمار والتيس، ومن أحسن ما خلفه صورة تمثل فظاعة الحرب في وقت لم يكن أحد يفكر في المجد إلا معلقا بالحروب والسلاح، ففي هذه الصورة يصور رجلا إسبانيا من المتطوعين قد حكم عليه الفرنسيون بالإعدام، فهم يقتلونه في فظاعة وطمأنينة كأنهم يؤدون عملا اعتياديا لا غرابة فيه، ورسم صورة أخرى سماها «موت الحق» مثل فيها الحق شخصا عاريا يقتله القسوس.
وفي سنة 1791 ماتت زوجته وابنه، وأصيب هو بالصمم، ولكنه دأب في رسم الصور التي تمثل أفكاره الثورية، فمن ذلك مثلا رسمه لحجر السجون وحجر التعذيب، ومن أشهر رسومه الآن صورة «قتال الثيران» وهو موضوع عرفه أيام صعلكته الأولى.
ولما أحس أن الطبقات الحاكمة قد بدأت تفهم مقاصده من رسومه التي هاجم فيها الدين، سافر إلى فرنسا، وهناك نزل في بوردو حيث مات سنة 1828.
الفصل التاسع عشر
رسم المناظر الطبيعية عند الإنجليز
مورلاند. تورنر. كونستابل. بونتجتون
كانت الثورة الفرنسية ترمي إلى تغيير الحكومة، ولكن أهم ما أحدثته من التغيير كان في الهيئة الاجتماعية والأخلاق وعلاقات الأفراد والفنون الجميلة. فقد نزعت بالناس إلى حب السذاجة والطبيعة وكراهة التصنع والكذب. وكان لهذا أثره العميق في الفنون.
وقد بدأ حب الطبيعة ورسمها في فرنسا في القرن السابع عشر قبل الثورة، ولكنه لم ينجح. وكان الرسام يضطر إلى «تزيين» رسمه بالأشخاص أو الحوادث التاريخية لأنه لو اقتصر على الطبيعة لما اشترى أحد صورته، وأول من رسم الطبيعة هو كلود جيليه الفرنسي الذي ولد سنة 1600 ومات سنة 1682. وكان يرسم حوادث التوراة على فراش من الطبيعة الزاهية بالألوان والأضواء اللامعة. وهناك رجل فرنسي آخر أحب الطبيعة هو نقولا بوسن الذي ولد سنة 1594 ومات سنة 1665. وقد عاش طول حياته في رومية.
بيد أن النزوع إلى الطبيعة لم يظهر تماما إلا عقب ظهور أدباء الثورة الفرنسية، أمثال روسو الذي قضى عمره وهو يدعو الناس إلى الرجوع إلى الطبيعة والسذاجة. وقد تأثرت إنجلترا بهذا الدعوة في أدبها وفنونها. ولذلك نرى أن أول من تجرأ على رسم الطبيعة هو «جورج مورلاند» الإنجليزي الذي ولد سنة 1763 ومات سنة 1804. وكان ضغط أبويه له قد أفسد أخلاقه، حتى إنه عندما انطلق من قيودهما انطلق أيضا من قيود الأخلاق واندفع في حياة اللهو وأكب على الشراب حتى انتهت حياته بالحبس. وقد عرض عليه رومني أن يعطيه مرتبا قدره 300 جنيه إذا عاونه في مرسمه، ولكن «مورلاند» لم يطق هذا «التقييد». إذ كان يلذ له أن يتنقل في الريف ويزور الحانات ويعيش عيشة التشرد. وكان المتجرون بالصور يستأجرونه للرسم ويملون عليه الموضوع، فلذلك رسم صورا سخيفة مثل «نتائج الإسراف والكسل» أو «ثمرة الاجتهاد» وكان أجره في اليوم أربعة جنيهات يضاف إليها الشراب. وقضى السنوات الأخيرة من عمره في السجن.
ولكن أعظم الرسامين الذين نبغوا في رسم الطبيعة هو «تورنر» الإنجليزي. وهو للرسم الإنجليزي بمثابة شكسبير للدراما الإنجليزية، وقد ولد سنة 1772 وكان أبوه حلاقا في لندن. وكان الصبي يخدم في دكان أبيه ويلهو بالرسم. فلما رأى بعض الزائرين براعته في الرسم نصحوا أبيه أن يلحقه بمدرسة الأكاديمية. وقضى الصبي سنوات في هذه المدرسة ثم خرج وأخذ يرسم للناس وللمجلات، فاتضحت للناس قيمته وأقبلوا على شراء صوره.
وكان في أول ظهوره ينقل عن الطبيعة نقلا مجردا من الخيال، ولكنه عندما تقدم ووثق من نفسه صار يضيف خياله إلى الطبيعة ويؤلف منهما ألوانا عجيبة من الجمال. ومن أحسن رسومه تلك الصورة التي رسمها سنة 1807 وهي «الشمس تبزغ خلال البخار». وقد باعها ثم عاد فاشتراها لتكون هدية منه للأمة. وليس في العالم رجل استطاع أن يرسم أضواء الشمس والقمر وظلال هذه الأضواء مثل «تورنر».
ومن أحسن رسومه صورة «البارجة المتهورة» وهي بارجة فرنسية كانت بأبي قير مدة وجود نابليون في مصر، فلما دهم الإنجليز الأسطول الفرنسي قاتلت بشجاعة حتى أطلق عليها اسم «المتهورة». وهي في الصورة تقاد إلى الميناء لتحطيمها.
وقد عاش «تورنر » مع أبيه دون أن يتزوج، ولكنه بعد وفاة أبيه عاش عيشة مزدوجة. فقد عرف سيدة في لندن كان يقضي معها أياما باسم «الأميرال بوث» ثم يعود إلى منزله فيقضي أياما باسم «تورنر». ولم تعرف هذه الحقيقة عنه إلا قبل وفاته بيوم. فإن السيدة أبلغت الخادم أن «تورنر» عندها. وفي اليوم التالي لوفاته نقل إلى منزله الأول الذي شيعت جنازته منه ودفنت جثته في كنيسة القديس بولس سنة 1851. وقد ترك 120000 جنيه أوصى بمعظمها لترقية الفن ومساعدة رجاله، ولكن حدثت خلافات عقب وفاته في تأويل الوصية، انتهت بالصلح بين ورثته وبين الأكاديمية. وفي سنة 1840 عرف روسكين «تورنر» وألف كتابه «الرسامون المحدثون». وكانت غاية المؤلف الإكبار من شأن «تورنر» فزاد هذا من شهرة الرسام الذي هو رمز الآن للعبقرية الفنية عند الإنجليز.
وليس لمن عاصروا «تورنر» ذكر بالنسبة إلى شهرته مع أنهم لولاه لكانت لهم شهرة وصيت، وهذا مع استثناء «كونستابل». فمن هؤلاء: جبرتن ودوونت وكوكس. وهذا الأخير أشهرهم، ولد سنة 1783 في برمنجهام حيث تعلم الرسم. ولكنه لم يبرع فيه إلا بعد أن استنار ذهنه بالسياحة في أوروبا. وفي سنة 1839 التقى بالرسام جيمس مولر (1812 - 1845) وكان هذا قد زار مصر واليونان وتأثر بمناظرهما الطبيعية التي تخالف المألوف في إنجلترا. وقد انتفع كوكس به ودرس رسومه وتأثر منها. وأحسن ما خلفه «كوكس» رسمه «يوم عاصف» وقد مات سنة 1859.
أما «كونستابل» فلا يقل عبقرية عن «تورنر» ولكنه دونه شهرة وتوفيقا. وعلة ذلك أن «تورنر» كان يعرف أن الناس لا يحبون اقتناء صورة الطبيعة والريف، فكان يخترع حادثة تاريخية توهم الناظر كأنها هي الأصل، والمناظر الطبيعية حولها ليست سوى فراش الصورة. بيد أن «كونستابل» لم يكن يحتال على أذواق الجمهور بهذه الطريقة بل كان يقنع برسم المنظر الطبيعي أو الريفي ويجعله الأصل والفصل. وقد ولد سنة 1776 وتتلمذ للسير بومونت الذي لم يكن رجلا غنيا يرعى الفنون فقط بل كان رساما أيضا، وكان يشجع «كونستابل» على الرسم ويعاونه بالمال والنفوذ.
وفي سنة 1816 تزوج «كونستابل» وعاش بعد ذلك سعيدا مع زوجته، وأسس له مرسما، ولكنه لم يحز الشهرة التي يستحقها في لندن وإنما حازها في باريس. لأن الفرنسيين استطاعوا أن يقدروا عبقريته وبراعته في رسم الأضواء والألوان الطبيعية. ومن أحسن رسومه «الجواد القافز» و«حقل القمح»، ولولا أن صهره مات وخلف لزوجته 20000 لشعر بالفاقة. وانتخب في آخر حياته عضوا في الأكاديمية، ولكن وفاة زوجته في ذلك الوقت لم تترك له الفرصة لأن يتمتع بهذا الامتياز. ومات سنة 1837 وازدادت شهرته بعد ذلك. والآن يتغالى الناس برسومه ويدفعون فيها عشرات الألوف من الجنيهات. ويمتاز «كونستابل» عن «تورنر» من حيث إنه إنجليزي أكثر منه في رسومه. فإن «تورنر» قد تأثر بمناظر أوروبا التي ساح فيها، ولكن «كونستابل» لم يكن يعرف سوى ريف إنجلترا وجبالها.
ومن الرسامين الإنجليز في ذلك العصر بونتجتون الذي ولد سنة 1801 ومات سنة 1828. وقد زار فرنسا وإيطاليا ولم يعش طويلا ليكشف عن تلك العبقرية الكامنة فيه. وأحسن رسومه صورة «عمود كنيسة القديس مرقس» وهي الكنيسة الكبرى بالبندقية.
ومنهم جون كروم الذي ولد في مدينة نوريتش مدينة النسيج الإنجليزية المشهورة وكانت ولادته سنة 1769 ووفاته سنة 1821. وهو مؤسس «مدرسة نوريتش» إذ جمع حوله طائفة من شباب تلك المدينة الذين يهوون الفنون الجميلة، فألف منهم جمعية صارت تنشئ المعارض السنوية في نوريتش ولندن. وظهر في هذه المدرسة طائفة حسنة من الرسامين مثل «جيمس ستارك» الذي مات سنة 1859، و«كوتمان» الذي مات سنة 1842 و«جون كروم» الذي مات سنة 1821. ونجحت «مدرسة نوريتش» لأسباب اقتصادية لأنها نشأت في وسط غني بالصناعة يقدر أهله الفنون ويقتنون التحف الجميلة. وكذلك لنجاحها سبب آخر هو علاقة الأقاليم الشرقية الإنجليزية بهولندا وتأثرها بالفن الهولندي.
الفصل العشرون
الرسامون الإنجليز في عصر فكتوريا
فورد مادوكس براون. روزيتي. هولمان هونت. ميليس. بورن جونز. ليتون. بوينتر. الماتاديما. مور. لندسير. ريفيير. واطس
تولت فكتوريا سنة 1837 وماتت سنة 1901. وفي هذه المدة الطويلة ظهر عدد كبير من الرسامين، ولكنهم اختلفوا نزعات وأغراضا حتى يمكن تقسيمهم إلى طبقات ثلاث: (1)
طبقة النازعين «إلى ما قبل رفائيل». (2)
ثم طبقة النازعين إلى التاريخ القديم. (3)
ثم طبقة الرسامين الديمقراطيين الذين رسموا ما حولهم وما يؤثره ذوق الجمهور.
ولننظر الآن في:
الطبقة الأولى:
وهي التي نزعت «إلى ما قبل رفائيل» ففي سنة 1848 اجتمع ثلاثة من الرسامين. هم: روزيتي، وهولمان هونت، وميليس. وألفوا منهم «أخوية» للرجوع بالفن إلى روحه السابقة لعصر رفائيل مع استغلال الصنعة الحديثة. فقد كان الرسامون قبل رفائيل يعنون بالفكرة أكثر مما يعنون بالصنعة، ويرمون إلى شرف الغاية وعبرة الخيال أكثر مما يرمون إلى إتقان الرسم. ولكن منذ رفائيل اتجه نظر الرسامين إلى إتقان الصنعة مع إهمال هذه الغايات. وهذا ما أراد هؤلاء الثلاثة أن يعودوا إليه.
وكان أكبرهم «هولمان هانت» الذي ولد سنة 1827، وأصغرهم «ميليس» الذي ولد سنة 1829، وأوسطهم «روزيتي» الذي ولد سنة 1828.
وكان «روزيتي» أبعدهم خيالا وفلسفة وأضعفهم صنعة، وقد كان شاعرا أيضا، ولذلك كان روح هذه النهضة والموحي لها.
وقبل أن نذكر أعضاء هذه الأخوية يجب أن نلمح إلى رجل لم يكن ممن نزعوا إلى «ما قبل رفائيل» ولكنه تأثر بالنهضة الجديدة كما أثر فيها. نعني به «فورد مادوكس براون» الذي ولد سنة 1821 ومات سنة 1893. وكان مولده ونشأته في فرنسا حيث رأى أشهر الرسوم الفرنسية والأوروبية في غنت وبروج وانفرز ورومية. وهناك في هذه المدينة الخالدة انتهى إلى ما يقرب من النتيجة التي انتهت إليها «الأخوية» وهو وجوب الرجوع إلى ما قبل رفائيل في الروح والنزعة مع الاحتفاظ باتقان الصناعة. بيد أنه لم يجعل هذا مذهبا كما جعله أولئك الرسامون الثلاثة. وبقي طول حياته وهو صديقهم، بل هو نفسه كان معلما لروزيتي. وأشهر رسومه صورة «المسيح يغسل قدمي بطرس» وهي تتفق ونزعته إلى «ما قبل رفائيل».
وقد رأى أعضاء هذه «الأخوية» مقاومة بل استهجانا من الجمهور، فأصدروا مجلة تدعى «الجرثومة» للدفاع عن مذهبهم. وغلوا فيها إلى حد الشطط، فزاد استهجان الجمهور لهم، فلم ينثنوا بل دأبوا في الدعوة حتى صار لهم حزب يدافع عنهم. وأعظم من دافع عنهم هو جون رسكين الكاتب المعروف.
وترى طريقة «الأخوية » على أوضحاه في رسوم «ميليس» مثل «الأمر بالإفراج» و«العمياء». ومات ميليس سنة 1896.
أما «روزيتي» فكان أضعف صنعة من «ميليس» ولكنه كان أكبر خيالا. وأحسن رسومه «الحبيبة» وقد اتخذها من نشيد الإنشاد في التوراة، وهي تمثل المرأة التي يتغنى بها سليمان. وله أيضا «حلم اليقظة» وقد ساعده رسكين بماله ونفوذه، ولكن حظه كان سيئا فقد ماتت زوجته التي كان يحبها كثيرا وبلغ من وجده أن وضع في كفنها قصائده التي ألفها في حياته معها. ولكنه عندما عضته الفاقة عاد فنبش قبرها واستخرج هذه القصائد ونشرها. وقد بقي سنوات بعد وفاتها وهو لا يعمل شيئا للجمود الذي استولى على ذهنه عقب وفاتها. ومات هو سنة 1882.
أما «هولمان هونت» فهو أثبت الثلاثة على مبادئ «الأخوية». وربما ساعده على ذلك تعلقه بالدين؛ لأن هذه الروح تأتلف وما قبل رفائيل. وأحسن ما تركه من الرسوم صورة «نور العالم» وهي صورة للمسيح وحوله هالة من النور وبيده مصباح. وقد زار فلسطين مرتين لكي ينقل المناظر التي حدثت فيها والخاصة بتاريخ المسيح. ومات سنة 1910.
ولا يمكن أن يذكر الإنسان «أخوية ما قبل رفائيل» حتى يخطر بباله «بورن جونز» الذي ولد سنة 1833 ومات سنة 1898. فهذا الرسام العظيم لم يكن عضوا بهذه الأخوية ولكنه تأثر بها. ويرى الناظر إلى وجوه النساء اللواتي يرسمهن شبها عظيما لوجوه «روزيتي» وإن كان «روزيتي» يمسح عليهن مسحة الصحة حين يكاد «بورن جونز» يجعلن مرضى شاحبات. وأحسن ما تركه هو «أنشودة الحب».
أما الطبقة الثانية:
وهي تلك التي نزعت إلى التاريخ القديم، فقد سبق أن ذكرنا أن بعض الرسامين في الثورة الفرنسية جعلوا دأبهم رسم الموضوعات التاريخية. وكانوا يحتقرون رسم الحوادث أو الأشخاص التي تعاصرهم. وقد ظهرت طبقة في إنجلترا في عصر فكتوريا تنزع هذه النزعة، وأعظم أشخاصها هو «اللورد ليتون» الذي ولد سنة 1839 ومات سنة 1896. فقد زار وهو بعد صبي إيطاليا وتشبع بتاريخ القدماء، وبقي مدة في فلورنسا يتعلم الرسم من المعلمين الإيطاليين. ثم رحل إلى باريس حيث أسس له مرسما، وكان يرسم الحوادث الإغريقية وأساطير القدماء. وأحسن رسومه «استحمام بسيكه» وكان مثالا أيضا له تمثال «الرياضي والثعبان».
ومن هذه الطبقة أيضا نذكر الرسام «بوينتر» الذي ولد سنة 1836 ومات سنة 1919، ومعظم رسومه تتعلق بموضوعات تاريخية عن الإغريق والرومان والمصريين. ومن أحسنها صورة «الجندي الروماني» الذي يقف في مركزه وبومباي تحترق بالبركان وهو ثابت لا يبرح مكانه. وكذلك صورته عن «الإسرائيليين في مصر».
ومن هذه الطبقة أيضا «الماتاديما» وهو رسام هولندي ولكنه تابع للمدرسة الإنجليزية إذ عاش عمره في إنجلترا. وقد ولد سنة 1836 ومات سنة 1912، وموضوعاته عن المصريين والإغريق والرومان. ومن أحسن رسومه «الحب في الكسل».
ومنهم أيضا «ألبرت مور» الذي ولد سنة 1841 ومات سنة 1893، وأحسن رسومه «الزهر» أو بالأحرى «النور»، وهي صورة امرأة واقفة وراءها مقدار كبير من النور، وهو لم يكن ينزع إلى التاريخ من حيث رسم الحوادث التاريخية بل من حيث الانقياد للروح الإغريقية.
أما الطبقة الثالثة:
وهي تلك التي نزلت تقريبا على ذوق الجمهور وصار أعضاؤها يرسمون الحوادث الجارية، فنذكر منهم «لندسير» الذي ولد سنة 1802 ومات سنة 1837 وكان بارعا في رسم الكلاب. ومن أحسن رسومه «الوقار والوقاحة» وهما كلبان: أحدهما صغير وقح، والآخر ضخم وقور. واشتهر برسم الكلاب في هيئات وأوضاع مختلفة، حتى إنه يحكى عن قسيس أنه عندما عرض عليه أن يرسمه «لندسير» أجاب بقوله: «لست كلبا». وله رسوم مع هذا كثيرة عن الأسود، فقد مات أسد عند إحدى الفرق البهلوانية فأخذ جثته ودرسها لونا وتشريحا وبرع بعد ذلك في رسم هذا الحيوان.
ومن هؤلاء الرسامين «بريتون ريفيير» الذي ولد سنة 1840 ومات سنة 1920. وهو مشهور أيضا برسم الحيوان. وأحسن رسومه «العطف» وهي صورة تمثل صبية قد غضبت منها أمها وطردتها ومعها كلبها يعطف عليها في هذا الموقف المحزن.
ولكن أحسن هؤلاء هو «واطس» الذي ولد سنة 1817 ومات سنة 1904. ومن أحسن رسومه «مامون» وهو يمثل رب الذهب أو حب المال وله أذنا حمار وتاج أو إكليل من الذهب وقد قعد على عرش دموي أقيم على جماجم، وفي حجره أكياس النقود. وقد سحق بيده اليمنى رأس امرأة، وتحت إحدى قدميه رجل قد انطرح ميتا. والصورة تمثل قوة المال في القرن التاسع عشر. وله رسم آخر بديع هو «الأمل».
الفصل الحادي والعشرون
فرنسا في القرن التاسع عشر
جريكول. دولا كروا. كورو. روسو. ميليه
ذكرنا في فصل سابق أن الثورة الفرنسية أحدثت بين الرسامين انقلابا جعلهم يلتفتون إلى درس الإغريق والرومان، ولكن في القرن التاسع عشر حدث ارتداد عن هذه النزعة إلى القدماء، وخصوصا بين الشباب الجديد الذي كانت صيحته العالية: «هل من خلاص من الإغريق والرومان؟».
ومن هؤلاء الداعين إلى ترك القدماء نجد «جريكول» في المقدمة. وقد ولد سنة 1791 ومات سنة 1824.
ويحكى عنه أن «دافيد» طلب إليه أن يهجر الرسم لأنه لم يعد له. ولكن الفتى عرف نفسه وقدرها، وأقام على الرسم كما تهديه إليه سليقته. ومما يذكر عنه أنه رأى ذات يوم جوادا جامحا، فأخرج دفتره ودون ما يذكره من هيئته، وأخذ بعد ذلك يدرس حركات الخيول. ورسم لوحة كبيرة بها ضابط على جواده في هيئة النشاط والحركة على غير المألوف، إذ كانت الجياد ترسم قبلا جامدة لا تتحرك. ففتح بهذه الصورة عهدا جديدا للرسامين في فرنسا.
ورحل «جريكول» إلى إيطاليا لكي يعبد «ميخائيل أنجلو» المثال الرسام العظيم. وحكى عن نفسه أنه كان يقصد إلى رسومه وتماثيله «فيرتجف».
ولما عاد إلى فرنسا سمع عن غرق السفينة «ميدوزا» فقصد إلى النجارين الذين كانوا قد اشتركوا في صنعها وجعلهم يصنعون له أنموذجا منها، ثم قصد إلى اثنين من الذين نجوا من الغرق ورسم السفينة في حالة نزول الكارثة بها وعليها ملاحوها ومنهم هذان الاثنان اللذان نجوا من الغرق، وذاعت شهرته بهذه اللوحة، وصارت لطريقته الحرمة التي كانت قبلا لطريقة الداعين إلى الرومان والإغريق.
ومن عظماء الرسامين أيضا في القرن التاسع عشر «دولا كروا» الذي ولد سنة 1798 ومات سنة 1863. وهو رسام الخيال الذي كان ينتزع موضوعاته من شكسبير وبيرون ودانتي. ومن أحسن رسومه «المتاريس» أو «الحرية تقود الشعب». وهي صورة قد امتزجت فيها الحقيقة بالخيال، فقد رسم الثائرين والقتلى رسما تقريريا، وفي وسط اللوحة رسم خيالي لفتاة جميلة تحمل بإحدى يديها العلم المثلث وبالأخرى البندقية. ولما عرضت خشي مدير الفنون الجميلة في فرنسا ما فيها من إغراء بالثورة، ولكنه في الوقت نفسه لم يستطع إنكار البراعة بل العبقرية في رسمها. وأخيرا عمد إلى حل طريف، وهو أنه اشترى الصورة وقلب وجهها إلى الحائط. وهي الآن تزين متحف اللوفر.
وقد سافر «دولا كروا» إلى مراكش حبا في الألوان الزاهية المتلألئة التي لم يجدها في شمس فرنسا، وأكب على رسم المناظر المراكشية حتى شاعت بعده الرغبة في الرسوم الشرقية.
ومن الرسامين في هذه النهضة أيضا «كورو» الذي ولد سنة 1796 ومات سنة 1875. وكان مغرما بالطبيعة والريف لا يسأم رسمهما في مختلف الأضواء والألوان. ولكنه كان سيئ الحظ قال إنه بقي ثلاثين سنة وهو لا يجد من يشتري شيئا من رسومه، لأن الجمهور الفرنسي كان مثل الجمهور الإنجليزي في جموده نحو المناظر الطبيعية والريفية. ولكن رجال الفن وعظماء الأدب مثل الفرد دو موسيه التفتوا إليه وأعجبوا به. ومن أحسن رسومه «الربيع» و«المشرع».
ومن أشهر الرسامين في القرن التاسع عشر في فرنسا «روسو» الذي ولد سنة 1812 ومات سنة 1867، ورسومه أيضا تتعلق بالريف والطبيعة، ومنها «نزول البقر».
ولكن أعظم هؤلاء جميعا هو «ميليه» الذي ولد سنة 1814 ومات سنة 1875. وقد قصد بمساعدة المجلس البلدي في شيربورج إلى باريس حيث بقي يدرس ويرسم على الطريقة المألوفة. ولكنه في سنة 1849 نزع إلى الطبيعة في معيشته وفنه، فترك باريس وقصد إلى باربيزون حيث كان هناك الرسامان الشهيران: «روسو»، و«دياز». وهناك رسم صورته الخالدة «الباذر» وهو فلاح يبذر الحب في الحقل ثم صورة «الجامعات» أو «اللاقطات» وهي لوحة بها ثلاث نساء يجمعن ما تخلف في الحقل من الحصيد.
وكان سيئ الحظ في بيع رسومه، يتهم بالاشتراكية، حتى إن «روسو» اشترى سرا أحد رسومه بمبلغ 160 جنيها. وذلك لكي لا يحرج كبرياءه، وادعى أن أحد الأميركيين الأغنياء يطلبها.
ولما أعلنت الحرب الفرنسية الألمانية سنة 1870 غادر باربيزون إلى شيربورج وبقي بها إلى جلاء الألمان عن باريس. واستدعته الحكومة الجمهورية الجديدة إلى باريس لكي يرسم جدار البانثيون ولكن صحته ساءت فمات سنة 1875.
الفصل الثاني والعشرون
هويسلر وتأثير الشرق الأقصى
في أواخر القرن الماضي اتصلت أوروبا بالشرق الأقصى اتصالا وثيقا في التجارة، وتبادلت مع الصين واليابان البضائع والسلع. وانتقلت إلى أوروبا بعض الرسوم اليابانية والصينية فأحدثت أثرا واضحا في مناهج الرسم. وقد عرضت في المعرض الأممي في لندن سنة 1862 طائفة من الرسوم اليابانية كان لها وقع كبير في نفوس الرسامين، كما أنشئ حانوت في شارع ريفولي في باريس لبيع الرسوم. وكان يزور هذا الحانوت الرسامون الفرنسيون أمثال: ديجاس، ومونيه، ومانيه، وكذلك فتى ناشئ أميركي المولد يدعى «هويسلر».
وقد قضى «هويسلر» هذا معظم حياته الفنية في فرنسا وإنجلترا وكان له أثر كبر في فن الرسم عند كلتيهما. وقد اتجه منذ أن ابتدأ يرسم نحو «فلاسكس» الإسباني و«هوكوصاي» الياباني، فنبه الأوروبيين إلى الأول، وقد كان مغمورا أو شبه المغمور، كما فتح أعينهم إلى مناهج الفن في الشرق الأقصى.
وقد ولد «هويسلر» في الولايات المتحدة سنة 1834 وهاجر مع أبويه إلى روسيا حيث كان أبوه يشرف على بناء سكة حديدية بين موسكو وبتروغراد. وكانت إقامة الصبي في بتروغراد حيث تعلم الفرنسية.
ومات أبوه فعادت به أمه إلى الولايات المتحدة، وأدخلته مدرسة الضباط، ولكنه لم يفلح فيها. وكان ميله للرسم واضحا فسعى حتى تعين في قسم المساحة في واشنطون. ولكن الرسم الذي كان يمارسه للمساحة لم يكن هو الذي يطمع فيه. فلما بلغت سنه الحادية والعشرين سافر إلى باريس، وهناك شرع يدرس الرسم درسا منتظما والتفت بوجه خاص إلى «فلاسكس» و«هوكوصاي»، ولذلك نهج منهجا خاصا هو مزيج من هذين الرسامين، وهذا بعد أن طبعه بطابعه الشخصي. ونحن نرى أثر الشرق الأقصى على أبلغه في رسمه «أميرة بلاد الصين» وهي صورة الآنسة سبارتالي ابنة قنصل اليونان في لندن، ففي هذه الصورة نرى كل شيء يابانيا ما عدا الوجه فإنه أوروبي.
وفي سنة 1872 رسم أمه رسما جميلا يلمع إلى الطريقة اليابانية إلماعا خفيفا بتزيينها الباهر. ورسم أيضا صورة الكاتب المشهور «كارليل» وهي الصورة الشائعة الآن عن هذا الكاتب.
وقامت في حياته خصومة كبيرة بينه وبين نقده الرسم، وخصوصا بينه وبين «رسكين». وأساس هذه الخصومة هو أنه ابتدع ولم يقنع بالجري على الطرق الممهدة المألوفة. وقد أوذي «هويسلر» من هذه الخصومة، حتى ترك الرسم مدة وصار يتكسب بالحفر على المعدن. ولما ألح عليه «رسكين» بالنقد والتشهير، وكان لكلامه قيمة عند الجمهور، ورأى «هويسلر» أن هذا الناقد يتحامل عليه ويؤذيه رافعه إلى القضاء يطلب تعويضا. وكان قد رسم صورة «الليل بين الأزرق والذهبي» فقال عنها رسكين: إنها لوحة قد أراق عليها الرسام قدرا من الأصباغ.
وكان «هويسلر» قد طلب ثمنا لهذه الصورة مائتي جنيه. فلما كان وقت المحاكمة اتضح من سؤاله أنه رسم هذه الصورة في يومين، فسأله محامي رسكين: «وهل تطلب مائتي جنيه في عمل يومين اثنين؟» فقال «هويسلر»: «لا. لكني أطلب هذا المبلغ للمعرفة التي جنيتها طول حياتي».
وكان بالمحكمة محلفون على النظام الأوروبي، وبينهم جهلة، حتى إنه عندما قدم رسما للرسام الإيطالي العظيم «تسيانو» يستشهد به على حسن طريقته ظنه أحد المحلفين أنه من رسوم «هويسلر» نفسه فنحى الرسم عنه وهو يقول: «حسبنا منك ومن رسومك».
وحكم «لهويسلر» بتعويض قدره أربعة مليمات فقط. وكان هذا سببا لأن يهجر الرسم مدة طويلة. ولكن بينما كان الإنجليز يستهجنون طريقته كان الفرنسيون يقدرونه ويمنحونه أوسمة الشرف، بل يشترون رسومه للمتاحف الفرنسية. وأخيرا عرف الإنجليز قدره. وذلك الرسم الذي استكثر عليه «رسكين» مائتي جنيه بيع بعد ذلك بمبلغ ألفي جنيه. ومات «هويسلر» سنة 1902 في لندن.
الفصل الثالث والعشرون
النزعة التقريرية والتأثرية في فرنسا
كوربيه. مانيه. مونيه. ديجاس. رينوار. رودان
نشأت النزعة التقريرية في فرنسا حوالي سنة 1840، وكان زعيمها «كوربيه» الذي ولد سنة 1819 ومات سنة 1877.
وقد نشأ «كوربيه» في أورنان، إحدى مدن فرنسا الصغيرة التي خلد الرسام ذكرها في رسومه. وقصد إلى باريس لكي يتعلم الحقوق ، ولكنه عكف على الرسم. وكان جمهوري المبدأ، يعطف على العمال، ولذلك فمعظم رسومه إن لم نقل جميعها يتعلق بحياة الطبقات الفقيرة. وكان يكره الخياليين، الذين كانوا يستخرجون موضوع رسومهم من الأشعار وقصص القرون الوسطى، ويقول: إن الحياة وأعمال الناس هي الموضوع الذي يجب على الرسام أن يتناوله ويدرسه وينقله على لوحاته.
ويحكى عنه أن أحد الأغنياء رغب إليه أن يرسم بعض الملائكة في إحدى الكنائس فاجابه قائلا: «ملائكة! ولكني ما رأيت في حياتي ملائكة، فكيف أرسمها وأنا لم أرها؟!».
ولما عمت الثورات أوروبا سنة 1848 راجت رسوم «كوربيه» لديمقراطيته وحبه للعمال، ونال في تلك السنة وساما يجيز له عرض رسومه بدون أن تقر على ذلك لجنة المعارض. وقد انتفع هو بذلك، لأنه عندما زالت النشوة الثورية وجاء وقت الارتداد، وكرهت رسومه، بقي يعرضها ويستعمل حقه.
ومن أحسن رسومه صورة «الحجارين» أي مقتلعي الأحجار، و«جنازة في أورنان». ولكن صورته «رسم الرسام: رمز حقيقي» هي أحسن ما خلفه؛ لأنها تمثل لنا حياته وأغراضه من فن الرسم. فقد رسم نفسه وهو يشتغل برسم الريف حول أورنان، مدينته الأصلية، وعن يمينه شحاذ وعامل وتاجر وقسيس ولص ولحاد، وهم الأشخاص الذين كان يعطف عليهم ويرسمهم، وعن يساره بعض أصدقائه ومنهم «بولدلير» و«برودون».
وفي سنة 1871 حوصرت باريس وأعلنت الشيوعية فتعين هو رئيسا للجنة الفنون الجميلة. فأمر بهدم العمود الذي يخلد ذكرى نابليون، فلما زال الحصار ورجعت الحكومة الفرنسية حوكم على ذلك، وحكم عليه بغرامة قدرها 400000 فرنك. ولكنه فر إلى فرنسا ومات بعيدا عن بلاده سنة 1877.
وخلف «كوربيه» في قيادة النزعة التقريرية «أدوار مانيه» الذي ولد سنة 1833 ومات سنة 1883. وكان يتبع طريقته بفرق واحد، وهو أنه لم يكن ديمقراطيا مثله فكانت أشخاصه من الطبقة المتوسطة ولم تكن من العمال.
وكان مولد «مانيه» في باريس، وكانت نية أبويه أن يدريس الحقوق ولكنه مثل «كوربيه» ترك هذا العلم والتحق بمرسم «كوتور» (توفي سنة 1879) ثم ساح في ألمانيا والنمسا وإيطاليا لدرس القدماء. وكان يلتفت إلى موضوع ظلال الأضواء في الصورة. ويحكى عنه أنه سئل ذات مرة وهو يرسم جماعة من الناس: «من هو أهم هؤلاء الأشخاص؟».
فقال من فوره: «أهم الأشخاص عندي هو الضوء».
ولما أقيم معرض الصور سنة 1883 في فرنسا عرض «مانيه» بعض رسومه فرفضت. ولكن نابليون الثالث عندما سمع بأن اللجنة المكلفة بدرس الصور وقبولها أو رفضها قد رفضت عددا كبيرا، أمر بإيجاد معرض آخر «للمرفوضين». وكان بين هؤلاء المرفوضين: «هويسلر»، و«مانيه»، و«لاتور»، و«كلود مونيه»، و«رينوار» وغيرهم.
وكان من الرسوم المعروضة صورة «غروب الشمس» لكلود مونيه. وقد كتب تحتها «تأثر»، وبدلا من أن تستثير هذه الصورة إعجاب الزائرين استثارت ضحكهم حتى إنه أطلق على هؤلاء المرفوضين اسم «التأثريين». ولصق هذا الوصف بكلود مونيه فرضيه منهجا جديدا للرسم ينسب إليه وسار فيه.
ولم يكن «إدوار مانيه» يعرف كلود مونيه قبل هذا المعرض، ولكنهما للتشابه بين اسميهما وللاشتراك في الطريقة الجديدة صار هدفا للسب والتشهير.
وقد سبق أن قلنا: إن «إدوار مانيه» كان تقريريا ينزع إلى وصف الحقيقة، وقد بقي كذلك مدة طويلة يجري على خطة «كوربيه». وأحسن رسومه في ذلك الوقت هو صورة «الكوكب السائغ». ولكنه انتهى بأن انضوى إلى المدرسة الجديدة التأثرية كما يرى في رسمه لصورة «مشرب الفولي بيرجير».
والآن يجدر بنا أن نلخص النزعات الفنية منذ الثورة الفرنسية ثم نشرح النزعة التأثرية. ففي مدة الثورة ظهر «القديميون» أي الذين ينزعون إلى درس الرومان واليونان ويرسمون آلهتهم وأساطيرهم. ثم ظهر «الخياليون» الذين ينزعون إلى رسم حوادث القرون الوسطى ويستخرجون موضوعاتهم من الشعراء والقصصيين، ثم ظهر بعدهم «التقريريون» الذين يقتصرون على تقرير الحقائق. وأخيرا ظهر «التأثريون» وعلى رأسهم «كلود مونيه».
فالرسام التقريري يرسم الأشياء كما هي حين يتأمل المنظر ويتدبره، ولكن الرسام التأثيري يرسم الصورة كما تفجأه بمنظرها وكما يتذكرها خواطر سريعة تمر بذهنه وتترك فيه أثرا بارزا تنسى فيه التفاصيل ويبقى الأثر البارز. وبعبارة أخرى نقول: إن المنهج التأثري يرمي إلى التأليف بين الشكل العمومي بلا تحليل أو عناية بالتفاصيل.
وقد احتاج التأثريون إلى درس الألوان درسا علميا، ومالوا إلى الألوان البراقة مع معرفة التغير الطارئ على الأشياء لتغير الضوء الساطع عليها. فلون الأعشاب إذا رؤيت عن كثب أخضر، ولكنها إذا رؤيت عن بعد صارت زرقاء. ولون الثلج عن كثب أبيض، ولكنه إذا رؤي عن بعد كما ترى أسناد جبال الألب صار نحاسيا، فهذه الاختلافات أخذ التأثريون يدرسونها لمعرفة الأثر الذهني الذي تتركه الصورة في نفس الناظر.
وقد ولد «كلود مونيه» سنة 1840وقضى مدة الخدمة العسكرية في الجزائر. وعرف «رينوار» وصادقه، كما صادق بعد ذلك «مانيه» وأسس مرسما في باريس. ومن أحسن رسومه صورة «جسر لندن».
ومن الثائرين أيضا «ديجاس» الذي ولد سنة 1834 ومات سنة 1917. وقد رحل «ديجاس» سنة 1856 حيث تشبع برسوم النهضة. ولما عاد إلى باريس شرع يرسم الموضوعات التاريخية. ومن رسومه في ذلك لوحة كبيرة هي «منظر الحرب في القرون الوسطى». ولكنه ترك ذلك إلى نقل صور الحياة التي يحياها الناس حوله، فكان يرسم المناظر في القهوة ودار التماثيل ومضامير السباق والمرأة التي تكد للعيش. وقد تأثر فنه مثل هويسلر بالفن الياباني. ومن أحسن رسومه صورة «الراقصة» التي تتوهج بشباب الفتاة وحماستها وانتعاشها بالفرح والانتصار وهي تتلقى هتاف المتفرجين. وقد كاد يختص برسم أوضاع الرقص حتى نبغ في ذلك. وباع إحدى لوحاته المسماة «الراقصات في الحانة» بعشرين جنيها. وقبل أن يموت بيعت هذه اللوحة نفسها بمبلغ 17400 جنيه.
ومن الثائرين أيضا «رينوار» الذي ولد سنة 1841 ومات سنة 1919. وقد بدأ حياته الفنية بالرسم على الصيني. وبقي طول حياته يميل إلى الزخارف لهذا الميل أو التربية الأولى. وقد نشأ في ليموج، ولكنه غادرها إلى باريس حيث أقام له مرسما واختص برسم الأشخاص.
ومن أحسن من أنجبتهم فرنسا المثال «رودان» الذي أعاد إلى الناس في عصرنا ذكرى ميخائيل أنجلو والعبقرية الإيطالية القديمة. وقد ولد في باريس سنة 1840 ومات سنة 1917. وقد استعمل الطريقة التأثرية في نحته، وصنع تمثال الكاتب القصصي «بلزاك» على هذه الطريقة. وقد ابتدع طريقة جديدة في نحت التماثيل، وهو أنه كان أحيانا يصنع التمثال وينحته كاملا ناصعا، ولكنه يتركه في الحجر الغشيم الأصلي الذي نحت منه ليتوهم الناظر إليه كأنه قد انتفض من ذلك الحجر.
الفصل الرابع والعشرون
الوحوش والتكعيبيون والاستقباليون
سيزان. فان جوخ. جوجان. ماتيس. بيكاسو. مارينتي. جوا كيمو بالا
حدث عقب «النزعة التأثرية» نزعات جديدة هي أشبه بالانحرافات الجنونية منها بالنزعات السليمة. ربما كان لظهور الآلة الفوتوغرافية بعض الأثر في ذلك، فإن الرسامين أرادوا أن يمتازوا من المصورين الفوتوغرافيين فكان ذلك فيهم داعية إلى الشذوذ والانحراف. فقد قالوا: «إذا كانت الآلة الفوتوغرافية تصور الجسم، فعلى الرسام أن يصور الفكرة».
وهؤلاء الذين نذكرهم في هذا الفصل من العبقريين الذين انحرفوا أو مالوا إلى الشطط وأولهم «سيزان» الذي ولد سنة 1830 ومات سنة 1906. فقد بقي مدة طويلة وهو يعرض رسومه مع التأثريين ويعد في جملتهم، وكان صديق «مونيه» و«رينوار». ولكنه لم يكن يستعمل تلك الألوان المتلألئة التي كان يستعملها التأثريون، إذ معظم رسومه تكسوها السمرة، وكان يهوى الرسم لذة وطربا بالفن لا يبغي منه أجرا حتى لقد حكي عنه أنه كان يخرج إلى الحقل أو الغابة للرسم فإذا أتم لوحته تركها مكانها كأنه لم يكن يرسم إلا لكي يدرس الطبيعة. فكانت زوجته تخرج وتحمل اللوحة إلى البيت. وهو يعد تأثريا لولا حبه للألوان السمراء، وليس هذا انحرافا كبيرا. وأحسن رسومه صورته لنفسه و«لاعبا الورق». «خيانة المسيح» لچوتو «حياة الفنانين» لڨازاري «زواج چيوفاني ارنولفيني وچيوفانا سينامي» لڨان أيك «الچيوكندا» أو «الموناليزا» لداڨنشي «سانت چيروم» لداڨنشي «طرد آدم وحواء من الجنة» لمايكل أنچل «لادونا ڨالاتا» لرافائيل «بالداسار كاستليوني» لرافائيل «عيد شامبير» لچورچوفي «ديانا وآسبايون» لتسيانو «مارس وڨينوس يجمعهما الحب» لڨيرونيز
الفنان دورير بريشته «قبعة القش» لروبنز «روبنز» بريشته وهو في الخمسين «الخلاسي» لهالز «الرجل ذو الخوذة النحاسية» لرامبرانت «سيدة وأطفالها» لدوهوش «فتاة بقرط لؤلؤي» لڨرمير «حفلة الموسيقى» لواطو «درس الموسيقى» لفراجونار «بائعة الجمبري» لبوجارث «الصيادون يخرجون للصيد» لجينزياره «إبنتا الرسام والقطة» لجينزياره «إيما هاملتون» لرومني «الملكة شارلوت» للورانس «تتويج نابليون» لداڨيد «مدام ريكامييه » لجيرار «المحظية والعبدة» لرنجر «دونا إيزابيل كوبوس ديه بورسيل» لچوبا «بزوغ الشمس من وراء الضباب» لتورنر «28 يوليه 1830» لدولاكروا «جمع ضرائب العرب» لدولاكروا «نزوة بالأحمر والذهبي» لهويسلر «في الحديقة» لمانيه «أمام بار الڨولي بيرچير» لمانيه «حديقة چيڨرني» لمونيه «راقصة الباليه» لديجاس «راقصة الباليه» لديجاس «المرجيحة» لرينوار «الڨاز الأزرق» لسيزان «المائدة» لسيزان «الدكتور كاشيت» لڨان جوخ «سيدة» لڨان جوخ «ركن في المدلان ديه لاجاليت» لتولوز لوتريه «المغنية ايڨيت جيلبرت» لتولوز لوتريه «ثلاثة من تاهيتي» لجوجان «المحظية في سروال أحمر» لماتيس «رأس ثور» لبيكاسو «آنسات اڨينيون» لبيكاسو
وقريب من «سيزان» في نزعته «فان جوخ» الذي ولد سنة 1853 ومات منتحرا سنة 1890. وهو هولندي كان أبوه قسيسا، فنشأ وقد أشبعت نفسه بالتعصب الديني. واشتغل في باريس ببيع الرسوم، ثم صار معلما في إنجلترا، وعاد إلى أمستردام لكي يصير قسيسا، ولكنه ترك كلية اللاهوت التي التحق بها وقصد إلى منطقة عمال المناجم في بلجيكا باعتباره مرسلا دينيا، وهناك درس أحوال هؤلاء العمال وعطف عليهم حتى لفت نظر ولاة الأمور بعطفه، وكان يعطي العمال كل ما يملك حتى كان يجوع أحيانا ويؤثرهم على نفسه، وكان يتلهى ويزجي السأم برسمه أشخاصهم.
وقد بدأ «فان جوخ» هاويا، ولكنه أتقن الرسم وسار على طريقة التأثريين وجعل مقامه في أرل في جنوب فرنسا، وهناك ظهرت عليه عوارض الشذوذ، فإن إحدى فتيات الحانة عرضت عليه أن يهدي إليها هدية. فلما أبى طلبت منه على قبيل المزاح أن يهدي إليها أذنه الضخمة. فلما كان عيد الميلاد وجدت الفتاة طردا من طرود البريد قد أرسل إليها، فلما فتحته وجدت أذنا ما يزال دمها ينضح. وذهب الطبيب إلى «فان جوخ» فألفاه محموما يهذي. وحمل المسكين إلى المارستان حيث بقي مدة، ثم خرج بعد أن شفي. ولكن السوداء ما زالت تعاوده وتظلم ذهنه حتى انتحر سنة 1890.
ومع جنونه فإن رسومه تدل على إنسانية عجيبة، وأحسن رسومه صورة «المساجين يؤدون التمرين اليومي» في فناء السجن. فإنها تدل على العطف الإنساني وتبعث في النفس الأسى والحزن العميق لهؤلاء المساكين.
ويبدأ الشذوذ والانحراف في «جوجان» الذي ولد سنة 1848 ومات سنة 1903. وهو فرنسي من أم بيروية، قضى شبابه في السياحة ولم يشرع في الرسم إلا وهو حوالي الثلاثين. وكان يرسم على طريقة التأثريين، ولكنه حوالي 1891 هجر فرنسا إلى تاهيتي مؤثرا معيشة المتوحشين ورسمهم على معيشة المتمدنين. وعاد إلى باريس في أواخر القرن الماضي وهو يدعو إلى طريقة جديدة في الرسم والحياة فلقيت دعوته قبولا عند أولئك المنهوكين الذين اصطلح على تسميتهم «أبناء آخر القرن» أولئك الذين لا يطيقون تكاليف الحضارة وما تطلبه من الأعصاب من الجهد فينزعون إلى السذاجة والرجوع إلى الفطرة. وأحسن رسومه التي تمثل هذه السذاجة «امرأتان من تاهيتي».
وقد تبع «جوجان» كثيرون من الفرنسيين أطلق عليهم اسم «الوحوش» لأنهم يؤثرون حال البداوة والتوحش على الحضارة.
وهذه الرغبة في السذاجة نجدها على أوفاها عند «هنري ماتيس» الذي ولد سنة 1869. وقد سار أولا على الطريقة التأثرية، ولكنه بالغ في الرغبة في البساطة كما يرى القارئ في صورته «رأس امرأة».
وظهر عقب «الوحوش» مدرسة أخرى هي مدرسة «التكعيبيين» التي ما يزال الشك قائما حول مؤسسها هل هو «براك» الفرنسي أو «بيكاسو» الإسباني. وتتصل حركة «التعكيبيين» بحركة «الوحوش» من ناحية الرغبة في الرجوع إلى الأصل والفطرة. فإن «التكعيبيين» قالوا: إن البلورة هي الشكل الفطري الأصلي في الطبيعة، ولذلك علينا أن نتخلص من الأقواس ونضع مكانها الزوايا كما نرى في أشعة البلورة. ثم علينا أن نستعمل الخطوط المستقيمة لأنها أقوى من الخطوط المنحنية. ولذلك فهي أجمل لأن الجمال في القوة.
ويمكن الرد على هذه المدرسة بأن الوردة أضعف الأشياء وأجملها معا، وأن القنطرة أقوى من الخط المستقيم.
ونشأت بعد ذلك مدرسة إيطالية أخرى يدعون أفرادها أنفسهم «الاستقباليين». ولهم غايات أدبية وفنية يرمون منها إلى ألا يغمر التاريخ الماضي حاضر إيطاليا. وزعيم هذه الحركة «مارينتي» الذي ولد بالإسكندرية. ومن أحسن أو أغرب رسامي هذه المدرسة «جوا كيمو بالا». وربما كانت أعظم ميزات هذه المدرسة أنها تحاول أن تنقل إلى الناظر الإحساس بالحركة في الرسم.
وقد استعمل الرسامون الإنجليز الطريقتين «التكعيبية» و«الاستقبالية» مدة الحرب الكبرى في نقل مشاهد الحرب.
Shafi da ba'a sani ba