Tarihin Tunanin Larabawa
تاريخ الفكر العربي
Nau'ikan
على أنه كان من المألوف في القرون الوسطى حتى أواخر القرن الثامن عشر أن يعكف بعض الباحثين على التأمل من حالات غامضة مبهمة تتناول مسألة المكافأة بين المخلوقات بعضها نحو بعض، وبينها وبين البيئة التي تعيش مكتنفة بآثارها، وظلت هذه الفكرة السامية تساورها الشكوك والريب حتى وضع داروين نظريته المعروفة في النشوء والارتقاء، فطبقها من بعده الباحثون على فكرة القصد في نظام الطبيعة تطبيقا مقتطعا من حالات اتخذت فيها الحيوانات الراقية في سلم المراتب الحيوانية أمثالا تؤيدها، فإن نظرية داروين تقوم على معتقد بسيط ثابت في أن كل عضو أو جزءا من عضو، وأن كل الخصائص الظاهرة والباطنة في العضويات، لا بد من أن تعود بالنفع إما على ذلك الكائن بالذات، وإما أنها كانت ذات فائدة لسلف من أسلافه الغابرين، وأنه ما من خاصية من الخصائص العديدة والغرائز المختلفة في طبائع العضويات قد استحدث فيها لمجرد النفع أو إرضاء لشهوة الجمال واللهو في كائنات أخر غيرها، وعلى مقتضى ناموس الانتخاب الطبيعي يكون السبب في وجود التراكيب المختلفة في الكائنات راجع إما لأنها مفيدة لها ولذلك تنتخب للبقاء ثابتة في تضاعيفها؛ وإما لأنها كانت مفيدة لأسلافها ولذلك انتقلت موروثة في الأعقاب.
هذه الفكرة الأولية في تطبيق نظرية القصد الفلسفية على الكائنات الحية وعلى الطبيعة استتباعا، مضافا إليها فكرة أن الكون آخذ في النشوء ضارب في الارتقاء بقسط وافر، تزيح عن العقول بعض ما كان يكتنفها من ظلام لدى التفكير في القصد من الخلق وفي الحياة برمتها وفي الموت الذي يتلو الحياة ذاهبا بالأحياء في طريق واحد، فإذا ثبت أن ذلك الطريق يسلم إلى الخلود، فهنالك تحل مشكلة القصد في الطبيعة حلا نهائيا، وإذا ثبت أن ذلك الطريق يسلم إلى الفناء الصرف، ظلت تلك الغيامة الكثيفة تظلل العقل الإنساني أزمانا لا نقدرها.
برقين 1926
أحمد شوقي
ودلالة شعره على نفسيته
1 «محمود جاسر»
ليس بنا من حاجة لأن نستوحي آلهة الشعر، وأن نقدم لها القرابين والتضحيات لتتدلى من سماء الأولمب الأعلى، وتهبط إلى حضيض هذا العالم تاركة جو ذلك الخيال الشعري إلى مادية هذه الدنيا المعكوسة الصور المنحوسة في المبتدأ والخبر، والتي لا يمكن أن يميز فيها بين المؤثر والأثر إلا بكد الأفهام والعقول، لتهمس في آذاننا همسة جافة إذا ما أردنا أن نستدر علمها بشاعرية شوقي قائلة فيه من رقة ابن هانئ، ومن حكمة زهير، ومن خلاعة أبي نواس أقدار متخالطة وحلقات متشابكة، فبأية من هذه الصفات رميت أصبت ناحية من نواحي شوقي، فإذا رميت بها جملة أصبته في مجموع كيانه.
ولأية حاجة نستوحي آلهة الشعر، أو أن نجهد النفس في الاستعلاء في سماء ذلك الأولمب، أو أن نبتهل ضارعين إلى الآلهة ليهبطوا إلى عالمنا الأرضي لنستجدي منهم العلم، وشاعرنا شوقي من أعرق أهل هذه الدنيا بها صلة، وأقربهم لها نسبا وأشدهم بها لحمة، شاعر هو أكبر شعراء العالم العربي في هذا العصر، تفرد بإمارة الشعر فهو أميرها غير الموروث حتى الآن في إمارته، وسيد دولة البيان الحاكم فيها بأمره، المنزه عن الشبائه أن يكون له فيها شبيه، غير أنه على الرغم من كل هذا شاعر أرضي الشاعرية دنيوي الخيال، لم ينزع إلى المثاليات إلا لحاجة يقضيها في السياسة أو مأرب يناله في الدولة، فمدح من غير حاجة به إلى المديح، واستجدى به من غير حاجة إلى الاستجداء، وأية شاعرية لم تفسدها السياسة؟ وأي خيال طمت عليه مآرب الدولات المتراوحة حظوظها بين هبات القدر ولم ينزل إلى حضيض الشهوات؟ ومن ذا من الشعراء من عالج في شعره السياسة وسلم من سقطات الوهم؟ ومن ذا منهم من أخذت بأطوافه مآرب الحكم وأفلت من كبوات الهم والضجر؟
على مقربة من شوقي وبين جنبات الشرق شاعر آخر، نبت في تلك البلاد الفسيحة التي كانت عندما غزاها الآريون لأول مرة في تاريخ الدنيا رحابا متسعة مترامية الأطراف تكسوها غابات، لم يلبث الغزاة أن انتفعوا بها وجنوا ثمراتها، فاتخذوا منها ملجأ يتقون به حرارة الشمس المحرقة وهجمات الرياح الاستوائية القاتلة، كما وجدوا فيها مرتعا خصيبا لماشيتهم، ونارا يوقدونها للتوسل وتقديم التضحيات، ومواد يبتنون بها القرى والأكواخ؛ لهذا كانت المدنية التي غرس بذورها الفاتحون وليدة تلك الغابات القديمة وبين جنباتها الرحيبة أينعت وآتت أكلها. وفي صميم هذه البيئة وذلك الوسط الطبيعي تلونت المدنية بلون خاص وطبعت بطابع وحده، ولقد حوطت تلك المدنية بحياة الطبيعة الرحبة وتغذت بلبانها واتشحت بردائها، فكان لها بمختلف مظاهرها وتباين نواحيها أكبر علاقة وأمتن آصرة، وفي هذه البيئة نشأ الشاعر السماوي، شاعر الوجدان والخلود، شاعر الفناء في اللانهاية، شاعر النسك والزهادة، هنالك نشأ طاغور.
ولو أنك حاولت أن تقارن بين الشاعرين أو أن تقف موقف الوساطة بينهما لأعوزتك الحيلة للتوفيق، ولأعيتك الحيل أن تجد بينهما وجها من المشابهة في أية ناحية من نواحي شاعريتهما. وكيف يكون موقف من يريد التوفيق بين شاعرية تفيض بوحي الآلهة، وأخرى تفيض بوحي الملوك والأمراء؟ وكيف يستطاع التوسط بين خيال يستمد موحياته من اللانهاية، وآخر يستمدها من نهايات كلها زائلة، بل كلها أحلام؟ إنما الفرق بين الحالتين كالفرق بين شعاع من نور وقبس من نار.
Shafi da ba'a sani ba