Tarihin Falsafar Duniya
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Nau'ikan
ويبدو أن مشروع كتابة تاريخ عالمي للفلسفة قد شغل ياسبرز منذ سنة 1937م وأنه وهبه من جهده المتصل أكثر من ربع قرن، حتى أثمر ذلك الجزء الأول الذي تحدثنا عنه، بجانب هذا النص الذي كان - بقدر ما أعلم - هو آخر ما كتبه في حياته، استجابة لطلب المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو». ولا شك أن مشروع كتابة تاريخ عالمي للفلسفة كان جزءا من مشروع أكبر منه وأقدم عن الدعوة إلى إنسانية جديدة. وربما بدأ التفكير فيه كما قلت بعد عزله من منصبه في الجامعة وخوضه محنة الحرب العالمية التي هزته كما هزت كثيرين غيره من مفكري العصر وعلمائه وأدبائه وشعرائه، فأخذوا يراجعون أصول الحضارة الغربية المهددة بالانهيار أو الانتحار، مشفقين على مستقبلها ومستقبل البشرية والكوكب الأرضي الصغير من سطوة «تنينها» العقلي والتقني، ومعترفين - بعد غرور مدمر واستعلاء طويل الأمد - بأن أوروبا لم تعد هي مركز العالم، ولا عادت حضارتها هي نموذج كل الحضارات.
5
تجلت آثار هذه «العالمية» في كتاب «ياسبرز» البديع عن أصل التاريخ وهدفه «1949م»، ثم في عروضه الضافية لتفكير الفلاسفة العظام من الغرب والشرق، الذين شاركوا في غرس الجذور المشتركة للحقيقة «الشاملة » وإلقاء الضوء على الوجود الإنساني العاقل الحر. وكما حدث فيما يطلق عليه اسم «الزمن المحوري» (من القرن الثامن إلى القرن الثاني قبل الميلاد) الذي بزغت فيه شموس الديانات والحضارات الكبرى في الصين والهند وعند العبرانيين والإغريق، كذلك يتصور ياسبرز أن عصرا محوريا جديدا قد بدأ حقا وبدأت معه حضارة إنسانية وعالمية قادرة على وقف التطورات الخطيرة التي تورطت فيها المدنية التقنية الغربية، من تعصب للعلم الوضعي والتجريبي إلى الحد الذي أوشك معه أن يصبح خرافة جديدة، ومن نظم السيطرة والهيمنة والتسلط والاستبداد الفردي والشمولي في الغرب والشرق، وخصوصا في عالمنا الثالث الذي لم يكد الفيلسوف يتذكره أو يفكر فيه، وكأنه برغم دعوته للعالمية لم يتطهر تماما من رواسب مركزية أوروبية متمكنة! ومن جماهيرية ضاعت معها ملامح الفردية الحرة العاقلة. ولذلك كان تناوله للمؤسسين والبنائين العظام من العصور الماضية بمثابة العودة إلى النماذج الإنسانية التي اتصلت بالعلو أو حاولت القرب منه، كما كانت بمثابة إعداد مركب جديد يتمثل في حضارة عالمية وإنسانية جديدة، لم يكف عن دعوة الضمائر إليها، على الرغم من ضياع صوته وخيبة أمله داخل بلاده وخارجها.
والفكرة الموجهة لهذا المشروع الذي ستطلع على ترجمته العربية هي أن تاريخ الفلسفة كل متكامل، فإذا اقتربنا منه لكي نبحثه تفتت إلى وحدات متعددة ومذاهب وأنظار متباينة. وكل وجهات النظر في تفسير هذا التاريخ مفتوحة وممكنة، ولكن المهم هو أن نختار وجهة النظر «الجوهرية» التي تبين كيف جاءت الفلسفة إلى العالم عن طريق أفراد عاشوا في تاريخ معين لحضارة معينة وعصر معين، «وحققوا» فلسفتهم بما هم أفراد وأشخاص فكروا في معاني ومضامين، وعاشوا قضايا وإشكالات. بذلك يصير تاريخ الفلسفة هو تاريخ إشكالات تحاوروا حولها، وطرحوا أسئلة وقدموا أجوبة عنها. إن كل مفكر من مواطني جمهورية العقل، التي تمثل مجموع تاريخ الفلسفة، هو قبل كل شيء فرد متفرد، وشخصية متميزة لا تنوب عنها شخصية أخرى، وترتيبه في المجموع الكلي يخضع لمكانته ونوع تفكيره وأسلوب تحقيقه لفلسفته ومدى تأثيرها في العالم. وتفكيره يعكس الأصول والمنابع التي نهل منها، لغة كانت أو أسطورة أو أدبا أو دينا أو فنا. وهو من ناحية أخرى ينعكس عليها ويؤثر فيها. ثم إن كل مفكر منهم له علاقة بغيره من المفكرين؛ فهو يأخذ تفكيرهم ويستوعبه، ويتصارع معه، ويكتشف وعيه بالإشكالات الكبرى وصياغته الجديدة لها. بذلك يكون تاريخ الفلسفة هو تاريخ الحوار والتواصل في إطار ما يسميه ياسبرز ب «الفلسفة الخالدة» التي تظل من خلال هذا التاريخ الكلي - المرتفع فوق التاريخ، والمهتم مع ذلك بكل التفصيلات التاريخية المحددة والممكنة - فلسفة معاصرة وحاضرة. وهكذا يسجل هذا التاريخ الكلي ملحمة الوعي البشري في تطوره عبر التاريخ الحي للأفكار والمفكرين، في محاولة ل «تفهم» صراعهم مع الحقيقة «من الباطن»، بعيدا عن كل نزعة مسبقة تدعي المذهبية، ولإشراكنا نحن القراء في استيعاب الحق الشامل واكتشاف حقيقتنا وذاتيتنا وحريتنا وعلونا بالتواصل «الوجودي» الحميم معه. وهكذا يكون تاريخ الفلسفة نفسه طريقا مفتوحا إلى التواصل العالمي والحضارة الإنسانية الجديدة، من خلال التواصل بين العقول الكبرى التي استمعت إلى دعاء الحقيقة، واستجابت لنداء العلو، وشدتنا للاستماع إليه والتحاور معه والتمرس عليه بالفكر الجاد، والتجربة الذاتية الحميمة، والفعل الاجتماعي والسياسي المسئول عن البشرية الممتحنة المهددة في «قريتنا الصغيرة» التي نسميها الأرض. (2) تصور ياسبرز للفلسفة (1)
يكاد النص المنشور مع هذا التقديم أن يكون مرآة مصغرة لفلسفة ياسبرز، فهو يردد أصداء نداءاته الفكرية التي ألح على توجيهها طوال حياته، ويركز في بؤرته أكثر الأشعة المتفرقة في معظم كتبه المشهورة (كالمدخل إلى الفلسفة، والموقف الروحي لعصرنا، والعقل والوجود، والإيمان الفلسفي، والتمهيد الضافي لآخر كتبه الذي لم يقدر له أن يتمه وهو الفلاسفة العظام). وقبل أن ننظر في هذا النص بقدر ما يعكس الاتجاهات النقدية المعاصرة، أو بقدر ما تنعكس عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يحسن بنا أن نقف قليلا عند معنى «التفلسف» عنده، ثم نلخص أهم الأفكار التي يدور حولها النص نفسه، وتتشابك فيها وحولها ظلال متباينة من وجهات نظر ومناهج متعددة (كالمنهج النفسي، والظاهري أو «الفينومينولوجي»، ومنهج الفهم والتفسير أو التأويل «الهيرمنيوطيقي»).
يمكننا - مع الاعتذار عن التبسيط المخل - أن نلخص تصور ياسبرز لمعنى «التفلسف» والغاية منه فيما يلي:
أن ترى الواقع الحقيقي في منبعه الأصلي.
أن ندرك هذا الواقع في مواقفنا الفكرية من أنفسنا وفي أفعالنا الباطنة.
أن ننفتح على «الشامل» بكل مداه (والشامل هو المصطلح الذي يؤثره الفيلسوف للدلالة على الأبدي والكلي والحق والعلو - أو العالي - الذي لا يمكن تحديده ولا الإحاطة به لأنه ليس موضوعا ولا موضوعيا).
أن نبادر إلى «التواصل» الحق من إنسان إلى إنسان بنوع من الحوار الحميم أو التصارع الفكري (الذي لا ينقلب إلى الإدانة والتصادم بل يقوم على التنافس المفعم بالحب).
Shafi da ba'a sani ba