مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد
حمد الله على نعمه الجسام، ومننه العظام، والصلاة والسلام على خير الأنام، سيدنا نبيه محمد وعلى آله البررة الكرام. فإني لما فرغت من انتخاب الكتاب الموسوم بالبرق الشامي من إنشاء الإمام السعيد عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني الكاتب، -رحمه الله-، طالعت كتابه الموسوم «بنصرة الفترة وعصرة الفطرة، في أخبار الوزراء السلجقية» فصادفته قد سلك فيه منهجه المعروف في إطلاق أعنة أقلامه في مضمار بيانه، وإسباغ أزيال القرائن المترادفة من وشائع ما يحبره راقم بنانه، بحيث صار المقصود مغمورا في تضاعيف ضمائر الأسجاع، وربما كان. لا يرفع للإصغاء إلى بدائعها حجاب بعض الأسماع. فانتخبت منه هذا المختصر الذي هو بعد اشتماله على جميع مقاصد الكتاب محتو على عيون قرائنه البديعة، وزواهر ألفاظه الفصيحة، خدمة لملك اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في جميع سلاطين الأمم، وصار نظاما لمحاسن يتزين بأفرادها سائر ملوك العرب والعجم .. مولانا السلطان الملك المعظم أبي الفتح عيسى ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب، لا زالت معارج دولته راقية في مدارج الإقبال، وعتبات مجده مطمحا لعيون الإعظام والإجلال، ومصابيح علومه متوقدة يهتدي بها الشاردون فيخرجون من ظلم الزيغ والضلال وينابيع أياديه متفجرة يكرع فيها الهائمون فينقعون غلل الآمال.
وقد افتتحت به في شهر ربيع الأول سنة 623 ه مستعينا بالله تعالى ومستمدا من حوله وقوته ومبتهلا إليه، وسائلا إياه أن يوفقني في ذلك وفي جميع أموري بفضله ورحمته، وهو حسبي وكفى.
Shafi 183
ذكر نبذة من بداية حال السلجقية
قال-رحمه الله-1كانت السلجقية ذوي عدد وعدد، وأيد ويد، لا يدينون لأحد ولا يدنون من بلد، وميكائيل بن سلجق زعيمهم المبجل، وعظيمهم المفضل. وقد سكنوا من أعمال بخارى موضعا يقال له نور بخارى، وما زالوا في أنصر شيعة، وأنضر عيشة. وهم في الرعي يكلئون الكلأ، وفي الريع يملأون الملأ. لا يذعرهم ذاعر، ولا يردعهم داعر. والسلاطين يرعونهم للملمات ولا يروعونهم، ويدعونهم للمهمات ولا يدعونهم. حتى عبر السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى بخارى لمساعدة قدر خان فرأى مكيال فرغب في استرغابه، وانجذب إلى اجتذابه، وأراد أن يعبر إلى خراسان به وبأهله، وبكنف أكنافها الذي الحفظ والحفيظة بنبله ونبله. وامتنع ميكائيل عليه، ومال عنه ولم يمل إليه، فغاظ السلطان تمنعه، فقبضه واعتقله، وعبر به وبأصحابه إلى خراسان ونقله. وقال له أرسلان الحاجب إني أرى في أعين هؤلاء عين الهول، وإنهم لمعروفون بالجراءة والقوة والحول. والرأي عندي أن تقطع إبهام كل من تعبره منهم ليؤمن ضره، ولا يخاف شره. فما قبل خطابه في هذا الخطب، وقال له إنك لقاسي القلب.
فلما أقاموا بخراسان، تقربوا إلى عميدها أبي سهل أحمد بن الحسن الحمدوني، وأهدوا إليه ثلاثة أفراس ختلية، وسبعة أجمال بختية، وثلاثمائة رأس غنم تركية. وهداه إقبالهم إلى قبول الهدية. وكانوا سألوه أن يمرجهم في المروج، ويسد بمواشيهم مخارم تلك الفروج. فعين لهم مروج دندانقان ففروا بها وبما قاربها، وتحاماها عن عداهم وجانبها.
Shafi 184
وتوفى محمود بن سبكتكين وهو كاره لأمرهم، مشفق من وميض جمرهم، مستشف ستر القضاء في قضية شرهم. وعد أبو سهل الصعب فيهم سهلا، واتخذهم لارتفاقه بهم صحبا وأهلا. ونفذ مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكرا من غزنة إلى خراسان، فواقعهم وقتل منهم عدة، وأسر منهم جماعة، حملهم إلى غزنة، منهم بيغو أرسلان، فاستعطفوه فلم يعطف، واستعفوه فلم يعف. ولما غلق رهنهم وتوثق سجنهم، شربوا كأس اليأس، وأبدلوا إيناس الناس بإيحاش الحاشية. ومشى شحنة طوس لاستياق ما لهم من الماشية، واستلان خشونتهم، واستسهل صعوبتهم، ولما ظن أنه آب بالغنم والغنيمة، وباء بعز العزيمة، ركبوا إليه صهوات الحنق، وصرفوا نحوه أعنة الخبب والعنق. حتى لقوه فتركوه لقى، وتبعوا المنهزمين ودخلوا إلى طوس فملكوها، وجاسوا خلال ديارها وسلكوها، وتشاوروا فيما بينهم وقالوا: هذا بحر خضناه، وفتح ابتكرناه، وطوس مدينتنا التي تؤوينا، وحصننا الذي يحمينا، فلا نفرج عنها، ولا نخرج منها.
وشرع أبو سهل الحمدوني في استدراك ما فرط، واستمساك ما اختبط. وكادوا يجيبونه بالجمل ويحملون في الجواب، ويميلون بممالأته إلى صوب الصواب. فتسرع شحنة نيسابور وتعسر، وجند وعسكر. وشن على سرحهم غارة على غرة، ونهض لمنفعة نهضت بمضرة. فركبت السلجقية إليه وإلى جماعته أرسالا، ونشبوا معهم وشبوا قتالا، وهزموهم وكسروهم وقتلوهم وأسروهم. وامتدوا إلى نيسابور فدخلوها، ووجدوا في خلوها فرصة فاهتبلوها. وذلك في شهر رمضان سنة 429 ه. وعزموا على مد اليد، ونهب البلد. فمنعهم طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجق وهو أميرهم وكبيرهم، وقال لهم نحن في شهر حرام نهتك حرمته، ولا نهتك عصمته، ولا يحصل من النهب أرب، وإنما تسوء به السمعة ويشيع الشنعة. فنفرت جماعته من مقاله وسخفوا رأيه في تبين حرام الفعل وحلاله. فما زال بهم طغرلبك يقول لهم: أمهلوا بقية هذا الشهر، واعملوا ما شئتم بعد الفطر. وفي أثناء ذلك وصل إليهم كتاب القائم بأمر الله أمير المؤمنين، يخوفهم ويذكرهم بالله، ويحملهم على رعاية عباده وعمارة بلاده، فخلعوا على الرسول المعروف بأبي بكر الطوسي ثلاث عشرة خلعة. وتباهوا برسالة الخليفة وازدادوا بها قوة ورفعة.
Shafi 185
ولما كان يوم العيد اجتمعوا من القريب والبعيد وهموا بالنهب، فركب طغرلبك لمنعهم، وجد في ردعهم. وقال: الآن وقد جاء كتاب الخليفة المفترض الطاعة على الخليفة. وقد خصنا من توليته إيانا بالحق والحقيقة. فلح عليه أخوه جغري بك داود وأخرج سكينه وقال: إن تركتني وإلا قتلت نفسي بيدي. فرق له وسكنه، وأراه أنه مكنه، وأرضاه بمبلغ أربعين ألف دينار قسطه، ووزن أهل البلد معظمه، وأدى هو من ماله الباقي وغرمه. وجلس على سرير الملك الذي كان لمحمود بن سبكتكين في نيسابور، ونهى وأمر، وأعطى وأخذ، وأبرم ونقض، وأحكم وقوض. وجلس يومي الأحد والأربعاء لكشف المظالم. وبسط المعدلة وبث المكارم. وسير أخاه داود إلى سرخس فملكها، ونهج له طريقة في العدل فسلكها، وسير إلى دار الخلافة المعظمة رسولا يعرف بأبي إسحاق الفقاعي، صبيح البهجة، فصيح اللهجة، بكتاب مضمونه أنهم لما وجدوا ابن يمين الدولة مائلا عن الخير والسمو، مشتغلا بالشر والعتو، غاروا للمسلمين والبلاد. وهم عبيد أمير المؤمنين في حفظ البلاد والعباد. وقد سنوا سنة العدل، وأسنوا سنا الفضل. وبطلوا مراسم العسف، وعطلوا مواسم الحيف.
ومضى رسولهم، وقضى سؤلهم. وتواصلت مع مسعود بن محمود بن سبكتكين حروبهم، وهزموه في سنة 430 ه. واشتدت منعتهم، وقويت شوكتهم واستولوا على خراسان وتجاوزوها إلى العراق. وطرأوا على ملك الديلم، ورموه بالصيلم 1.
وغلبوا الأملاك، وبلغوا الأفلاك، واقتسموا البلاد، وطرفوا طرافها والتلاد.
قال: وللسلطان طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجق، ولأخيه جغري بك أبي سليمان داود بن ميكائيل بن سلجق، من نهر جيحون إلى نيسابور، ولأخيه من أمه، وهو ابن عمه، إبراهيم بن ينال بن سلجق، قهستان وجرجان، ولابن عمه أبي علي
الحسن بن موسى بن سلجق، هراة وبوشنج وسجستان وبلاد الغور.
وقال: وامتد طغرلبك إلى الري، وقد كانوا جعلوا له جميع ما يفتحه من هذا الصوب، فحمد الرأي بالري، ونجزت عدة جدته بعد اللي. ووجد في دور الديلم دفائن وخزائن، سفرت بها أيامه عن أيامن. فتأثل وتأثث، وورى زند سعده بما ورث.
وقدم قدامه إبراهيم بن ينال فقر بقرميسين وانتزعها من الأمير أبي الشوك فارس بن محمد بن عناز، وحل بحلوان. وتوفي أبو الشوك في شهر رمضان، وذلك سنة 437 ه. وفي هذه السنة وزر رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن بن مسلمة للقائم بأمر الله وهي أول سنة ورد فيها الأتراك إلى العراق، وانتشروا منها في الآفاق.
Shafi 186
قال: وكان عند طغرلبك رسول الخليفة، وهو أبو محمد هبة الله بن محمد ابن الحسن بن المأمون مقيما يدعوه إلى بغداد ولا يدعه يقيم، ويروم منه صدق القصد ولا يريم. وطال بالحضرة حضوره، حتى حرك عزمه، فعزم على الحركة واندفع كالسيل، وكسا العلق عجاج فيلقه صبغة الليل، ولم يترك الترك وردا إلا شفهوه، ولا حسنا إلا شوهوه، ولا نارا إلا أرشوها، ولا دارا إلا شعثوها، ولا عصمة إلا رفعوها، ولا وصمة إلا وضعوها، وأجفل الملوك من الخوف أقدامهم، وتنحوا من طريق ضرامهم. فما جاءوا إلى بلدة إلا ملكوا مالكها، وملأوا مسالكها، وأرعبوا ساكنيها وأسكنوها الرعب، وغلبوا ولاتها وولوها الغلب. وأزوروا إلى الزوراء، وأشاعوا مد اليد بالغارة الشعواء.
ذكر دخول السلطان ركن الدولة طغرلبك أبي شجاع محمد بن ميكائيل بن سلجق إلى بغداد في 25 من رمضان سنة 447 ه ومعه الوزير عميد الملك أبو نصر محمد ابن منصور الكندري وهو أول وزراء السلجقية
قال: كان حصيفا فصيحا رجيحا نجيحا، متسلطا بمكانه، متمكنا من سلطانه، يرجى ويخشي، ويقصد ويغشي. والسلطان، بأذنه وناظره يسمع ويبصر، وبإذنه ونظره يرفع ويضع. وله البهجة المهيبة، واللهجة المصيبة. وكان مع السلطان طغرلبك يوم وصوله إلى بغداد، وقد خرج رئيس الرؤساء وزير الإمام القائم لاستقبال السلطان، ومعه أرباب المناصب وأصحاب المراتب. وقاضي القضاة والشهود، والجنود والبنود.
فلما وصل إلى نهر بين، لقيه صاحب للسلطان من المقربين. وقدم للوزير فرسا وقال: هذا مركوب السلطان وقربه، فنزل عن بغلته وركبه. وجاءه بعد ذلك عميد الملك أبو نصر الكندري في موكب ضخم، وفخر فخم. وقد وقف يتوقع مطلعه. فلما بصر به قصد عميد الملك أبو نصر أن يترجل فمنعه، وتعانقا راكبين وخلطا الموكبين.
Shafi 187
ووصل السلطان إلى بغداد ونزل على دجلة، عند مسناة عز الدولة رائع الهيبة، رائق الهيئة، قد ضاقت الأرض بجنوده، وضاقت السماء عذبات بنوده. فقبض على الملك الرحيم أبي نصر الديلمي من نسل عضد الدولة، وسيره إلى الري فقطع عليه الأجل الطريق في طريقها، وآذنت جموع ممالك الديلم بتفريقها. وقبض عميد الملك أبو نصر الكندري الوزير الأعز أبا سعد وزير الملك الرحيم، ثم استدام صحته حين ألفاه في الكفاية صحيح الأديم، وأطلقه وأطلق يده في الحل والعقد والحبس والإطلاق.
وعول عليه وفرض إليه النظر في العراق.
قال: وتوفى هذه السنة قاضي القضاة الحسين بن على بن ماكولة، فخاطب عميد الملك في توليه قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن الدمغاني، فتسنت قاعدته في ذي القعدة من السنة. وأحسن العناية به لمعانيه الحسنة. قال: هو قدوتنا بخراسان الموصوف بجميع الألسنة. وحضر عميد الملك الكندري في بيت النوبة الشريفة، وخص من دار الخلافة بالمنزلة اللطيفة. وانفذت معه برسم السلطان خلع سنية، وتشريفات سرية .
قال: وتقدم طغرلبك ببناء مدينة على دجلة، وهي التي جامعها اليوم باق، وكانت حينئذ ذات أسوار وأسواق.
قال: ودخلت سنة 448 ه، وفي المحرم منها عقد الخليفة على ابنة أخي طغرلبك أرسلان خاتون خديجة بنت داود بن ميكائيل، وقصد بذلك تعظيمه والتبجيل، ولئلا يجد الأعداء بهذه الوصلة إلى قطع سبيل المودة بينهما.
ذكر الحال في ذلك
قال: في المحرم جلس الإمام القائم بأمر الله، أمير المؤمنين. وأحضر عميد الملك الكندري وقدمه على المقدمين وتقدم إليه بإحضار من يجوز إحضاره، ويقع عليه إيثاره. فشد وسطه وأخذ دبوسا في يده، وجرى في حفظ آداب الخدمة على جدده، واستدعى أماثل دولة السلطان فخدموا الخليفة، وشاهدوا السدة الشريفة. ثم شرع رئيس الرؤساء في خطبة النكاح، وجاء بها على وفق الاقتراح، واستوعب شرائط الإيجاب بالذكر، من تسمية المخطوبة والمهر. ثم قال: إن رأى سيدنا ومولانا أن ينعم بالقبول. فقال الخليفة: قد قبلنا هذا العقد بهذا الصداق. فامتزجت الدولتان بالاستحقاق واستمرت البركة، واستقرت المملكة.
Shafi 188
قال: وفي هذه السنة كانت ولادة المقتدي سحرة الأربعاء، ثامن جماد الأول، وسمي: عبد الله، وكني: أبا القاسم وأمه جارية لذخيرة الدين أبي العباس بن القائم بأمر الله. وكانت وفاة الذخيرة في ذي القعدة سنة 447 ه وعمره 14 سنة. وبوفاته قامت قيامة القائم، فإنه كان ولي عهده ولم يكن له ولد سواه، فلما ولدت جاريته ابنا استجد به جدا وبهاء ويمنا وأمنا. وجلس رئيس الرؤساء ثلاثة أيام للهناء. وحضر عميد الملك وجماعة الأمراء.
قال: وتوفي في هذه السنة عميد الرؤساء أبو طالب بن أيوب عن 70 سنة، وقد كتب للخليفة 16 سنة، وكانت حسناته سائرة، وسيرته حسنة.
ذكر عوارض عرضت وحوادث حدثت
قال: كان ابن عم طغرلبك بالموصل وديار بكر، وهو قتلمش بن إسرائيل بن سلجق، متسق الأمر، متسع الصدر. فاجتمع البساسيري، وهو أبو الحارث أرسلان، وقريش بن بدران العقيلي، ونور الدولة دبيس بن علي بن مزيد الأسدي على حربه، وأوقعوا به وبحزبه. وكانت الوقعة بسنجار. ومضى قتلمش إلى همذان موليا. فانتحى طغرلبك من ذلك وتوجه إلى الموصل، فأجفل البساسيري إلى الرحبة. فأذعنت لطغرلبك البلاد، وواتاه الأدب، ووافاه العرب، وأطاعه الأميران دبيس وقريش. واتصل به أخوه ياقوتي بن داود، فزادت قوته، وأرعبت بالناس صولته. وكان على أهل سنجار حاقدا، فإنهم مثلوا بقتلى قتلمش، وتركوهم بالعراء. وأظهروا الرءوس على القصب، وأخذوا النفوس بالوصب. فسار طغرلبك إلى سنجار واجتاحها واستباحها، وسلب أرواحها وأشباحها، إلى أن شفع فيهم إبراهيم بن ينال فعفا بعد أن عفى.
وكف بعد ما اكتفى.
قال: وفي هذه السنة مات أبو العلاء المعري.
ذكر عودة السلطان إلى بغداد وحضوره بين يدي الخليفة
قال: وعاد إلى بغداد ظافر اليد وافر الأيادي، وجلس له الخليفة يوم السبت 25
Shafi 189
من ذي القعدة، فركب دجلة مجريا تياره في تيارها، حتى وصل إلى باب الرقة من السدة الشريفة ودارها. وقدم له فرس فركبها ودخل راكبا إلى دهليز صحن السلام، وحصن الإسلام. ثم نزل ومشى، والأمراء بين يديه بغير سلاح يمشون، إلى حيث الجلالة مقيمة، والدلالة بالقائم قائمة، والرسالة ملائمة، والإمامة دائمة، والنبوة مستمرة الإرث، والمروة مستقرة البعث. وستارة البهاء مسدولة على البهو، وطهارة الانتماء مجبولة بالزهو. والقائم بأمر الله جالس من وراء الستر، على سدة مشرفة مشرقة، في إيوان منه للجلال إيواء، ودار أرضها للإقبال سماء. وعلى كتفه وبيده البردة والقضيب النبويان، وهما بماء الطهر المحمدي رويان.
ولما قرب طغرلبك من المقر الأشرف، والمرقى المسجف، ورفعت ستارة البهو، وأنار وجه الخليفة، كالقمر في سدفة السدة الشريفة، أدى الفرض، وقبل الأرض. ثم مثل قائما للقائم، ووقف لترقب ما يقف عليه من المراسم. وصعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف فقال له الخليفة: أصعد ركن الدولة إليك ومعه محمد بن المنصور الكندري مفسرا ومترجما، ومعربا عنه ما كان معجما. ثم وضع لطغرلبك كرسي جلس عليه.
وفسر عميد الملك له تفويض الخليفة إليه. ثم قام طغرلبك إلى مقام الرفعة، ومكان الخلعة، واحتبى بعز الاحتباء، واجتاب خلع الاجتباء. وتوج وطوق وسور، وأفيضت عليه سبع خلع سود في زيق واحد، واتخذت له مملكة الأقاليم السبعة، وشرف بعمامة سمكية مذهبة، فجمع له بين تاجي العرب والعجم. وسما بهما وتسمى بالمتوج والمعمم، وقلد سيفا محلى بالذهب. فخرج في أحلى الحلي وأهيب الأهب. وعاد وجلس على الكرسي، ورام تقبيل الأرض، ولم يتمكن لموضع التاج الخسروي. وسأل مصافحة الخليفة فأعطاه يده دفعتين، فقلبها ووضعها على العين. وقلده سيفا آخر كان بين يديه، فتم له بتقليد السيفين تقلد ولاية الدولتين. فخاطبه بملك المشرق والمغرب، وأحضر عهده وقال: هذا عهدنا يقرأه عليك، محمد بن منصور بن محمد، صاحبنا ووديعتنا عندك، فاحفظه واحرسه، فإنه الثقة المأمون، وانهض في دعة الله محفوظا، وبعين الكلأة ملحوظا.
قال: ولأبي الفضل صردر في عميد الملك من قصيدة:
ملك إذا ما العزم حث جياده مرحت بأزهر شامخ العرنين
Shafi 190
بأغر، ما أبصرت نور جبينه إلا اقتضاني بالسجود جبيني عمت فواضله البرية فالتقىشكر الغني ودعوة المسكين لو كان في الزمن القديم تظلمتمنه الكنوز إلى يدي قارون قال: وفي سنة 450 ه انتقض على طغرلبك أمر الموصل، فقد كان استخلف بها الأميرين آدم وباتكين. فقصدهما البساسيري وقريش بن بدران وحاصراهما أربعة أشهر، واخرجاهما بأمان، فعاود طغرلبك الخروج إلى الموصل لطلب الداء المعضل، ونصب بنصيبين مضاربه، فخالفه إبراهيم بن ينال خالعا للطاعة، ومضى إلى همذان ناويا للمناوأة. فسار السلطان ورأوه من نصيبين إلى همذان في سبعة أيام، ونفذ وزيره عميد الملك وزوجته خاتون إلى مدينة السلام. ثم كتب إليهما يستدعيهما، فتمسك بهما الخليفة، وتواترت الأراجيف المخيفة، فتارة بوصول البساسيري، وتارة بانهزام السلطان من أخيه.
قال: وشرع عميد الملك الكندري في أخذ العهد بالمملكة لأنوشروان ابن خاتون، وأنفق من ماله الظاهر والمخزون. فما وفقا ولا استوثقا. وأرادت خاتون القبض عليهما فهربا. فأما عميد الملك فإنه انحدر إلى الأهواز، وأمن عند هزار سب بن بنكير بن عياض من الإعواز. وسارت خاتون تطلب السلطان، ولحق بها ولدها أنوشروان، وذلك في سنة 451 ه. وفي هذه الفترة تمت فتنة البساسيري، ودخل إلى بغداد سادس ذي القعدة سنة 450 ه وخرج سادس عشر ذي القعدة سنة 451، وكانت سنة سيئة كادت تكون لنور الله مطفئة. فإنه دعى إلى الدعي بمصر مصرا، ولم يجد الخليفة بمقره من دار الإمامة مقرا. وحصل من تلك الحادثة بالحديثة، وتوالت منه إلى طغرلبك إمداد كتبه ورسله المستصرخة المستغيثة. وهو مشغول بحرب أخيه، مهموم بما هو فيه، مغلوب الجند مسلوب الجد.
Shafi 191
قال: وصلب البساسيري رئيس الرؤساء وأبا محمد بن المأمون رسول الخليفة في استدعاء السلطان طغرلبك وقتل أصحاب قريش بن بدران عبد الرزاق أبا نصر أحمد ابن علي واختل نظام الإسلام، واعتلت دار السلام، وطالت غربة الإمام، وهالت كربة الأنام. إلى أن استنجد السلطان أولاد أخيه ألب أرسلان وياقوتي وقاورد بني داود وهو بالري، فأنجدوه وأسعفوه وأسعدوه، فخرج بهم إلى إبراهيم بن ينال بهفتان بولان فكسره، ثم وجده وقد وقف به فرسه فأسره، وخنقه بوتر لوتره، وحنقه، واستراح من حث زميله إليه عميد الملك وجهز هزارسب جهاز مثله، وأفضل عليه لفضله. ولم يبق لطغرلبك بعدها سوى رد الخليفة إلى داره، وإظهار قمره من سراره. ورحل نحو بغداد فأحس البساسيري بريحه، وأيقن بتياره ووقع في تباريحه. ولما قربت العساكر السلجقية من بغداد بعد، وقامت قيامته وما قعد، وكان الخليفة بحديثة عانة فطلبه قريش بن بدران من ابن عمه مهارش بن مجلي فحماه، وما أباح حماه.
قال: وخرج مهارش بالخليفة إلى تلعفر، فقصد بدر بن مهلهل ومعه الفقيه ابن فورك وقد تيمن به وتبرك، وهناك فاز من وحد، وهلك من أشرك. ولما وصل السلطان إلى بغداد سير إلى الخليفة عظماء مملكته، وصدر وزارته عميد الملك وأنوشروان ابن خاتون ومعهم المهد والسرادق، والخيل السوابق. ولما مثلوا بالحضرة الشريفة، وشاهدوا أحوال الخليفة، أراد عميد الملك أن يكتب إلى السلطان كتابا بشرح الحال، وبوصف ما اجتلاه من المهابة والجلال. ولم يكن بين يدي الخليفة دواة، ولا أداة للكتابة مسواة.
فأحضر من خيمته دواة عليها من الذهب ألف وسبعمائة مثقال وأضاف إليها سيفا ذا فرند وصقال، وقال: هذه خدمة محمد بن منصور أصغر الخدم، وقد جمع في هذه الدولة بين السيف والقلم. وأحسن الخليفة قبوله وخطابه، وتوج بخطه الشريف كتابه.
ولما وصل الخليفة إلى النهروان، وصل إليه السلطان، وتباشرت بقدومه الأوطار والأوطان، واستأذنه عميد الملك في حضور السلطان، فأذن ودخل، وقبل الأرض سبع مرات، وأتى من أدب الخدمة الممكن. وقدم له الخليفة مخدة من دسته وقال: اجلس.
فقبلها وجلس، وآنسه فأنس. وجعل عميد الملك يفسر لهما ويترجم، ويعرب ويعجم.
Shafi 192
والسلطان يعتذر عن تأخره وتراخيه، بما شغله من وتر أخيه. فمهد عذره، وهمد ذعره، وقلده الخليفة سيفا تبرك به. وكان قد خرج معه من الدار وذلك يوم الأحد الرابع والعشرين من ذي القعدة، واستقر أن يدخل إلى الدار غدا، ويعيد بعودة عيش الإسلام رغدا. فلما أصبح السلطان تقدم إلى باب النوبي وجلس مكان الحاجب. فلما قرب الخليفة، قام وأخذ بلجام بغلته، ومشى في خدمته إلى باب حجرته، وذلك يوم الإثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 451 ه، فعادت الأنوار إلى الطلوع، والأنوار1إلى الهموع، وحل الشرف في موطنه، وفاض الكرم من معدنه.
قال: وهرب البساسيري إلى حلة دبيس بن على بن مزيد، وقد ولت سعادته فهو مطلق في زي مقيد. فسير السلطان وراءه عسكرا، مقدموه: سرهنك ساوتكين وأنوشروان وخمارتكين الطغرائي وأردم، وأنفذ معهم ابن منيع الخفاجي، فواقعوا البساسيري وأوقعوه، ووقع في فرسه سهم رميت به فرمته، وحام حوله حماته فما حمته. وصادفت وجهه ضربة أدمته. وكمش كمشتكين العميدي فأسره، ثم احتز رأسه، وحمل إلى بغداد، وعلق قبالة باب النوبي، وزالت بزواله نوبة النبوة الحالة بالمحل النبوي، واستقام الأمر، وأرج النشر، وتولت الغماء، وتوالت النعماء. وكان طغرلبك بواسط فقدم بغداد في صفر سنة 452 ه، فعمل له الخليفة في روشن التاج سماطا، وأحضر عليه من أكابر دولته رؤساء وأوساطا. ثم عمل للسلطان في ثاني ربيع الأول سماطا آخر، فاضل به من قبله من الملوك وفاخر. وتوجه في خامس الشهر إلى الجبل.
ودخل عميد الملك إلى الخليفة فأقامه في موضع الاصطفاء، ولقبه سيد الوزراء.
قال: وفي سنة 451 ه احترقت ببغداد دار الكتب التي وقفها الوزير شابور ابن أردشين بين السورين، وأخذ عميد الملك ما سلم من النار وكان أحد الحريقين.
وتوفيت في ذي القعدة سنة 452 ه خاتون زوجة السلطان بزنجان.
قال: ولما رحل السلطان استصحب معه أرسلان خاتون ابنة أخيه زوجة الخليفة.
Shafi 193
فلما استقر الرأي، عزم على نشر ما كان من رغبته في الطي. وسير قاضي الري أبا ساعد صاعدا إلى دار الخلافة رسولا، وضمن رسالته في خطبة السيدة ابنة القائم سؤالا وسؤلا، وذلك في سنة 453 ه. فندب الخليفة للجواب أبا محمد بن التميمي للاستعفاء، وأنه لم تجر بهذا سنة الخلفاء. ثم قيل له: إن عدمت في الاستعفاء الوسائط، فاطلب صداق ثلثمائة ألف دينار وأعمال واسط. فلما وصل ابن التميمي، أعلم عميد الملك بالحال، فقال: أما الاستعفاء فلا يحسن مع رغبة السلطان وضراعته في السؤال، وأما طلب المال والأعمال، فيقبح لأنه يفعل أكثر ما يدور في خواطر الآمال، والصمت أولى من هذا المقال. فخلني أخل سرك من هذا السر، ودعني أتول هذا الأمر. فقال ابن التميمي: الأمر إليك، والاعتماد عليك، والصواب ما تدبره، والتدبير ما تستصيبه، وأنت أعرف بما تخاطب به صاحبك وبما تجيبه. فقال عميد الملك للسلطان: إن القضية قد تسهلت، وإن العقدة قد تحللت، وإن المنية قد أمكنت، وإن البغية قد تمكنت.
فأشاع السلطان خطبته، وأذاع رغبته. وتقدم إلى عميد الملك بالمسير مع أرسلان خاتون بنت أخيه زوجة الخليفة إلى دار الخلافة، واستصحب ما جاوز حد الكثرة من الدنانير المبدرة والجواهر المثمنة، وسير معها عدة من الأكابر وذوي العلى، ومن عظماء الديلم: فرامرز بن كاكويه وسرخاب بن كامروا. وكان قد وزر للخليفة في تلك السنة مجد الوزراء أبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست، فخرج لتلقي الواصلين إلى قرب النهروان، والتقى هو وعميد الملك وهما راكبان، ودخل عميد الملك بغداد وجلس على باب النوبي. فلما وصلت خاتون، سار في خدمتها إلى دارها، ثم حضر بيت النوبة وأخذ دواة الوزير ابن دارست. وأنهى حضوره وحضور الأمراء الذين معه، وأدى من الرسالة ما أودعه. فنفر الخليفة وغضب، وغاض ماء بشره ونضب، وقصد الامتناع ومنع المقصود وسد الباب ولم يفتح الباب المسدود. فشرع عميد الملك يتكلم بكل فن، ويقعقع بكل شن، ويقول: ما بالكم افترحتم، ثم امتنعتم؟
وفيم ذهبتم إلى أبعد غاية في الطلب ثم رجعتم؟ وقد خاطرتم عند السلطان بدمي، وأزلتم بما قدمتم من التقدم قدمي. فأخرج إلى النهروان مضاربه، وخلع الأهبة السوداء ولبس البياض، فاستوقفه ابن يوسف وقاضي القضاة ليستنزلوه من المضارة إلى المراضاة. وما زالا يتلطفان به، حتى حضر بعد ذلك عند الخليفة دفعتين، ومعه جماعة من الأمراء والحجاب والقضاة والشهود، وبلغ في الخطاب وبذل المجهود. وذلك في جماد الآخر سنة 453 ه.
وقال الخليفة: «نحن بنو العباس، خير الناس. فينا الإمامة والزعامة، إلى يوم القيامة. من تمسك بنا رشد وهدى، ومن ناوأنا ضل وغوى».
Shafi 194
وكان الخليفة قد كتب إلى عميد الملك: أسأل مولانا أمير المؤمنين التطول بذكر ما شرف به الخادم الناصح شاهنشاه ركن الدين فيما رغب فيه، وسمت نفسه إليه. وأراد أن يقول الخليفة ما يلزمه من الإجابة، ففطن لذلك وغالطه وقال: قد سطر في الجواب ما فيه كفاية. فانصرف عاتبا، وذهب مغاضبا. وراح راحلا ورد المال إلى همذان، وأخبر بالحال السلطان.
وكان الخليفة قد كتب إلى خمارتكين الطغرائي يشكو من عميد الملك وإلحاحه.
فكتب في جوابه يشير بالرفق والتطلف، وينص على التثبيت والتوقف. فنسب عميد الملك قطع الحديث في الوصلة إلى مخامرة خمارتكين فتغير، السلطان عليه فرهب وهرب، وتسرع وتسرب. وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور يوسف بالعتب الممض، والخطب المقض، وقال: هذا جزائي من الإمام القائم وقد قتلت أخي في طاعته، ووهبت عمري لساعته، وأنفقت أموالي في خدمته، وطلبت فقري لثروته! فما باله ما بالي برد قولي، وقال بردي، وصد قصدي، وقصد صدي! وكتب إلى عميد الملك بأن يقبض الإقطاعات ولا يترك للخليفة إلا ما كان باسم الإمام القادر قديما، وأن يكون لمعارضة أسبابه مستديما. فحضر العبيد رئيس العراقيين بيت النوبة وعرض الكتب، وأعاد العتب. فخرج جواب الخليفة: ما رجونا من ركن الدين ما صنع، وما توقعنا ما وقع، وبين يديك الإقطاعات فاقطعها، وقد ارتفعت الموانع فامنعها.
Shafi 195
قال: وخرجت السنة، والوحشة القائمية قائمة، وعين التأنيس عن إزالة أسبابها نائمة. فلما دخلت سنة 454 ه أجاب الخليفة في المحرم منها إلى الوصلة، وكتب وكالة باسم عميد الملك شهد فيها قاضي القضاة وابن يوسف بما سمعاه من تلفظه بالإجابة، وضبطت الشهادات بالكتابة. وسير أبو الغنائم بن المحلبان في الرسالة، واستصحب كتابة الوكالة: فسر السلطان واحتفل، ووفي له القدر بما كفل. وعقد العقد في ظاهر تبريز بالمخيم. وكان رئيس العراقيين بالمعسكر فأعيد إلى بغداد في صحبة ابن المحلبان، وسيرت على يده الهدايا، وأصحبه برسم الخليفة ثلاثين غلاما وجارية أتراكا، على ثلاثين فرسا وخادمين، وفرسا بمركب ذهب وسرج مرصع بالجواهر الثمينة، وعشرة آلاف دينار، وبرسم السيدة عشرة آلاف دينار، وتوقيعا ببعقوبا وما كان لخاتون المتوفاة بالعراق، وعقدا فيه ثلاثون حبة، كل لؤلؤة مثقال، وبرسم عدة الدين خمسة آلاف دينار، وبرسم السيدة والدة المخطوبة ثلاثة آلاف دينار، وذلك في شوال من السنة. فلما قرب رئيس العراقيين من بغداد، تلقاه الناس واستبشروا بانتظام الألفة بين الإمامة والسلطة، فلما وصل إلى باب النوبي نزل وقبل الأرض، ثم وصل إلى باب أرسلان خاتون زوجة الخليفة، وأدى من خدمتها الفرض، وأوصل إليها ما حمله. فتولت تسليمه، وباشرت عرضه بالمقام النبوي وتقديمه.
ذكر سبب تولي ابن دارست وزارة الخليفة إلى حين انصرافه
قال: كانت وزارته في سنة 453 ه وسبب ذلك أن الخليفة لما عاد إلى الدار عدم الوزير، وفقد من يتولى التدبير. فحدث رأيه بأنه يستخدم رجلا خدمه بالحديثة، وهو أبو تراب الأثيري، وقد وجده أثير الأثر فلقيه حاجب الحجاب عز الأمة، واستخدمه في الإنهاء وحضور المواكب وتنفيذ الأوامر المهمة.
قال: وكانت بين ابن يوسف وبين الأثيري وحشة، حملت ابن يوسف على أن ذكر ابن دارست وقرظه، وقال: إنه مع أمانته يخدم بغير إقطاع ويؤدي مالا. فمضت الكتب إليه وهو في شيراز باستدعائه، فقدم الجواب باستعفائه. فخرج إليه ابن رضوان ومعه ظفر الخادم لاستقدامه، وقوي عزمه أبو القاسم صهر ابن يوسف، فورد بقوة اعتزامه. وكتب عميد الملك عن السلطان إلى الخليفة بأنه كاره لاستقدامه واستخدامه، لا ملاقة مع ثروة المال من الكفاية وإعدامه. فأجاب الخليفة: أنه مع وصوله إلى واسط ومفارقته وطنه، لا يجوز رده، ولا يخلف وعده. وقدم بغداد ثامن ربيع الأول سنة 453 ه، ووصل إلى الخليفة في منتصف شهر ربيع الآخر، وأفيضت خلع الوزراة عليه، وأفضت مع الوزارة الأمور إليه. وبقى في المنصب منتصبا إلى رابع ذي الحجة سنة 454 ه، فإنه صرف من تلك المراتب بل ترك الخدمة مستعفيا، ولرقة جاهه مستجفيا. قال: وكانت وفاته بالأهواز حادي عشر شعبان سنة 467 ه.
ذكر حوادث في هذه السنين
قال: في سنة 450 ه توفي القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري ببغداد، عن مائة سنة وسنتين. وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء يناظر ويفتي، ويستدرك على الفقهاء. وحضر عميد الملك الكندري جنازته، ودفن بالجانب الغربي عند قبر الإمام أحمد بن حنبل.
Shafi 196
قال: وفي آخر هذه السنة توفي أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد ابن حبيب الماوردي، وقد كان في العلم بحرا زاخرا، وفي الشرع بدرا زاهرا.
قال: «بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة (يعني الحاوي) واختصرته في أربعين» (يعني الإقناع)، فيا لهما من بحرين نضبا، وبدرين غربا، وطودين وقعا، وجودين أقلعا.
قال: وفي سنة 453 ه توفي قريش بن بدران، وتولى ولده مسلم إمارة بني عقيل. وتوفى في شوالها نصر الدولة أبو نصر بن مروان بميافارقين، عن نيف وثمانين سنة. وفي يوم عرفة من سنة 454 ه وزر فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير للخليفة. وسبب ذلك أنه كان مقيما بميافارقين عند ابن مروان في جاه وعز، آمر ناه فسمت همته وعلت سعادته. وكتب إلى الخليفة يرغب في زيارته لوزارته، وأنه يبذل بذلا، ويحمل حمولا. فندب إليه من دار الخلافة نقيب النقباء الكامل أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي، وقرر ما أراد تقريره ودبر ما شاء تدبيره. فخرج من ميافارقين عند انفصال نقيب النقباء ليودعه، وسار معه، وفات ابن مروان ولم يلحقه لما تبعه.
وخرج الناس عند وصوله إلى بغداد لاستقباله، ونزل بالحريم الطاهري، ومكث ثمانية أيام حتى جاوز الكسوف، ونشق نشر العز المشوف. وتيمن بيوم عرفة فحضر بيت النوبة وقد أسعدته السعادة، واجتمع هناك من طبقات الناس من جرت به العادة.
واحتفل له الخليفة بالجلوس، وطلع نور اليمن من أفقه، وقرأ أمين الدولة أبو سعيد بن الموصلايا توقيعا خرج في حقه.
ذكر وصول السلطان طغرلبك إلى بغداد
Shafi 197
قال-رحمه الله-: في محرم سنة 455 ه توجه السلطان إلى بغداد من أرمية بعزم الدخول على الزوجة، وخرج فخر الدولة بن جهير وتلقاه بالقفص في الموكب الأعظم والأبهة الباهرة والأهبة الزاهرة. ونزل عسكره بالجانب الغربي فزادت به الأزية1، وارتاعت الرعية، ووصل عميد الملك إلى السدة الشريفة مطالبا بالشريفة السيدة فوقعت الإجابة في نقل الجهة إلى دار المملكة، ونزلت منها في الهجرة الشرقية باليمن والبركة: وزفت في ليلة النصف من صفر وجلس على سرير ملبس بالذهب، يخطف النواظر منه أشعة الذهب. ودخل إليها وقبل الأرض وخدمها، وجلس بإزائها على سرير ملبس بالفضة، وقد كان أنفذ لها مع بنت أخيه زوجة الخليفة، عقدين نفيسين ثمينين، وجاما خسروانيا من إبريز العين، وفرجية من نسيج الذهب مكللة بالحب.
وصارت نفسه لها موكلة بالحب، وظهر منه بها سرور، وسره منها لشرفه ظهور. وبقى مدة أسبوع يهب ويخلع، ويمنح ولا يمنع، وخلع على عبيد الملك وعلى الأمراء، وأفاض التشريفات على الأكابر والعظماء. فقد كان ورد معه إلى بغداد أبو علي ابن الملك أبي كاليجار. وهزار سب. وفرامرز بن كاكويه، وسرحاب بن بدر بن مهلهل. فما منهم إلا من أفضيت عليه الخلع الرائقة، وأضيفت له العطايا اللائقة.
قال: وحضر عميد الملك في تاسع شهر ربيع الأول بيت النوبة، واستأذن للسلطان في الأوبة، وأن يستصحب السيدة والخاتون، وذكر أنهم بعد مضيهم عن قريب آتون، فأذن في ذلك الخليفة. وكانت أرسلان خاتون قد حملت من أطراح الخليفة لها غما. وأما السيدة فقد كره الخليفة مسيرها. فلما مضت أمضت بألم فراقها، وومضت لأمل رفاقها. ولما انفصل السلطان عن بغداد أذن لهزار سب في المضي إلى الأهواز، مرعيا بالإعزاز. فإنه مكث على بابه ثلاث سنين لا يؤذن له في الانفصال، ولا يؤذن إربه المفارق بالوصال. وعقد ضمان بغداد على أبي سعد القايني بثمانية وخمسين ألف دينار، فأعاد كل ما أبطله رئيس العراقيين من ضر الضرائب، وشر النوائب. وقد كان هذا يتولى مطبخ عميد الملك، وهو أستاذ داره، فجرى المقدور برفع مقداره.
ذكر وفاة السلطان طغرلبك بالري
قال: وفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان سنة 455 ه توفي طغرلبك بالري فاضطرب بهلكه الملك. وبلغ عميد الملك نعيه وهو على سبعين فرسخا من الري فقطعها في يومين إشفاقا من تشويش يتم، وتشوير1ينم. فوصل وهو بحاله لم يدفن ولم يقبر، فتولى دفنه، وتوخى سكون الخلق وأمنه. ومنع الغلمان من شق الثياب، وأخرج جميع ما كان يملكه على العسكر حتى الدواب. وأجلس سليمان بن داود ابن أخي السلطان.
Shafi 198
ذكر سيرة طغرلبك-رحمه الله-
قال: كان كريما حليما محافظا على الطاعة، وصلاة الجماعة، وصوم الاثنين والخميس. وكان يلبس الواذاري والبياض، وأشبهت أيامه بمحاسن سيرة الرياض.
وكان لا يرى القتل ولا يسفك دما، ولا يهتك محرما. وكان شديد الاحتمال، سديد الأفعال. حكى عنه أقضى القضاة الماوردي أنه توجه في رسالة القائم إليه في سنة 433 ه، فكتب فيه كتابا «ضمنته الطعن عليه والقدح فيه، وغمط محاسنه وبسط مساويه. ووقع الكتاب من غلامي فحل إليه، فوقف عليه، ثم ختمه وكتمه، ولم يتغير عن عادة إكرامي وشيمة احترامي» قال: وكذلك ذكر أن بعض خواصه كتب ملطفات إلى أبي كاليجار، يطلعه فيها على بعض الأسرار. فوقعت في يده فأخفاها، وداوى هفوته بحلمه وشفاها. وكان كثير الصدقات حريصا على بناء المساجد، متعبدا متهجدا. ويقول: أستحي من الله أن أبني دارا ولا ابني بجنبها مسجدا.
قال: وحكى عميد الملك، أنه لما مرض قال: إنما مثلي في مرضي مثل شاة تشد قوائمها لجز الصوف. فتظن أنها تذبح فتضطرب، حتى إذ أطلقت تفرح، ثم تشد قوائمها للذبح، فتظن أنها لجز الصوف. وتسكن فتذبح. وهذا المرض شد القوائم للذبح، وكان كما قال. قال: وتوفي وعمره سبعون. قال: وحكى عميد الملك أن طغرلبك قال له: رأيت منامي في مبتدأ أمري بخراسان كأني رفعت إلى السماء، وقيل لي: سل حاجتك تقض، فقلت: ما شيء أحب إلى من طول العمر. فقيل: عمرك سبعون. قال: قال عميد الملك: وكنت سألته عن السنة التي ولد فيها، فقال: السنة التي خرج فيها الخان الفلاني بما وراء النهر. فلما، توفي حسبت المدة فكانت سبعين سنة كاملة. ولما وصل خبر وفاته إلى بغداد جلس الوزير فخر الدولة ابن جهير للعزاء به في صحن السلام في السادس والعشرين من شهر رمضان.
ذكر جلوس السلطان عضد الدولة ألب أرسلان أبي شجاع محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجق
Shafi 199
قال: توفي أبوه داود ببلخ سنة 450، وقام مقامه. ولما خطب لأخيه سليمان بالري بعد وفاة طغرلبك، مضى أرسعن وأردم إلى قزوين، وخطب لألب أرسلان.
وبلغ عميد الملك ذلك، فأقام الخطبة بالري لألب أرسلان، وبعده لسليمان. وأقبل إقبال الضيغم الضاري. وأقدم إقدام الخضم الجاري. وكان ابن عم أبيه قتلمش بن إسرائيل في كردكوه، وقد طمع في الملك، ولم يعلم أن ذلك يورطه في الهلك. فعارضه في جموعه فتقابلا وتقاتلا، وانجلت المعركة عن قتل قتلمش وكانت منيته في عثور الفرس به. وقتل ألب أرسلان من التركمان عدة وافرة، وحاز من أموالهم غنيمة ظاهرة. وساق حتى وصل إلى خوار الري ظافر الجند، ظاهر الجد ومعه وزيره نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي. فتلقاه عميد الملك في حشمه وخدمه وكوسه وعلمه، وعربه وعجمه. وأجلسه على السرير، وجرى على عادته معه في التدبير. فغار نظام الملك من استقلاله، واحتال مدة في قبضه واعتقاله. فلما كان في محرم سنة 359 ه زار عميد الملك نظام الملك زيارة إيناس واعتذار، وترك بين يديه منديلا فيه خمسمائة دينار. فلما انصرف من حضرته، سار أكثر العسكر في خدمته. فتخوف السلطان من عاقبة ذلك ومغبته، فأمر بقبضه وأنفذه إلى مرو الروز ومكث سنة في الاعتقال بها. ثم سير إليه غلامين فدخلا عليه وهو محموم، وأخبراه بأن قتله أمر محتوم. وأنظراه حتى اغتسل وتوضأ وتاب، ودخل لوداع أهله، وخرج إلى مسجد فصلى ركعتين، واستسلم للقضاء المقدر بالحين، ووجد الغلظة من الغلامين، وضرباه بالسيف وأخذا رأسه وحملاه إلى السلطان بكرمان. وأما جثته فإنها لفت في خرقة كانت لفافة البردة النبوية كان استهداها من الخليفة، وفي قميص دبيقي من ملابس القائم الشريفة. وقبر في أبيه بكندر.
وكانت مدة وزارته ثماني سنين وشهورا. ولم يزل موسم جاهه فيها مشهودا مشهورا. وكان عمره نيفا وأربعين سنة. وكانت محاسنه مفضلة، وفضائله محسنة. لكنه لكنه تهوره وتهوينه، وغاية غيه في سوء التدبير وتوهينه، قصرت يده الطولى عن استمالة القلوب الجافية، واستلانة الخطوب الآبية. قال: وكان يرجع إلى حسب ونبل وأدب وفضل. وهو الذي يقول:
الموت مر ولكني إذا ظمئت نفسي إلى المجد مستحل لمشربه
Shafi 200
رئاسة باض في رأسي وساوسها تدور فيه وأخشى أن تدور به قال: وكان خصيا. وسبب ذلك أن طغرلبك أنفذه في ابتداء حاله، وريعان إقباله، ليخطب امرأة فزوجها لنفسه وعصاه، ولما ظفر به أقره على خدمته بعد أن خصاه. وكان حنفي المذهب كثير التعصب لمذهبه، والذهاب مع عصبته. ثم فارق التعصب وجمع بني العصابتين، وحسن رأي اجتهاده في الإصابتين. وكان سبب معرفته بطغرلبك، أنه لما ورد نيسابور افتقر إلى كاتب يجمع في العربية والفارسية بين الفصاحتين، فدله عليه الموفق والد أبي سهل، فظفر منه بشاب في رأي كهل.
ذكر نظام الملك
قال: ولما صرف عميد الملك وعزل، ونقل إلى حيث اعتقل. استوى أمر نظام الملك وبزغت بالسناء شمسه، وبلغت المني نفسه، وعلا علمه، وجرى قلمه. وترفعت وسادته، وتفرعت سيادته. ومضت مضاربه، ومضت سحائبه.
****
ذكر ما جرى لألب أرسلان بعد ملكه
قال-رحمه الله-: كان قاورد بن داود أخوه، قد استولى على كرمان في زمان عمه طغرلبك في سنة 447 ه، وملك شيراز في سنة 455 ه، وقتل كل ديلمي بها وسفك وهتك، وبطش وأوحش. وخالف أخاه ألب أرسلان، واعتصم منه بمدينة بردشير بكرمان. فسار إليه ألب أرسلان وآمنه، وأخذ قلعة اصطخر، وأتاه مستحفظها بتحف فيروزج، وكأس زمرد لم ير مثلها. وشمل بلاد فارس إحسان الدولة وعدلها.
قال: ووصل إليه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش في سنة 457 ه، فأكرم وفادته، وأكثر إفادته، وأجرى في إقطاعه هيت والأنبار وحربي والسن والبوازيج. ووصل شرف الدولة هذا إلى بغداد في شهر ربيع الآخر سنة 457 ه، فتلقاه الوزير، فخر الدولة ابن جهير، وألفى من إقباله عليه خير ظهير. قال: وأوغل السلطان في بلاد الخزر من طريق نخجوان، وكثر لإعانة الإيمان ونصره الأنصار والأعوان.
Shafi 201
وألجأ ملك الأبخاز بقراط بن كيوركي إلى طلب هدنته، وعرض ابنته. فتزوج بها وهادنه، وقبل بذله وأمنه. ثم طلق الملكة الكرجية وزوجها لنظام الملك وزيره، وسار وفتح بلد آني، وعنت له البلاد، وأذعنت العباد، وسرى البأس وسر الناس.
ذكر وصول شرف الملك أبي سعد محمد ابن منصور بن محمد مستوفي المملكة إلى بغداد
قال: وكان وصوله إلى بغداد في صفر سنة 459 ه، وقد كان جليل النسب، جلي الحسب. وما تولى للسلجقية مثله كرما وخيرا، وفضلا كثيرا، وغنى وغناء، وسنا وسناء. قال عماد الدين-رحمه الله-: وكان جدي لأمي أمين الدين علي المستوفي -رحمه الله-كاتبا له في ريعان عمره، وعنفوان أمره. إلى أن صار بعد كاتبا لخزانة السلطان محمد بن ملكشاه. وكان يحدثني في صغري وهو شيخ كبير عن شرف الملك بكل ما يدل على سيادة نفسه، ونفاسة سؤدده. وذكر أنه كان مع فضله ذا تفضل، ومع إجماله ذا تجمل.
وحكى أنه كانت له ثلثمائة وستون كسوة مكملة. مفضلة معزلة على عدد أيام السنة، من الملابس الفاخرة، فيلبس كل يوم ما يناسبه من أيام الفصول الأربعة. فإذا خلع منها أو وهب، أعاد خازنه إلى الخزانة عوض ما ذهب.
فلما وصل إلى بغداد، حضر بيت النوبة في ثاني عشر صفر، فبشر بإقباله سفيرا وجه القبول، وسفر وخدم الخليفة بمصحف جليل، وقطعة بلخش في منديل. وأوصل كتاب السلطان في خريطة سوداء، وسر الأوداء، وساء الأعداء.
قال: ووجد نواب نظام الملك الوزير قد شرعوا في بناء المدرسة، فاغتنم إقداره على الاقتداء، وبنى على ضريح أبي حنيفة-رحمه الله-بباب الطاق مشهدا ومدرسة لأصحابه، وأعلم بمعلمها ثوب ثوابه. قال: وكتب الشريف أبو جعفر البياضي على القبة:
ألم تر هذا العلم كان مشتتا فجمعه هذا المغيب في اللحد
Shafi 202