وكانت البصرة حينذاك قد فشا فيها الطاعون، وسرى منها إلى واسط وغيرها، فعاد الموفق إلى سامرا بعد هذا الانتصار، وتفرقت أكثر جنوده. فأرسل الخليفة في سنة 259ه إسحاق بن كنداج، فقاتل الزنوج فدحرهم عدة مرات، ولكنه لم يتمكن من الانتصار عليهم انتصارا نهائيا، فأرسل الخليفة قائده موسى بن بغا التركي بجيش كبير، فانتصر موسى على الزنوج، وقتل منهم عددا كبيرا، فبلغ انتصاره البصريين فثاروا على من عندهم من الزنوج فطردوهم، وتلاهم أهل أبي الخصيب فثاروا على الزنوج، ومنعوا إرسال الذخائر إليهم، فضاق الحال بالزنوج.
ولما كانت سنة 260ه استقال القائد موسى بن بغا من ولاية البصرة وقيادة الجيش، فأرسل الخليفة بدله مسرورا البلخي، وأودع إليه قتال الزنوج، فالتقى بهم وحدثت بينه وبينهم معركتين، فعاد إلى بغداد بسبب حدوث فتنة فيها.
دخلت سنة 261ه فجهز الخليفة جيشا جديدا، وسيره بقيادة أخيه الموفق - مرة ثانية - إلى البصرة لقتال الزنوج، وسير معه ابنه أبا العباس، فسار الموفق بجيش جرار - قيل: كان عدده خمسين ألف مقاتل - حتى وصل بالقرب من البصرة، فعسكر في الجهة الشرقية منها بالقرب من شط العرب، وبنى هناك مدينة اتخذها مقرا للحركات الحربية فسميت الموفقية؛ نسبة إليه. ثم جلب إليها التجار والباعة فابتنى فيها سوقا، فبنى الناس المنازل، وعمرت حتى صارت مدينة كبيرة، وبقيت مركزا لسوق الجيوش حتى انتهى الموفق من أمر الزنوج كما سنذكره.
أما الزنوج فإنهم كانوا قد بنوا لهم مدينة كبيرة في غربي نهر أبي الخصيب وسموها المختارة، وبنوا عليها سورا وأبراجا وخندقا، وجعلوا لحمايتها ثلاثة آلاف مقاتل، وجمعوا فيها عددا عظيما من النساء والأطفال الذين نهبوهم في غاراتهم على البصرة والأبلة والأهواز وغيرها، واتخذوا هذه المدينة مركزا للحركات الحربية، كما اتخذ الموفق مدينته مقرا لسوق الجيوش.
انتهاء أمر الزنوج
ظل الموفق يسير الجيش برا ونهرا لقتال الزنوج، والخليفة يمده بالعدد والعدد، فانتصر الموفق في أكثر المواقع، وكانت الجيوش البرية تحت قيادته والجيوش النهرية بقيادة أبي العباس، وظل النصر حليف الموفق حتى اضطرت القبائل المتفقة مع الزنج إلى طلب الأمان والعفو، وشرعت تلك القبائل تنحاز الواحدة تلو الأخرى إلى الموفق؛ فضعف أمر الزنوج، وقوي أمر الموفق وكثرت جيوشه، وتم له النصر في شهر جمادى الآخرة سنة 270ه، واحتل مدينتهم المختارة، وقتل رؤساء تلك الفتنة، واستولى على أموالهم ودورهم، وقتل زعيمهم علي بن عبد الرحيم، وأرسل رأسه إلى أخيه المعتمد، وكان قتله بشرى عظيمة بشرى عظيمة في العراق، ثم جمع الموفق الأموال التي نهبها الزنوج من البلاد، وكذلك النساء والأطفال، فأرجع الجميع إلى أصحابها؛ فارتاح الناس والبلاد من غارات الزنوج بعد أن أتعبوا الدولة خمسة عشر عاما، وكانوا مشغلة القواد والخليفة حتى خشي منهم أن يستولوا على العراق كله في الوقت الذي كانت فيه الخلافة قد ازدادت ضعفا على ضعف، واستبد القواد والولاة في الأطراف. وقد قتل في هذه الحروب عدة من القواد، منهم: سعيد بن صالح الحاجب، ومفلح، ومنصور بن جعفر الخياط ... وغيره، وقاتلهم جماعة من القواد فلم يظفروا بهم، منهم: أحمد المولد، وأحمد بن ليثويه، وموسى بن بغا، ومسرور البلخي، وإسحاق بن كنداج ... وغيره، ولم ينتصر أحد من القواد عليهم انتصارا نهائيا غير الموفق؛ لبراعته في الأساليب الحربية، وحسن سيرته وحزمه.
وكان أول ظهور صاحب الزنج هذا في إحدى قرى البصرة التي هو من أهلها، فادعى أنه من نسل الإمام علي كما تقدم، وهو في الحقيقة اسمه علي بن عبد الرحيم من ولد القيس، وزعم أنه يطلع على ما في ضمائر أصحابه وما يفعل كل واحد منهم. ثم دعا الزنوج الذين يعملون في السباخ في نواحي البصرة والكوفة واستنهضهم، فترك أكثرهم مواليهم، وقاموا معه، فأطمعهم في أسيادهم، ووعدهم أنه يملكهم ما في أيديهم، فاجتمع له خلق كثير منهم، فعبر دجلة، ونزل قرية تسمى الدينارية، وزعم أن سحابة أظلته ونودي منها: «اقصد البصرة تملكها»، فقاتل الخلافة العباسية باسم الدولة العلوية أعواما، وفعل ما فعل من قتل ونهب كما ذكرناه قبلا، ولقد بالغ بعض المؤرخين فقال: إنه قتل من البصريين مائة وخمسين ألفا، عدا الأسرى من الرجال والنساء والأطفال الذين بلغ عددهم مائتي ألف امرأة وعشرين ألف رجل وعشرة آلاف طفل، وإنه قتل في جميع حروبه نحو المليونين وخمسمائة ألف نفس، ونهب من الأموال ما قيمتها عشرين مليون دينار. (ب) انحطاط البصرة وهجمات القرامطة عليها
لما انتهت فتنة الزنوج التي أتعبت الدولة العباسية أعواما طوالا ولى الخليفة المعتمد إمارة البصرة في سنة 271ه العباس بن تركس، وأمره بتعمير ما خربته تلك الفتنة، فصدع بالأمر، وعاد البصريون الذين انهزموا إلى مدينتهم، ولكن بعد الخراب، كما قيل بالمثل: «بعد خراب البصرة»؛ لأن هذه المدينة كانت قد خربت لتوالي الفتن والحروب، وأخذت منذ حادثة الزنوج بالتقهقر والانحطاط، وقل سكانها، وذهب أكثر عمرانها، وزالت ثروتها وخيراتها.
ولما توفي الخليفة المعتمد ببغداد في سنة 279ه وتولى الخلافة المعتضد بالله ولى على البصرة أحمد بن محمد بن يحيى، فظهر في أيامه في سنة 285ه في البحرين رجلا يدعى أبو سعيد الجنابي، وكان قد تأمر على القرامطة، وجمع حوله جماعات من رعاع الناس، وفتك بأهل البحرين والقطيف، ثم قصد البصرة في سنة 286ه، فكتب إلى الخليفة المعتضد بالله أميرها أحمد يخبره بما عزم عليه زعيم القرامطة من الهجوم على البصرة، فأمره ببناء سور البصرة، فبناه وأنفق عليه أربعة عشر ألف دينار.
وعلى إثر ذلك هجم أبو سعيد القرمطي بجموعه على البصرة في سنة 287ه فجمع أميرها أحمد
Shafi da ba'a sani ba