وفي هذه السنين كدنا ننسى هربرت سبنسر. ولكن كارل ماركس يزداد بمرور السنين قوة بل حياة؛ فإن نظرياته تحيا في كل مكان في العالم، والأزمة العالمية الحاضرة هي أزمة الصراع المنتظر، أو الوفاق المحتمل بين الماركسيين دعاة الإنتاج التعاوني وبين الديمقراطيين دعاة المباراة الاقتصادية. ولذلك لا يمكن أحدا أن يصف نفسه بأنه مثقف إذا كان يجهل الماركسية ولو كان يكرهها؛ لأن الأزمة العالمية هي في صميمها أزمة ماركسية.
وقيمة الماركسية في فهم السياسة العالمية والتطورات الاجتماعية والأخلاقية الحاضرة كبيرة جدا. ولكن لها قيمة أخرى في فهم التطورات التاريخية. والتعمق في دراسة ماركس لا يتمالك من الشعور بأنه هو - لا فرويد - الأساس الصحيح للفهم السيكلوجي. فإن ماركس أثبت أن العواطف الاجتماعية - أي التي نكتسبها من المجتمع - أكبر قيمة وأبعث على التغيير والتطور وأثبت في كياننا مما نسميه العواطف الطبيعية؛ ولذلك لا يقتصر فضل ماركس على أنه جعل الاقتصاد علما؛ لأن الحقيقة أنه جعل كذلك الأخلاق والاجتماع والسيكلوجية علوما. ولا يستطيع أحد أن يفهم هذه الثلاثة على حقيقتها الفهم الموضوعي إلا إذا كان ماركسيا.
داروين وماركس، كلاهما قد غرس في رأسي مركبات ذهنية، وجعلني أنظر إلى الدنيا وإلى الأحياء في استغراض علمي وتحليل اقتصادي وسيكولوجي. وعندما أستبطن إحساسي الديني أجد أن بؤرة هذا الإحساس هو «التطور». وهذا الإحساس الديني هو فهم وممارسة؛ فإني أفهم أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة بما في ذلك النبات، وأن الخلية الأولى التي نبض بها طين السواحل قبل نحو 700 مليون سنة هي عنصرنا الأول، وأننا ما زلنا ننبض ونتغير في تجارب لا تنقطع، وأن سنتنا هي لذلك سنة التغير، وجريمتنا هي لذلك جريمة الجمود. ونحن حين نجمد إنما نكفر بسنة الكون مادة وحياة. ولكن إلى جنب هذا الفهم الديني يجب أن «نمارس» ممارسة دينية باحترام الحياة أيا كانت والتعرف إلى أشكالها وحمايتها من الأميين المستهترين بالطبيعة. هذه الطبيعة التي تكتسب في ذهني قداسة كلما فكرت في غابات أفريقيا أو الهند وما تحوي من تحف الحياة، أو كلما فكرت في غياهب المحيط الهادي أو الأطلنطي أو المحيطين القطبيين وما بهما من أحياء يحاول التجاريون - في غير شرف - أن يبيدوها بالإلحاح عليها في الصيد.
وكذلك لا أقرأ الجريدة اليومية ولا أسمع عن خبر سياسي أو مشروع لقانون جديد إلا وأنظر إليه بالاستغراض الماركسي من حيث دلالته على النوازع المختفية التي دفعت إليه، في حين أن الذي يجهل الماركسية يتطوح ويتخبط في تقديرات «شخصية» للممثلين السياسيين أو الحربيين. مع أن هؤلاء ليسوا سوى أدوات تأخذ مكانها في دورة الآلة الكبرى، في حركة المجتمع الاقتصادي؛ ولذلك أيضا أصبحت فكرة «البطل» في التاريخ من الفكرات التي كانت تتقهقر في وجداني كلما تقدمت في التحليل الاقتصادي. ولكن يجب أن أعترف أنها مع تقهقرها لم تنمح، وأنه لا يزال للشخصية قيمتها في تفكيري.
وفرق عظيم - بل عظيم جدا - بين شخص قد قرأ ماركس ودرس التفسير الاقتصادي للتاريخ، وبين آخر يجهله؛ لأن الأول الذي امتاز بالحاسة بالتاريخية التي اكتسبها من ماركس يجد في أخبار الجريدة اليومية من المعنى والمغزى ما لا يجده الثاني الذي يحسب أن الحوادث التافهة والخطيرة، والاتجاهات السياسية، والتطور والثورة والحرب والسلام، كلها أشياء تجري جزافا.
ويأتي فرويد - بعد داروين وماركس - في إيجاد المركبات الذهنية التي عملت في توسعي وتعمقي. وعندي أن «مركب أوديب» الذي يعد محور السيكلوجية الفرويدية هو خطأ، ولكنه خطأ منير؛ لأنه نبهنا - كأنه دسيسة عملية تحركنا إلى البحث والتنقيب في كهوف النفس المظلمة - إلى قيمة السنين الأولى أيام الطفولة في تكوين الشخصية. وقد وصفت أقوال فرويد بحق بأنها «سيكلوجية الأعناق». وهي كذلك وإن كنا نختلف كثيرا عما نجد في هذه الأعماق. ولولا فرويد لما كان هذا الجيش الذي يتألف من آلاف العلميين الذين يبحثون النفس البشرية في جميع الأقطار المتمدنة. وقد جمعت بين فرويد وماركس وخرجت منهما بأزكى الثمرات، بل فطنت إلى أن ماركس هو السيكلوجي الأساسي؛ لأنه يجعل وجدان الفرد ثمرة المجتمع.
وعبارة «التحليل النفسي» من العبارات التي تعزى إلى فرويد وهي «اللافتة» لجميع أنواع العلاج السيكلوجي، وليس ثمة شك في قيمة التحليل. ولكني أحس أن «التأليف النفسي» أهم وأنفع من التحليل، وإنه إلى الآن مهمل لأن السيكلوجيين مقيدون بفرويد.
وفي حياتنا العصرية لا يستطيع أحد أن يهمل التفكير العلمي؛ لأن الحضارة الصناعية السائدة هي حضارة العلم. وقد دأبت في دراسة العلوم التي تدور حول التطور أو الاقتصاد أو السيكلوجية أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة؛ ولذلك أستطيع أن أتناول كتابا عن الهورمونات - أي مفرزات الغدد الصماء - أو كتابا عن الأيكولوجية - أي علاقة الحي بالبيئة - أو كتابا عن مشكلات الوراثة، أو كتابا عن جنون الشيزوفرينا، فأقرؤها جميعا في رغبة وفهم ولا أجد ذلك الصدود الذي يجده غيري ممن لم يعنوا بالعلوم.
وكل هذه العلوم هي دراستي المستقلة؛ لأن ما حضرته من محاضرات في لندن لا يؤبه به. ومما آسف عليه أحيانا أني لم أجد المرشد حوالي 1907 الذي كان يستطيع أن يعين لي منهجا دراسيا في العلوم. ولكني - بعد التفكير - أسائل: هل يكون أفضل لي لو أني كنت قد انغمست في دراسة علمية تجريبية معينة؟ ألم تكن مثل هذه الدراسة مانعة بطبيعتها الاختصاصية من ألوان أخرى من الثقافة الموسوعية التي أتمتع بها الآن؟ إني لا أكاد أعرف اختصاصيا في علم ما، نجح في أن يكون موسوعيا ينطلق في سهولة ويسر إلى رياض الفلسفة والأدب والاجتماع، مع أن كل هذه الميادين - فضلا عن العلوم - قد ألفتها وجلت - بل نقبت - فيها وفكرت في تناسقها، وسرت فيها بروح المتعلم الذي يربي نفسه في بعد عن الاغترار والزهو. فإذا اعتبرت القيم - قيم الحياة لا قيم التخصص الثقافي - فإني أجد أني نجحت في تربية نفسي أكثر مما لو كنت قد تخصصت؛ لأن المتخصص في الجيولوجية أو البيولوجية أو الأيكولوجية قلما يفكر في دراسة أفلاطون أو قراءة الجاحظ أو دراسة الحضارة الفرعونية. ولكني أنا بالاتجاه الموسوعي الذي اتجهته قد درست هذه العلوم، في غير تخصص، ولكن مع الاستطلاع الدائم لغيرها من الثقافة؛ حتى إني أقدر - مثلا - عدد المؤلفات التي قرأتها عن حضارة الفراعنة بما لا يقل عن أربعين أو خمسين كتابا. ولم أترك كلمة مطبوعة للجاحظ لم أقرأها. وكذلك أستطيع أن أؤلف كتابا عن جوتيه أو الإصلاح الزراعي في مصر أو المسألة الهندية بأيسر عناء.
ولذلك يرى القارئ أني درست لا للثقافة، بل للحياة، وقد حملتني دراستي العلمية على أن ألتفت كثيرا إلى المراحل البعيدة التي قطعتها العلوم المادية، كالطب والهندسة والكيمياء والميكانيات والطبيعيات، مع تأخر العلوم الاجتماعية التي حال دون التفكير الحر فيها وتغيير قواعدها تقاليد وشعائر وسنن وقوانين تعمل كلها لتجميد تطورنا الاجتماعي. فالاجتماع - باعتباره علما - يعيش على مستوى التفكير في 1600 أو 1700 ميلادية، بل هو في أقطار آسيا وأفريقيا يعيش على مستوى سنة 1000 للميلاد، في حين أن الكيمياء أو الطب يسبقانه بنحو 300 أو 400 سنة؛ ولذلك نحن لا نعيش المعيشة العلمية في بيوتنا ولا يسود حكومتنا النظام العلمي. ولو أنه كانت هناك تقاليد وشعائر وسنن وقوانين للكيمياء مثلا - كما للمجتمع - لبقي هذا العلم على مستواه حين كان كل هم الكيماوي أن يحيل الرصاص إلى ذهب. كما أننا لو استطعنا التخلص من تقاليدنا ومن الاستغراضات التي تخدم بعض الهيئات والطبقات لكان في مقدورنا أن نرتفع بالاجتماع إلى مستوى العلوم التجريبية المادية.
Shafi da ba'a sani ba