وبرناردشو مثل جوتيه قد جعل من حياته كتابا آخر، بل ربما كان هذا الكتاب أحسن مؤلفاته؛ فإن الناس يقرءون حياته ويستوحون منها القدوة والصلاح. فهو الآن في التسعين، وقد عاش منها ستين سنة وهو نباتي. وهو يسير كل يوم ساعيا على قدميه نحو سبعة كيلومترات ويقرأ ويكتب كما لو كان في الثلاثين أو العشرين. وهو يخفف من ألم الحقائق بالفكاهة، تلك الفكاهة الجديدة النارية التي تخرج منه كأنها تشنجات الحكمة أو وخزات الفلسفة.
ومن عجب أن هذا الرجل - الذي نسترشد بآرائه وتستنير برؤاه أحسن الطبقات المثقفة في العالم - هذا الرجل لم يتعلم قط في مدرسة أو جامعة. وقصارى ما حصل عليه تعليم أبتر في السنتين الأولى والثانية من المدرسة الابتدائية. ولكن إذا عد هذا تقصيرا أو قصورا في النظام التعليمي وبرامجه، فإنه يجب علينا أن نعد ارتقاء برناردشو إلى القمة في الثقافة العصرية برهانا على أن الثقافة السامية قد أصبحت مشاعة بين الجمهور، بحيث إذا توافر الذكاء والعناية استطاع أي فرد منه أن يصل - من الكتب المطبوعة - إلى أرقى ما يستطيع المتعلم في الجامعة بل أكثر. وهذا ما لا يمكن أن يقال في قطر مثل مصر. وإنما يقال مع التأكيد عن فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة؛ لأن الثقافة شائعة تفشو في كل مكان بكل طرزها الابتدائي والمتوسط والعالي، ولذلك سرعان ما يتعلم الأمي أو من هو في مقامه ويتسلق إلى القمم.
وهناك شخصية فذة أخرى كانت محورية توجيهية في حياتي هي شخصية ه. ج. ولز وظني أنه الآن 1946 في مرض من الموت. وكل من شو وولز يبحثان العالم وكأنهما يشرفان عليه كما يشرف العمدة في ألفة ومعرفة على قريته. ولكن بينهما مع ذلك فرقا؛ فإن شو يتجاوز الأعماق والآفاق إلى ما وراءهما. وولز يتعمق ولكنه لا ينظر إلى ما وراء الآفاق. يعيش على الأرض في حين يعيش شو في السماء، حتى لنحس ونحن نقرأ ولز أننا نختنق بهواء المدينة ولو أننا نتحدث إلى رجل يعرف كل ما فيها، ولكنا نحس حين نقرأ شو أننا نتنسم أوزون البحر المعقم. وكلاهما طائر، ولكن ولز يدرج وقلما يحلق، أما شو فدأبه الطيران والتحليق.
والمغزى في شو أن الإنسان سيتغير، جسما ونفسا؛ لأن التطور يقضي بذلك. ورسالته هي أن يبعث وجدان التطور في قرائه.
ولكن المغزى في ولز أن المجتمع سيتغير، في نظمه وأخلاقه؛ لأن الآلات قد أحدثت قوات اقتصادية جديدة سوف تضطر شعوب العالم إلى أن تكون أمة واحدة. ورسالته هي أن يبعث في قرائه وجدانا هو أن هذا العالم قريتنا الكبرى.
وولز هو بلا شك الأب الروحي للعالم الجديد؛ فإنه يدعو إلى لغة واحدة وثقافة واحدة. بل لقد ألف في شرح الطرق التي يجب أن تتخذ لإيجاد موسوعة عالمية يتحد فيها أبناء هذا الكوكب في آراء واتجاهات نحو الخير والحضارة. وله ثلاثة مؤلفات تدل على اتجاهه العالمي. أولها «خلاصة التاريخ» وقد ألفه عقب الحرب الكبرى الأولى حين كانت عبارة «الحرب لإنهاء الحرب » تجري على الألسنة وتوحي الخيالات الزاهية بشأن اتحاد العالم. وهذا الكتاب هو محاولة نيرة خيرة غايتها أن تفهم أن الحضارة القائمة هي مجهود البشر جميعهم. وأن هذه الشعوب الكثيرة المختلفة إنما هي أمة واحدة، أو يجب أن تكون كذلك. وكتابه الثاني: «علم الحياة» هو دعوة إلى النظر العلمي لهذه الدنيا وسكانها من الأحياء. وهي دعوة دينية علمية. وكتابه الثالث: «أعمال البشر وثروتهم وسعادتهم» هو بحث في حاضر البشر وطاقتهم لحضارة قادمة.
وقد كان أثر ولز عندي نفسيا أكثر مما كان ذهنيا؛ أي إنه أكسبني مزاجا عالميا يكاد يكون مساويا للحماسة الوطنية، فإن اهتمامي بالحركة الوطنية مثلا في الهند كان يحرك عاطفتي ويثير انفعالي كالحركة الوطنية في مصر. وكنوز أفريقيا من الحيوان تشغل ذهني وتثير غضبي عندما أقرأ عن عبث الصيادين في الغابات، كما تشغل ذهني وتثير غضبي سياسة الإنجليز في تحديد زراعة السودان أو ضبط مياه النيل. بل كسبت من ولز مزاج التساؤل والاستطلاع والتوسع الثقافي في العلم والأدب والفن.
وقد كان اهتدائي إلى شو وولز عن طريق الجمعية الفابية حوالي سنة 1909. ولكني واليت اتصالي بهذين الكاتبين إلى وقتنا هذا وهما يدرسان السياسة العالمية على آفاقها العالمية. ومفتاح دراستهما هو الاشتراكية والتطور.
وفي الفترة بين 1907 و1911 كان إبسن وشو وولز عالقين بقلبي يرسمون لي معالم دراساتي في المستقبل. ولكن كان هناك مؤلف آخر تسلط فترة قصيرة على ذهني، وكان تسلطه ناريا ثم عاد تحريريا، أعني به نيتشه. فقد التهمت مؤلفاته في حماسة ولذة فعصفت بي. وكان ظني وقتئذ أنه فتح لي أبوابا كانت مغلقة من قبل. ولكن الحقيقة أني كنت مأخوذا بسحره في الأسلوب وجرأته في التفكير، وهما سحر وجرأة يستهويان الشباب. وهو يؤلف النثر وكأنه يقرض الشعر، ويفكر وكأنه يقتحم. وانتفعت كثيرا بتحليله للأخلاق. ولكن هذا التحليل بالطبع فقد قيمته بعد أن عرفت التحليل الماركسي، وإن كان كلاهما ينتهي إلى أن الأخلاق السائدة هي أخلاق السائدين. ولكن ماركس وصل إلى هذه النتيجة بالتحليل الاقتصادي للمجتمع على حين وصل إليها نيتشه بالتحليل التاريخي للغة، أما أخلاق الأقوياء التي دعا إليها نيتشه وجعل منها ديانة جديدة يجب أن يبشر بها الفيلسوف الجديد فقد استهوتني سنوات، بل انحزت إليها وآمنت بها، فيما يشبه الحزبية الفلسفية، بتأييد من نظرية التطور حين استسلمت لتنازع البقاء وبقاء الأصلح. ولكن رويدا رويدا تقهقر نيتشه من وجداني وتغير عندي مغزى التطور بل تطورت عندي نظرية التطور، فلم يعد نابليون هو السبرمان، ولم يعد للإمبراطوريات مغزى التفوق البيولوجي الذي كاد نيتشه يوهمني أنه كذلك.
وعرفت بعد ذلك ماركس وجوتيه وفرويد. عرفتهم عن سبيل تلك المركبات أو العقد الذهنية التي أحدثها لي شو وولز وإبسن وداروين.
Shafi da ba'a sani ba