وكان لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وقاسم أمين جيلا جديدا في مصر بعد الجيل الذي كان منه الأفغاني ومحمد عبده. وكان هذا الجيل أكثر جرأة؛ ولذلك نجد أن قاسم أمين يدعو إلى سفور المرأة وإلغاء الإعراب في اللغة. ولطفي السيد يدعو إلى لغة مبسطة تقارب العامية، كما نجد عبد العزيز فهمي الآن يدعو إلى الخط اللاتيني. وقد حفظ هذا الأخير شبابه الذهني إلى ما بعد السابعة والسبعين. وهو يعاني الآن من هذا الشباب عنتا من خصومه أولئك الشبان الذين شاخوا قبل الثلاثين والأربعين.
والواقع أن لطفي السيد مهد لحركة سنة 1919 بجمع الأمة على رأي موحد في الوطنية، كما أنه جعل التجديد مساغا لا يتهم القائمون به بالهوج أو الرعونة. بل أصبحت الدعوة إلى حرية المرأة وتعليمها شيئا وقورا محترما، واحترمت «الجريدة» بعد أن كانت موضوعا للنكات البذيئة.
وقد سبق أن قلت إن أسلوب المقتطف كان علميا مقتصدا وإني أخذت عنه ما أسميته «الأسلوب التلغرافي». ولكن أسلوب لطفي السيد كان موجزا مقتصدا أيضا. وهو أشبه الأساليب بأسلوب ابن المقفع، وأظن أني تأثرت به أيضا.
وقد كان هؤلاء الثلاثة: يعقوب صروف، وفرح أنطون، ولطفي السيد، من القوات التي صاغت شخصيتي الثقافية الذهنية؛ فإن الأول وجهني إلى طريق العلم، والثاني بسط لي الآفاق الأوروبية للأدب، والثالث جعل من المستطاع لي - بوصف أني غير مسلم - أن أكون وطنيا في مصر.
كرومر وجورست وكتشنر
في 1907 كنت قد بلغت حالا من القلق النفسي والثقافي جعلت مقامي في مصر شاقا؛ فقد كنت أعاني هذا الكرب المدرسي الذي أحدثه الإنجليز بنظام الثكنات في المدارس، إلى جنب نكد عائلي آخر أوجدته تلك المطامع العائلية الصغيرة التي أجد من البر أن أنساها. والقارئ يعرف أننا في مصر نكابد خلافات عائلية تتعدد مراجعها من التمييز المالي أو المطامع المالية بين الورثة إلى الاشتباكات التي تعود إلى مصاهرات سيئة تحيل العائلات إلى قبائل تحيي الثأر وتعيش السنين وهي في الشقاق والنزاع. وقد كابدت من كل ذلك مضضا وألما، ولكني كنت أجد العزاء في شغفي بالثقافة. بل لقد كانت هذه المساوئ العائلية تحملني على تجنب الاختلاط بالاعتكاف للدراسة كما كانت الدراسة نفسها سرورا أنشده كي أخفف عن نفسي هذا البلاء.
وحين أرجع بذاكرتي الآن إلى تلك الأيام أجد أن بؤرة هذه المتاعب كان واحدا أو اثنين قد أسيء إليهما في طفولتهما بالتدليل المسرف. فنشأ كلاهما على العدوان والعناد والخطف. والحق أنهما لا يزالان على هذه الحال إلى الآن.
وسافرت إلى أوروبا وأنا على غير وجهة تعليمية معينة سوى الحصول بأية وسيلة على الثقافة العصرية. وقد كان ميراثي من أبي الذي مات وأنا دون السنتين يكفل لي نحو 25 أو 30 جنيها في الشهر دخلا ثابتا. فلم أحس الحاجة إلى إعداد مهني أتكسب به. ولم تكن الوظائف مغرية في ذلك الوقت؛ لأن الحاصل على الدبلوم لم يكن يزيد مرتبه على ثمانية جنيهات.
وقصدت إلى باريس عن طريق إستامبول. وكانت الدولة العثمانية - تركيا - في تضعضعها قد شاع فيها التفكك والانحلال. وكانت غايتي من اختيار هذا الطريق أن أرى أوروبا قبل أن أهبط باريس، وقد يلذ للقارئ أن أروي له ثلاث حوادث وقعت لي في السفر لا تزال بارزة في ذهني: أولها أنه كان يرافقني في قمرة الباخرة موظف تركي كان قادما من اليمن إلى إستامبول، وكان يعرف العربية، وكان يعين مساءه بشرب زجاجة من العرق، ويعين صباحه بملء فمه ماء ثم ينفخ طربوشه نفخا من فمه ويمسحه بعد ذلك. وكنا نتحدث كثيرا عن السياسة التي كان يفيض ويصرح في شئونها عقب الكئوس الأولى من العرق. وكان يسب اليمنيين والعرب عامة. وكانت الباخرة قد قامت من بورسعيد تقصد إلى المواني الشرقية على البحر المتوسط وتلبث في كل منها نحو ثلاث أو أربع ساعات. فكنا ننزل للتفرج. فلما بلغنا أزمير اقترح علي أن يرافقني وأن نستأجر عربة لرؤية المدينة. فلما واجهنا العربات على رصيف الميناء جعل يسأل الحوذية بلغته التركية عن أسمائهم، فطلبت منه أن يخبرني عن السبب لهذه الأسئلة، فأجابني: «أسأل كي أعرف إذا كان مسيحيا أم مسلما؛ لأننا يجب ألا نركب إلا مع حوذي مسلم.» ولم يكن يعرف أني مسيحي. وبصرت عندئذ بإحدى المشكلات التي أدت في النهاية إلى موت السلطنة العثمانية؛ إذ ليس شك أن الأقليات من العرب والأرمن - لما نالها من عسف - حطمت بنيان هذه السلطنة؛ لأن هذا التعصب الديني كان يرافقه تعصب عنصري آخر ضد العرب. كما نعرف نحن مما فعله الشريف حسين الذي ألب العرب وانضم إلى الإنجليز وحارب الأتراك في الحرب الكبرى الأولى.
والحادثة الثانية أني وأنا في إستامبول دخلت قهوة تركية كان دخان النارجيلات قد انعقد فيها بحيث لم يكن الداخل ليستطيع التنفس أو رؤية السقف. وصدمني هذا الجو فارتددت بعد أن فتحت الباب. وعدت إلى الشارع. ولكني تأملت وقلت في نفسي يجب أن أعرف هذا الوسط التركي بعيوبه وميزاته. ورجعت إلى القهوة وقعدت، وأنا من الأصل أكره الدخان. وظني أني على «استهداف» طبي منه، مثل أولئك الذين يستهدفون لهباء القطن أو القمح أو عطور بعض الأزهار. ولم يمض علي بهذه القهوة نصف ساعة حتى شعرت بغثيان فخرجت وقئت في الشارع، وقصدت إلى الفندق وأنا في غاية الكرب في الرابعة بعد الظهر، وآويت إلى الفراش، وفي رأسي ضربان كأن مطرقة تدق دماغي، وتورمت الغدد في عنقي، ولم أفق إلا في صباح اليوم التالي، وكان واضحا أني تسممت بدخان هذه القهوة.
Shafi da ba'a sani ba