Ilimi da Tarbiyya a Musulunci
التربية والتعليم في الإسلام
Nau'ikan
مقدمة
مقدمة في أهداف التربية العربية القومية
تقديم البروفسور رجيس بلاشير للطبعة الفرنسية من الكتاب
تقديم المؤلف للطبعة الفرنسية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الخاتمة
ملحق
مقدمة
مقدمة في أهداف التربية العربية القومية
Shafi da ba'a sani ba
تقديم البروفسور رجيس بلاشير للطبعة الفرنسية من الكتاب
تقديم المؤلف للطبعة الفرنسية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الخاتمة
ملحق
التربية والتعليم في الإسلام
التربية والتعليم في الإسلام
تأليف
محمد أسعد طلس
Shafi da ba'a sani ba
مقدمة
الحمد لله حق حمده.
والصلاة والسلام على محمد نبيه وعبده.
وبعد، فهذه دراسة كنت أعددتها لإحراز شهادة الدكتوراه من جامعة السربون في باريس، وهي منقسمة إلى قسمين؛ أحدهما في تاريخ التربية والتعليم عند العرب، والثاني في «تاريخ المدرسة النظامية»؛ أول جامعة إسلامية في العالم العربي.
وقد رأيت أن أنشر «القسم الأول» لحاجة خزانتنا العربية إلى هذا النوع من الكتب. وأرجو أن يتاح لي في فرصة قريبة نشر القسم الثاني الخاص بالمدرسة النظامية؛ فيتم بهذين الكتابين تأريخ الحركة الثقافية في الإسلام.
والله سبحانه أرجو أن يوفق العاملين في خدمة الحضارة والقومية العربية إلى إظهار دقائق تاريخ أمتنا الخالدة، ويكشفوا للملأ ما انطوى عليه من عظات وعبر، ودروس وفكر.
دمشق
5 رمضان 1375ه/19 نيسان 1956م
محمد طلس
مقدمة في أهداف التربية العربية القومية
Shafi da ba'a sani ba
قامت الحضارة الإسلامية بالأمس بأيدي العرب؛ فهي حضارة عربية في جذورها وأصولها، وقد عاون العرب في تكوين تلك الحضارة جماهير متعددة الأعراق متباينة الأجناس منها الآري، ومنها السامي، ومنها المغولي، ولكن الطابع الواضح لذلك المزاج كله هو الطابع العربي بعنصريه الرئيسيين: اللغة والدين؛ فطبيعي إذن أن لا نسمي تلك الحضارة إلا «حضارة عربية».
ويمتد عهد الحضارة العربية من فجر تاريخ الدول المتحضرة في جنوبي الجزيرة العربية وشماليها منذ الألف الثالث قبل الميلاد إلى أيامنا هذه، وقد ظلت أمم الفرس والترك والكرد والروم والمغول والهند والزنج والقوط والبربر، منذ أن دخل فيهم الإسلام إلى ما بعد سقوط الدولة العباسية، وهي تعمل في خدمة ركب الحضارة العربية. ومما لا ريب فيه أنها قد أدت لهذه الحضارة فوائد جليلة في كافة الفروع التي تتكون منها حضارتنا من فلسفة وعلم وتربية وفن وسياسة ... فقد تفانى هؤلاء الأقوام جميعا في تكوين ذلك البناء الرفيع الممتاز.
ولقد زعم شعوبيو الأمس واليوم من أعداء القومية العربية أن نصيب العرب من هذه الحضارة هو جزء يسير جدا، بل هو جزء لا يكاد يذكر بالنسبة إلى ما قام به أبناء الأمم المفتوحة، فإن العرب قبل أن يتصلوا بتلك الأمم المفتوحة كانوا يعيشون في جهالة جهلاء، يأكلون الضباب، ويلبسون خشن الثياب، وأنهم قوم لا أخلاق لهم، ولا دين يردعهم، ولا مبادئ سامية إلى الكمال تحضهم، فلما جاء الإسلام اتبعه قوم فانصلحت أحوالهم، وأسلم له آخرون لم يلبثوا أن ارتدوا عنه بعد وفاة الرسول الكريم، وكانت الردة ردتين؛ إحداهن شكلية رجعوا عنها أيام أبي بكر الصديق، والأخرى حقيقية ظلت بعده، وظهرت آثارها في الفتن والحروب الداخلية العديدة التي قامت بينهم منذ مقتل عمر بن الخطاب إلى أن قضى المغول على ملكهم يوم احتلوا بغداد وقضوا على الملك العربي، ولم يرتفع للعرب منذ ذلك اليوم صوت إلا في أواخر عهد الخلافة العثمانية التركية حين شاخت دولتها، وحين دفعهم بعض أعدائها من الفرنسيين والإنكليز للوثوب عليها، فقام زعيمهم شريف مكة الحسين بن علي الهاشمي بثورته في الحجاز والشام، وكان من أمر هذه الثورة ما كان.
هذا ما يقوله أعداء العروبة وخصوم الإسلام، بل جهال الحقيقة والتاريخ، ولئن كان هؤلاء الضالون قليلين في القديم، أو إنهم كانوا كثرة، ولكنهم لم يكونوا يجرءون على رفع عقائرهم بالأمس خوفا من العرب الأقوياء الأعزة، فإنهم في أيامنا هذه كثيرون.
إن أعداء القومية العربية وخصومها الذين ينتقصون العرب اليوم هم واحد من ثلاثة: إما صهيوني مجرم يكره العرب ويعمل على تثبيت أقدام اليهود في فلسطين، وتوطيد دولة إسرائيل الظالمة التي أخرجت العرب من ديارهم وانتهكت حرماتهم، وداست مقدساتهم وملكت أراضيهم وبيوتهم بالباطل والعدوان؛ وإما عميل خاسر من عملاء الأجانب وجواسيس الاستعمار ممن لهم مصالح استعمارية في ديار العرب، أو ممن يطمعون في السيطرة على جزء من ديارهم ؛ وإما شعوبي ضال ملأ الحقد صدره وران الضلال على قلبه، فأخذ يلصق التهم الباطلة بالعرب وينقب مساوئهم وعيوبهم - وفي كل أمة مساوئ وعيوب - ويعمل على نشرها بين الناس لإيقاع الفتنة وبث الفساد.
هؤلاء هم أعداء القومية العربية اليوم، ولم يكن أعداؤها بالأمس البعيد إلا من هذا النمط؛ فقد كانوا أيضا واحدا من ثلاثة:
إما مجوسي حانق على العرب لقضائهم على دولة الأكاسرة وتحطيمهم لغتهم وهدمهم دينهم، وإحلال العربية والإسلام محلهما.
وإما مغولي أو رومي نفخ الشيطان فيه الغرور، ووسوس في صدره إبليس فزعم له أن هؤلاء العرب الذين احتلوا دياره، وقضوا على مملكته وفرضوا عليه دينهم ولغتهم وتقاليدهم وآدابهم ليسوا خيرا منه، ولا لهم من الماضي والقوة ما له.
وإما عربي ملحد استهواه الكفرة بقوميته، وضحك عليه الهازئون بدينه، فاتبع أهواءهم وضل ضلالهم زاعما أنه حر الفكر واسع النظر، فأخذ يعمل وإياهم على هدم الإسلام والعروبة عن طريق انتقاص قومه والطعن في دينه، وهو يظن أنه يحسن صنعا.
هؤلاء هم شعوبيو الأمس الذين كان يمثلهم الحسن الأصفهاني وأبو الريحان البيروني وابن الراوندي والحسن الصباح والفردوسي، وغيرهم من القدماء الذين مجدوا الشعوبية، وألفوا في انتقاص العرب. وأما شعوبيو اليوم فهم نفر من مؤلفي الغربيين، وعلى رأسهم كثرة من المستشرقين ونفر من كتاب العرب ومحرري بعض الصحف، ورجال السياسة والمعارف، وبعض الشبان الأغرار الذين استهوتهم أباطيل هؤلاء جميعا.
Shafi da ba'a sani ba
وإنه لمن المؤسف المؤلم أن يكون عددهم بيننا أضحى يزداد يوما بعد يوم لغزو المؤلفات الغربية ديارنا بكثرة، ولانحطاط الأخلاق المستمر وتدهور الوازع الديني، وفشو الرجعية العقلية، وانعدام المناهج التربوية المفيدة التي تعتمد على خلق الروح القومية في الشاب العربي المسلم.
ونحن نرى أن النقطة التي يجب على القوميين العرب الاهتمام بها في هذه الآونة من تاريخنا، للتخلص من ربقة الذل، وطرد المستعمر المسيطر على بعض ديار العروبة من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي، بعد الاستعداد العسكري الكامل؛ هي دراسة أسس التربية العربية القومية والإسلامية، وبحثها من جديد للعمل على خلق جيل صالح مؤمن خير من هذا الجيل الحاضر المنحل في علمه ودينه وخلقه، وعلى قواعد علمية متينة.
فما هي هذه الأسس؟ وما هي تلك القواعد؟ وأين يجب البحث عنها للتعرف على أسرار التربية النفسية التي بها قامت الدولة العربية، وعلى مناهجها شيدت الحضارة الإسلامية؟
لقد فكرت في هذا الأمر طويلا، واهتممت بالبحث فيه منذ زمن بعيد، وعنيت بدراسة التربية العربية وقواعدها وأسسها؛ تلك التربية التي ساهمت مساهمة فعالة في بناء الحضارة العربية، والتي تعتبر بحق نقطة تطور هامة في تاريخ التربية في العالم. وقد ألفت في ذلك رسالتي التي قدمتها إلى السربون في فرنسة لنيل شهادة الدكتوراه في سنة 1939م، وأنا منذ ذلك الحين أبحث وأدرس، وأدأب على التنقيب عن المناهج التربوية القويمة التي سار عليها العرب في خلق أطفالهم وتكوين شبانهم، وإنشاء رجالهم وتثقيف بناتهم، حتى استطاعوا أن يخلقوا تلك الحضارة العربية الخالدة.
لقد كتب في هذه الموضوع جمهرة من علمائنا القدامى الأفذاذ، وبحثوا فيه بحوثا مفيدة لا تقل عن بحوثهم في سائر فروع العلم، أمثال: الإمام محمد بن سحفون، والقابسي، وابن العربي، وابن سينا، وابن رشد، والغزالي، وابن خلدون، والعلموي، والزرنوحي، وغيرهم ممن لا مجال للبحث عنهم وعرض بحوثهم هنا.
أما البحاثون المحدثون من أبناء الضاد فلم يؤتوا هذا البحث صفة من العناية، ولم أر حتى الآن أحدا من رجالات العرب وعلمائهم القوميين الصادقين اهتم بهذا الأمر ووفاه ما يستحق من جهد.
وأما البحاثون من المستشرقين، والغربيين بصورة عامة، ممن عنوا بهذه النواحي، فإنهم على قلتهم أصحاب أغراض - في الغالب - يدسون السم في الدسم، ومهما يزعموا من أنهم مخلصون في أبحاثهم، وأنهم يكتبون ما يكتبون بروح علمية خالصة، فإنهم غير صادقين، اللهم إلا نفرا قليلا منهم يعد على أصابع اليد الواحدة.
ثم إن فيما خلف لنا آباؤنا من تراث علمي في بحوث التربية، التي نشر قسم قليل جدا منها، والتي ما يزال أكثرها مخطوطا ينتظر الناشر؛ لنظريات وبحوثا وآراء يجدر بالباحثين درسها ومناقشتها والوقوف عندها طويلا للإفادة منها في توجيه حركاتنا الثقافية والعلمية والتربوية، والاهتداء بنورها في نهضتنا العربية المتوخاة، فإن أمة استطاعت أن تخرج من جزيرتها وتسيطر على العالم المتمدن إذ ذاك، وتفرض عليه لغتها ودينها وقوانينها، وتطبعه بطابعها لأمة جديرة بالبحث. ولا شك في أنه قد كانت لها أساليب ومناهج تربوية صالحة استطاعت بها أن تخلق أجيالا صالحة تبدع ذلك الإبداع الذي خلفته في آثارها في السياسة والتشريع والعلم والفن والعمران.
إن الإمبراطورية التي شادها أسلافنا العرب بحضارتها وآثارها الباقية لم تكن أمرا مرتجلا، ولا أخبارها ملفقة مكذوبة، بل هي حقائق ثابتة تتبعت سنن النشوء والارتقاء، وسار عليها العرب متدرجين منذ أقصى عصور التاريخ حتى وصلوا إليها في فجر الإسلام، وإن تلك النهضة التي ظهرت يوم قيام الرسول الكريم كانت نتيجة طبيعية لحركات حضارية سابقة، ونتيجة لمقدمات حضارية متسقة تعتمد على التربية والأسس العلمية التي تدرج عليها العرب في دولهم قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام اشتد ساعدها، واكتملت مقوماتها فوزعوها على العالم، وفرضوها على سكان إمبراطوريتهم المترامية الأطراف، فقبلها سكان تلك الديار طواعية لما اعتنقوا الدين الجديد، فما هي تلك التربية؟ وما هي أسسها؟ وما هي الأدوار الرئيسية التي مرت بها؟
إن تلك التربية التي قامت بها حضارتنا العربية هي تربية كانت تعتمد على المواطن المتعلم المؤمن القوي المهذب المضحي. أما أسسها فثلاثة، وهي: التعاون، والحرية، والمساواة.
Shafi da ba'a sani ba
ولقد مرت هذه التربية في أدوار أربعة رئيسية اكتملت في الدورين الأولين تماما، وآتت ثمرتها في الدورين الأخيرين.
الدور الأول
أما الدور الأول فهو دور الفترة التاريخية الطويلة التي قضتها الأمة العربية في جزيرتها قبل الإسلام، وقبل أن تتصل اتصالا قويا بالشعوب الأخرى كما حصل فيما بعد الإسلام. فقد قامت لعرب الجزيرة جنوبا في اليمن حضارة قديمة عريقة كما قامت لعرب الشمال حضارة خالدة فاضلة، ولكلتا الحضارتين تاريخ لامع وآثار شاهدة، مما لا مجال لإفاضة الحديث عنه ها هنا. أما سكان وسط الجزيرة في الحجاز ونجد، فقد كانت لهم حضارة أيضا، وكانوا ضاربين بسهم غير قليل في الحياة الراقية التي لا تقل عن حضارة عرب الشمال وعرب الجنوب؛ ففي هذا الإقليم الوسط تقوم الكعبة التي تهوي إليها قلوب العرب أجمعين، والتي هي موضع عزهم، ومن هذا الإقليم أيضا مكة أم القرى ومسكن قريش سيدة القبائل العربية وأعزها سلطانا في الدين والدنيا، وفيه أيضا يثرب أخصب أراضي ذلك الإقليم وأطيبها تربة وأعمرها بقعة، وفيه أيضا الطائف مدينة العلم والنشاط الفكري والتجارة، وفيها أفصح القبائل العربية وأكثرها حكمة، وفيه أجل أسواق الجزيرة العربية: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز. وهذا القسم الأوسط من الجزيرة ممتاز عن القسمين الشمالي والجنوبي بأنه عربي بحت، لم تطأه قدم محتل أجنبي ولا تسلط عليه إنسان غير عربي، بخلاف الشمال والجنوب؛ فالحجاز - وما إليه - بلد عربي عريق في عروبته، عريق في استقلاله وسيادته منذ أقدم العصور لمكانه الحصين، وحرمته المقدسة، وصموده أمام النكبات، وما ذلك إلا لمكانة مكة المقدسة وسيطرة قريش العزيزة.
وأترك الحديث عن حضارة العرب في الشمال والجنوب؛ فإن تاريخهم معروف وآثارهم في مجالي التعليم والتربية والتقدم العلمي مبسوطة مقررة، وقد ألفت في أخبارهم كتبا جليلة، وبحثت أحوالهم في دراسات مفصلة، وإنما أريد أن أقف وقفة قصيرة أمام عرب الوسط الذين غمطهم المؤرخون حقهم، وأهملوا البحث عنهم جهلا أو تجاهلا، ولا أريد أن أفصل البحث في تاريخهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ فإن هذا ليس مجال البحث فيه،
1
وإنما أريد أن أبين شيئا عن التقدم العلمي والحياة العقلية الراقية، والتربية النفسية الصحيحة التي كان عليها عرب الوسط في ذلك الحين، وبخاصة قبل ظهور الإسلام.
إن الكتاب الذين بحثوا في تاريخ الحركات العقلية والتربوية عند العرب في الجزيرة قبل الإسلام أهملوا الكلام عن هذا الأمر لاعتقادهم بأن العرب قبل ظهور النبي العربي العظيم لم يكونوا شيئا مذكورا. وهؤلاء الكتاب إما مسلمون أو غير مسلمين. فالمسلمون إنما كتبوا ذلك ليصوروا أن العرب قبل الإسلام كانوا غارقين في الجهالة، فلما جاء الإسلام أنقذهم من جهالتهم، وقاموا بتلك الأعمال الجبارة بفضل الله ناسين أن لله سبحانه قوانين وسننا لا تنقض. وأما غير المسلمين فإنما كتبوا ما كتبوا محتجين بأنه لم يصلنا عن عرب الحجاز ووسط الجزيرة العربية كله أي أثر علمي مكتوب، كما أنه لم تجر حتى الآن دراسات أركيولوجية وأتنوغرافية وفيلولوجية صحيحة تثبت أن عرب الوسط كانت لهم حضارات، وأن ما نقل إلينا عنهم لا يتجاوز شيئا من الشعر والنثر، على ما فيه من منحول ومدسوس، وأن ذلك لا يقوم حجة قوية على وجود حضارة عريقة، ثم إن ما نقله الرواة إلينا من تاريخ ما قبل الإسلام مملوء بالخرافات والأساطير التي لا تعتمد على أساس علمي صحيح.
وكلا هذين الفريقين من الكتاب المسلمين وغير المسلمين مغرض يحاول طمس الحقيقة، إما عن عجز وإما عن جهل؛ فقد كانت للقوم حضارة، وكانت لهم آداب، وكانت لهم أنظمة تربوية، فإن ذلك العمل الجبار الذي قاموا به - بعد الإسلام - ليدل على ما ذهبنا إليه، وتثبت البحوث الأركيولوجية، والدراسات الفيلولوجية والأتنولوجية صدق ما نذهب إليه؛ فيجب على هؤلاء الكتاب أن يتريثوا حتى توجد هذه البحوث فيصدروا أحكامهم بعدئذ.
وأرى الآن قبل أن توجد هذه البحوث والدراسات العلمية الاكتفاء ببعض المصارد والأدلة الثابتة التي لا يأتيها الباطل في دراسة أحوالهم. وفي طليعة هذه المصادر القرآن الكريم؛ فهو خير ما يمكن الاعتماد عليه لتبيين الحياة العقلية قبل البعثة المحمدية، كما أنه لا مانع من أن يستعان بشعر ما قبل الإسلام وما بعده لأنه قوي الارتباط ب «الجاهلية»، معتمد على ثقافتها، قائم بمقوماتها. ونحن إذا درسنا القرآن والشعر دراسة علمية عميقة، نجد أن العقلية العربية قبل الإسلام كانت عقلية راقية ذات ثقافة حسنة، وأنها لم تكن تستحق أصلا أن توصف بالجهالة أو يطلق عليها اسم «الجاهلية»، وأن ناسها كانوا ناسا ضاربين بسهم وافر في الحضارة والعلم والحكمة والمعرفة بصورة عامة، ويمكنني إجمال ذلك في النقاط الآتية:
أولا:
Shafi da ba'a sani ba
نظراتهم إلى الألوهية وما يتعلق بها؛ فإنهم كانوا قوما مؤمنين بإله واحد قاهر نافع ضار، ولكنهم كانوا يشركون به، كما كان يشرك السومريون والمصريون واليونان والآشوريون فيعبدون آلهة متعددين شاركوا الإله الأعظم في ألوهيته. وقد اختلف العرب في هؤلاء الشركاء اختلاف تلك الأمم، فبعضهم جعل شركاءه الملائكة، وبعضهم جعلهم الشياطين والمردة، وبعضهم جعلهم الشمس والقمر والكواكب، وبعضهم جعلهم الأصنام والتماثيل. ولم يكن العرب متساوين في شركهم؛ فقد كان للعقلاء والخاصة اعتقاد يخالف اعتقاد العامة والبدو؛ فالأولون كانوا يعتقدون بأن الله هو المعبود وأن شركاءه ليسوا إلا وسائط بينهم وبينه، والعامة يعتقدون غير ذلك.
ومهما يكن من أمر فإنهم لم يكونوا غارقين في جهالة وحمق وضلالة من حيث نظرتهم إلى الخالق الأعظم، وهذا يدل على سموهم الفكري وتقدمهم في بحث فكرة الألوهية.
ثانيا:
تفوقهم اللغوي العجيب؛ فإن من يدرس لغتهم بنحوها وصرفها واشتقاقاتها وعروضها وفنونها البلاغية، يرى أنهم قد بلغوا درجة رفيعة في الرقي اللغوي. وكلنا يعرف أن اللغة العربية هي إحدى اللغات التي سموها «سامية»، وأنه على الرغم من أن هذه اللغات كلها قد تولدت من أم واحدة في عصور متباعدة، فإنها تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها، كما تختلف رقيا وفصاحة، ولا ريب في أن أخصها وأرقاها هي اللغة العربية كما تشهد بذلك أبحاث العلماء اللسانيين.
ثم إن أقدم النصوص العربية الفصيحة التي عثر عليها ترجع إلى فترة تمتد من القرن الثالث إلى القرن الخامس للميلاد، وهذه النصوص هي الشعر «الجاهلي»، والحكم «الجاهلية». ولكن من يدقق في هذه النصوص يجدها كاملة مهذبة، ذات نحو متسق، وصرف منتظم، وقواعد عروضية وبيانية وشعرية راقية؛ فلا شك إذن في أن العربية قد مرت قبل ذلك بأدوار وأطوار حتى بلغت هذا الكمال والاتساق في القرن الثالث الميلادي، ولا شك أيضا في أن هذا الكمال والرقي اللغوي والأدبي دليل على الرقي العقلي والثقافي.
ثالثا:
رقي مستواهم العلمي والأدبي، وعدم صحة النظرية الشائعة القائلة بأنهم كانوا أمة أمية منحطة، وأنهم جماعات بداة حفاة، وأقوام قساة عتاة، يعيشون في الصحراء أو شبه الصحراء، وأنهم قوم لا حضارة لهم، ولا مدنية عندهم، وأن غاية ما لهم من المعرفة هو بعض الأقوال المنظومة أو المنثورة التي صقلت بعد الإسلام وكثير منها منحول مدسوس، وأن الجهل والأمية كانا متفشيين بينهم، وأن الإسلام لما جاء لم يكن بينهم في مكة - وهي عاصمتهم الكبرى - إلا سبعة عشر كاتبا، وأن اليمن كلها لم يكن فيها كاتب واحد.
2
وهذه الأقوال على الرغم من تناقضها وتهافتها لا تستند إلى حقيقة علمية، ولا تثبت أمام المناقشة المنطقية؛ فلا يعقل أصلا أن يكون في العرب فصحاء وخطباء وشعراء إذا لم يكن فيهم عدد كبير من الكتاب المثقفين ذوي المستوى العلمي الحسن، والتفكير المنطقي المعقول، والذوق الفني الراقي. ثم إن القول بأميتهم قول خاطئ لا ينطبق على الواقع وتنقضه نصوص موثقة قديمة وأدلة علمية حديثة. أما النصوص القديمة فأجلها القرآن؛ فإن ما فيه من الآيات الكثيرة التي تذكر الكتاب والكتابة، وأدوات الكتابة، والصحف والسجل، والمداد، والقلم، وما إلى ذلك مما يتعلق بالخط والأقلام لدليل على ما نقول، حتى إن الأستاذ الفاضل عزة دروزة قد أحصى كلمات الكتابة ومشتقاتها في القرآن فوجدها تسعين كلمة ونيفا بأساليب متنوعة. وقد علق على هذا الإحصاء بقوله: «فورود هذه الآيات الكثيرة في القرآن تحتوي أسماء وسائل وأدوات الكتابة والقراءة، وتحتفي بالقراءة والكتابة هذه الحفاوة الكبيرة دليل راهن على أن العرب في بيئة النبي وعصره قد عرفوا تلك الوسائل واستعملوها، وعلى أن القراءة والكتابة فيهم كانتا منتشرتين في نطاق غير ضيق ...»
3
Shafi da ba'a sani ba
وأما الأدلة العلمية الحديثة، فقد بحثها مطولا المستشرق الإيطالي الأمير كايتاني في الفصل الرائع الذي كتبه عن نشأة الخط العربي، وأثبت فيه بالأدلة العلمية المادية والاكتشافات النقشية والوثائق الخطية التي عثر عليها في الشام والجزيرة العربية؛ أن الخط العربي قديم الوضع، وأن الكتابة العربية كانت ذائعة في الجزيرة ومشارف الشام قبل البعثة النبوية. ثم إن كثرة وجود أهل الكتاب في الحجاز ومشارف الشام من يهود ونصارى وصلتهم القوية بالعرب لتجعل العرب من متهودين ومتنصرين يفيدون من إخوانهم في الدين أو جيرانهم في الدار فيتعلمون الكتابة والقراءة، حتى كتابة غير العربية وقراءتها من سريانية وعبرانية وكلدانية. وقصة أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
لكاتبه زيد بن ثابت أن يتعلم العبرانية كما روى البخاري، قصة معروفة معقولة تدل على ما ذهبنا إليه ... فهذا كله يدل على خطأ النظرية القائلة بأمية العرب وأن كتاب مكة - وهي أكبر مدنهم - لم يكونوا يتجاوزون عدد الأصابع.
ثم إنه لا شك عندي في أن الكتاتيب ودور التعليم كانت معروفة في الجاهلية؛ فالمؤرخون يؤكدون أن يوسف الثقفي أبا الحجاج كان يعلم في كتاب له بالطائف، وأن أبا قيس بن عبد مناف بن زهرة، وأبا سفيان بن أمية بن عبد شمس قد علمهما بشر بن عبد الملك العبادي فكانا؛ يعلمان أهل مكة. ولا شك في أن هؤلاء المعلمين في الجاهلية لم يكونوا وحدهم يقومون بذلك العمل الثقافي، بل كان هناك معلمون آخرون.
وينقل السيد عبد الحي الكتاني عن الماوردي في «أدب الدنيا والدين» عن ابن قتيبة أن العرب كانت تعظم أمر الخط وتعده أجل نافع، حتى قال عكرمة: «بلغ فداء أهل مكة أربعة آلاف حتى إن الرجل ليفادى على أنه يعلم الخط، لما هو مستقر في نفوسهم من عظيم خطره وظهور نفعه. وقال الله لنبيه:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم ، فوصف نفسه بأنه علم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم، وعد ذلك من نعمه العظام وآياته الجسام حتى أقسم به في كتابه فقال:
ن والقلم
فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم، وهذا يبطل ما قاله ابن خلدون عن جهلهم بالخط، فإن عكرمة كان يتكلم عن مشاهدة وابن خلدون قال ما قال عن تخمين ...»
4
هذا ما قاله الكتاني، وهو في قوله يشير إلى ما قاله ابن خلدون في المقدمة من أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وأن العرب كانوا بعيدين عنها لأنهم كانوا بداة بعيدين عن الحضارة غير مجيدين لها، شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو قلما تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق،
Shafi da ba'a sani ba
5
إلى آخر ذلك الكلام الطويل الغريب المبني على التخمين والزعم، البعيد عن البحث العلمي الصحيح.
هذا وقد كان للنبي
صلى الله عليه وسلم
كتاب بلغ عددهم ما ينيف على الأربعين،
6
وكان أكثرهم من الشبان والمدنيين ، ولا شك في أنهم قد تعلموا الخط والقراءة وما إليهما في بعض كتاتيب المدينة ومكة قبل الإسلام. ثم إن الكتاتيب كانت معروفة بكثرة في الشام ومصر وفارس والعراق قبل الإسلام، فلا غرابة إذا نقل القرشيون ذلك عنهم في رحلاتهم التجارية، كما أن الجوالي النصرانية واليهودية في الجزيرة قد كانت تعلم أبناءها في المدارس أو الكتاتيب أو الكنائس أو الأديرة، وليس بعيدا أن يكون جيرانهم قد أفادوا ذلك منهم.
أما ما كان يتعلمه الأطفال العرب في تلك المدارس والكتاتيب، فهو في ظننا أشياء كثيرة، منها ما يأتي: (1)
معرفة أخبار الماضين من العرب وأحوالهم؛ فإن في القرآن إشارات إلى أن العرب كانوا يعرفون شيئا كثيرا عن قصص الأنبياء العرب وغيرهم كما هو مفصل في القرآن. (2)
أخبار حروبهم وأيامهم وقصصهم وأنسابهم. وقد كثر في عرب الجاهلية علماء النسب والإخباريون ولم تخل قبيلة أو عمارة أو فخذ أو بطن من نسابين وإخباريين. (3)
Shafi da ba'a sani ba
معلومات جغرافية عامة عن الكون والبلدان المحيطة بهم وأقاليمها؛ فقد أفادوا من رحلاتهم التجارية وسفراتهم البحرية والبرية فوائد جليلة، وكان لأهل الحجاز والبحرين ونجد رحلات مفيدة. ويدل سفر نفر من المسلمين الأولين إلى الحبشة على أنه قد كانت للقوم معلومات عن تلك الأصقاع، كما كانت عندهم معلومات عن بلاد النوبة وفارس ومصر والجزائر المحيطة بديارهم. (4)
معلومات فلكية وطبيعية. وقد أطنب البلدانيون العرب والمسلمون في معرفة أهل «الجاهلية» بالنجوم ومنازل الشمس والقمر والأفلاك وحركاتها والاهتداء بها في البر والبحر، كما ذكروا أنهم كانوا ملمين بالأحوال الجوية والطبيعية لديارهم، وفي شعر ما قبل الإسلام وبعده كثير من النصوص التي تدل على هذا، ولا شك في أنهم أفادوا معلومات كثيرة من جيرانهم الصابئين والكلدانيين. (5)
معرفة جيدة بالطب والبيطرة والصيدلة والبيزرة وما إلي ذلك. وقد اهتدوا إلى كثير من هذا بتجاربهم الخاصة، كما أفادوا كثيرا من خبرة جيرانهم الكلدانيين فيه. والطب العربي القديم طب ذو شقين: شق يعتمد على العقاقير والنباتات والمداواة المادية من كي وجراحة وفصد وبتر وشق، وقد كان لهم في هذا النوع من الطب فضل وعلم وافر. وشق يعتمد على الرقى والتعاويذ والتمائم والسحر، وليس في هذا النوع علم ذو شأن أو خطر. ومن مشهوري أطبائهم حكيم العرب لقمان، وابن حزيم، والحارث بن كلدة الثقفي الفيلسوف، والعاص بن وائل السهمي، وكان بارعا أيضا بعلم الحيوان ... وغيرهم. (6)
علم الآداب من نثر وشعر، وأمرهم في هذا أشهر من أن نبحث عنه ها هنا. (7)
بحوث في الكهانة والعرافة والفراسة والريافة وما إلى ذلك، وقد تواترت عنهم في هذا معلومات طريفة مفيدة اختلط فيها الباطل بالفاضل، مما لا مجال للبحث عنه هنا، ولكنه على أية حال يحتوي على كثير من المعلومات العملية المفيدة. (8)
إلمامات واطلاع على شيء من أحوال اللغات الأجنبية من كلدانية وسريانية وعبرانية ورومية وحبشية وفارسية. فأغلب ظني أن نفرا من أهل مكة والمدينة والطائف وخيبر كانوا يتقنون بعض هذه اللغات، وأنهم كانوا يثقفون بها أذهان أبنائهم، وخصوصا من كان يطمع منهم في أن يجعل ابنه تاجرا يزور ديار تلك اللغات أو متدينا بديانة اليهود والنصارى يريد أن يتعمق في دراستها. ثم إن كثيرا من مفردات تلك اللغات قد غزت اللغة العربية منذ أقدم العصور، وجاء بعضه في القرآن والشعر القديم؛ فلا شك إذن في أن هذه اللغات كانت معروفة بينهم، فاشية أو شبه فاشية في محيطهم.
هذا - فيما نظن - نمط مما كان يعرفه العرب في «جاهليتهم»، وهو دال دلالة قاطعة على أن القوم قبل ظهور الإسلام كانوا أمة مثقفة لها علم ولها اطلاع على كثير من مقومات الحضارة، كما كانت لهم معرفة بقواعد التربية والتعليم ومؤسسات خاصة بالتربية والتعليم. وإنهم في الدور الأول من هذه الأدوار التاريخية الأربعة كانوا أصحاب علم ورجال فكر، فلما جاء الإسلام في الدور الثاني جاء ليتمم ما كان عندهم ويكمل لهم العدة لتثقيف العالمين ونشر دين الله في الخافقين. فلننتقل إلى الدور الثاني لنرى آثار الإسلام في تطوير النفس العربية وفي صقلها وتهيئتها للرسالة الملقاة على عاتقها، ولنتعرف إلى تلك المبادئ التربوية التي جاء بها الرسول العربي محمد الأمين
صلى الله عليه وسلم .
الدور الثاني
هو دور ظهور الرسول العربي بالدعوة الإسلامية. وقد رأينا في الدور الأول أن الأمة العربية كانت منقسمة في ثلاثة أقاليم؛ في الشمال والوسط والجنوب، وأنه قد كان في كل إقليم من تلك الأقاليم أسس خاصة بالتربية وما إليها من ركائز الحضارة وأعمدة العمران، ولكنها كانت متفرقة لا رابط قويا بين أجزائها، فلما أن جاء الرسول عمل على توحيد الأمة في ميادين السياسة، بل في كل شيء، وكان عمله حاسما وسريعا جدا، والسبب في ذلك أن القوم - كما رأينا - كانوا مزودين بما يجب لهذه الوحدة؛ فتحمسوا للدعوة الجديدة، وتوحدوا بسرعة بنعمة الله وفضله؛ فصاروا أمة موحدة، ذات مبادئ واحدة وأهداف مشتركة ورسالة خالدة تشعر بوجوب تأديتها، وصار الفرد العربي الذي كان يعتز بقبيلته وأفقها المحدود واسع الآفاق، كبير الآمال يتلو قول الله في القرآن:
Shafi da ba'a sani ba
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، فيرى أن من واجبه الديني أن يعمل بكل قواه على الدعوة في سبيل الله، وعلى بسط رسالة السماء في العالمين؛ تلك الرسالة المقدسة التي اختار الله لها محمدا وصحابته الأبرار فصارت الدعوة هجيراه، وصار نشر الإسلام ديدنه، ووجب عليه الجهاد بالسيف والقلم واللسان، وبذل النفس والنفيس، والتضحية بالأرواح والمهج حتى تصبح كلمة الله هي العليا وكلمة الذين خالفوا دينه هي السفلى. ولم يكن لدى العربي شيء من ذلك قبل الدعوة المحمدية، وهكذا تبدلت النفس العربية الهادئة المستكنة بوحي السماء إلى نفس ثائرة متحررة تجد وتدأب، وكان طبيعيا بعد هذا كله أن يربى الجيل الجديد المسلم تربية جديدة صالحة ملائمة للدعوة الجديدة، فوضع النبي أسس تلك التربية معتمدا على ما لقومه من مواهب وما رآه فيهم من استعداد؛ فاهتم أول الأمر اهتماما كليا بالأطفال، وكان يرفق بهم ويداعبهم ويوصي بهم آباءهم وأمهاتهم ويعمل وسعه على تعليمهم وتهذيبهم؛ فإنهم فلذات الأكباد، ورياحين الآباء والأجداد، وإنهم عدة الغد وأمل المستقبل.
فكيف لا تهتم الأمة بهم؟! وكيف لا يعنون بتعليمهم وتزويدهم منذ نعومة أظفارهم بفاضل الأخلاق ونبيل المزايا وشريف العلم؟! وكيف لا يفادى الأسرى من مثقفي قريش بتعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة؟! وقد حفظت لنا كتب السنة النبوية طرفا جليلا من الأحاديث المتعلقة بتأديب الأطفال، وألف في ذلك جماعة من مربينا القدامى أمثال محمد بن سجفون، والقابسي، والغزالي، وابن جماعة، والعلموي، وغيرهم ممن سنعرض بعد إلى دراسة كتبهم، ثم إنه
صلى الله عليه وسلم
اهتم بالشبان والشابات فأحسن توجيههم حتى خلق منهم رجالا ونساء مؤمنين برسالته متفادين في نصرته ونشر دعوته، واثقين من نصر الله للمؤمنين الصادقين، شاعرين بثقل العبء الملقى على عاتقهم، والرسالة الخطيرة التي حملها رسول الله إلى الأمة العربية، فشمروا عن سواعد الجد والنشاط، وتطلعوا إلى الآفاق البعيدة، وانزوت لهم الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، واعتقدوا أن لغة الضاد يجب أن تعم الأرض، وأن دين محمد يجب أن يسيطر على الخافقين؛ فعملوا بكل قواهم في سبيل تحقيق ذلك، وكان لهم في أقل من نصف قرن ما أرادوا، ولم يكد يمضي عهد الرسول الكريم حتى كانت تلك االنفوس قد تربت تربية جديدة، واعتنقت مبادئ الإسلام وأفادت منها، فخلقت ذلك الفاتح العربي الذي قال بعد أن بلغ الأطلانتك: والله لو علمت أن وراءك يابسة لخضت البحر إليها في سبيل الله.
هكذا ربى محمد قومه وصحابته، وبهذا زودهم لنشر دينه ولغته، وعلى تلك الأسس القويمة ربى أطفالهم وهذب بناتهم ... فلننتقل بعد إلى الدور الثالث الذي قام به خلفاؤه من الصحابة والتابعين، لنرى كيف نشئ ذلك الوليد المحمدي، وكيف اشتد ساعده.
الدور الثالث
هو دور انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين؛ فقد استولى الإسلام في عهدهم على ديار الشام والعراق وآسية الصغرى ومصر وشمالي إفريقية والأندلس غربا، كما امتد إلى إيران والأفغان والسند والتركستان حتى بلغ حدود الصين شرقا، ولم يبق من العالم المتمدن القديم إلا جزء صغير بالنسبة إلى ما استولوا عليه.
وهكذا تكونت المملكة الإسلامية فضمت أخصب بلاد العالم القديم وأرسخها قدما في الحضارة والعلم. وقد كان لسياسة الأمويين العربية الحكيمة الرشيدة تأثير كبير على طبع هذه المملكة بالطابع العربي؛ فخضعت الشعوب المفتوحة التي اعتنقت الدين الإسلامي لسلطان العرب الأدبي والخلقي، وتعشقت اللغة العربية وآدابها، إلا نفرا قليلا من الشعوبيين والملاحدة واليهود الذين يكرهون العرب على الرغم من إحسانهم إليهم وتخليصهم إياهم من ظلم الرومان وقسوة الفرس، وحمايتهم من ملوكهم وقادتهم العتاة، ولكنهم نسوا ذلك، وما إن رأوا العرب المساميح وقد تركوهم وشأنهم حتى أخذوا يكيدون لهم كل كيد، محاولين القضاء على الأمة العربية وتمزيق أوصالها، وتشتيت الملك العربي الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ناسين فضله عليهم، ولكن القافلة العربية سارت قدما إلى الأمام فلم تحفل بهم، ولم يكد يمضي الشطر الأول من العهد الأموي بعد أيام معاوية ومروان وابنه عبد الملك حتى توطدت أركان الدولة في ميادين السياسة والحرب، وشرعت في تنظيم حقول العلم والدرس، وترتيب أسس الحضارة، ونشر ألوية العلم والعرفان والصناعة والفنون، مستفيدين من حضارات الشعوب المفتوحة، مختارين منها ما يلائم دينهم وذوقهم وعرفهم، مضيفين ذلك إلى تراثهم التربوي والتهذيبي الذي ورثوه عن آبائهم ومربيهم وسادتهم وقادتهم قبل الإسلام وبعده؛ فتكون من ذلك كله مزاج عربي مستقيم الخطوط، واضح القسمات، عليه الطابع العربي الإسلامي، والنزعة القومية العربية، وهكذا مهد عهد الراشدين والأمويين للعباسين في الدور الرابع.
الدور الرابع
جاء هذا الدور مع العصر العباسي؛ ذلك العصر الذي تغلغلت النفس العربية فيه إلى الثقافات القديمة والحضارات العتيقة القويمة التي حل العرب في ديار أهلها، فانتقوا منها ما أرادوا ومزجوا به علمهم وأدبهم وحضارتهم؛ فأنتج «الحضارة العباسية» الزاهرة. وقد لعبت دولة العباسيين والدول المتعددة التي تولدت عنها - أو عاشت في كنفها في المشرق والمغرب الإسلاميين - دورا خطيرا في تاريخ الحضارة العالمية؛ فقد وجد العباسيون، ومن اعتمدوا عليهم من كبار رجالات دولتهم، أن الدولة الإسلامية كانت قد توطدت أقدامها سياسيا وعسكريا في العصر الراشدي والأموي، فيجب أن تتوطد ثقافيا وعلميا وحضاريا في هذا العصر؛ فانصرفوا إلى ذلك وإلى تهيئة أسبابه. وها هنا لا بد لنا من إشارة إلى فكرة خاطئة يزعمها بعض المؤرخين، وهي أن الدولة العباسية دولة فارسية النجار، أعجمية المحتد، مجوسية التقاليد، عربية المظهر، وأنها كانت بعيدة عن روح التربية العربية، قصية عن التقاليد الراشدية والأموية. بل ذهب بعض العلماء كالمسعودي والجاحظ - غفر الله لهما - إلى أن دولة بني العباس كانت دولة أعجمية ... فهذا قول خاطئ؛ لأن الواقع يخالفه والحوادث التاريخية تناقضه؛ فإن الخلفاء العباسيين وإن تأثروا ببعض المظاهر الدولية الفارسية - وقد تأثر الأمويون قبلهم ببعض المظاهر الدولية الرومية بل والعباسية - فإنهم لم يجتازوا حدود القومية العربية، ولم يتخطوا أساليب التربية الإسلامية، بل كانوا جد متعصبين لها. ولقد وقف السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين وقفات مضريات أمام التيار القومي الأعجمي، حتى قضوا عليه.
Shafi da ba'a sani ba
ثم إن نواحي التربية والتعليم في هذا الدور ظلت هي هي كما كانت في الدور السابق ولم يصبها أي تغيير، اللهم إلا ما تقضي به سنة النشوء والارتقاء من الإفادة من العلوم الجديدة والدروس المفيدة، التي نشطت في البيئة العباسية نشاطا عجيبا بفضل الخلفاء والأمراء العباسيين. ولقد ساهم العرب والأعاجم على السواء في هذا النشاط؛ فقد كان لهذه المساهمة المشتركة أثر حميد أفاد منه العلم، وتطورت به التربية العربية تطورات محسوسة. كما كان لهذا الأمر أثر آخر مفيد في تماسك أجزاء الأمة العربية الإسلامية روحيا بعد انقسامها سياسيا حين ضعفت الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، فأخذت بعض الأقاليم تنفصل عن الدولة الأم، ولكن هذا الانفصال لم يكن إلا انفصالا سياسيا، فإن كل هذه الدول التي انسلخت عن الجسم العباسي من سامانية وصفارية وحمدانية وطولونية وبويهية وسلجوقية ... كانت كلها ذات طابع واحد هو الطابع العربي-الإسلامي، وكانت الحياة العقلية والمذاهب التربوية في كل هاتيك الدول واحدة متسقة تمام الاتساق، وكان العالم أو المربي العربي في أية بقعة من بقاع العالم العربي يجوب الديار فيحاضر ويدرس ويناقش ويناظر، وهو بين قوم يفهمونه ويفهمهم تمام الفهم، ولا فرق أصلا بين الكاشغري والطنجي والبغدادي والقرطجي والمعري والقيرواني والمصري والطاشقندي والحلبي والبخاري ... فالكل يدورون في فلك واحد ويسيرون إلى هدف واحد، ويدرسون برنامجا تعليميا واحدا، ويتربون تربية علمية مشتركة لها طابع خاص وقواعد متسقة، وربما اختلفت الصور والأشكال والهيئات والأساليب، أما حقائق الأمور وطبائع الأشياء فثابتة متحدة. وقد استمر هذا النشاط العلمي ذو المذاهب التربوية الموحدة والأغراض الثقافية المتحدة في دار الإسلام من أقصى المشرق الإسلامي إلى أقصى المغرب الإسلامي، وكان أهله ينتجون إنتاجا علميا مفيدا ذا خطر في كافة نواحي العلم من دين وأدب وطب وكيمياء وفلسفة ورياضيات، وكانوا يكتبون كل ذلك بلغة القرآن وبأدب العرب إلى أواخر القرن السابع للهجرة؛ أي إلى ما بعد القضاء على الدولة العباسية في بغداد. فلما قضي عليها اضمحل أمر العرب وذهبت ريحهم، ولم يبق لهم أثر ذو شأن كبير في العلم والفلسفة والعمران والفن، وخلق من بعد العباسيين خلق أضاعوا مجد العرب، ولم تقم لهم قائمة ذات خطر إلا في عصر النهضة واليقظة العربية. فعليهم إذا ما أرادوا أن تكون نهضتهم اليوم نهضة صحيحة سالمة من كل زيف أن يعمدوا - بعد الاستعداد العسكري - إلى الاستعداد التربوي الصحيح الذي يخلق من الأطفال رجالا ومن البنات نساء ذوات مواهب وكفايات، وأن ينشئوا شبابا وشابات أحرارا متعاونين مؤمنين بالمساواة، مخلصين لأمتهم، عاملين في سبيل قوميتهم، معتمدين على أسس التربية الثلاثة التي قامت بها حضارتهم بالأمس، وهي: التعاون، والحرية، والمساواة.
فالجيل الذي لا يتعاون أهله فيشعرون كأنهم بنيان واحد لا مصلحة للفرد منه إلا ضمن مصلحة الجميع؛ جيل لا خير فيه. والجيل الذي لا يحتقر العبودية للأجنبي ويتعشق الحرية في كافة ضروب الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية؛ هو جيل مهدم للوطن. والجيل الذي لا يؤمن أبناؤه بروح المساواة، وأنه لا فرق بين مواطن ومواطن أصلا، ولا مزية لأحد على أحد إلا بالعلم والمعرفة؛ هو جيل ضار لا خير فيه للوطن.
أما بعد، فإن القومية العربية ليست إلا فكرة طاهرة نقية نبيلة سامية، ترمي إلى التوحيد بين جماعات تربط بينهم روابط الإقليم واللغة والتاريخ والعادات، وتهدف إلى غرض سام هو تعاون تلك الجماعات على خلق حضارة مفيدة، وأداء رسالة رشيدة، مطبوعة بطابع تلك الجماعات.
والقومية العربية وحضارتها - كما رأينا - لا تهدف إلا إلى هذا الغرض السامي، فكيف يسوغ للبعض من أبنائها مهاجمتها زاعمين أن ثمة فكرة أنبل منها تدعو إلى غرض أسمى من غرضها؟
تقديم البروفسور رجيس بلاشير للطبعة الفرنسية من الكتاب
كانت الخلافة العباسية في بغداد في عهدها الأول واقفة نفسها على محاربة الفرق والمذاهب المخالفة لها؛ فلم يتح لهذه الفرق أن تتقوى أو أن تقوم بأي عمل حازم إلى أواخر القرن التاسع للميلاد/الثالث للهجرة، ما خلا فترة قصيرة في عهد المأمون؛ فإن العلويين استطاعوا أن يبرزوا ويكتب لهم بعض النصر. ولكن لما أطل القرن العاشر/القرن الرابع للهجرة برز كثير من هذه الفرق بقوة وخطر، وكان أبرزها وأجلها شأنا فرقة القرامطة التي تمت في أصل نشأتها إلى المذهب العلوي؛ فقد استطاع هؤلاء القرامطة بأهدافهم السياسية والدينية أن يتغلغلوا بين صفوف العامة ويجدوا لهم أنصارا يعتنقون نحلتهم ويتحمسون لمبادئهم، وتمكنت هذه الفرقة بعد أن تركت نطاق الدعوة والقول إلى حيز النشاط والعمل أن تتحدى الخليفة العباسي في قلب عاصمته، خلال فترة لا تقل عن ثلاثين سنة.
ولقد برز خطر هذه الفرق والمذاهب بمظهر أجلى حين اعتنق مبادئها نفر من رجال الإدارة والسياسة وذوي السلطان الذين أخذوا يناوئون الخلافة العباسية، كما أبان ذلك مفصلا البروفسور لويس ماسينيون في المقالات المتعددة التي نشرها حول هذا الموضوع.
ولقد نبغت في القرن العاشر للميلاد/الرابع للهجرة أسرة من الوزراء وهم بنو الفرات، وأسرة من الكتاب وهم بنو نوبخت؛ فكان لهاتين الأسرتين الشيعيتين المتحمستين أثر كبير في إقصاء العناصر غير الشيعية عن إدارة البلاد، حتى إن الخلافة نفسها - منذ عهد المتوكل حتى أواخر عهد المقتدر - لم تستطع على الرغم من الجهد الذي بذلته، وفي محاولات شتى، أن تحمي نفسها من تدخل هؤلاء. على أن الإدارة المركزية التي قاومت هؤلاء بالعنف تارة وباللطف أخرى لم تستطع أن تقضي على هذه الحركات، وعلى رأسها حركة القرامطة الذين كانوا يلبسون حركتهم السياسية ثوبا روحيا حتى عظم أمرهم. واضطر الخليفة أول الأمر بما حاكوه حوله من دسائس وما أثاروا عليه من حروب أن يخلع نفسه في أواسط القرن العاشر للميلاد/الرابع للهجرة؛ وهكذا كتب لحركة هؤلاء القوم أن تنتصر وتفوز في المعركة، واستطاع القرامطة أن يؤسسوا لهم إمارة مستقلة في بلاد البحرين. كما استطاع المهدي عبيد الله الفاطمي أن يوطد أركان حركته في المغرب، التي استطاعت فيما بعد الاستيلاء على مصر؛ حيث أسس أحفاده الخلافة الفاطمية. وكذلك فعل الحمدانيون في سورية إذ استقلوا بها وجعلوها قاعدة علوية. كما استقل البويهيون في العراق وفارس وفرضوا عليهما المذهب العلوي.
أما أهل السنة فإنهم لم يستطيعوا الوقوف أمام هذه الحركات إلا بعد قرابة خمس وسبعين سنة؛ فإنهم تنبهوا للخطر وقاموا بحركة معاكسة قوية تجلت بالقضاء على آل بويه في العراق وإيران، وقيام آل سلجوق مقامهم واستيلائهم على بغداد. ولا شك في أن الدور الرئيسي قد قامت به شخصية جليلة هي شخصية الوزير نظام الملك (485ه/1192م)؛ فقد عمل هذا عملا حاسما بمحاربة هذه الحركات، وبخاصة الحركات الباطنية.
إن مكانة هذا الوزير الخطير تتجلى في اعتقاده بأن محاربة هؤلاء القوم لا ينبغي أن تكون في قهرهم عسكريا وسياسيا فحسب، بل وفي قهرهم ثقافيا وإداريا، ولم تكن هذه المعركة الثقافية والإدارية معركة سهلة؛ فقد بذل في سبيلها كل غال وكل جهد حتى استطاع أن يتوصل إلى أغراضه.
Shafi da ba'a sani ba
رأى نظام الملك أن النشاط العلمي لهؤلاء القوم يجب أن يجابه بنشاط ثقافي مثله، وأن الدعاوة العلوية والباطنية يجب أن تقاوم بدعاوة مثلها؛ ولذلك أخذ يفكر جديا في إنشاء مراكز ثقافة تقف أمام ذلك النشاط. ولا شك في أن هذا كله قد ولد في ذهن نظام الملك السلجوقي ضرورة إيجاد معاهد علمية منظمة تخرج رجالا يستطيعون الوقوف أمام الدعاوات الباطنية، وكانت تلك المعاهد تحمل اسم ذلك الوزير، وفي مقدمتها «المدرسة النظامية» في بغداد.
وإن الأستاذ الدكتور محمد أسعد طلس في أطروحته هذه بقسميها: الأول عن تاريخ التربية، والثاني عن النظامية
1
لم يكشف لنا عن الحقائق المجهولة في هذه القضية فحسب، بل إنه أبان العوامل الفعالة التي دعت إلى تأسيس «المدارس النظامية»، كما بين - بوضوح وجلاء ودقة - المعالم الحقيقية التي تميز هذه المدارس النظامية عن المؤسسات العلمية الأخرى المماثلة لها، وبين الآثار التي كانت لهذه المدارس النظاميات في المدارس الأخرى التي وجدت في العراق بعدئذ.
والحق أن هذه المدارس النظاميات، وبخاصة مدرسة بغداد، بتاريخها العلمي الحافل، قد استطاعت أن تؤدي المهمة الجليلة التي شادها نظام الملك من أجلها، كما أنها أنتجت النتائج التي أرادها لها ذلك الوزير الخطير؛ فاستطاعت أن تقف أمام الدعاوات التي كان يشنها أعداء السنة على أهلها.
والحق أيضا أن نظامية بغداد لم تكن - كما سيرى قارئ رسالة الدكتور طلس - مركزا علميا أو معهد أبحاث وحسب، بل كانت مؤسسة ثقافية واسعة ذات طابع جامعي بحت، وكانت خلال الدهور الطويلة المتعاقبة التي عاشتها مقرا لنفر من كبار العلماء والحكماء والمشاهير، كما أنها خرجت جمهرة من مشاهير الطلاب الذين أفادوا من درسها ولمع اسمهم في العالم الإسلامي بأسره.
وإنه لمما هو جدير بالشكر والفخر، ذلك الجهد الجبار، والصبر الطويل المثمر، اللذان يتجليان في هذه الدراسة التي يقدمها لنا الدكتور طلس؛ فقد بذل أجل الجهد في التنقيب عن تاريخ التربية الإسلامية، كما بحث بدقة عن المدرسة النظامية وآثار أساتذتها وطلابها في كافة أنحاء العالم الإسلامي في القرون الوسطى. وسيرى قارئ «تاريخ المدرسة النظامية» أن تلك القائمة الطويلة التي تنتظم أسماء الأساتذة وأحوالهم هي قائمة حافلة بأخبار نفر كبير من العلماء الفحول في شتى نواحي العلم الثقافية، كما أنهم كانوا من مواطن متعددة، وبلاد نائية متباعدة، كما يلاحظ القارئ أن تلك القائمة الحافلة قد خرجت بالبحث عن الحدود التي ينتظمها عنوان الرسالة، ولكنها الضرورة العلمية التي حتمت على الدكتور طلس سلوك هذه الطريق؛ لأنه أراد أن يوضح الدور العلمي الخطير الذي قام به هؤلاء الأساتذة والطلاب الفضلاء.
فجاء عمله هذا جليلا ومفيدا لأنه اختص بدراسة ناحية من نواحي العلم والثقافة والنشاط الفكري العالمي في بقعة واسعة من بقاع الدنيا؛ فكشف لنا بعمله هذا عن حقيقة أمرها ومقدار فعاليتها خلال أحقاب طويلة من التاريخ.
تقديم المؤلف للطبعة الفرنسية
إن الغاية النبيلة التي أقصد إليها في دراستي هذه هي إبانة القدر الرفيع للتربية الإسلامية، ولفضل «المدرسة النظامية» في تثقيف العالم الإسلامي وتربية نشئه تربية صالحة.
Shafi da ba'a sani ba
ولقد كان للمدرسة النظامية آثار جليلة، وبخاصة حين وقفت أمام الأخطار الهدامة التي كانت تعتور الإسلام من جراء قيام حركات الباطنيين والغلاة من أهل الفرق الإسلامية.
والحق أن الوزير الجليل والمربي المصلح نظام الملك - مؤسس المدرسة النظامية في بغداد، والمدارس الأخرى المتعددة التي شادها في أرجاء المملكة الإسلامية الخاضعة لنفوذ السلاجقة - كان يهدف إلى غرضين اثنين، هما: القضاء على الفرق المناوئة لأهل السنة والجماعة، وإيجاد طبقة من العلماء والإداريين السنيين ليشغلوا مناصب الدولة ووظائفها الروحية والعلمية في جميع أرجاء الدولة التي كان هؤلاء الباطنيون والغلاة قد احتلوها فترة طويلة، ونشروا فيها الدعاوات الطويلة العريضة لمذهبهم ومبادئهم. وقد توصل - رحمه الله - إلى هذين الهدفين وأحيا المذهب السني، كما يتجلى ذلك لمن يقرأ رسالتنا عنه وعن المدرسة النظامية وآثارها في تاريخ التعليم عند العرب.
وقد كنت قمت بهذه الدراسة كلها في كلية الآداب بجامعة الصوربون في باريس بإشراف الأستاذ المستشرق ريجيس بلاشير، وكنت أكون سعيدا جدا لو أنني استطعت إتمام العمل العلمي في جامعة الصوربون، ولكن الحوادث التي وقعت في فرنسة بعد إعلان الحرب العالمية الثانية، واضطرار الجامعة وكلياتها إلى غلق أبوابها في تلك الآونة؛ اضطرتني إلى طلب الانتقال إلى جامعة أخرى بعيدة عن تلك العوامل، فلم أجد إلا جامعة بوردو التي تقبلت العمل مشكورة، وتبنت الرسالة لنيل شهادة الدكتوراه.
ولا يسعني ها هنا إلا أن أشكر الأساتذة المستشرقين الذين أعانوني على العمل وقدموا إلي مساعداتهم وآراءهم الصائبة، وبخاصة الأستاذ البحاثة لويس ماسينيون الأستاذ في كلية فرنسة، والأستاذ العلامة المونسنيور فغالي الأستاذ في جامعة بوردو، والأستاذ المستشرق ريجيس بلاشير الأستاذ في جامعة الصوربون بباريس، الذي كان له فضل الإشراف على العمل والتوجيه المفيد، والأستاذ العلامة جان سوفاجيه الأستاذ في معهد الدراسات العليا بباريس سابقا.
فقد كان لهؤلاء الأساتذة جميعا يد مشكورة وجهد واضح في معونتي على العمل؛ فالله أسأل أن يجزيهم عن العلم بقدر إخلاصهم له، وبخاصة الأستاذ المونسنيور فغالي، المواطن اللبناني الجليل، وأستاذ الآداب والحضارة العربية سابقا في جامعة بوردو؛ فقد قبل أن يتبنى العمل الذي قمت به تحت إشراف الأستاذ بلاشير في الصوربون، وأن يقدمه مشكورا إلى جامعة بوردو، فوافقت على قبوله، وحددت يوما لمناقشة الرسالة مناقشة علنية.
وقد كتب الأستاذ المونسنيور فغالي تقريرا مفصلا عن قيمة هذه الرسالة، وعن جهد صاحبها ومكانته العلمية في العالم العربي ومحيط المستشرقين خلال وجوده في ديار الغرب، ولولا أني أرى في نشره تقريظا ومدحا لنفسي - وأنا من أبعد الناس عن حب التقريظ - لنشرت جزءا من ذلك التقرير، ولكن نفسي تعاف هذه الأمور.
وما التوفيق إلا من عند الله القدير، إنه أفضل معين وأقوى نصير.
باريس 3 أيلول 1939
م. أ. ط.
الفصل الأول
Shafi da ba'a sani ba
في التعليم عند المسلمين قبل تأسيس المدرسة النظامية ببغداد (1) في الثقافة العامة والتربية عند العرب قبل الإسلام
قامت للعرب قبل ظهور الإسلام ثلاث حضارات عريقة، اتصفت كل واحدة منها بالرقي العمراني والعقلي، وكانت كل واحدة منها تكمل سابقتها. وأول تلك الحضارات حضارة عرب اليمن في الجنوب، وثانيها حضارة عرب الشمال في تدمر والجزيرة والشام، وثالث تلك الحضارات حضارة عرب الحجاز ونجد التي يبدأ عهدها من أواسط المائة الثالثة بعد الميلاد إلى ظهور الإسلام في المائة السابعة للميلاد.
ولقد كتبت عن الحضارتين الأوليين كتب كثيرة، وقامت بعض البحوث العلمية المتعلقة بحضارتي الشمال والجنوب العربيين، وإن تلك الكتب والبحوث على الرغم من قلتها أبانت طرفا لا بأس به من التقدم العلمي والعمراني والسياسي الذي بلغه أسلافنا في تلك الديار، ولكن حضارة وسط الجزيرة العربية لا نعرف عنها إلا معلومات ضحلة لأسباب كثيرة.
منها: أنه لم يصلنا أي أثر مكتوب موثوق عن تلك العصور وعن مدارك أهلها في النواحي العقلية والعلمية إلا الشعر وبعض الأقوال والحكم المنثورة التي لا تغني كثيرا في هذا الباب.
ومنها: أن كل من كتبوا في هذا الموضوع من المسلمين أو أكثرهم قد صوروا تلك العصور صورة قتيمة مغرقة في الجهالة والحمق ليبينوا فضل الإسلام وقوة أثر الحركة المحمدية.
ومنها: أن دراسات علمية صحيحة تعتمد على دراسة الآثار وبحوث طبقات الأرض وعلم الأجناس فيما يتعلق بعرب وسط الجزيرة لم تجر حتى الآن، ولم يقم بها أحد من علماء الاستشراق فضلا عن الشرقيين والعرب أنفسهم.
ومنها: أن طول العهد بيننا وبينهم، وامتزاج تاريخنا العربي بكثير من الأساطير والخرافات، وعدم قيام دراسات تاريخية علمية صحيحة تعتمد على أصول النقد، لمما يجعل التعرف إلى حقيقة تاريخ تلك الحقب أمرا عسيرا.
ومنها: أن كتابات من كتب في هذا الموضوع من المستشرقين والمبشرين وبعض شعوبيي الكتاب الشرقيين والمسلمين والعرب كتابات لم تخل من الغرض أو الجهل.
1
ولهذا كله عزمت في دراستي هذه أن لا أعتمد إلا على نصوص ثابتة لا يمكن أن يتطرق إليها الشك ولا يمكن أن يطعن في صحتها، لثبوت وصولها إلينا بطرق موثوقة، أو على أخبار تناقلها الرواة المأمونون الذين تعضد أقوالهم الشواهد التاريخية الموثوقة والبحوث العلمية الحديثة.
Shafi da ba'a sani ba
وإن أول تلك النصوص وأوثقها بلا ريب هو «القرآن»؛ فإنه خير ما يمكن الاعتماد عليه في تبين الحياة العقلية والحضارة العربية قبل البعثة النبوية. ويليه في المرتبة بعض القصائد الشعرية المروية عن شعراء ما قبل الإسلام أو عن شعراء الإسلام؛ فإنهم قوم نشئوا قبل الإسلام، وتربوا في البيئة العربية التي سبقت الإسلام؛ فهم من نتاج تلك البيئة، وأقوالهم تمثلها تمام التمثيل على الرغم من تأثرهم بالإسلام.
وسأتناول في بحثي هذا ما يتعلق بالحياة العقلية وما إليها، وأصرف النظر عن الخوض في شأن الحضارة العربية قبل الإسلام؛ فإن لهذا مجالا آخر. وسيرى القارئ فيما نورد من الأدلة أن أكثر الكتاب الذين كتبوا عن تلك العصور، والتي أرادوا أن يسموا أهلها بسمة «الجهل» ويطبعوها بطابع «الجاهلية»؛ لم يكونوا منصفين في أحكامهم ، وأن فيما قرروه عنهم جناية على الحقيقة والتاريخ. وإنه لمن السخف أن يسمي ذلك العصر ب «الجاهلية»؛ لأنه بعيد كل البعد عن الجهل، وأن ما ورد في القرآن من ذكر الجاهلية لم يكن مقصودا به إلا الدين وما إليه.
يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل الفيلسوف المستشرق كارا دي فو في كتابه «مفكرو الإسلام»
2
والبروفسور غولد زيهر في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»
3
والبرنس كايتاني في كتابه الضخم «تاريخ سني الإسلام»
4
إلى أن نمو الإسلام وتكوينه كان متأثرا تأثرا عميقا بالأفكار والآراء الهيلينية، وأن نظامه التشريعي متأثر بالفقه التشريعي الروماني، وأن تصوفه وفلسفته ليسا إلا تمثلا لتيارات الأفكار الهندية والأفلاطونية الحديثة، وأن الإسلام قد صهر ذلك كله وأخرج للناس مجموعة أفكار نشرها فيهم على أنها دين جديد ... ويغالي غولد زيهر فيقول: «إن تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية أو المسيحية التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه ... لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه وأدرك بإيحاء قوته التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا، فأصبح - بإخلاص - على يقين بأنه أداة لهذا الوحي ...»
5
Shafi da ba'a sani ba
ويقول البارون كارا دي فو: «إن المسلمين يرون أن التشريع الإسلامي - أي الفقه ومباحثه - ذو علاقة قوية بالدين، بل هم يذهبون إلى أنه جزء منه وأن الفقه كله مأخوذ من الوحي - أي من القرآن - كسائر أجزاء الدين. ولما كان في القرآن شيء من الإيجاز فقد عمدوا إلى توضيحه بالآثار؛ أي بسنن النبي والصحابة والتابعين. هذه هي النظرية الإسلامية؛ وبناء عليها ذكر الفقه في الكتب الإسلامية على أنه وليد القرآن والآثار الإسلامية، من غير إشارة إلى أصول أجنبية قط.
وهذه النظرية لا تثبت عند النقد، وإذا قرأ إنسان بعض آيات الأحكام ثم قرأ صفحتين من إحدى مبسوطات الفقه، رأى الفرق الواضح بين الاثنين؛ فذلك نص ساذج عليه مسحة البداوة ، وهذا تحليل منطقي علمي دقيق على آثار الثقافة، ذاك شبه مسودة جافة بالية قائمة في الصحراء، وهذا بحث ممحص مصقول متسق مع التطور المدني. هاتان هما حالتا الإسلام اللتان ينبغي شرحهما، فمن أين جاءت قوانين القرآن، ومن أين جاءت قوانين الفقهاء؟! ولست أريد أن أنكر - بادئ الرأي - طرافة القرآن، ولكني لا أرى مساغا من الإشارة إلى أن تلك القوانين الفقهية متأثرة تأثرا عميقا بالتلمود والقوانين المسيحية، وقد تكون هناك بعض بقايا العادات العربية القديمة التي وجدت لها منفذا في بعض الأحوال.»
6
فأنت ترى من هذه الأحوال أن الفقه وما إليه ليس للعقلية العربية فيه من أثر إلا بعض بقايا العادات القديمة العربية، أما ما فيه من منطق وبحث وتشريع فهو إما مأخوذ من تلمود اليهود أو قوانين النصارى. وليس البارون كارا دي فو وغولد زيهر وحدهما اللذين يقولان هذا القول الظالم؛ فإن كثيرا من المستشرقين قد قالوا مثله، كالبروفسور ديمومين في كتابه عن النظم الإسلامية، والسنيور سانتلانا في مشروعه للقانون المدني التونسي الذي وضعه سنة 1899، والبروفسور فون كرامر في كتابه «المباحث الإسلامية»؛ فإنهم كلهم ذهبوا هذا المذهب ووصفوا العقلية العربية بالقحط والنضوب، لا قبل الإسلام فقط بل بعده كما ترى. وواضح من هذا أن روح التعصب قد أملت هذه الأقوال لأن صلات النبي
صلى الله عليه وسلم
والمشرعين الإسلاميين بعده باليهود والنصارى لم تكن صلات قوية بحيث يتدارسون هذه الأمور مع اليهود والنصارى، ويفيدون منهم الفوائد العقلية التي تجلى أمرها في القرآن والحديث من سنة وآثار. ثم إن اليهود في الجزيرة العربية ونصاراها كانو يهودا ونصارى مستعربين أو بداة يعيشون معيشة العرب ويفكرون مثل تفكيرهم، ولم يكونوا قط أرقى منهم في مستوى الفكر، ولا أفضل منهم درجة في العلم. ونحن إذا قرأنا الشعر اليهودي العربي الذي خلفه لنا يهود الجزيرة قبل الإسلام أو في صدر الإسلام، نرى أنه شقيق الشعر العربي في أفكاره وألفاظه ومعانيه؛ وفي هذا دليل على أن القوم من عرب ويهود - بل ونصارى - يعيشون على صعيد فكري واحد، وأن تمسك اليهود والنصارى بدينهم لم يكن تمسكا متينا، ولا كانت معرفتهم بالنصرانية واليهودية إلا معرفة ضحلة، وإلا ظهر ذلك في أقوالهم وأشعارهم.
وبعد فإن مذهب المستشرقين في تبيين العقلية العربية قبل الإسلام وبعده مذهب خاطئ مغرض، ولم يفكر واحد منهم - على كثرتهم - بدراسة أوضاع العرب قبل الإسلام والفحص عن حالتهم العقلية ومستواهم الفكري، وإنه لمن المعقول جدا أن يتأثر النبي وكبار الصحابة وفقهاء عصره والتابعين من بعده بالبيئات الأجنبية القريبة منهم؛ ولهذا نرى أن من واجب الباحثين أن ينصرفوا إلى دراسة عصر ما قبل الإسلام ليثبتوا حقيقة ما كان عليه القوم والدرجة العلمية والثقافية التي كانوا عليها.
إن أركان الدين المحمدي هي خمسة: التوحيد، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
فلنبحث عما كان عند القوم قبل ظهور الإسلام من هذه الأمور حتى نتبين الأثر الجديد الطريف الذي جاء به الرسول من التالد الذي أحياه مما كان عليه حنفاء العرب قبل الإسلام؛ فإن في الكشف عن ذلك تبين حقيقة عقلية القوم ومستواهم الفكرى والثقافي، وليس في هذا القول غض من قدر الإسلام ولا انتقاص من رسالة محمد - عليه السلام - فإن الله يقول:
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ،
Shafi da ba'a sani ba
7
وما جاء محمد بغير الحقيقة التي كان جاء بها رسل الله من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم.
أما التوحيد فقد عرفه عرب الجاهلية لا خاصتهم فحسب، مثال خالد بن سنان الحكيم المتأله (40ق.ه)
8
وأكثم بن صيفي الواعظ الرشيد (9ه) وغيرهما، بل عامتهم. وليس هذا القول بالقول العجيب؛ فإن الحقيقة التي جاء بها إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - والتي تقول بتوحيد الله وتصفه بالكمال والجلال والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات التنزيه؛ كانت معروفة - بل وشائعة - بينهم، وإن الأصنام والأوثان والآلهة المتعددة ما اخترعتها عقول العرب إلا للتقرب بهم إلى الله العلي القدير، قال تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ،
9
وقال أيضا:
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ،
10
Shafi da ba'a sani ba
وقال:
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ،
11
وقال:
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين ،
12
وقال:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ،
13
وقال:
Shafi da ba'a sani ba
الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم * ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ،
14
فهذه الآيات وغيرها تدل على أنهم كانوا مؤمنين بالله القوي العزيز العليم الخالد الضار النافع الرزاق، وأن هذه الأصنام والتماثيل وسائط وشفعاء إليه.
وأما الصلاة، فما هي إلا أدعية وحركات تعبدية مع التوجه إلى الكعبة. وقد كانت للعرب قبل الإسلام صلاة ذات طقوس وحركات وأدعية كما تدل عليها آية:
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ،
15
قال القاضي البيضاوي في تفسير هذه الآية: «المكاء الصفير، والتصدية التصفيق. روي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون بها ويصفقون.»
16
وكلمة «الصلاة» في هذه الآية تعني أن العرب كانت لهم في جاهليتهم صلاة ذات طقوس معينة كما يفهم من كلام القاضي البيضاوي؛ وبهذا يتبين خطأ ما يقرره الفقهاء من أن كلمة صلاة بمدلولها الديني المعروف إنما هي من الكلمات الإسلامية التي استحدثها الدين الجديد؛ فليس صحيحا ما يقرره الفقهاء واللغويون من أن هذه الكلمة كانت تعني في الجاهلية الدعاء فحسب، وأنها خصصت في الإسلام فقط بهذا النوع المخصوص من العبادة. ثم إن ذكر المكاء والتصدية يفهم منه أنه كانت لهم حركات وأنغام وإشارات في صلواتهم، وليس هذا غريبا؛ فقد أمر الله سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود؛ فلعل بعض هذه الطقوس «الصلوية» قد بقي عند العرب مما قبل الإسلام، بل نكاد نجزم بذلك لما روي أن زيد بن عمرو بن نفيل - أحد العباد الحنفاء الموحدين قبل الإسلام - كان يقوم ببعض الحركات التعبدية أمام الكعبة، وأنه كان يسجد أمامها.
وأما الصوم، فهو الإمساك عن الطعام أو الشراب أو الحديث أو غير ذلك،
Shafi da ba'a sani ba