Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya
تراجم مصرية وغربية
Nau'ikan
وإن كتابا كالذي أشرت إليه حاويا تراجم أكابر رجال مصر في عصورها المختلفة منذ الفراعنة إلى اليوم، يكون لا ريب جليل الأثر في تكوين صورة تاريخية لهذا الوادي الجميل الذي نعيش فيه، صورة تظهر اتصال الحياة على ضفاف نهره المبارك منذ أقدم الأزمان إلى وقتنا الحاضر، ثم إن مثل هذا الكتاب ليدل دلالة كبرى على بطلان الصورة الزائفة التي يضعها مؤرخو الغرب لتاريخ مصر، فالواقع أن تاريخ بلادنا لم يصغه حتى اليوم مؤرخ منصف على طريقة علمية صحيحة، اللهم إلا ما تعلق ببعض جوانب العصر الفرعوني من عصوره، فأما ما بعد ذلك من عصور فقد شوهه الساسة الأجانب لمآربهم الخاصة منذ القدم: شوهه العرب الذين خلفوا الرومان في مصر، كما شوهه نابليون حين قدومه بالحملة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر، ثم كان لكتاب الإنجليز بعد ذلك النصيب الأوفى من تشويهه تشويها قائما على ذلك الأساس الاستعماري من أن شعب مصر قد ظل محكوما منذ انتهى عهد الفراعنة بأمم أجنبية عن مصر، بالفرس، ثم اليونان، ثم الرومان، ثم العرب، ثم الترك، ثم الإنجليز، وشعب هذا شأنه - فيما يدعون - لا يعرف لنفسه عليه كرامة يضحي في سبيلها ولا يقدر للعزة القومية معنى يثور من أجل تحقيقه، وما يزال هذا التاريخ هو - مع الكثير من الأسف - التاريخ الرسمي الذي درس لنا ويدرس اليوم لأبنائنا، هذا، على أن التاريخ الصحيح والتراجم الحقة تنادي بكذب هذه الصورة من حياة مصر على تعاقب الأزمان وببطلانها.
ولست واثقا من أن تمكنني الفرص من الرجوع إلى تواريخ هذه العصور القديمة وإلى تراجم الرجال الذين عاشوا فيها لأثبت حينئذ في شيء من التفصيل أن تاريخ مصر جدير بأن يفخر المصريون به أكثر مما يفخر غيرهم من أبناء أية أمة أخرى بتاريخها؛ لذلك أسارع فأنتهز فرصة نشر هذا الكتاب المشتمل على تراجم بعض رجال مصر في العصر الأخير، وعلى ترجمة كيلوباترة خاتمة عهد البطالسة في مصر، لأبين زيف الصورة التي يصورها الساسة الاستعماريون، ولأظهر للقارئ في كلمات موجزة كيف دل ما تداول على مصر من ألوان الحكم على أن شعبها أعرق الشعوب حرصا على قوميته وأكثرها تضحية في سبيل الحق والحرية والعرفان.
على أني قبل أن أعالج هذا البيان أود أن أثبت للحقيقة أن بعض الذين أرخوا مصر من أهل الأمم المختلفة كانوا حسني النية، ولكنهم خدعوا بتمويه الساسة، وما أشك في أنهم متى اطلعوا على هذه المقدمة الوجيزة سيعودون إلى الحق يقررونه وسيعترفون لمصر بمكانتها التاريخية السامية.
ولعل ما خدع به هؤلاء المؤرخون الحسنو النية هو ما تواضع عليه الكتاب من تبويب تاريخ مصر عصورا أطلقت عليها أسماء أمم غير مصرية، فمن بعد العصر الفرعوني يذكرون عصر الفرس، ثم العصر اليوناني، ثم العصر الروماني، ثم العصر الإسلامي أو عصر العرب، ثم عصر الترك، ثم العصر الأخير عصر الاحتلال الإنجليزي، وتبويب التاريخ على هذه الصورة من شأنه أن يدعو إلى الخطأ وسوء التقدير من جانب من لا يكلفون أنفسهم مؤونة البحث في التفاصيل بشيء من الدقة، والواقع أن هذا التبويب خاطئ في أكثر مناحيه، وإذا كان صحيحا أن الحكام الذين تولوا أمر مصر في عصور مختلفة لم يكونوا من أصل مصري صميم فلن يغير ذلك من خطأ المؤرخين وادعائهم خضوع مصر لأمم أجنبية عنها، إلا إذا اعتبرنا قيام ملك كملك الإنجليز على رأس أكبر إمبراطورية في الوقت الحاضر - مع أنه من أصل غير إنجليزي - دليلا على أن إنجلترا والإمبراطورية البريطانية كلها خاضعة للأمة التي يرجع إليها دم مليكها، وهذا لغو من القول، كما أن ادعاء خضوع مصر لأمم أجنبية عنها هي التي يرجع إليها أصل حكامها لغو مثله، وليس هذا المثل الذي ضربنا بالمثل الفرد، فنابليون إمبراطور فرنسا كان من كورسيكا، أي كان أقرب للإيطالية منه للفرنسية، وأكثر الملوك الباقين على عروش أوربا اليوم من دماء غير دماء الشعوب التي ملكتهم عليها، وليست هذه الشعوب لذلك أقل حرية واستقلالا وعظمة مما كانت مصر في أكثر العصور التي تعاقبت عليها.
ولنعد الآن إلى تاريخ مصر نفسه، فالكل يعترف لمصر الفراعنة بأنها كانت أمة عزيزة الجانب مضيئة الحضارة على نحو لا يمكن أن تتسرب إليه الشبهة مع قيام الآثار القديمة شاهدة به محدثة عنه بأقوى عبارة وأفصح لهجة، مع هذا فقد منيت مصر الفراعنة بغزو الرعاة الهكسوس إياها مدة استمرت نحو تسعين سنة، حتى استرد المصريون تاج بلادهم سنة 1580 قبل الميلاد، وظلت مصر من بعد ذلك متحكمة في البلاد المجاورة لها ممتدة السلطان على حوض البحر الأبيض المتوسط، وفيه روما واليونان، إلى أوائل القرن السابع قبل الميلاد، هنالك كانت الحضارة الإنسانية على ضفتي النيل قد بلغت من الرقي والترف ما تشهد به الآثار التي ترى أعيننا شيئا منه.
وهنالك بدأت آشور، ومن بعدها فارس، تفكر في غزو مصر، ومع غلبهم إياها ودخولهم عاصمة ملكها غير مرة فإنهم لم يستطيعوا الاستقرار بها وتولي الحكم فيها إلا فترات قصيرة انتهت في سنة 332 قبل الميلاد.
قبيل هذا التاريخ نشأ في شمال اليونان فليب المقدوني وخلفه من بعده الإسكندر الأكبر، وكانت الطبيعة قد وهبتهما - ووهبت الابن بنوع خاص - من المقدرة في القيادة الحربية ما يدخل في باب المعجزات، وحيث يظهر في الناس نصف إله في الحرب أو في الدين أو في السياسة ترى العالم كله يتطلع معجبا مسحورا، وقد دوخ الإسكندر روما وآشور والفرس ووصل إلى الهند، ولم تكن أمة من الأمم تستطيع مقاومته، أما أمم أوربا الغربية والشمالية فكانت في تلك الأيام في حال من الهمجية أشبه بحال أواسط أفريقيا اليوم مما يجعلها نكرة على التاريخ، ولا يجعل لأية مقارنة بينها وبين غيرها محل، وجاء الإسكندر إلى الشام ففتحت أمامه مصر أبوابها في سنة 332 التي أشرنا إليها؛ لأنها رأت فيه مدوخ الفرس، وكانت بينها وبين الفرس عداوة أشد العداوة، وبقيت مصر في حكم الإسكندر، وإن شئت في حكم اليونان تسع سنوات، إذ مات الإسكندر في سنة 323ق.م ثم اختلف قواده من بعده فيما بينهم، وكان بطليموس بن لاجوس من أقدرهم ومن أعرفهم بمصر وأشدهم حبا لها.
وإذا كانت مصر بحاجة إلى رجل ذي مواهب حربية ممتازة يستطيع أن يصد بقواها عدوان من يحاول الاعتداء عليها، فقد اطمأنت إلى بقاء بطليموس مستقلا بها مستقلة هي به، وحدث ما أراد المصريون من ذلك، فإن هذا البطل من قواد الإسكندر جعل الإسكندرية قاعدة له ومنها حارب الآشوريين والفرس وحارب اليونان أنفسهم، ووطد لمصر سلطانا أعاد لها ولحضارتها عز الفراعنة الذي اضطرب وتزعزع خلال القرون الثلاثة التي سبقت ولايته عرش إيزيس وأوزوريس.
ومع أن بطليموس الأول هذا كان أشد حرصا على طقوس الديانة اليونانية التي نشأ فيها فإن ابنه بطليموس الثاني كان مصريا في دينه مصريا في عاداته مصريا في دمه، ولا عجب، فمصر - بعزلتها عن العالم لما يحيط بها من البحر في شمالها والصحارى في سائر جهاتها - هي عالم وحده تخلق الناس فيها خلقا وتسكب في عروقهم دماء تجري فيها روح النيل وقوة سلطانه؛ ولذلك كان كل الذين أقاموا بمصر إما تمثلتهم مصر فأصبحوا مصريين، أو لفظتهم فلم يطيقوا ولم يطق أخلافهم من بعدهم بها مقاما.
وبلغ من حب بطليموس الثاني مصر وحب مصر إياه أن أصبحت الإسكندرية عاصمة العالم كله حضارة وعلما وإيمانا، وإن اجتمعت فيها فلسفة اليونان المادية بفلسفة مصر الروحية، ثم نشأت منهما فلسفة مصرية خاصة هي فلسفة مدرسة الإسكندرية، وكانت مصر هي سيدة البحار في ذلك العصر، فكانت سياستها موضع النظر والتأويل في روما واليونان وآشور والفرس وسائر بلاد العالم المعروف حينئذ، وتعاقب البطالسة حتى كليوباترة في حكم مصر ثلاثة قرون متوالية، تعاقب البطالسة على عرش مصر بإرادة شعب مصر مستقلين به مستقلا هو بهم قائمين باسمه ناشرين على ربوع العالم المعروف يومئذ لواءه، فهل يكون نعت هذا العصر من تاريخ مصر بالعصر اليوناني معناه خضوع الشعب المصري لأمة أخرى؟ أو يكون ذلك التصوير باطلا البطلان كله لأن شعوب العالم ومنها الشعب اليوناني هو الذي خضع لمصر في كل تلك القرون الثلاثة، وكان يرى في الإسكندرية عاصمة الدنيا كلها؟
Shafi da ba'a sani ba