Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya
تراجم مصرية وغربية
Nau'ikan
إن تخطها فرجت عني
فكيف مع هذا كله يكون بشا للحياة طروبا بما فيها فزعا من الموت ومن العدم؟! وكيف مع هذه الحكم التي نراها في شعره يكون كل شغله بجمال المحسوسات من منظور ومسموع؟! هذا اعتراض يرد للذهن لأول وهلة، لكن الشاعر لا يكون شاعر حكمة ولا شاعرا نفسانيا لمجرد ذكره خواطر فلسفية وعتها ذاكرته أكثر مما اهتزت لها نفسه، ثم هو لا يكون برما بالحياة مؤثرا الموت لبعض أبيات قد تدفعه إلى قولها شئون خاصة، فالبيتان الأخيران اللذان رويناهما لإسماعيل صبري - في رواية بعض من عرفوه - لما كان يلقى في حياته العائلية من أسباب الشكوى، وأما ذلك التصوف الذي نراه في الأبيات الأولى فليس إلا مظهرا لما وعت الذاكرة راجع نفس الشاعر في ساعات تغص فيهما النفس بنعيم الحياة حين يفيض عنها فيضا يجعلها تستغفر وتتوب برهة لتعود إلى نعيم الحياة وفيضه بعد ذلك مباشرة، فأما الشاعر النفساني فهو الذي يحس في أعماق نفسه بمعان قوية تظهر في شعره، ولو تحدث عن ظواهر تعدها أنت وأعدها أنا تافهة في الحياة، من ذلك كثير من شعر أبي العلاء المعري، ومنه كثير من شعر الإفرنج، كنت أعيد منذ بضعة أيام قراءة قصيدة (موت الذئب) لألفرد دفيني وأستعيد منها المعاني القوية التي تجيش في نفس الشاعر الفرنسي وتتجلى في كل قصائده، مثل هذا الشاعر النفساني إن كان دينيا يرى في جمال المرأة وفي تجاوب الموسيقى وفي ألحان الغناء معاني دينية، وهو يرى هذه المعاني الدينية في موت طفل وفي موت ذئب كما يراه في الحب وفي كل صورة من صور الحياة ولون من ألوانها، وإن كان شاعر عاطفة أو شاعر فلسفة تجلت العاطفة والفلسفة في شعره كله، فإذا رأيت له شعرا لا يعمره الجانب النفسي القوي من جوانب حسه أو شعوره أو تفكيره كان لك أن تحكم بأن ما اختزنته الذاكرة مما لم يؤثر في النفس أثرا عميقا هو مبعث هذا الشعر، وما تختزنه الذاكرة مما ينظمه الشاعر ليس هو المعبر عن نظرته للحياة وتقديره لما فيها.
كان إسماعيل صبري إذا متأثرا بما تتأثر به العين والأذن من صور الحياة وألوانها، وكان هذا هو الذي يوقع على وتر عاطفته أنغام شعره، وكان شعره لذلك جميل اللفظ غاية الجمال، وكان تأثره هذا يجعله معنيا بالجمال اللفظي أكثر من كل شاعر سواه، وإنك لتجد أمامك فيما نقلنا لك هنا من شعره مظهر ذلك واضحا جليا، فرب فكرة عادية أو صورة تمر أمامك كل يوم تجدها في هذا الشعر فإذا بها قد اكتست رونقا وبهاء ما كان لها أن تكتسيهما لو أن شاعرا آخر هو الذي صاغها، والظاهر أن هذه النزعة القوية عند إسماعيل صبري كانت ذات أثر كبير في الشعر العربي في هذا العصر، فحافظ إبراهيم لا يأبى أن يدعو إسماعيل صبري أستاذه وأستاذ شوقي، وشوقي لا يأبى أن يعترف بأن هذه النظرة التي كان ينظر بها إسماعيل إلى الشعر أثرت فيه هو تأثيرا غير قليل، ولم ينشأ من الشعراء في العهد الأخير من كانت له في الشعر نفسية خاصة تخالف نفسية إسماعيل صبري لتطبع الجيل الجديد كما طبع هو جيله بطابعه.
ولا أستطيع أن أختم هذا البحث العجل عن إسماعيل صبري من غير أن أضع أمام القارئ أبياتا ارتجلها تسيل رقة وتعبر أرق تعبير عن هذه النفسية التي كانت ترى العاطفة كما كانت ترى كل ما في الحياة حسا منظورا أو مسموعا، ارتجلها يوم دفن ابن صغير للمرحوم الشيخ علي يوسف فقال:
يا مالئ العين نورا والفؤاد هوى
والبيت أنسا تمهل أيها القمر
لا تخل أفقك يخلفك الظلام به
والزم مكانك لا يحلل به الكدر
في الحي قلبان باتا يا نعيمهما
وفيهما إذ قضيت النار تستعر
Shafi da ba'a sani ba