Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya
تراجم مصرية وغربية
Nau'ikan
على أن الدائنين لم يرتضوا القواعد التي بني عليها توحيد الديون فضجوا بالشكوى وطلبوا تعيين لجنة جديدة لفحص حالة مصر المالية، فذهب المستر جوشن والمسيو جوبير مندوبين عن الدائنين لإجراء هذا الفحص، وكان من أثر فحصهم أن صدر دكريتو 18 نوفمبر سنة 1876 يفرق بين ديون الحكومة المصرية وديون إسماعيل الخاصة، ويزيد في اختصاص صندوق الدين، وينشئ منصبي المراقبين العامين: أحدهما إنجليزي والآخر فرنسي، يراقب أحدهما كل إيرادات الدولة، ويراقب الآخر كل مصروفاتها، وينشئ كذلك إدارة للسكة الحديدية مكونة من إنجليزيين ومصريين وفرنسي واحد، على أن يكون الرئيس إنجليزيا، وبهذا الدكريتو أصبحت الحكومة المصرية في يد صندوق الدين والمراقبين الأجانب، وأصبح إسماعيل صورة لا يطلب منها إلا أن تكف عن الأذى، وبدأت هذه النظم الجديدة بالعمل وبدأ إسماعيل يشعر بتلاشيه وانحدار سلطانه المطلق إلى هاوية الفناء.
أين كان الشعب المصري في أثناء ذلك كله؟ لم يكن في نظر إسماعيل شيئا إلا أنه العبد المطيع الذي يفعل ما يؤمر به والبقرة الحلوب التي تدر الضرائب لإقامة الميزانية، ولم تكن للحكومة ميزانية معروفة، وإنما كانت ميزانيتها ما تتطلبه شهوات عاهلها الذكي القاسي، ولتحصيل هذه الميزانية غير المحدودة كان يكفي أن يقول إسماعيل: «أريد» لتتحرك كل الحكومة كي تنفذ إرادته، والناس على دين ملوكهم، فكان كل موظف في الحكومة كإسماعيل شهوة وقسوة، وكان ما يطلبه إسماعيل يجبى من الناس أضعافا مضاعفة سدا لشهواته وشهوات هؤلاء الجباة الجناة، والناس يجب أن يدفعوا أو يكوي الكرباج والسوط جلودهم ويدمغ جباههم، ويجب أن يدفعوا أو يلقى بهم في غيابات السجن يذوقون فيها أشد العذاب، ولم لا؟! أليس عزيز مصر وولي أمرها يريد، و
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فمن عصى فعليه اللعنة وله العذاب، وأي عذاب وأية لعنة! كان رجال الحكم يومئذ من غير المصريين إلا قليلا، فلم تكن بينهم وبين مصر وشيجة رحم أو عاطفة مودة أو قربى تحرك في نفوسهم بإزاء المصريين المساكين معنى من الرحمة أو الإنسانية، بل كانوا من الأكراد والجركس والأرمن والألبانيين، وكانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، على عقولهم أقفالها، لا يعصون إسماعيل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
لذلك كان طبيعيا ألا يتحرك الشعب لتدخل الأجنبي في شئونه، ولماذا يتحرك؟ أليس حكامه هؤلاء أجانب عنه كالذين تدخلوا في شأن الحكم سواء بسواء؟ واختلاف العقيدة لا يكفي ليقوم شعب هده الظلم وأضعف نفسه لينصر ظالمه على مخالفه في العقيدة، وبخاصة إذا انتظر من هذا المخالف رفع الحيف ووقف الظلم والأذى.
وبدأ إسماعيل يشعر بهذا ويحسه في أعماق نفسه، جلس حسيرا في قصره مغلولة يده يشهد بعيني رأسه ما جر إليه بذخه وإسرافه من خراب، وسمح لأذنه أن تسمع لأول مرة ما يضج به الناس من ألم وشكوى، وماذا يعني الناس من قصور تشاد وحدائق تغرس وجسور تمد فوق النهر وألحان تعزفها الحسان، إذا كان ذلك كله يشاد من دمائهم ويمد على أكتافهم؟! وزاد إسماعيل شعورا بالكارثة أن استنفدت أقساط الدين كل الضرائب التي جمعت على النحو الذي كانت تجمع به من قبل من وسائل الإرهاق، ولم يبق منها شيء يدفع للموظفين ولا للجيش.
ورأى الدائنون بأعينهم هذه الحال البشعة فاتفق الرأي على تعيين لجنة جديدة لفحص جديد، وفي سنة 1878 تعينت لجنة الفحص العليا أنشأها دكريتو 27 يناير من تلك السنة، وفي 30 مارس صدر دكريتو آخر يجعل للجنة أوسع السلطة، وتشكلت من مسيو دلسبس رئيسا ومن مستر ريفرس ولسن نائب رئيس، ومن أعضاء صندوق الدين الأربعة، وبدأت اللجنة فحصها تحركها فكرة أساسية هي وضع قرار اتهام إسماعيل، وبعد انتهائها من الفحص قدمت تقريرا مبدئيا كانت الفكرة السائدة فيه وجوب تحديد سلطة الخديو واعتباره مسئولا عن حرج مركز مصر، واقترحت لذلك إجراء إصلاحات في التشريع المالي بالنسبة للضرائب، وأن تخصص إيرادات أملاك الخديو كلها ومساحتها 917000 فدان لسداد ما يكون من عجز في الميزانية.
تردد إسماعيل بادئ الرأي في قبول هذه المطالبة، لكنه رأى تردده لا يفيد شيئا بعد أن أصبح الأمر كله للمراقبين ولصندوق الدين، وأنه إذا قبل ما اقترح عليه فقد يفتح ذلك أمامه بابا جديدا للاقتراض من جهة، ويترك له الوقت من الجهة الأخرى في تدبير وسيلة للخلاص من هذه المراقبة التي غلت يده، وتحت ضغط نوبار باشا أعلن إلى المستر ريفرس ولسن في يوم 23 أغسطس سنة 1878 قبوله اقتراحات اللجنة، وفي 28 أغسطس أصدر الأمر العالي المشهور بإنشاء وزارة (يحكم هو معها وبواسطتها وتكون متضامنة في مسئوليتها) وشكل نوبار باشا هذه الوزارة واستعان فيها بالمستر ريفرس ولسن.
ومنذ طلب نوبار باشا إلى المستر ريفرس ولسن معاونته في الوزارة قام الأخير بالمفاوضة لعقد قرض جديد تسد منه الديون السائرة ويسد عجز الميزانية، وقبل أن يوقع عقد القرض أصدر إسماعيل دكريتو 26 أكتوبر سنة 1878 ينزل أعضاء العائلة الخديوية للحكومة بموجبه عن أملاكهم العقارية وقدرها 425729 فدانا خلا العقارات، واعتبرت هذه الأملاك ضامنة للقرض الجديد الذي دعي باسم قرض الدومين أو قرض روتشيلد.
وفي شهر أكتوبر أصبح المستر ولسن وزيرا للمالية والمسيو دبلنيير وزيرا للأشغال العمومية، وألغيت بذلك المراقبة الثنائية على إيرادات الدولة ومصروفاتها على أن تعود إذا عزل هذان الوزيران الأوربيان من منصبيهما من غير موافقة إنجلترا وفرنسا، وجعلت هذه الوزارة المختلطة جل همها أن تسدد الديون وأن تتلافى عجز الميزانية، والواقع أن الديون السائرة بلغت مبلغا ضاق دونه القرض الجديد على الرغم من أنه بلغ ثمانية ملايين، وكذلك وقفت الوزارة المختلطة بعد ثلاث سنوات من المراقبة المالية موقف الحكومات التي سبقتها، وعجزت أن تواجه حرج المركز بخير مما واجهته غيرها من قبل، ولجأت إلى الضغط والاضطهاد اللذين لجأت إليهما أشد الحكومات عسفا واستبدادا، وزاد الموقف حرجا أن رأى وزير المالية الإنجليزي الاستغناء عن ألفين وخمسمائة ضابط من غير أن يدفع لهم متأخرات رواتبهم لأكثر من سنة كاملة، هنالك هاجوا وقاموا ومن بينهم أحمد عرابي في 18 فبراير سنة 1879 بمظاهرة خطيرة وأحاطوا بنوبار وولسن وأهانوهما وأوسعوهما ضربا، ولما نمى الخبر إلى إسماعيل جاء بنفسه، فلما رآه الضباط وأمرهم بالانصراف لم يعص أمره منهم أحد، مما دل على أن له في تدبير هذه الفتنة يدا، وقد ثبت بعد ذلك أنه كان المدبر لها بالفعل بأن أوعز إلى أكثر الضباط إقداما وجرأة بالقيام بها.
وكان من الضباط الذين قاموا بهذه المظاهرة ومن الذين استغنى عنهم ريفرس ولسون عدد غير قليل من المصريين الصميمين، ولعل ذلك هو الذي أدى إلى استمرار الحركة في المستقبل والذي كان نواة الثورة العرابية، فإن الموظفين والضباط من الشركس والأتراك والأرمن وغيرهم - ممن كان بيدهم الأمر فكانوا يسومون المصريين الخسف وسوء العذاب - شعروا بفشلهم وبعجزهم إذا بقيت الخصومة بينهم وبين المصريين قائمة، ثم إن ريفرس ولسن تقدم بسبب آخر أدى إلى تحرك العناصر القومية الصميمة في البلاد، فقد طلب إلى الحكومة أن تعلن أن مصر مفلسة كي تعامل معاملة المفلس في شأن ديونها، هنالك اجتمع نواب البلاد وأعيانها وكبراؤها وموظفوها الدينيون والمدنيون والحربيون وقدموا للخديو برنامجا ماليا يخالف برنامج ولسن محتجين على القول بإفلاس مصر، ولم تكن يد إسماعيل بعيدة عن وضع هذا البرنامج، ثم لم يكتف النواب ببرنامجهم الذي تقدموا به، بل تقدموا كذلك بعرض للخديو يبينون فيه استياءهم من الوزارة لعدم اكتراثها بآرائهم، وانضم الخديو لهذه الحركة وعضدها؛ لأنه رأى فيها الوسيلة الوحيدة لعود بعض سلطته إليه بعد أن تقلص ظلها وانتقلت إلى أيدي الأجانب، وبلغ من تعضيده إياها أن رفض النواب الارفضاض لما جاء رياض باشا وزير الداخلية يعلن إليهم انتهاء الدورة، وكذلك أصبح هذا المجلس الذي خلقه إسماعيل في سنة 1886 صورة يوهم بها الدول الأوربية أن مصر أصبحت بالفعل جزءا من أوربا وقد شعر بوجوده وقدر مكانته، فقد احتج في 29 مارس سنة 1875 على الوزارة المختلطة لأنها لم تكن تعترف بوجوده وبمسئوليتها أمامه، وفي 5 أبريل طلب إلى الخديو تعديل قانون الانتخاب وإعلان مسئولية الحكومة أمام مجلس النواب، ولم يقف عند ذلك بل احتج على بقاء الوزارة المختلطة وبالتالي على وجود ولسن ودبلنيير فيها، ولم يلبث إسماعيل أن أبلغ هذا الاحتجاج حتى عزل الوزارة وعهد إلى شريف باشا بتأليف الوزارة الجديدة، وفي الشهور الثلاثة التي انقضت بين توليها وخلع إسماعيل بدأت بوضع قانون للانتخاب، كما نشرت في 4 يونية لائحة مجلس شورى النواب الأساسية، وفيها تقرر الحصانة البرلمانية وتحدد عدد النواب وتنص على المسئولية الوزارية، ومع أن هذه الوزارة كانت جادة في عملها، ومع أنها سبقت هذا التشريع النيابي بتشريع مالي صدر به دكريتو بتاريخ 22 أبريل سنة 1879 يكفل للأجانب حقوقهم ويقر المراقبة الثنائية وصندوق الدين في اختصاصهما الواسع، فإن أوربا بدأت تشعر بأن مصر على وشك انتقال خطير ليس من العسير تقدير مدى نتائجه، وإن خيرا للمصالح الأوربية الوقوف في سبيله، فبدأت ألمانيا والنمسا بالاحتجاج في 18 مايو على دكريتو 22 أبريل بدعوى أنه مخالف لتعهدات مصر الدولية، وألقتا مسئولية هذه المخالفة على الخديو، وفي 18 يونيو احتذت وزارتا باريس ولندرة مثال ألمانيا والنمسا، وقد حاول إسماعيل القضاء على هذه الحركة الدولية فطلب موافقة الدول على الدكريتو، لكن حركته هذه لم تنجح.
Shafi da ba'a sani ba