Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Nau'ikan
وكان غوردون باشا في أثناء مسيره إلى الخرطوم قد تدبر أمر مهمته هذه، فرأى أن ترك السودان وشأنها بعد إخلائها تعود على مصر بالوبال، فلا تلبث الثورة أن تنتشر ويزحف الدراويش إلى حدود مصر، فبعث يوم وصوله الخرطوم رسالة برقية إلى الحكومة الإنكليزية يطلب فيها أن تبعث إليه الزبير رحمت باشا حالا، وكان الزبير باشا من أكابر تجار الرقيق في دارفور وبحر الغزال، وعاضد الحكومة وفتح لها دارفور، ثم جاء مصر قبل الحوادث السودانية ليشكرها على رتبة أنعمت بها عليه فلم تأذن له بالعودة إلى بلاده، فظن غوردون باشا أنه إذا أخلى السودان ودبر حكومته جعل الزبير باشا خلفا له عليه؛ خوفا من استفحال أمر المهدي وخروجه على مصر، فأبت الحكومة إرسال الزبير، فشق ذلك عليه كثيرا.
ثم ما لبث أن علم بانتشار دعوة المهدي وانضمام معظم القبائل إليه فأصدر منشورا يتوعد الثائرين بعذاب أليم، وينصح لهم أن يثوبوا إلى طاعة الحكومة وبعث إلى مصر يقول: «إذا شئتم أن تتخلص مصر من عذاب دائم أرسلوا جندا لمقاتلة المهدي وسحق قواته، وهو أمر ميسور لكم الآن، أما إذا دخلت الخرطوم في حوزته فيصعب عليكم قهره، على أنكم ستضطرون إلى ذلك إن عاجلا وإن آجلا التماسا لسكينة القطر المصري، وسيكون ذلك شاقا كثيرا بعد الآن.»
وكان الكولونيل ستيوارت قد سار في مائة رجل بالأعلام البيضاء لمسالمة القبائل القاطنة على النيل الأبيض وتلاوة منشورات غوردون عليهم، فكان كلما بعد عن الخرطوم ازداد نفور الناس عنه حتى صاروا يعترضون مسيره ويحاربونه وأكثرهم من قبيلة البقارة، فعاد إلى الخرطوم فأرسله غوردون ثانية في 2 مارس سنة 84 بمنشورات أخرى فعاد بخفي حنين، وما زالت الثورة تقترب من الخرطوم وضواحيها حتى أحدقت بها من كل الجهات، وفي أثناء ذلك جاءت حملة من الدراويش لحصار الخرطوم فجاء جمع منهم إلى حلفاية شمالي المدينة فانهزمت حاميتها، فجرد غوردون في 16 مارس عليهم ألفي مقاتل بالبنادق وفيهم الباشبوزوق والجند المنظم لاسترجاع حلفاية، فماطلهم الدراويش حتى غدروهم وكسروهم شر كسرة، فعادوا القهقرى إلى الخرطوم وقد قتل منهم جمع كبير، ففشل غوردون لهذه الكسرة وحاكم قواد تلك التجريدة وأكبرهم سعيد باشا وحسن باشا، وكلاهما من أهل السودان، فحكم عليهم بالإعدام لثبوت الخيانة عليهما، فقتلا وقطعت أعضاؤهما.
وفي 25 يونيو سنة 1884 وصلت الأخبار بسقوط بربر والقبض على مديرها وإرساله أسيرا إلى الأبيض وتولى بربر أمير من أمراء الدراويش اسمه محمد الخير، وكان سقوط بربر ضربة قوية على الخرطوم؛ لأنها كانت واسطة الاتصال بينها وبين مصر، فأدرك غوردون صعوبة مركزه وتحقق يقينا أن إنفاذ مهمته لم يعد ممكنا بالحسنى فلا بد من استعمال قوة الجند، فطلب إلى حكومته إرسال حملة لمساعدته، فترددت إنكلترا طويلا قبل الإقرار على الحملة، على أنها أقرت في مايو على وجوب إرسالها، ولكن جنودها لم تبدأ بالمسير إلى السودان إلا في سبتمبر، فتذمر أهل الخرطوم وشكوا إلى غوردون حالهم، وفي جملتهم كل الأجانب المقيمين هناك، فقال لهم: من أراد الذهاب فليذهب، أما أنا فلا أستطيع الخروج إلا بعد إنقاذ الحامية والناس أو أن أموت معهم، ولكنه أشار على ستيوارت أن يسير إلى مصر بمن أراد مرافقته من الأجانب، وعهد إليه إيصال تقاريره اليومية عن أحوال الخرطوم من أول مارس إلى 9 سبتمبر وهو يوم سفر ستيوارت، وظن غوردون أن ذهاب ستيوارت بهذه التقارير إلى مصر يفيد الحملة القادمة لإنقاذه، فركب ستيوارت باخرة وركب معه بعض الإفرنج ورافقته باخرتان، فوصل بربر فضربها ومر بها فعادت الباخرتان وجرت باخرته حتى إذا تجاوزت أبو حمد إلى واد قمر ضايقها الدراويش من البر، ثم جنحت فنزل من فيها فلقيهم الدراويش وقتلوهم وحملوا الأسلاب والأوراق إلى المهدي. كل ذلك وغوردون يستحث الإنكليز ويستنهض هممهم وينذرهم بالخطر القريب، فجاءه خبر هلاك ستيوارت ومن معه قبل خروج الحملة، على أن تلك الحملة لم تصل الخرطوم إلا في 28 يناير سنة 85؛ أي بعد سقوطها ومقتل غوردون بيومين.
فلننظر في حركات الدراويش وإجراءاتهم في أثناء حصار الخرطوم من معسكرهم ملخصا عما رواه سلاتين باشا في كتابه «السيف والنار في السودان»، وما أحكاه غيره من الأسرى الذين رافقوا تلك الحوادث داخل الخرطوم وخارجها.
تركنا المتمهدي وقد عاد ظافرا إلى الأبيض بخيله ورجله، فبعد وصوله إليها أنفذ بعض أمرائه لتأييد سلطته في دارفور وبحر الغزال وما جاورهما، ثم علم ما كان من أمر السودان الشرقي وظفر عثمان دقنة في سنكات وتمانيب والتب وحصار كسلة، وكان قد ولى صهره ولد البصير على الجزيرة ما بين النيلين الأزرق والأبيض فبلغه أنه حارب الجنود المصرية هناك وغلبها، وعلم في أثناء ذلك أن غوردون باشا جاء الخرطوم بلا جند، ثم وصله كتابه يطلب إليه إطلاق الأسرى ويوليه كردوفان فلم يعبأ به وأجابه بلهجة شديدة كما قدمنا.
وتكاثر دعاة المهدي بعد انتصاره على هيكس، وتقاطر الناس إليه قبائل وجماعات قياما بنصرته، وكانوا يعسكرون بخيامهم وإبلهم وخيلهم حول الأبيض، فقلت مياه الأبيض، فخاف المهدي أن يصيبهم جهد فأشار بالانتقال إلى الرهد وفيها الماء غزيرا، فانتقلوا إليها رجالا ونساء وأولادا في أواسط أفريل سنة 1884، بأحمالهم وأثقالهم ودوابهم، وأقاموا هناك والمهدي يقضي نهاره في الصلاة والوعظ والحث على الجهاد، ثم سمع بخروج الجنود المصرية من الخرطوم على أهل الجزيرة، فبعث محمد أبا جرجا أميرا عليها في عدد عظيم من الدراويش على أن يمد أهل الجزيرة ويحاصر الخرطوم، فحصلت بينه وبين جنود الخرطوم مواقع انتصرت في أولها الجنود المصرية ثم عادت العائدة عليهم بعد ذلك كما رأيت. وأرسل المهدي الشيخ محمد الخير أميرا على بربر فسار إليها وحاصرها وفتحها وأرسل مديرها حسين باشا خليفة أسيرا إلى معسكر المهدي في كردوفان، فالتقى بسلاتين باشا وتشاطرا مصيبة الأسر. أما دنقلا فكان مديرها مصطفى بك ياور (ثم صار مصطفى باشا) قد كتب إلى المهدي غير مرة يسلم إليه، فلم يركن هذا إلى تسليمه بل بعث السيد محمد علي وبعض الشائقية ليجسوه فحاربهم وفرق جمعهم، وكان الماجور كتشنر (اللورد كتشنر باشا) قد جاء بمهمة سرية لاستطلاع نوايا مصطفى بك ياور وأحوال السودان فشهد بعض مواقعه مع الدراويش.
وخلاصة الأمر أن حجار السودان ورماله كادت تنطق بصوت واحد: «صدق محمد أحمد بدعواه»، وكان إلى ذلك الحين مقيما في الرهد، فكتب إليه أمراؤه من أنحاء مختلفة أن ينزل برجاله إلى النيل الأبيض، فكان يؤجل مسيره مظهرا الازدراء بقوة أعدائه والاعتداد بقوته، ويستعرض جنوده كل جمعة استعراضا عموميا يحضره هو بنفسه يسمونه (عرضة)، والجيش إذ ذاك ثلاثة أقسام يرأس كلا منها خليفة من خلفائه، ولكن الخليفة عبد الله التعايشي كانت له الرئاسة الكبرى ويلقب «رئيس الجيش»، وفرقته تسمى «الراية الزرقاء»، ينوب عنه في قيادتها أخوه يعقوب التعايشي، وفرقة الخليفة علي ولد الحلو تدعى «الراية الخضراء»، وفرقة الخليفة محمد الشريف تسمى «الراية الحمراء» أو «راية الشرفاء»، وتحت قيادة كل من هذه الرايات الثلاث رايات صغيرة لا يحصيها عد يجتمع حول كل راية منها مئات من الدراويش.
وكيفية الاستعراض عندهم أن يقف أمراء الزرقاء براياتهم صفا واحدا يولون وجوههم المشرق، ويقف أمراء الراية الخضراء صفا آخر يقابل الصف الأول وجها لوجه، ويقف أمراء راية الأشراف صفا آخر يقابل الشمال فيؤلفون مربعا ينقصه ضلع، كأنه باب يدخل به المهدي وحاشيته، فيمر بجانب الصفوف يحييها قائلا: «الله يبارك فيكم.»
فلما انقضى رمضان تلك السنة قال محمد أحمد إنه قد أوحي إليه في الرؤيا (الحضرة) أن ينزل لمحاصرة الخرطوم، فبعث إلى أبي عنقر وكان قد أرسله في مهمة إلى جبل الدير وأوعز إلى كل أمير أن يجمع رجاله للخروج على الخرطوم، فلما تكامل الجمع زحف المهدي برجاله من الرهد في 22 أوغسطس (آب) سنة 1884 في ثلاث فرق سارت كل منها في طريق، أعظمها الفرقة التي فيها المهدي وخلفاؤه فهذه سارت على طريق حملة هيكس السيئة الحظ؛ أي من الرهد فشركلا فالدويم، وكان في هذه الفرقة سلاتين باشا بمعية التعايشي، فلما وصلوا شركلا جاءهم غريب أمسكوه أسيرا فوقف بين يدي التعايشي وسلاتين يترجم بينهما فإذا هو فرنساوي واسمه أوليفيه باين، قال: إنه جاء من قبل دولة فرنسا يعرض مساعدتها على المهدي ليقهر الإنكليز، فأبقاه التعايشي في جملة الأسرى ريثما يقيمون فينظر في أمره، ولكن الرجل مرض من سوء المعاملة واشتدت عليه الحمى فمات في أثناء الطريق قبل أن تصل الحملة إلى الخرطوم.
Shafi da ba'a sani ba