Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Nau'ikan
وزد على ذلك أن الجمال لم تكن تستطيع المرعى بالنظر إلى انحصارها في المربع فجاعت، وأكلت قش أرحالها، وخارت قواها حتى مات كثير منها، وفي 30 سبتمبر وصلت الحملة إلى قرية تبعد 30 ميلا عن الدويم اسمها زريقة.
كل ذلك والحرارة تشتد، واللغط يتعاظم بين الجند، وكلهم خائف من سوء العاقبة ثم حدث نفور بين هيكس وعلاء الدين سببه اختلافهما في الرأي بشأن خطة المسير، فرأى علاء الدين أن النقط العسكرية في خط الاتصال لا حاجة إليها؛ لأنها تقلل عدد الجند، فخالفه هيكس في ذلك؛ لأن قطع ذلك الخط يقطع كل أمل برجوع أحد من رجال الحملة حيا إذا قدر انكسارها في ساحة الحرب على أنهم لم ينشئوا نقطة عسكرية بعد شات.
أما محمد أحمد فحالما علم بمسير حملة هيكس جمع رجاله ودعاهم إلى الجهاد في سبيل الله، وخرج بنفسه وعسكر بقرب شجرة كبيرة بضواحي الأبيض ينتظر وصول الحملة، فاقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فخرج كل منهم برجاله وعسكروا هناك، وبنوا الأكواخ والنكول (نوع من العشش).
أما الحملة فما زالت سائرة تسحف سحفا كأنها مثقلة بالقدر المحتوم حتى وصلت عقيلة (إيجلا) في 11 أكتوبر، وفي 14 منه وصلت بحيرة شركلا فتناولت شيئا من مائها وهي لم تزدد إلا يأسا وخوفا، وكانت الحكومة المصرية قد أنبأت هيكس باشا قبل خروجه من الدويم أن ستة آلاف من أهل جبل تاج الله، وبعض الجبانية سينضمون إليه، فكان ينتظر وصولهم بفارغ صبر، فذهب انتظاره عبثا، وقبل أن تصل الحملة بحيرة الرهد بقليل فر منها رجل ألماني اسمه كلوتس من صف الضابطان والتجأ إلى العصاة، ولكنه لم يكن يعرف الطريق فلقيه بعض الدراويش فأرادوا قتله، فأشار إليهم أنه جاء بمهمة، فأرسلوه إلى الأبيض فوقف بين يدي المهدي وأخبره عن الضيق المحدق بالحملة وما هي فيه من اليأس ، فكانت خيانته هذه مساعدا كبيرا على هلاك حملة هيكس، فسر المهدي سرورا لا مزيد عليه، وأسلم كلوتس هذا وسمي مصطفى، وبعث المهدي إلى هيكس ورجاله ينصح لهم أن يسلموا إليه ويؤمنوا بمهدويته فلم ينل منهم جوابا، فضلا عن احتقارهم كتبه واستخدام أوراقها في سبل هاجت غضب المتمهدي.
شكل 10-4: الأفيال في صحاري السودان.
ووصلت الحملة إلى الرهد في 20 أكتوبر، فأقامت هناك 6 أيام شاهدت في أثنائها طلائع الدراويش وشرذمات منهم يهاجمونها، وفي 26 أكتوبر سارت ولم تكد تترك معسكرها حتى احتلته العصاة، فعلم علاء الدين خطأه في إهمال خط الاتصال وقد أصبحوا محاطين بالعدو من كل الجهات، وكان في عزمهم المسير إلى الأبيض عن طريق البركة، ولكن الجواسيس أخبروا هيكس أن العصاة نزلوا البركة ومعهم خلفاء المهدي وأمراؤه بعدتهم ورجالهم فتشاور علاء الدين وهيكس في هل يرجعون إلى الرهد أو يسيرون إلى كشجيل ومنها إلى ملييس فالأبيض؛ لأن خور أبو جبل يتشعب عند الرهد إلى شعبتين: تسير إحداهما إلى البركة، والأخرى إلى كشجيل، فأقر الرأي على المسير إلى كشجيل، فساروا في 3 نوفمبر عشرة أميال بين الغابات والأحراج وقد أخطئوا الطريق، ثم وقفوا وأنشئوا زريبة باتوا فيها إلى الصباح، فاستأنفوا المسير حتى صاروا على مسافة ميلين من شيكان بين كشجيل والبركة، وقد أجهدهم العطش فهجم عليهم شرذمة من العصاة فتبادلوا إطلاق الرصاص وقبضوا على بعض منهم، فعلموا أن الدراويش هناك بكثرة عظيمة، فجمع هيكس باشا كبار رجاله وعقدوا مجلسا تشاوروا فيه فلم يقروا على أمر، وكثر اللغط بين الجند وتسلط الرعب على قلوبهم وأيقنوا بالهلاك، وفي الصباح التالي عول هيكس على المسير تحت رحمة الله فجعل جيشه ثلاث مربعات وسار في طريق وعر كثير الأشجار والصخور، فحصل بينه وبين الدراويش موقعة قتل فيها كثير من رجاله، ثم سار أيضا فلم يمض ميلا حتى هاجموه ثانية في شيكان، وقد رأينا في منشور أرسله المتمهدي إلى عثمان دقنة يخبره بتلك الواقعة ويسمي مكان وقوعها علوية، وكانت تلك الهجمة القاضية لم تبق على تلك الحملة ولم تذر ؛ لأن الدراويش هاجموها من كل جانب حتى صار الجنود المصريون يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وهم لا يعلمون، فقتل هيكس وكل قواده وجنده ولم ينج منهم إلا نحو ثلاثمائة رجل أكثرهم من الضعفاء الذين اختبئوا بين الشجر أو تحت جثث القتلى، وفي جملتهم رجل اسمه محمد نور البارودي كان في خدمة هيكس باشا، وهو الذي روى أكثر ما تقدم من مهلك هذه الحملة.
فرجع المهدي وخلفاؤه وقواده إلى البركة، وقد سكروا من خمرة النصر، وتركوا بعض الأمراء يجمعون الأسلاب والغنائم إلى بيت المال، وبعد 15 يوما عاد المهدي إلى الأبيض بالمدافع والذخيرة والأموال التي اكتسبوها من حملة هيكس، وكان دخوله الأبيض باحتفال شائق، ولا ريب أن تغلبه في موقعة شيكان جعل حكومة السودان تحت إخمصه؛ لأن كثيرا من القبائل كانوا يترددون في أمره، وينتظرون حربه مع هيكس باشا، فلما علموا بما كان انضموا إليه وصاروا من أعوانه.
شكل 10-5: سلاتين باشا.
وكان سلاتين بك (سلاتين باشا الآن) إلى ذلك الحين حكمدارا على دارفور، وقد قاسى مشقات جسيمة في مناوأة العصاة وتمردهم، وكان يرجو الفرج على يد حملة هيكس، فلما علم بفشلها لم ير بدا من التسليم، فبعث إلى المهدي بذلك وأن ينفذ إليه بعض أقاربه ليسلم البلاد له، فبعث إليه الأمير محمد خالد، ويكنى «زقل» أميرا على دارفور، وأوصاه بسلاتين خيرا، فوصلت الدراويش دارا ونهبوها، وأرسلوا بعضا من حسانها هدية للمهدي، وجاء سلاتين مخفورا إلى الأبيض وبايع المهدي، وأظهر الإسلام والإيمان بالدعوة، وسمي عبد القادر، وهاك نص أيمان البيعة كما رواه سلاتين باشا:
بسم الله الرحمن الرحيم، بايعنا الله ورسوله على توحيد الله، ولا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان، ولا نعصاك في معروف، بايعناك على ترك الدنيا والآخرة، ولا نفر من الجهاد.
Shafi da ba'a sani ba