Tarajim Mashahir

Jurji Zaydan d. 1331 AH
141

Tarajim Mashahir

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

Nau'ikan

فزادت واردات العراق وتعددت السفن العثمانية التي تمخر في تلك البحار، ولم يكن للدولة هناك قبل فتح قنال السويس إلا دارعتان قد أفسدهما الإهمال فأصلحهما في بمباي، وأضاف إليهما سبعا أخر وعشرا لسلك الأنهر، ووسع مرفأ البصرة، فاعترفت له الدولة بالفضل بكتاب جاءه من الصدر الأعظم عالي باشا مؤرخا سنة 1871 يثني فيه على همته لتسهيل طريق الحرمين، وأرسل إليه السلطان سيفا مرصعا وقد نقش عليه كلمة «نجد».

واتفق في أثناء ذلك أن الآستانة تبدلت أحوالها بموت رجليها فؤاد وعالي وبينهما ثلاثة أشهر، وكانا زعيمي الإصلاح؛ ينصران مدحت في مطاليبه واقتراحاته، فاتفقت وفاتهما على أثر عودة السلطان عبد العزيز من سياحته في أوروبا، ولم تكسبه تلك السياحة شيئا من رغبة ملوك أوروبا في الأحكام الدستورية والرجوع إلى الشورى، لكنها أكسبته التصريح بما كان يخالج ذهنه من كره المشيرين من الوزراء، وعاد إلى تكليف الماثلين بين يديه بما كان يكلفهم به أجداده القدماء، وتوسع من الجهة الأخرى في النفقات الباهظة على الدولة وعلى نفسه، فأمر بابتناء الدوارع وإنشاء القصور الرخامية على شاطئ البوسفور وهو لا يقدر للنفقات عاقبة، ووافقه على ذلك الصدر الأعظم نديم باشا تملقا له والتماسا للنفوذ عنده، ففسدت الأحوال وتبدلت النيات، وامتد ذلك طبعا إلى الولايات، ولما قلت الأموال في خزائن الآستانة بعثوا يطلبونها من الولايات ويلحون في طلبها ولو ظلموا الأهالي في تحصيل الأموال مضاعفة، فآل ذلك طبعا إلى إيقاف المشروعات النافعة فيها، فضاق مدحت ذرعا عن احتمال ذلك، فاستقال من ولاية بغداد ورحل إلى الآستانة.

وعلم حال وصوله إليها أن الإرادة صدرت بتعيينه واليا على أدرنة، فعد ذلك نفيا لا ولاية، فطلب مواجهة السلطان فأذن له، وانطلق لسانه في تلك المقابلة فأفاض بما يكنه ضميره من الانتقاد على الحكومة وبين ضعف الدولة والخطر المحدق بها، فأثرت أقواله في السلطان حتى عزل الصدر الأعظم نديم باشا وولى مدحت مكانه سنة 1873 فوجد حوله أعوانا نشيطين أهل نزاهة منهم رشدي باشا الشرواني وجميل باشا وصادق باشا، فشرع قبل كل شيء بتنظيم المالية وهو عمل شاق لاختلال الحسابات وسوء إدارتها وكثرة التلاعب فيها.

فأخذ في تحقيق كل حادثة، ومن جملة ذلك مبلغ 100000 جنيه خرجت من الخزينة ولم يعرف مصيرها، ثم ثبت أنها دخلت على الصدر السابق نديم باشا، فطولب بها رسميا بين يدي المجلس فادعى أنه إنما أخذها ليدفعها إلى القصر السلطاني، ثم سعى نديم بمساعدة والدة سلطانة وأصدقائها في المابين حتى أفسدوا نية السلطان على مدحت فأمر بنفيه إلى أدرنة ومنها إلى طرابزون، وعاد نديم إلى نفوذه، فانقسم رجال الدولة إلى حزبين: أحدهما مدحت ومريدوه الأحرار وفيهم جماعة كبيرة من العلماء وكل الشبيبة العاقلة في الآستانة والولايات، والحزب الآخر نديم ووالدة سلطانة ورجال المابين، ومن أكبر أنصار هذا الحزب إغناتيف سفير روسيا بالآستانة وكان له نفوذ في المابين، ومما جعل السلطان ينفي مدحت أيضا تصديه لنقد أعمال جرت على يد سلفه، وفيها خسارة على الخزينة، ومن جملتها امتياز سكة حديدية أعطي للبارون هرش أفسد مدحت العقد به. (4) خلع عبد العزيز

غاب مدحت عن الآستانة بضعة أشهر قضاها في سلانيك ثم عاد إلى الآستانة، وتولى فيها وزارة العدلية ورئاسة مجلس الشورى ، لكنه اضطر إلى الاستقالة لأنه رأى الوزارة سائرة على طريق يؤدي إلى خراب الدولة، وقد بين ذلك بكتاب بعث به إلى سكرتير السلطان (الباشكاتب) في شوال سنة 1291/سنة 1874 واعتزل الأعمال ولجأ إلى منزل له بجوار الآستانة أقام فيها يترصد تبدل الأحوال فلم يرها تزداد إلا فسادا وخللا، وكثر تبديل الصدور، فلا يقيم الصدر منهم إلا بضعة أشهر، وممن تناوبوا الصدارة في ذلك العهد محمد رشدي باشا وأسعد باشا، ولم يستطيعوا إصلاحا، ولم يرض بالحالة كما هي إلا محمود نديم باشا، فتولى الصدارة والمالية في ضيق لا مثيل له، ومع أن الدولة لم تكن دخلت في الدين الأهلي إلا منذ عشرين سنة، فقد هددها الإفلاس وشعر بذلك الخطر أصدقاء الدولة من الدول الأخرى، وصرحوا به على منابرهم، وأشار بعضهم بالمداخلة في شئونها، فخاف عقلاء الأمة عاقبة هذا التصريح.

شكل 43-2: السلطان عبد العزيز.

وحدث في صدارة أسعد باشا مناوشة على حدود الجبل الأسود آلت بالإهمال إلى فتنة أو ثورة عامة، وكان أسعد باشا حسن النية، لكنه ضعيف الرأي ساء التصرف، وأظهر الضعف لدى الدول فزادت الثورة سعيرا، وتوسطت روسيا والنمسا فأقيل أسعد وخلفه نديم باشا سنة 1875، ولم يستطع هذا إخماد الثورة، فما زالت تنتشر حتى بلغت حدود البلغار، وأحس البرنس ميلان صاحب السرب بضعف الدولة فطلب أن تتحول إمارته إلى مملكة، وأخذ يهيئ معدات الحرب عند الحاجة وفعل ذلك نحو الهرسك، وفي أوائل السنة التالية تضاعف الخطب بثورة البلغار وكان الجنرال إغناتيف لا يترك فرصة في أثناء ذلك لم يغتنمها لتمشية أغراضه، فتفاقم الخطب وساد الاضطراب في المملكة العثمانية، وأصبح العقلاء ينظرون إلى هذه الحالة نظرة اليأس، فدخل ربيع سنة 1876 وبلغاريا والجبل الأسود والهرسك تتقد بنيران الثورة والسرب قد تهيأت للحرب بقيادة ضباط من الإفرنج، وهمت رومانيا بأن تقتدي بها، والصدر الأعظم يصغي إلى دسائس إغناتيف فينقلها إلى السلطان، وهذا لا هم له إلا الانغماس في ملذاته، والدول الأوربية من الجهة الأخرى فتحت المسألة الشرقية وطلبت الاجتماع للنظر فيها، وأخذت المذكرات والمفكرات تتساقط على المابين كتساقط المطر، ولم تكن تلك الاحتجاجات الخارجية أقل خطرا على الدولة من الاضطرابات الداخلية.

شكل 43-3: رشدي باشا.

ففي هذه الظلمات المدلهمة انبثق نور ضعيف من منزل مدحت باشا مجتمع عقلاء الأحرار. وكان مدحت في أثناء تلك الاضطرابات يفكر في وسيلة لإنقاذ الدولة، وقد لقي سفير إنكلترا وأسر إليه رأيه في جعل الحكومة العثمانية دستورية؛ لأنها إذا ظلت سائرة على هذه الخطة ذهبت إلى الدمار لا محالة، وأظهر أمله أن إنكلترا تأخذ بيده في تأييد هذا الطلب، وأنه إنما يقتدي بها في هذا النظام لأنها أم الدول الدستورية، فأجابه السفير جوابا مبهما لكنه شجعه على عادة رجال السياسة في مثل هذه الحال. وعقب هذه المحادثة تجمهر العلماء (الصفتاء) وتصديهم للبرنس يوسف عز الدين ابن السلطان في طريقه إلى نظارة الحربية، وتقدموا إليه إبلاغ والده أن الشعب يطلب عزل محمود نديم الصدر الأعظم وحسن فهمي أفندي شيخ الإسلام، فأجاب السلطان هذا الطلب فعزلهما وولى محمد رشدي باشا للصدارة، وحسن خير الله أفندي للمشيخة، وكان رشدي شيخا طاعنا في السن، وأكثر مدحت من التردد إليه ففهم القوم أن هذه الصدارة سيديرها مدحت فاستبشروا، ولكن فرحهم لم يطل لأن السلطان عين في فروع الإدارة أناسا من الطاقم القديم، والناس لا يزدادون بذلك إلا طلبا للدستور على لسان العلماء، وأذاعوا على رءوس الملأ أن تعاليم القرآن تأمر بالشورى ومن خالفها لا تجب طاعته، فأصبح مركز السلطان في خطر وما زالوا حتى خلعوه. (5) كيف خلعوه

والعامل الرئيسي في خلعه حسين عوني باشا وزير الحربية، وكان جنديا شجاعا وهماما حازما شديد الغيرة على دولته مع حدة في مزاجه ومضاء في عزيمته، وكان قد تولى أرقى المناصب العسكرية ثم نفاه السلطان عبد العزيز من الآستانة، وكان يكره محمود نديم ويخافه، ولم يكن يدرك حقيقة الحكومة الدستورية كما أدركها صديقه مدحت، ولكنه كان كثير الاعتماد على آرائه، وتبادل الوزراء الأفكار فأقروا على خلع السلطان ولكي يكون خلعه شرعيا استفتوا شيخ الإسلام حسن خير الله أفندي، فأفتاهم بالخلع وهذه صورة الفتوى:

Shafi da ba'a sani ba