Tarajim Mashahir

Jurji Zaydan d. 1331 AH
127

Tarajim Mashahir

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

Nau'ikan

الاستقامة: من الأمثال الشائعة على ألسنة صغار الباعة أن هذا الزمان لا ينفق فيه غير النفاق، ولا يروج فيه غير الغش، وهم يقولون ذلك في كل زمان، وهو غير الواقع؛ لأن الاستقامة والأمانة من أهم شروط النجاح، ولا سيما في هذا العصر: عصر الحق والحرية، وما نجاح الكاذبين إلا إلى حين، على أن الاستقامة لا تفيد شيئا؛ لأن المستقيم إذا جردته من المعرفة والثبات كان كالعجماوات؛ لأنها سليمة القلب لا تعرف الغش ويندر أن تسرق أو تخدع، وإنما يشترط في الاستقامة أن تكون دعامة للمعرفة لا أن تكون هي رأس مال العامل وحدها. (5)

الاجتهاد: قد تتوفر في الرجل المعرفة والاستقامة والثبات وحسن الاختيار ولا يصيب إلا نجاحا قليلا؛ لكثرة المناظرين له في مهنته أو لأسباب أخرى فلا يتم نجاحه إلا بالجد والسهر، وقد يكون الرجل متوسط الذكاء والمعرفة فيعوض جده عن ذلك النقص. (6)

مراقبة الفرص: إن اغتنام الفرص من أكبر أسباب النجاح، وهي على الغالب أهم وسائل الإثراء؛ إذ قد تسنح للإنسان فرصة إذا تنبه لها واغتنمها أغنته عن سعي كثير أو فتحت له بابا للكسب الطائل الذي لا يتوقعه من عمله الاعتيادي. (7)

أسلوب المعاملة: هذا سر عظيم من أسرار النجاح؛ إذ قد يكون الإنسان متقنا ثابتا مستقيما مجدا ساهرا ولا يصيب نجاحا كبيرا؛ لأنه لا يحسن معاملة الناس أو أنه اتخذ في معاملتهم أسلوبا لا يرضيهم، وينبغي لطالب النجاح أن يتحلى بالأخلاق الرضية مع خفة الروح، ورقة الطبع، ودقة الشعور، فإننا نعرف غير واحد من أشهر المتقنين لأعمالهم وقد فشلوا لأنهم لم يحسنوا الأسلوب في المعاملة، وكثيرا ما يتوقف نجاح المرء على حسن أخلاقه أكثر مما على حدة ذهنه وذكائه.

فسليم صيدناوي الذي نحن في صدد ترجمته ولد فقيرا، ونال ثروة طائلة وشهرة واسعة بجده واستقامته وثباته وحسن أسلوبه على ما تراه فيما يلي: (1) ترجمة حاله

ولد سليم في دمشق سنة 1856 من عائلة معروفة هناك، وكان أبوه المرحوم يوسف صيدناوي سمسارا تجاريا، فربي في حضن والديه وتلقن مبادئ القراءة والكتابة على قدر ما تسمح به أحوال تلك الأيام، فقد كانوا إذا أتقن أحدهم القراءة في المزامير أو الأناجيل وعرف شيئا من الحساب قالوا : «إنه ختم علمه»، وكان والده كثير التفكير في مستقبل بنيه، ويرى أن الشاب لا يأمن الفقر ما لم يتعلم صناعة من الصنائع الضرورية، فأدخل سليما في محل خياطة إفرنجية، وكانت حديثة العهد في سوريا يومئذ، فتعلمها وما زال يشتغل بها حتى انتقل إلى مصر سنة 1879.

وكان أخوه سمعان وهو أصغر منه بسنتين قد أتى مصر سنة 1877 وفيه ميل إلى التجارة من صغره، فخدم وهو في دمشق في محل تجاري نحو ثلاث سنوات مع رغبة أبيه في تعليمه الصناعة؛ عملا بالمبدأ الذي قدمناه، وقد علمه صناعة الحياكة، لكنه كان أكثر ميلا إلى التجارة، وجاء مصر سنة 1877 بلا رأس مال فلقي فيها عمه المرحوم نقولا صيدناوي، وكان تاجرا في الحمزاوي يبيع الحرائر والخردوات، فخدم عنده ونفسه لا تطاوعه على البقاء في الخدمة، واتفق بعد خمسة أشهر من خدمته عند عمه أن تاجرا سوريا اسمه إلياس جهامي توفي عن أولاد قاصرين، وله محل تجاري في الحمزاوي أراد الأوصياء تصفيته، فاغتنم سمعان هذه الفرصة وتصدى لتصفيته فسلموه إليه، وعمل في أثناء التصفية على استخدام بعض ما يقبضه من ثمن المبيع في ابتياع بعض الأصناف وتصريفها مع سائر البضائع، على أن يكون له نصف ربحها وللمحل النصف الآخر، ولما قارب الفراغ من التصفية بلغت تلك الأرباح 285 جنيها نصفها له، فاتفق مع الأوصياء على استبقائها كلها بيده، وأن يدفع عن النصف الآخر وعن ثمن بضائع باقية في المحل قيمتها 140 جنيها فائدة قانونية، فكان رأس مال ذلك المحل نحو 500 جنيه ثلثها دين على سمعان يدفع فائدة 200 غرش كل شهر.

فصرف سمعان عنايته في طلب النجاح بالطرق الحلال، وكان سبب نجاحه على الأكثر أنه اهتدى بتفكيره وسهره إلى المصدر الأصلي للبضائع التي كان يبيعها في محله وهي الحرائر والمناديل، وكان تجار القاهرة يستوردونها من الآستانة، فعرف هو أن تجار الآستانة يستجلبونها من أوروبا، فاستجلبها من هناك رأسا وباعها بأرخص مما كان غيره يبيعها، فراجت تجارته واتسع شغله.

فلما قدم سليم إلى مصر كان سمعان في محله المشار إليه ، فاشتغل سليم أولا بالخياطة من طريق التجارة، فاشترك مع الخواجه متري صالحاني في محل للخياطة والتجارة، وحصة سليم من رأس المال دفعها أخوه، وبعد قليل احترق المحل وذهب رأس المال كله، وكان بين سليم وسمعان تآلف وتحاب فوق تآلف الإخوة، كأنهما شخص واحد، وكان للمرحوم سليم انعطاف على أخيه منذ الصغر، فلما احترق المحل أغضى سمعان عن تلك الخسارة، وشارك أخاه في الباقي معه، ففتحا حانوتا في الموسكي عند مدخل شارع منصور باشا لا تزيد مساحته على أربعة أمتار مربعة، أقام فيه سليم وظل سمعان في الحمزاوي، وعقدا الشركة رسميا باسم «سليم وسمعان صيدناوي» سنة 1879 أي منذ 31 سنة، وأخذا في العمل بنشاط وأمانة وهما عازبان يقيمان في غرفة بوكالة يعقوب بك بالحمزاوي ليس فيها من الأثاث إلا سرير ينام عليه أحدهما، ومقعد ينام عليه الآخر، ويأكلان في مطعم بغاية ما يكون من البساطة والاقتصاد، وقد سمعناهما يذكران ذلك بعد أن بلغا ما بلغاه من بسطة الجاه، وسعة الثروة، لا يرون في ذكره حطة ولا صغارا. (1-1) أساس النجاح

وأساس نجاحهما بعد الشركة حادث يشبه ما يروى عن نجاح بيت روتشيلد يدل على ثمار الأمانة والاستقامة، وذلك أن سليما وهو في حانوته المشار إليه أتته خادمة من قصر البرنس مصطفى فاضل باشا، وابتاعت منه ثوبي دانتيلا بستة عشر غرشا (تعريفة) وفهمت أنه يعني 16 غرشا صاغا، فدفعت المبلغ ومضت وهو لم ينتبه لمقدار ما دفعته لاشتغاله بسواها، ثم عد النقود فرأى المرأة دفعت ضعفي ما طلب منها، ولم يكن يعرف مكانها، فجاءت في اليوم التالي لتبتاع ثوبين آخرين وبيدها 16 غرشا أخرى، فأخبرها أن الثمن 8 غروش وهي القيمة التي بقيت لها بالأمس، وأعطاها الثوبين ولم يأخذ منها شيئا، فدهشت المرأة لهذه الأمانة، وهي نادرة الوقوع، لا سيما في معاملة الأغنياء؛ لطمع الناس بأموالهم، وقصت ذلك على سيدتها فشاع خبر تلك الحادثة في بيوت الوجهاء من الأمراء وأقاربهم، فرغبوا جميعا في معاملة ذلك التاجر المستقيم، وكان سليم يعرف شيئا من التركية سهل عليه معاملتهم، وما زالوا يزدادون ثقة بأمانته كل يوم حتى أصبحوا لا يبتاعون فرشا أو ثيابا أو قماشا إلا بمشورته أو على يده.

Shafi da ba'a sani ba