Taqwim al-Lisanin
تقويم اللسانين
Mai Buga Littafi
مكتبة المعارف
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٣٩٨ هـ - ١٩٧٨ م
Nau'ikan
الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
تقويم اللسانين
مكتبة المعارف
ص. ب ٢٣٩
زنقة باب شالة أمام المسجد الأعظم
الهاتف: ٢٦٥.٢٤ - الرباط
1 / 1
الطبعة الأولى ١٣٩٨ - ١٩٧٨
حقوق الطبع محفوظة
1 / 2
تقويم اللسانين
1 / 3
تقويم اللسانين (١)
المراد باللسانين - اللسان والقلم، فإن العرب تقول: القلم أحد اللسانين. والمقصود هنا إصلاح الأخطاء التي تفاقم أمرها في هذا الزمان حتى أصبحت مألوفة عند أكثر الخاصة بَلْهَ العوام، فشوهت وجه اللسان العربي المبين، ورنقت صفو زلاله المعين، مما يسوء كل طالب علم، يحرص على حفظ لغة القرآن، وصيانتها من الإفساد والتشويه، والعبارات الجافية التي تشين جمالها، وتذهب ببهائها.
ولم يزل علماء اللغة معتنين بهذا الموضوع، باذلين جهدهم في تنظيف الإنشاء العربي من الألفاظ الدخيلة، والتعابير الثقيلة.
وقد ألف في ذلك الإمام أبو محمد القاسم بن علي الحريري كتابًا نفيسًا سماه: (درة الغواص في أوهام الخواص) وهو مطبوع متداول. وألف الشهاب الخفاجي كتاب (شفاء العليل في العامي والمولَّد والدخيل). وألف الشيخ إبراهيم اليازجي الناقد البصير كتابًا سماه: (لغة الجرائد) وألف الأديب أسعد داغر في ذلك كتابًا سماه (تذكرة الكاتب).
وقد بدا لي أن أكتب مقالات في هذا الموضوع، أداء لواجب
1 / 9
لغة الضاد، وصونًا لجمالها من الفساد، راجيًا أن ينفع الله بما أكتبه تلامذتي في الشرق والمغرب وفي أوربا، وأنا على يقين أنهم يتلقون ما أكتبه بشوق وارتياح. وكذلك رفقائي الكُتَّاب المحافظون سيستحسنون ذلك. أما الكُتَّاب الذين يكرهون التحقيق ويرخون العنان لأقلامهم بدون تبصر ولا تمييز، بين غث وسمين، وكدر ومعين، فإنهم سيستثقلون هذا الانتقاد، وقد يعدونه تكلفًا وتنطعًا، وتقييدًا للحرية - بزعمهم - فلهؤلاء أقول: إني لم أكتب لكم، فما عليكم إلا أن تمروا على ما أكتب مرور الكرام، وتدعوه لغيركم الذين يقدرونه حق قدره، وهذا أوان الشروع في المقصود، وبالله أستعين، فهو نعم الناصر ونعم المعين.
١ - الكاف الدخيلة الاستعمارية:
أما تسميتها دخيلة فلا إشكال فيه، لأنها لا توجد في الإنشاء العربي الذي قبل هذا الزمان. وأما تسميتها استعمارية، فلأنها دخلت في الإنشاء العربي مع دخول الاستعمار البلدان العربية، فإن جهلة المترجمين تحيروا في ترجمة كلمة تجيء في هذه اللغات قبل الحال، وهي في الإنكليزية (AS.) وفي الفرنسية (Comme) وفي الألمانية (ALS) مثال ذلك: فلان كوزير لا ينبغي له أن يتعاطى التجارة. وفلان يشتغل في الجامعة كمحاضر، وفلان مشهور ككاتب.
وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب، ولا يستسيغه ذوق سليم، وليس له في قواعد اللغة العربية موضع، ودونك البيان. قال ابن مالك:
شبه بكاف وبها التعليل قد ... يعني وزائدًا لتوكيد ورد
1 / 10
(واستعمل اسما).
تأتي الكاف في كلام العرب لأربعة أمور:
١ - التشبيه كقول المتنبي في ممدوحه:
كالبحر يقذف للقريب جواهرًا ... جودًا، ويبعث للبعيد سحائبا
كالشمس في كبد السماء وضوئها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًسا
وأركان التشبيه أربعة - المشبه - والمشبه به، وأداة التشبيه - ووجه الشبه. فالمشبه في البيتين المذكورين هو الممدوح، والمشبه به، الشمس والبحر، وأداة التشبيه، الكاف، ووجه الشبه، حصول النفع للقريب والبعيد. فالشمس على فرط بعدها من الأرض، ينتفع أهل الأرض بضوئها ودفئها، وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك، فكذلك الممدوح يصل إحسانه إلى من كان بعيدًا منه، ولا يقتصر على من كان قريبًا منه.
والمشبه في البيت الأول هو الممدوح، والمشبه به هو البحر، وأداة التشبيه هي الكاف، ووجه الشبه، وصول الإحسان إلى القريب والبعيد. فالقريب يستخرج الجواهر من البحر، والبعيد ينتفع بمطر السحائب الناشئة من البحر، فكذلك الممدوح يعطي - من كان حاضرًا عنده - الجوائز والصلات، ويبعث بها إلى من كان بعيدًا عنه.
وبهذا تعلم أن (الكاف) الاستعمارية لا يجوز أن تكون للتشبيه البتة لعدم وجود أركانه.
٢ - هو التعليل: تجيء الكاف للتعليل، كقوله تعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [سورة البقرة: ١٩٨]. أي واذكروا الله، لأنه
1 / 11
هداكم.
٣ - أن تكون زائدة إذا دخلت على كلمة بمعناها، وجعل منه قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سورة الشورى: ١١] فإن قلت: إن كانت زائدة لا فائدة في ذكرها، فلماذا جاءت في القرآن؟ فالجواب، أن فائدتها التوكيد، وإنما سميت زائدة، لأن الكلام يتم بدونها، كما تزاد (من) للتوكيد كقوله تعالى في ﴿أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ [سورة المائدة: ١٩]: فمن: هنا زيدت لتوكيد النفي، ولو حذفت لكان الكلام تامًا.
٤ - أن تكون اسما بمعنى مثل، كقول الشاعر:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
الاستفهام هنا إنكاري. يقول الشاعر لأعدائه: كيف تنتهون عن ظلمكم وبغيكم، ولن ينهي ذوي الظلم شيء مثل الطعن المبيد، المهلك الذي لا يترك لهم شيئًا، لا أنفسًا ولا أموالًا، فإن ذهاب الزيت والفتيلة كناية عن الهلاك التام، وهذا ينبغي أن يقال للمستعمرين، إذا كانت الرماح التي يطعن بها حاضرة، وهي في هذا الزمان القنابل المحرقة التي لا تبقي ولا تذر. فهذه معاني الكاف عند العرب، وما سواها شاذ لم يجيء في الكلام البليغ.
وإنما وقع جهلة المترجمين في هذا الاستعمال الفاسد لضعفهم في اللغتين أو إحداهما، فلا يستطيعون إدراك معنى الجملة مجتمعة ليصوغوا في اللغة الأخرى جملة تؤدي المعنى المطلوب بألفاظ جيدة الاستعمال، واقعة في مواضعها التي يقتضيها النظم الفصيح. وهذا العجز هو الذي يلجئهم إلى أن يبدلوا كل مفرد في إحدى اللغتين بمفرد آخر في اللغة الأخرى، فيجيء التركيب
1 / 12
فاسدًا معوجًا، لا تستسيغه أذواق الفصحاء في اللغة التي ينقل إليها المعنى: وستأتي في هذه المقالات، إن شاء الله، أمثلة عديدة توضح ذلك.
وليس المترجمون العرب وحدهم هم الذين يقعون في أخطاء الترجمة، بل يقع فيها كبار العلماء الأوربيين. وقد أحصيت الأخطاء الموجودة في ترجمة (جورج سيل) للقرآن الكريم بالإنكليزية، فوجدت في الجزء الأول وحده، وهو حزبان بتجزئة المغاربة ستين خطأ. و(جورج سيل) مستشرق انكليزي كبير، وقد تبعه من بعده من المترجمين في أخطائه، حتى الأستاذ محمد (مار ماديوك بكثال) المسلم الإنجليزي، ﵀، تبعه في أول خطأ كبير ارتكبه وقد ناظرته في ذلك مناظرة طويلة حتى اقتنع ورجع عن خطئه، وكان ذلك في ترجمة قوله تعالى في «﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾» [سورة البقرة ١٣]. فإنهما ترجماها بما معناه (أليسوا سفهاء؟) وسبب وقوعهما في هذا الخطأ عدم التمييز بين (ألا) الاستفتاحية البسيطة، و(ألا) المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية فإن (ألا) في قوله تعالى ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾ استفتاحية خالية من النفي، يجب أن تترجم بلفظ إنكليزي يدل على التوكيد. ومثال المركبة الذي أوردته على الأستاذ الانكليزي المذكور فاقتنع بوجود الفرق بين الكلمتين قوله تعالى ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [سورة الملك: ١٤]:
وليس كل الكُتَّاب البلغاء في العصر الحاضر، يتورطون في استعمال الكاف الاستعمارية، فإن فيهم طائفة من عليتهم، لا تشين إنشاءها بذلك الاستعمال.
1 / 13
٢ - فترة:
شاع استعمال الفترة في هذا الزمان في وقت العمل فيقولون: فترة الصباح، وفترة الظهيرة، وفترة المساء، يريدون بذلك زمان العمل. قال البيضاوي في قوله تعالى ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [سورة المائدة: ١٩] أي جاءكم على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي. اهـ
قال ابن منظور في لسان العربي: والفترة: ما بين كل نبيين. وفي الصحاح: ما بين كل رسولين من رسل الله ﷿ من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة. وفي الحديث: فترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. اهـ
ومن ذلك تعلم أن الفترة ليست وقت العمل، بل هي ما بين عملين: فالوقت الذي لا يكون فيه عمل، هو الذي يجب أن يسمى فترة، وقد عكسه عامة الكتاب والمذيعين. ومن سوء الحظ أن أكثر الناس في هذا الزمان لا يتعلمون الإنشاء في مدارس اللغة العربية ولا في كتب اللغة العربية، وإنما يتلقونه من الإذاعات والصحف، فكل خطأ يشيع في هذين المصدرين، تنطلق به الألسنة والأقلام بدون تفكير ولا تمييز، وربما استعمله بعض كبار الأساتذة الذين يرجى منهم المحافظة على صحة الاستعمال، وجمال اللغة العربية، وتنقيتها من المولد والدخيل الذي لا حاجة إليه.
٣ - الخلق:
كثر استعمال الخلق في هذا الزمان بمعنى الإنشاء أو الإيجاد. يقال مثلا: يجب علينا أن نسعى لخلق نهضة ثقافية وهو استعمال فاسد، جاء من جهله المترجمين لكلمة في اللغات
1 / 14
الأوربية مشتركة، تستعمل في إنشاء الله تعالى المخلوقات وإيجادها على غير مثال سابق، وتستعمل في تلك اللغات أيضا في معنى الإنشاء المطلق.
أما في اللغة العربية فإن الخلق بمعنى الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى. ومن أسمائه سبحانه: الخالق والخلاق قال تعالى ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [سوره النحل ١٧] وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ [سوره النحل: ١٩ - ٢٠]. وقال تعالى: ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [سورة الرعد: ١٦].
أما في هذا الزمان الذي اختلت فيه الموازين والمقاييس وصار الناس فوضى في الإنشاء العربي، فلم يبق الخلق خاصًا بالله تعالى، بل صار الناس كلهم خالقين وخلاقين.
قال في لسان العرب: خلق: الله تعالى، وتقدس الخالق والخلاق: وفي التنزيل: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [سورة الحشر: ٢٤]، وفيه: ﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس: ٨١]: وإنما قدم أول وهلة، لأنه من أسماء الله تعالى:
الأزهري: ومن صفات الله تعالى الخالق والخلاق. ولا تجوز هذه الصفة بالألف واللام لغير الله، ﷿ وهو الذي أوجد الأشياء جميعها، بعد أن لم تكن موجودة: وأصل الخلق التقدير، فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها بالاعتبار للإيجاد على وفق التقدير: خالق: والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق
1 / 15
إليه. وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سبق إليه: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤] اهـ:
ويطلق الخلق أيضا على التقدير قال في اللسان: وخلق الأديم يخلقه خلقا، قدره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه مزاد أو قربة أو خفا. قال زهير يمدح رجلا.
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
يقول: أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته، وغيرك يقدر مالا يقطعه لأنه ليس بماضي العزم، وأنت مضاء على ما عزمت عليه. اهـ
أقول: وقد رأيت أهل البادية في الصحراء يدبغون جلد البعير ويقطعونه نعالا، فكلما احتاج أحدهم إلى نعلين يضع قدمه اليمنى على قطعة كبيرة من الجلد المذكور، فيأتي الشخص الذي يقطع النعلين ويخط خطا إلى جانب القدم دائرًا بها، وذلك هو الخلق ثم يقطع النعل على ذلك التخطيط، وذلك القطع هو الفري، ثم يفعل ذلك بالقدم الأخرى، فتجيء النعلان على قدر القدمين بلا زيد ولا نقص: فقول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري
يريد أن ممدوحه متى عزم على شي نفذ عزمه، وغيره يعزم ويقدر، ثم لا ينفذ شيئا، لأنه خائر العزيمة، ضعيف الإرادة.
والمعنى الثالث للخلق هو الكذب. قال تعالى ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧] أي تكذبون كذبا. وقال الشاعر:
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة
1 / 16
٤ - بينما:
لقد اعتدى عامة كتاب العصر على هذه الكلمة، فشوهوا جمالها، وسلخوها عن معناها الحقيقي، وألبسوها معنى مكذوبا، فإنهم يستعملونها في معنى (على حين) كقول بعضهم: كما أن هذه المحاولات قد اتخذت أشكالا مختلفة، بعضها اقتصادي صرف، وبعضها سياسي صرف (بينما) البعض الآخر اتخذ الشعارين معا.
فهذا الاستعمال فاسد مختلق، لا أصل له في كلام العرب، وهو أيضا من جنايات جهلة المترجمين، فإنهم ترجموا كلمه while الانكليزية فوضعوا مكانها (بينما) فظلموهما جميعا والترجمة الصحيحة لهذه الكلمة (على حين أو في حين).
أما الاستعمال الصحيح العربي لـ (بينما)، فإنها تكون في صدر الكلام، ولا بد لها من جملتين كأدوات الشرط. فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب ﵁ قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر - الحديث: وكقول الشاعر:
وبينما المرء في الأحياء مغتبط إذ هو في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور
وشواهد ذلك في كلام العرب لا تعد ولا تحصى.
٥ - وتحدثوا لبعضهم البعض:
هذا أيضا استعمال فاسد ناشئ عن فقدان الملكة في اللغة العربية والصواب: وتحدث بعضهم إلى بعض، كما قال تعالى ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾ [سورة القلم: ٣٠].
والذي أوقعهم في هذا الخطأ جهلهم بالنحو، فإن من كان عالما
1 / 17
بالنحو في أي لغة كانت، يتخذه مصباحا، يضئ له طريق إنشائه سواء أكان كاتبا أم متكلما، فلا يضع قدمه إلا بعد أن يبصر موطئها، أما الجاهل بالنحو، فإنه يمشي كالأعمى يضع قدمه دون أن يرى موطئها، فتزل به القدم ويسقط في حفر الأخطاء.
٦ - والأدهى من ذلك:
هذا الخطأ أيضا ناشئ عن الجهل بالنحو، فكل من يعرف أحكام اسم التفضيل أقل معرفة لا يقع في هذا الخطأ. قال ابن مالك في الألفية:
وأفعل التفضيل صله أبدا ... تقديرًا أو لفظًا بمن إن جردا
قال ابن عقيل في شرحه لألفية ابن مالك: لا يخلو أفعل التفضيل عن أحد ثلاثة أحوال.
الأول: أن يكون مجردا.
الثاني: أن يكون مضافا.
الثالث: أن يكون بالألف واللام، فإن كان مجردًا، فلابد أن تتصل به (مِنْ) لفظا أو تقديرا، جارة للمفضل عليه نحو: زيد أفضل مِنْ عمرٍو، ومررت برجل أفضل من عمرو، وقد تحذف (مِنْ) ومجرورها لدلالة عليهما كقوله تعالى: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾» أي وأعز نفرًا منك.
وفهم من كلامه: أن أفعل التفضيل إذا كان (بأل) أو مضافا، لا تصحبه (من) فلا تقل: زيد الأفضل من عمرو، ولا زيد أفضل الناس من عمرو اهـ.
فتبين أن قولهم: والأدهى من ذلك خطأ، لأن أفعل التفضيل إذا دخلت عليه (أل) لا تلحقه «من». ومن العجيب أن أفعل التفضيل في الإنكليزية والألمانية جار على هذا المنوال.
1 / 18
تقويم اللسانين (٢)
١ - قاتل ضد:
هذه العبارة، وما أشبهها من المصائب الاستعمارية اللغوية التي نكبت بها اللغة العربية: والأصل في ذلك أن (قاتل) في اللغة الإنكليزية والألمانية من الأفعال اللازمة التي لا يتعدى فعلها إلى المفعول به إلا بحرف، وهو في الإنكليزية against وفي كل من الألمانية والفرنسية لفظ يقابله يتعدى به الفعل إلى مفعوله: والمترجم الجاهل هو الذي يضع مقابل كل كلمة من اللغة التي يترجمها كلمة تقابلها من اللغة التي ينقل إليها المعنى، ولم يدر أن (قاتل) في اللغة العربية فعل متعد بنفسه لا يحتاج إلى حرف. قال تعالى ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ١٩٠].
وقد شاع ذلك التعبير الفاسد، كقولهم مثلا (أمريكا تقاتل ضد فيتنام الشمالية). وإذا نظرنا في هذه الجملة بعين الناقد البصير الذي يدري ما يقول، نجدها تدل على ضد ما يريده قائلها، وتعكس مراده، لأن الضد هو العدو.
قال صاحب اللسان: الضد كل شيء ضاد شيئا ليغلبه. اهـ.
1 / 19
وقال عكرمة في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ [مريم: ٨١ - ٨٢]: أي أعداء.
فإذا قلنا: إن أمريكا تقاتل ضد فيتنام الشمالية، كان معناه: أن أمريكا تقاتل عدو (فيتنام الشمالية) أي تقاتل نفسها، وهذا مسخ للغة العربية، يدمي قلب كل من يحبها، ويغار عليها، ويريد لها الانتعاش، فالحياةَ، فالازدهارَ، وأن يعاد لها مجدها فتساير ركب الحضارة الإنسانية، وتكتسي حلة التقدم في مجال المدنية، وتنال الحظ الأوفر اللائق بمكانتها من التعبير عن العلوم والآداب، حتى يستغنى الناطقون بها عن تكفف اللغات الأجنبية.
٢ - جمع الرومي على رومان:
مما هو شائع على ألسنة الكتاب والخطباء والمعلمين والأساتذة التعبير بلفظ (الرومان)، فإذا سألناهم عن مفرده وقف حمار الشيخ في العقبة، أو أجابوا بأنه جمع رومي، وهذا جواب غير صحيح.
والحقيقة أن هذا التعبير مأخوذ من اللغات الأوربية كالإنكليزية مثلا. والألف والنون يقابلان الياء في العربية (فرومان) في هذه اللغة نسبة إلى رومة. يقال للواحد، والجمع بزيادة سين ساكنة فيه، فاستعمله جهلة المترجمين بلفظه، ولم يعلموا أن ترجمته الصحيحة في المفرد (رومي) وفي الجمع (روم). قال الله تعالى ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ [الروم: ١ - ٤]: والعرب تطلق لفظ الروم على الاغريقيين والإيطاليين، ومن إليهم. قال ابن منظور في لسان العرب: والروم جيل
1 / 20
معروف، وأحدهم رومي، ينتمون إلى عيصو بن إسحاق النبي ﵇. ورومان بالضم، اسم رجل.
قال الفارسي: رومي وروم، من باب زنجي وزنج: قال ابن سيدة: ومثله عندي فارسي، وفرس، قال: وليس بين الواحد والجمع إلا الياء المشددة كما قالوا: تمرة وتمر، ولم يكن بين الواحد والجمع إلا الهاء. اهـ
فرومان في اللغة العربية لا يدل على جيل من الناس، وإنما هو علم يسمى به الرجال، ورومان أبو قبيلة.
قال الفيروز آبادي في القاموس: ورومان (بالضم) (موضع) ورومان الرومي، وابن نعجا صحابيان، وأم رومان، أم عائشة الصديقية، والروماني (موضع) باليمامة، ورومية، «بلد» بالمدائن خرب، و(بلد) بالروم سوق الدجاج، فيه فرسخ، وسوق البر ثلاثة فراسخ، وتقف المراكب فيه على دكاكين التجار في خليج معمول من النحاس، ارتفاع سوره ثمانون ذراعا في عرض عشرين، فيما نقله ابن خرداذبه، فإن يك كاذبا فعليه كذبه. اهـ
وقد تبين بما ذكرنا أن لفظ (رومان) لا وجود له في العربية، وإنما يوجد للمفرد رومي وللجمع روم: وقد توسع الكتاب في هذا الزمان فقالوا: يوناني ويونان، فكأنهم قاسوه على رومي وروم، وزنجي وزنج: والذي في القاموس هو: واليونانيون جيل انقرضوا. اهـ
وقول الفيروز آبادي: انقرضوا، له في ذلك عذر، لأن بلاد اليونانيين في زمانه كانت ولاية من ولايات الدولة العثمانية ووجود الشعوب مرتبط باستقلال دولها، وما بالعهد من قدم.
ففي الأمس القريب، كنت أنا بنفسي، كلما سألني سائل
1 / 21
في أوربا أو في آسيا، وحتى في إفريقية، كلما سألني سائل، من أين أنت أقول: من المغرب فيبادر بسؤال آخر، أنت من المغرب الإسباني أو من المغرب الفرنسي، أو من طنجة الدولية؟
فأقول: المغرب بلد واحد، وهو للمغاربة، فلا يريد أن يصدقني أحد، كأن المغرب خلقه الله، يوم خلق السموات والأرض مجزأ ثلاثة أجزاء، مع أن تقسيمه نشأ منذ زمان قريب، ولم يستمر إلا ثلاثا وأربعين سنة.
وأغرب من ذلك أني لما أردت التجنس بالجنسية العراقية سنة ١٩٣٤ قدمت طلبًا إلى الدوائر المختصة في البصرة فبقيت الأوراق تنتقل من دائرة إلى دائرة مدة شهرين، ثم بعثت إلى بغداد العاصمة، فسافرت لأتعقبها إلى بغداد، وبقيت شهرين أستنجد وأتشفع حتى وصلت الأوراق إلى يد مدير وزارة الداخلية، فأخذ جواز سفري يتأمله وأنا واقف أمامه، وإلى جانبي الأستاذ كمال الدين الطائي من كبار علماء بغداد تفضل بمرافقتي ليعينني ويشفع لي، فقال المدير: بفظاظة، ما هي جنسيتك؟ فقلت: مغربي فاستشاط غضبًا وقال: (جنسية هتشي ماكو) يعني لا توجد جنسية هكذا، قل: فرنسي، فقلت بل هي موجودة، فانظر ما هو مكتوب على الجواز باللغة الفرنسية (أمبير شريفيان) أي الدولة الشريفية، فلم يقتنع بذلك، فقلت له: هل كنت أنت إنكليزيا قبل سنتين؟ أي قبل المعاهدة الأخيرة، فقال لي: (حنا كنا عثمانيين، ومن بعد صرنا عراقيين) فقلت له أنا: (ونحن دولة مغربية منذ ما يزيد على ألف سنة، منذ أسس الإمام إدريس بن عبد الله الدولة المغربية واستقلت عن الدولة العباسية) فجذبني الأستاذ كمال الدين من ثيابي وقال لي: دع هذه القضية، فسأتعقبها أنا، لأنه رأى أن القضية قد دخلت في طور خطير بالجدال مع مدير
1 / 22
الداخلية.
فكتب ذلك المدير على أوراقي: (الطلب مرفوض)، وبذلك أحبط لي عمل أربعة أشهر، ولكن الله ﷾ رحم ضعفي وغربتي، فسقطت تلك الوزارة، وكانت إحدى وزارات جميل المدفعي، ولم تلبث في الحكم إلا اثني عشر يوما، ولا توجد فيما أعلم وزارة عراقية تماثلها في قصر العمر.
وجاءت بعدها وزارة علي جودة الأيوبي فأعدت الطلب وحصلت على الجنسية في ثلاثة أيام بمساعدة النبيل الشهم عارف قفطان العاني، وكان صديقًا حميمًا لعلي جودة الأيوبي.
وفي سنة ١٣٤١ هـ حججت الحجة الأولى، ووقع خصام بيني وبين صاحب حانوت بمكة فعيَّرني، وزعم أني فرنسي، فقلت له: أنت إنكليزي، فنحن في البلية سواء، وكان في زمان الشريف حسين بن علي إذن فلا غرابة في قول صاحب القاموس: إن اليونانيين انقرضوا.
والذي يهمنا هنا هو أنه لا يقال: يوناني ويونان، وإنما يقال: يوناني ويونانيون.
ومن ذلك قولهم: ألماني وألمان والصواب: جرماني وجرمانيون، لأن البلاد التي تسمى في هذا الزمان ألمانية، كانت العرب تسميها (جرمانية) هكذا سماها ابن الفقيه البغدادي المتوفى في أواخر المائة الثالثة للهجرة في كتابه الذي سماه (كتاب البلدان) وذكر فيه جغرافية العالم: وقد ترجمته مع الأستاذ (باول كالي) باللغة الجرمانية ولفظ «ألمانية» فرنسي، فإذا أردنا أن نتساهل ونترك اللفظ العربي، ونستعير اللفظ الفرنسي وجب علينا أن نقول (ألماني وألمانيون) والأفضل لنا أن نستعمل اللفظ العربي ونحييه ونستغني به.
1 / 23
استطراد:
كل من يقرأ مقالاتي يعلم أن الاستطراد محبب إلى فيما أقرؤه وفيما أكتبه، لأن الاستطراد كالطعام المؤلف من ألوان متعددة، ولذلك رأيت أن أذكر تفسير أول سورة الروم تتميمًا للفائدة وتلوينًا للغذاء.
قال البيضاوي في تفسيره: ﴿آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ أرض العرب منهم، لأنها الأرض المعهودة عندهم، أو في أدنى أرضهم من العرب، واللام بدل من الإضافة ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ أي من إضافة المصدر إلى المفعول. وقرئ غَلْبِهِم، وهو لغة: كالجلب والجلب ﴿سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾.
روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى، وقيل بالجزيرة، وهي أدنى أرض الروم من الفرس، فغلبوا عليهم، وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن وفارس أميون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرهن عليكم، فنزلت.
فقال لهم أبوبكر: لا يُقِرَّنَّ الله أعينكم، فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي بن خلف: كذبت، اجعل بيننا أجلا أُنَاحِبُكَ عليه، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبوبكر رسول الله ﷺ فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخِطْرِ وماده في الأجل، فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين.
ومات أُبَي من جرح رسول الله ﷺ بعد قفوله من أحد.
وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، فأخذ أبو بكر الخِطْر من ورثة أُبَي، وجاء به إلى رسول الله ﷺ فقال: تصدق به. واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في
1 / 24
دار الحرب، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار.
والآية من دلائل النبوة، لأنها إخبار عن الغيب: وقرئ غَلَبَت (بالفتح)، وسيغلبون (بالضم)، ومعناه: أن الروم غلبوا على ريف الشام، والمسلمون سيغلبونهم. وفي السنة التاسعة من نزولها غزاهم المسلمون، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل.
توضيحات لكلام البيضاوي:
١ - قوله (واللام بدل من الإضافة) يعني أن أداة التعريف في (الأرض) بدل من الضمير المضاف إليه. والتقدير: غلبت الروم في أقرب أرضهم وهي أرض العرب التي كانوا مستولين عليها، لأن أذرعات وبصرى هما من بلاد الشام، وبلاد الشام ليست ملكا للروم، وإنما استولوا عليها بالتسلط والقهر، هذا على القول بأن المراد بالأرض (بصرى وأذرعات) وأما على القول بأنها الجزيرة، فهي كذلك ليست للروم، بل هي من بلاد العرب، لأنها واقعة بين دجلة والفرات.
٢ - قوله (من إضافة المصدر إلى المفعول) يعني، وهم من بعد غلبة الفرس لهم سيغلبون الفرس في مدة لا تتجاوز البضع، وهو مابين ثلاث إلى تسع.
٣ - قوله (روي أن فارس غزوا الروم) من المعلوم أن البيضاوي، مع علمه بالنحو والصرف واللغة والفقه الشافعي والأصول، وعلم الكلام مزجي البضاعة في علم الحديث. ففي تفسيره أحاديث موضوعة يذكرها في فضائل السور. وروي بصيغة الفعل المبني للنائب لا يستعملها أهل الحديث إلا إذا كان المروي ضعيفا، فلذلك أردت أن ألم بتخريج هذا الحديث وبيان رتبته.
1 / 25